نجاة عبدالصمد*
فالطريق الذي قادنا إلى فهم أنفسنا هو الذي سيكمل معنا رحلتنا إلى فهم الآخر والنفاذ إلى طرائق تفكيره، وافتراض أنّ هذا الآخر هو مرآتنا في الإنسانية التي تضمّنا جميعاً، وهو مثلنا يسعى ليثري نفسه بمعرفتنا نحن المختلفين عنه جنسيّةُ أو عرقاً أو انتماءً دينيّاً، وأينما التقيناه؛ في بلدنا أو في بلده أو على أرضٍ محايدة، سنسير إليه دون خوفٍ أو ريبة، ولربما هذا التلاقي بالذات هو أنبل هدايا الكتب!
الآن، وأنا في طور النضج، أدرك أنّ حياتي ما كانتْ ستكون على ما هي عليه الآن لولا الكتاب، وفي طور النضج هذا أدرك حظّ كل طفلٍ نما وكبر بين أبوين يقرآن، وأعي مسؤوليتي كأمٍ أن جزءاً من تربية أولادي بأن يروني شغوفةً بالقراءة، ومسؤولية المعلّم والأستاذ أن يحبّب تلاميذه بالقراءة.
ربيتُ في أسرةٍ فلاحيّة في أقصى جنوب البلاد. وحتى في تلك البقعة القصيّة لم يتمكّن أبي من بناء بيتٍ متواضعٍ لنا إلا في حارةٍ أبعد ما تكون عن مركز المدينة، فذلك ما أملتْ به عليه نقودُه القليلة.
ككل مًن حولنا كبرنا في زمنٍ يخاف الناس فيه من الآخر حين يجهلونه، ومن شدة خوفهم منه يعادونه سرّاً أو جهاراً، أو ينكفئون عنه ويلوذون إلى قواقعهم ويؤثرون السلامة. لكنّ شيئاً مختلفاً في بيتنا أخذنا إلى وجهةٍ أخرى في التفكير والرؤى، فبالقراءة أمكن لبيتنا الصغير والنائي أن يشقّ دربه إلى العالم الكبير من غير أسفارٍ ولا تكاليف.
وعينا على ألفة الكتاب امتداداً ليديّ أبي ومرمىً لعينيه على رغم ضعف بصره. وفي مشاويره النادرة إلى العاصمة كانت هداياه إلينا كتيّباتٍ ملوّنة للأطفال.
في ذلك العمر الصغير قبل المدرسة لم يكن في بيتنا كهرباء. في الليل نجلس حول أمي، تتلامس أرجلنا تحت بطانيةٌ واحدة، ويضيء جلستنا قنديلُ الكاز، ويحييها صوتُ أمي وهي تقرأ لنا مغامرات القطة مومو والفأرة فيفي وبياض الثلج وأقزامها السبعة وعقلة الأصبع والبجعات المتوحشات وسندريلا والشاطر حسن وبساط الريح ومصباح علاء الدين.
في الابتدائية صرنا نستعير من مكتبة المدرسة مجلة أسامة، وقصص المكتبة الخضراء، وسلسلة (دار العلم للملايين).. كنا ندفع فرنكين أجراً على كل قصة نستعيرها. هذان الفرنكان كانا كلَّ “خرجيتنا” اليومية، وهو مبلغٌ صغيرٌ جداً لا يقبل به إلا أمثالنا من الأطفال الفقراء، قد نشتري بهما مصّاصة حمراء حلوة وبسكوتة بالكريمة أو قطعة خبز (سمّون) لذيذةً وطازجة، لكنّ إغراء استعارة قصةٍ من المدرسة كل يوم فاق إغراء المصاصة والبسكوت، وجعل الليل موعدنا، مثالاً لا حصراً، مع (معركة ذي قار) و(امرؤ القيس) و(عمر بن الخطّاب) و(خالد بن الوليد) و(الفارابي) و(المتنبي) وبعدها مع (توم سوير) و(قصة مدينتين) و(بائعة الكبريت) و(روبنسون كروزو) و(مرتفعات وذرنغ) و(الشيخ والبحر) و(طيور الشوك) وغيرها الكثير والراوي..
في خيالي صرتُ أرى (الزنبقة السوداء) تورق على شبّاكي في غفلةٍ عن القراصنة، وفي خيالي محوت الحدبة عن ظهر كوازيمودو وأجلستُ الاسميرالدا تحرس نومه حتى الصباح، وعشتُ في الميتم مع جين إير، وأسمينا اللعبة (العروسة) الأولى التي دخلت بيتنا: “كوزيت” بطلة بؤساء فيكتور هيجو.
ولم تزدنا القراءات إلا عطشاً. كالجراد التهمنا أخضر الحروف ويابسها، قرأنا قصاصات الجرائد التي لفّ لنا البائع بها حبّات السكّر، وروشيتات الدواء وكاتالوغ الأجهزة الكهربائية والإعلانات على جدران السوق كأنها فرض قراءةٍ غير معلن.
أذكر، في الصف الثالث الابتدائي، طلب صديق أبي منه أن يسمح لنا بمساعدتهم في موسم صنع الزبيب، وكان الناس أيامها يتبرعون لمساعدة بعضهم توفيراً لأجور الأيادي العاملة. اشتغلنا في غسل العنب الذابل بالماء والبوتاسيوم ومواد أخرى وفرشناه معهم على أوراق الجرائد في أرض الكرم حتى ينشف ويتشرّب لون الشمس ويُخزّن طعمها. وفي المساء أوصلَنا صديق أبي إلى بيتنا واشتكانا إليه، فقد ضبطنا نتلهى عن العمل بقراءة صفحة النصوص الأدبية في الجريدة الصفراء والباهتة. بالطبع لم يعلم الجار أننا غافلناه أنا وأختي، كسارقتين صغيرتين، واقتطعنا هذه الصفحات وطويناها وأخفيناها في جيب حقيبتنا لنكمل قراءتها في البيت، فقد رأينا لديهم جرائد كثيرة مهمَلة بينما لم يكن لدينا ما نقرأه لذلك المساء.
في الثانوية لم نعد ندفع لقاء استعارة الكتب. حظينا بمدرسين مربّين أعطونا معارفهم وبسطوا مكتباتهم الشخصية سقيا لعيوننا قبل أن تذبل في الوقت القصير بين قراءة كتابين.
وأدرجنا بيننا عادة تهادي الكتب في المناسبات بدلاً من أشياء اللباس والزينة ليبقى الكتاب رسولنا إلى أصدقائنا، ليحيا فينا وبيننا، ودوماً أمامنا، يلجم اللسان عن الترهات، ويدغدغ القلب ويترفّع بالعقل بعيدا عن هذه الترهات، ويبني في الرأس عالماً موازياً كثيراً ما استغرقَنا أكثر من الواقعيّ، ويسافر بنا في الخيال ويُنمّي أحلامنا ثم يُشذّبها لتغدو بوّابةً ونقاط ارتكازٍ لمشاريعنا الحياتيّة الواقعيّة.
ولم نفهم لماذا حرص أبي دوماً أن نقرأ، بالتوازي، كتب الأديان والكتب التي تضيء على هويتنا الشخصية وعلى تاريخنا المحليّ والعالمي. وبقدر ما تذمرنا يومها من إصراره عليها، ولم نقرأها حينها إلا كارهين ندرك اليوم كم خلقتْ توأمةُ القراءات ركيزةً لوعينا بحالنا وحال العالم على الضفة الأخرى حيث لسنا هناك وحيث لن نعرفه ولن نفهمه إلا إذا سعينا بأنفسنا إليه.
في الصغر لم نكن ندرك هدفاً لما نفعل، كنا نقرأ لمجرد المتعة، للشعور بالرضا أنّ هناك، في مكانٍ ما بعيدٍ جداً، هذا الآخرُ الذي يُضمر لنا مشاعر الحب ويتوق مثلنا إلى السلام والسماح.
وفي الوقت الذي كان اليافعون حولنا، ذكوراً وإناثاً، يشكون من الضجر ومن خوفهم ألا يجدوا عملاً بعد الدراسة، ومن خوفهم أن يتم تعيينهم في وظيفةٍ حكوميةٍ في مدينةٍ سوريّةٍ أخرى لا يعرفون أكثر من اسمها، ولا يجزمون أين موقعها على الخارطة؛ بدا لنا أنّ ما يرعبهم لا يرعبنا، لأنّنا سبق وزرنا أزقّتها القديمة في الكتب، وواكبنا بصمات الحاضر عليها في الكتب، ونكاد نخطو عتبات المؤسسات الجديدة فيها دون الحاجة إلى دليلٍ يقودنا في المشوار الأول فيما لو تمّ تعيننا موظفين فيها.
وحين عجنتنا الحياة بالملاحظة والتجريب ودخلنا إليها من بوابة العمل والأسفار، لم يعد صعباً أن نميّز أن القارئ لا يمكن أن يكون قاتلاً ولا سارقاً ولا عاطلاً عن التفكير، وأنّ أصحابنا المختارين ينتصرون مثلنا للحياة وللعمل والإعمار لا الهدم. وأنّ علينا البحث عمن يشبهوننا ويبنون (هناك) ما نبني نحن (هنا). فالطريق الذي قادنا إلى فهم أنفسنا هو الذي سيكمل معنا رحلتنا إلى فهم الآخر والنفاذ إلى طرائق تفكيره، وافتراض أنّ هذا الآخر هو مرآتنا في الإنسانية التي تضمّنا جميعاً، وهو مثلنا يسعى ليثري نفسه بمعرفتنا نحن المختلفين عنه جنسيّةُ أو عرقاً أو انتماءً دينيّاً، وأينما التقيناه؛ في بلدنا أو في بلده أو على أرضٍ محايدة، سنسير إليه دون خوفٍ أو ريبة، ولربما هذا التلاقي بالذات هو أنبل هدايا الكتب!
هو الفهم الذي اشتدّت حاجتي إليه حين نهشت الحرب بلدي وتخندق الجميع في الواجهة وفي القاع جاعلين من كل (آخَر) عدوّاً لم أقدر على رؤية هذا الفيض من الكراهية. ومن جديدٍ احتميتُ بالقراءة من الجنون، واتّبعتُ وصيتها في أنّ العقلاء يعرفون أن سجالات الحرب ليستْ ملعبهم ولا ساحتهم. ما كنتُ لأستوعب هذا الزلزال المداهم لو لم آتِ بكتبٍ روت سيَر الحروب في إيران أيام (الثورة الإيرانية) وفي لبنان وفي أفغانستان وفي العراق، وأن ما يمرّ به بلدي ليس إلا سياق الحروب التي تستنسخ نفسها بكامل تفاصيلها في كل بلد تحلّ فيه، فتلجم العقول وتوقظ الغرائز وتُشعِل العداوات كأنها ثاراتٌ شخصيّة بين الناس بدءاً من حروب الكلام والأيدي وصولاً إلى التفكير بإبادة هذا (الآخر) بدلاً من مدّ يد السلام إليه، والتكاتف معه ضد صنّاع الحروب الذين يوقدون أهلَ القاع جمراً لحروبهم.
لو أنهم يقرؤون، لو أنهم يقرؤون..
*كاتبة ومؤلفة سورية أديبة ومترجمة.