تقديم
يصدر مركز المسبار كتابه التاسع والثمانين لشهر مايو (أيار) 2014، «الإسلام والمسلمون في البلقان»، بمتابعة لتاريخ وحاضر المنطقة، منذ دخول الإسلام مع بداية العهد العثماني إلى سقوط تلك الإمبراطورية، ثم ظهور الممالك والجمهوريات، وكيف نشأ الإسلام وتمدد، وماذا بقي منه في منطقة البلقان؟
مرت منطقة البلقان بهزات كبرى، من حروب السيطرة عليها مِن قِبل العثمانيين ثم الحرب التي عُرفت باسم «حرب البلقان» (1912)، ناهيك عن الحروب الداخلية على الأساس الإثني والديني، وأشدها كانت حرب البوسنة والهرسك، بعد تفتت يوغسلافيا المملكة أولاً، ثم الجمهورية الاشتراكية ثانياً، وما حصل من مجازر دعت الأمم المتحدة إلى تولي إدارة بعض المناطق هناك.
تأتي أهمية موضوع دراسة الإسلام والمسلمين في البلقان لكشف تاريخ وحاضر المنطقة، فما في المكتبة العربية عن إسلامها ومسلميها، وبهذا البحث الموسع، يُعد قليلاً جداً؛ لهذا سيكون هذا الكتاب مصدراً مهماً للدارسين والباحثين في هذا الموضوع.
يُستهل الكتاب، بعد التقديم، بموضوع «الإسلام العثماني: التوزيع السكاني للبوسنة على مرِّ العصور» للمؤرخ والأكاديمي البوسني أنس بليديا (Enes Pelidija)، تحدث فيه عن تاريخ الدولة العثمانية، أو بالأحرى تاريخ القبائل التركية، وكيف وصلت السلطة إلى العثمانيين، كرؤساء أقاليم قبل تأسيس الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي ظلت عصية لقرون على الدولة الإسلامية، وكم من حروب جرت معها، ولم يستطع اقتحامها إلاَّ العثمانيون، في القرن الخامس عشر الميلادي.
تعرض الباحث إلى أحوال المسلمين في تلك الفترات، منذ دخول الإسلام إلى البوسنة العام 1463، وتحولها من الكاثوليكية إلى الإسلام، ليصبح حتى يومنا هذا الغالبية الساحقة فيها، واصفاً الإسلام على مختلف اتجاهاته، بما فيها الصوفية وظهور المولوية في سراييفو، من دون إغفال الجانب المعماري والفني، وأبرزها عمارة المساجد، فالوضع الاقتصادي، حتى ينتهي البحث بكيفية محافظة السكان المحليين على إسلامهم، بعد زوال العهد العثماني، الذي استمر نحو أربعمئة عام.
يأتي بحث الباحث المختص في تاريخ الإسلام بجمهورية الجبل الأسود خير الدين مويا (Hajrudin Muja) تحت عنوان «الإسلام والمسلمون في الجبل الأسود» (1912 -2012) ليغطي حوادث قرن من الزمان من تاريخ المنطقة، ويستهل موضوعه بالتعريف في تاريخ البلقان ككل، بأنه تاريخ الشعوب المختلفة والمختلطة، وقد جاء دخول الإسلام إلى الجبل الأسود في أوج توسع الدولة العثمانية، يوم كان السلطان العثماني لا يمنعه مانع من حوض الدانوب وحتى المحيط الهندي. معرجاً على كيفية دخول الإسلام إلى الجبل الأسود والبداية كانت بشقيق الحاكم، قبيل الحرب مع البندقية الإيطالية، ثم يأتي البحث بإحصاء لعدد المسلمين عبر التاريخ، وبعد قرون استقل الجبل الأسود إثر مؤتمر برلين العام 1878، ثم توسع رقعته مع مؤتمر لندن، وبعد هذا التاريخ يعرج الباحث على حرب 1992- 1995 إثر انحلال جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية، بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية على التوالي، ومنها يوغسلافيا.
كان لمقدونيا حصة في الكتاب، والبحث في موضوعها ارتكز على دور الجماعة الإسلامية، قدمه الأكاديمي في كلية العلوم الإسلامية (مقدونيا) ناصر مهدي رمضاني، وحسب الباحث فإن مقدونيا ظهرت العام 1945 في إطار يوغسلافيا الفيدرالية، مع التحذير من اللبس بين مقدونيا الإمبراطورية العظمى، التي ارتبط اسمها بالإسكندر المقدوني الذي خاض الحروب لاحتلال العالم، ومقدونيا التي صارت جزءاً من يوغسلافيا.
وبعد مقدمة جغرافية وافية يأتي الباحث على التركيبة الاجتماعية والدينية في مقدونيا، بعد بحث الحقبة العثمانية فيها. ويواصل بحثه في فترة ما بعد العثمانيين، وما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى، مروراً بالفترة الاشتراكية، حتى يصل إلى الحديث عن الجماعة الإسلامية ودورها، وكانت بدايتها الحيوية بعد سقوط يوغسلافيا الاشتراكية، حال استقلال مقدونيا تجد الجماعة الإسلامية تستقل عن إطارها العام لتحصر نشاطها في مقدونيا، فاهتمت كثيراً بالتعليم الديني وإعادة ما دمرته الحرب من ممتلكات وأوقاف إسلامية.
ربما لم ينتبه العديد من الباحثين إلى ألبانيا، كونها الدولة المسلمة بأغلبية شعبها، هذا ما كان عين اهتمام المؤرخ الكوسوفي السوري المختص في تاريخ البلقان محمد الأرناؤوط تحت عنوان «ألبانيا… أكبر تجمع مسلمٍ أوروبي»، وهذه الميزة بحد ذاتها تؤكد أهمية البحث في شأن البلقان عموماً، والألبان خصوصاً، بعد فترة سياسية أدارت ظهرها للدين، تمثلت في الحقبة الاشتراكية. إلا أن ما يميز مسلمي ألبانيا عن بقية مسلمي منطقة البلقان هو تداخل الدين بالقومية، فصار كل ألباني يعبر عن إسلامه، ومن خلال البحث نفهم أن العثمانيين لم يفرضوا الإسلام على الألبان، والسبب أن الدولة العثمانية بحاجة إلى أموال الجزية، التي تنقطع بإسلام هؤلاء. لقد حمى الألبان أنفسهم بالإسلام وحافظوا على هويتهم الدينية من الذوبان في بوتقة الصرب واليونان الأرثذوكس.
لقد خاض مسلمو ألبانيا تجارب مؤلمة في مختلف مراحل تاريخهم، خاضوها مع العلمانية الأوروبية أولاً ثم الفاشية ثم الاشتراكية، حتى يصل الباحث إلى فترة الديمقراطية التي جاءت إثر سقوط النظام الاشتراكي في ألبانيا، مع العلم أن ألبانيا في تاريخها الاشتراكي لها تجربتها الخاصة وظلت على خلاف مع التجربة السوفييتية.
تردد كثيراً اسم صربيا، في الحرب الأخيرة، وما حصل من مجازر، شغلت الرأي العالمي لفترة طويلة ومؤلمة، اهتم في هذا الموضوع الباحث في معهد الدراسات الشرقية (سراييفو) علاء الدين هوستيش (Aladin Husić) في بحثه «المسلمون في صربيا… التاريخ والإطار القانوني لنشاطين». فإذا كانت ألبانيا احتفظت بأغلبيتها الساحقة كأمة مسلمة، وأنها اختارت الإسلام دفاعاً عن هويتها القومية، فإن صربيا اختلفت في تجربتها وظلت محتفظة بأغلبية مسيحية إلى جانب وجود إسلامي ملحوظ، وقد عانى المسلمون من تلك الحروب.
ويقرأ الباحث تاريخ الجماعة الإسلامية منذ دخول الدولة العثمانية إليها وحكمها على شكل ولايات أو أقاليم، وقد واجه العثمانيون انتفاضات عديدة بداية من القرن التاسع عشر وبعده. متطرقاً إلى الحرب البلقانية (1912-1913) والتي على إثرها توسعت صربيا على حساب غيرها من الأقاليم المجاورة. وعرج الباحث على الجماعة الإسلامية في إدارة شؤون المسلمين الدينية في صربيا، على اعتبار أن الإسلام كان ومازال محدداً لهوية أتباعه.
أما كوسوفا التي اشتهر اسمها خلال الحرب العرقية، في التسعينيات من القرن الماضي، فبحث شأنها الأكاديمي في كلية الدراسات الإسلامية (بريشتينا – كوسوفو) جابر حميدي (Xhabir Hamiti) في بحث بعنوان «الحياة الدينية والمؤسساتية للمسلمين في كوسوفا بعد نهاية الحكم العثماني»، استُهل بالحديث عن انتشار الإسلام الأول بين الألبان وشعوب البلقان كافة، وكان الوجود في كوسوفا إثر انتصارات الجيش العثماني على الجيش الصربي، وبذلك انحسرت السيطرة الصربية المسيحية لصالح العثمانية الإسلامية. على أن كوسوفا تأسست كولاية العام 1877 على مساحة أكبر مما هي عليه اليوم.
لكنَّ العد المعاكس يبدأ مع نهاية الحكم العثماني للمنطقة في حرب البلقان السنة 1912، وبتأسيس مملكة الصرب والكروات والسلوفين. ثم يعرج الباحث على تأسيس دار الفتوى لتنظيم شؤون المسلمين الفقهية. هذا واستمر الإسلام كأغلبية في كوسوفا، يمارس مسلموها العبادة على المذهب الحنفي، ومعلوم أنه كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية.
تناول الأكاديمي والمؤرخ البوسني أدين رادوشيتش (Edin Radušić) في دراسته: «البشناق بين الإسلام والحُكمين المسيحي والشيوعي (1878 –1992) تاريخ المسلمين في البوسنة والهرسك منذ بداية الإدارة النمساوية – المجرية العام 1878 حتى العام 1992. أربعة كيانات حكومية على مدار مئة وثلاثة وأربعين عاماً عرفها البشناق: مملكة النمسا والمجر، مملكة الصرب والكروات والسلوفين، مملكة يوغسلافيا، ويوغسلافيا الاشتراكية.
حفل الكتاب ببحث خاص بالدساتير الأوروبية، وما علاقة الدين بها، جاء ذلك في بحث عضو البرلمان الكوسوفي أمير بايروش أحمدي (Amir B. Ahmeti) عنوانه «الدين والدولة في دساتير الدول الأوروبية». موضحاً أن بداية العلاقة بين الدين والدولة في أوروبا كانت في القرن الرابع الميلادي، وهو القرن الذي شهد اعتبار المسيحية ديانة رئيسة للدولة الرومانية، وبطبيعة الحال أوروبا الأمس غير أوروبا اليوم، فقد تغيرت العلاقة بعد اعتماد العلمانية أساساً في الحكم، مع وجود مواد تنظيم الحقوق الدينية.
تضمن الكتاب قراءة هيئة التحرير لكتابين: الأول، «الهلال والنسر: الحكم العثماني «الإسلام والألبان 1874-1913» للمؤرخ الأميركي المختص في تاريخ الإمبراطورية العثمانية جورج غاوريتش، والثاني، «كوسوفا تاريخ موجز لمنطقة مركزية في البلقان» لبروفِسور التاريخ في جامعة فيينا (النمسا) أوليفر شميت.
جاءت دراسة العدد تحت عنوان «المرشدات الدينيات في الجزائر، المغرب، مصر، اليمن» وقد درس الباحث الأردني محمد العواودة النشاط الديني والدعوي للمرشدات في هذه الدول، مع الإحاطة بالإطار التاريخي الذي كشف عن دور المرأة المسلمة في مجال الدعوة والإرشاد الديني.
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر إلى كل الباحثين المشاركين، ويخص بالذكر الزملاء محمد الأرناؤوط ورشيد الخيون وعمر البشير الترابي الذين تابعوا خروج العدد، على أمل أن تجدوا في الكتاب ثمرة جهدهم وفريق العمل.
رئيس المركز