أصدر معهد الاقتصاد والسلام الدولي نسخته العاشرة من مؤشر الإرهاب العالمي، حيث تستند بيانات التقرير على معلومات واردة من قاعدة بيانات Dragonfly’s Terrorism Tracker، ويقدم التقرير عرضًا شاملًا لظاهرة الإرهاب عبر تحليل عدد من الأبعاد المرتبطة بها، كما يكشف عن توجهات التنظيمات الإرهابية وأهدافهم الأيديولوجية، وإلى أي مدى أثرت تلك الجماعات على أمن واستقرار الدول، ناهيك عن تقديم قراءة تتعلق بالاستراتيجيات الأمنية للدول المتضررة، ومدى نجاعتها في احتواء أنشطة التنظيمات الإرهابية، ويغطي التقرير قرابة (163) دولة تعادل (99.7%) من دول العالم، فيما يمثل 31 ديسمبر (كانون الأول) تاريخًا نهائيًّا لبيانات التقرير.
ونظرًا لتصدر غالبية دول القارة الإفريقية لا سيما إقليم الساحل والصحراء قائمة الدول الأكثر تضررًا بأنشطة التنظيمات الإرهابية، فإننا سنقوم في هذا الصدد باستعراض تطور النشاط الإرهابي في منطقة الساحل الإفريقي على وجه الخصوص، ونستوضح خلالها أهداف وأيديولوجيات التنظيمات الإرهابية، إلى جانب تحليل سياقات وتداعيات النشاط الإرهابي بالمنطقة.
أولًا: سمات وملامح النشاط الإرهابي لإقليم الساحل والصحراء
تواجه منطقة الساحل والصحراء العديد من التهديدات الأمنية الناتجة بالأساس عن حالة عدم الاستقرار السياسي الداخلي، بجانب تصاعد الخلافات بين دول الإقليم، الأمر الذي أدى للعديد من الخلافات الجيوسياسية، هيأت المناخ لتصاعد وانتشار الجماعات الراديكالية. ولم تقتصر أزمات دول إقليم الصحراء على شقها الأمني فقط، لكن تنوعت ما بين أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويتوقع التقرير أن فشل الأنظمة الحاكمة في إيجاد حلول جذرية لتلك المشكلات، سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع، وتقويض الأسس اللازمة لإحلال السلم، مما يعني استمرار دول الإقليم في دائرة من العنف وعدم الاستقرار، وفي هذا الصدد استعرض التقرير السمات الرئيسة لظاهرة الإرهاب في إقليم الساحل والصحراء خلال عام 2022، يمكن استعراضها على النحو التالي:
- استمرار محفزات انتشار التنظيمات الإرهابية
لم يكن الإرهاب المنتشر في غالبية دول القارة الإفريقية وليد اللحظة، لكنه نبع من جملة محفزات ساهمت في تمركزه وانتشاره ومن ثم تصاعده، وقد أورد التقرير عوامل انتشار الإرهاب على النحو التالي:
- فشل الأنظمة الإفريقية في احتواء الغضب الشعبي الناتج عن السياسات الانتقائية للحكومات، الأمر الذي ساهم في توسيع الفجوة بين مكونات المجتمع، وظهور معضلة التعددية الإثنية.
- معاناة دول القارة أوضاعًا اقتصادية قاسية انعكست بالسلب على الأحوال الاجتماعية والمعيشية، مما أدى لانتشار البطالة وارتفاع معدلات الفقر المدقع.
- تبني استراتيجيات أمنية شديدة الفتك ضد المعارضين للنظام الحاكم، مما أدى لحالة من الرفض المجتمعي للسلطات الحاكمة، والبحث عن بديل حتى لو كانت تنظيمات جهادية تضمن لهم أحوال معيشية ومادية أفضل.
- تصاعد المشكلات الطبيعية كأزمة المناخ وانعدام الأمن المائي والغذائي والتلوث والتصحر والمجاعات والجفاف، التي شكلت تحديات أمام حكومات الدول، الأمر الذي استغلته التنظيمات الجهادية لصالحها، وتمكنت من التغلغل والتمركز في دول الإقليم الهشة.
- أزمات الجوار ودورها في تعزيز انتشار الجماعات الجهادية، فعلى سبيل المثال كان لأحداث فبراير (شباط) بليبيا التي أدت لإسقاط حكم القذافي ومقتله أكتوبر (تشرين الأول) 2011 دورٌ بارزٌ، حيث أصبحت ليبيا مصدرًا رئيسًا لانتشار المرتزقة داخل إقليم الصحراء، كما صار الجنوب الليبي مرتعًا لتمركز الجماعات الجهادية، التي كان لها دورٌ في توسيع رقعة انتشار الإرهاب داخل دول القارة.
- استمرار فساد النخب السياسية، حيث أورد التقرير أن الجماعات الجهادية تمكنت خلال الفترة من 2007 حتى 2022 من شن (6408) هجومًا إرهابيًّا أسفر عن مقتل (22074) شخصًا. وأردف التقرير بأن انتشار الفساد، لا سيما فساد النخب السياسية لدول الإقليم، كان له دورٌ في انتشار تلك التنظيمات، حيث تمكنت من التوصل لاتفاق يقضي بتقديم أموال طائلة ورشاوى، مقابل تسهيلات تتعلق بتمركز التنظيمات الإرهابية.
- تطور أنماط التحالفات بين الجماعات الإرهابية
ذكر التقرير أن الجماعات الإرهابية مرت بعدة تطورات؛ فتاريخيًّا كان هناك نوعان من الجماعات النشطة في إقليم الساحل؛ الأولى: جماعات محلية ركزت على مشكلات المواطنين، وكانت دائمًا ما تعلن معارضتها للسياسات الحكومية الانتقائية، وانقسمت تلك الجماعات لعدة فروع ما بين عرقة وقومية ودينية، وفقًا لطبيعة أيديولوجيتها، وكان أبرزها “أنصار الدين” و”المرابطون” و”كتيبة ماسينا”، أما النوع الآخر من الجماعات فتعرف بالجماعات الجهادية العابرة للحدود، والتي تملك صلات وثيقة بالقاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، مما أدى لظهور ما تم تسميته بجهاد اللصوصية، حيث قامت تلك الجماعات الإجرامية باستخدام الدين للدفاع عن أعمالهم الإجرامية كتنظيمي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية”، وتمكنت من التمركز في الأقاليم الحدودية المهمشة حيث ضعف القبضة الأمنية، وارتفاع معدلات الغضب الشعبي نتيجة التهميش الحكومي لأحوالهم، لتتمكن بذلك الجماعات الإرهابية من استقطاب المواطنين وتوسيع القاعدة الشعبية لهم، مستغلين حالة الفقر وتدهور الأوضاع الاجتماعية لتلك المناطق.
- تصاعد الوفيات الناجمة عن الصراعات بمنطقة الساحل خلال عام 2022
يوضح التقرير وجود زيادة كبيرة في معدلات الوفيات الناجمة عن الصراع بمنطقة الساحل منذ 2011، ويرجح التقرير أن هذا التصاعد ناتج عن قيام الجماعات الجهادية المتمركزة بالإقليم بصوغ استراتيجيات تتلاءم مع طبيعة التطورات، فهناك -مثلًا- جماعات كـ”القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” التي قامت بتأطير منهجية تتضمن أفكارًا أيديولوجية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تتوافق مع طبيعة الإقليم المتمركزة فيه، بغية استقطاب أكبر عدد ممكن من الأعضاء، مما أدى إلى توسيع شبكة علاقاتها، وتكوين روابط مع مجموعات مثل “أنصار الدين” و”المرابطون”، حيث شهدت الفترة من 2015 حتى 2017 ذروة نشاطهم، وبعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية بأفرعه المختلفة داخل القارة الإفريقية، بدأت التنظيمات الإرهابية تكوين علاقات مع بعضهم البعض، ومع الجماعات المحلية كـ”بوكو حرام” و”تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” بغية تقوية تمركزها وانتشارها.
أورد التقرير أن إقليم الساحل والصحراء شهد أكبر معدلات وفيات ناتجة عن العمليات الإرهابية خلال العقد الأخير، حيث ارتفعت معدلات الوفيات من (472) حالة إلى (1159) خلال الفترة من 2012 حتى 2022، فيما سجلت موزمبيق والصومال أكبر زيادات في عدد العمليات الإرهابية، حيث زادت الهجمات في موزمبيق (40) ضعفًا، فيما بلغت الزيادة في معدلات الهجمات الإرهابية بالصومال قرابة (96%) خلال الفترة من 2013 حتى 2022.
ويوضح التقرير أن الوفيات بموزمبيق والصومال شملت (52%) من إجمالي الوفيات الناتجة عن أعمال إرهابية بإقليم الساحل والصحراء خلال العشر سنوات الماضية، وعلى الرغم من انتشار العديد من التنظيمات الإرهابية داخل القارة الإفريقية، لكن هناك تنظيمين رئيسين مسؤولين عن (43%) من إجمالي الوفيات، وهما تنظيما “داعش” و”جماعة نصرة الإسلام”.
كشف التقرير ارتفاع معدلات الوفاة الناجمة عن الإرهاب في كل من بوركينا فاسو ومالي بنسبتي (50%) و(56%) على التوالي، ما يعادل (1135) و(944) حالة وفاة، فيما سجلت دولتا بنين وتوجو (10) حالات وفاة لأول مرة بعد أن كانتا ضمن أكثر الدول استقرارًا منذ انتشار التنظيمات الإرهابية في القارة عام 2012، واحتلت بوركينا فاسو المرتبة الثانية في قائمة الدول العشر الأكثر تضررًا من نشاط العمليات الإرهابية، بدلًا من أفغانستان التي تصدرتها لمدة أربع سنوات، ويرجع ذلك لحذف نشاط طالبان منذ توليها السلطة في البلاد نهاية 2021، بينما شكلت الوفيات في بوركينا فاسو (17%) من إجمالي وفيات العالم الناجمة عن الإرهاب.
وارتفعت الهجمات الإرهابية في بوركينا فاسو من (224) خلال 2021 إلى (310) خلال 2022، كما ارتفعت معدلات الوفيات خلال 2022 بنسبة (50%)، وشهد المثلث الحدودي مع بوركينا فاسو أكبر عدد من العمليات الإرهابية، بما يعادل (71%) من إجمالي هجمات 2022، ومن بين (1135) حالة وفاة في بوركينا فاسو، حدث (448) حالة في منطق المثلث الحدودي.
أما عن نشاط حركة شباب المجاهدين، فقد ارتفعت هجماتهم خلال 2022 بنسبة (23%)، بإجمالي (784) حالة وفاة، حيث حدثت (93%) من تلك الحالات بالصومال و(7%) بكينيا، ناهيك عن الهجمات التي قامت بها في إثيوبيا مستغلة التوترات الداخلية للبلاد, ويصنف الهجوم بسيارتين مفخختين بالقرب من مبنى وزارة التعليم الصومالي، بكونه الأكثر دموية خلال العام الماضي، وأفاد التقرير بأن الحركة اعتمدت تكتيكًا هجوميًّا يعتمد على تفخيخ المعدات والهجمات المسلحة، حيث شكل التكتيك التفخيخي (63%) من إجمالي الوفيات، بينما (32%) ينسب للهجمات المسلحة.
وتسعى الدولة الصومالية لتطوير استراتيجياتها لمواجهة نشاط الحركة، لنجد أخيرًا قيام الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود بعد انتخابه في مايو (أيار) 2022 رئيسًا للبلاد، بتبني نهج تعيين أفراد كانوا ذات صلات بالحركة في مناصب سياسية هامة، وذلك حينما قام بتعيين النائب السابق لزعيم حركة الشباب مختار روبو وزيرًا للأوقاف والشؤون الدينية، ولكن حتى الآن لم يظهر أثر لهذا النهج.
أما عن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، فأفاد التقرير بأن سنة 2022 شهدت هدوءًا نسبيًا في تحركاتها بخلاف سنة 2021 التي بلغت الجماعة ذروة نشاطها خلالها، إلا أن 2022 شهدت انخفاضًا في عدد الوفيات بنسبة (28%) حيث سجلت (279) حالة وفاة، وقع (48%) في بوركينا فاسو و(43%) في مالي، في حين بدأت الجماعة توسيع أنشطتها وقامت بتنفيذ أول هجوم لها في دولتي بنين وتوجو. أما على صعيد نشاط الجماعة في مالي، فقد انخفضت هجماتهم بنسبة (49%) في حين وجهت معظم أنشطتهم لعناصر الجيش الذي مثل جملة (50%) من ضحايا الجماعة، بينما شكل المدنيون (38%) من الوفيات، في حين انخفض ضحايا المجموعة من الشرطة والسجون من (72) حالة خلال 2021 إلى (7) خلال 2022.
وفي مالي نجد المفارقة العجيبة؛ أنه برغم انخفاض عدد الهجمات الإرهابية بنسبة (20%) مقارنة بالعام الماضي، إلا أن الوفيات الناجمة عن الهجمات زادت لأكثر من (50%)، الأمر الذي يعكس دموية الهجمات، في حين شكل المدنيون (64%) من إجمالي الوفيات، يليهم الجيش بنسبة 20%.
أكد التقرير أن داعش كان له الغلبة في هجماته هذا العام عن القاعدة، حيث كانت الوفيات الناجمة عن هجمات داعش أعلى مرتين مقارنة بجماعة “النصرة” بواقع (19) هجومًا و(243) حالة وفاة، فيما اعتمد داعش في هجماته على استخدام الأسلحة النارية، بخلاف القاعدة التي اعتمدت النهج التفخيخي.
وفي نيجيريا نجد تراجعًا واضحًا لنشاط بوكو حرام، حيث انخفضت هجمات التنظيم للنصف مقارنة بعام 2021، بينما زادت الوفيات من (69) إلى (72)، ومع ذلك تعتبر تلك النسبة قليلة مقارنة بالسنوات الماضية. وقد أدى التراجع الملحوظ في نشاط بوكو حرام إلى تحسن الأوضاع نسبيًّا في ولاية بورنو، حيث انخفضت الوفيات في الولاية بمعدل (12%)، في المقابل شهد “تنظيم الدولة الإسلامية غرب أفريقيا” تقدمًا في نيجيريا، حيث سجل ما يقارب (40) هجومًا أدى إلى (168) حالة وفاة سنة 2022 مقارنة بـ(6) هجمات و(63) حالة وفاة العام الماضي، وأرجع التقرير التفوق الداعشي في نيجيريا إلى حالة التنافس الكبيرة بين “بوكوحرام” و”داعش”، كذلك تكثيف القوات النيجيرية قتالها ضد “بوكوحرام”، مما أدى إلى انحسار أنشطته مقابل تصاعد هجمات “داعش”.
ووفقا للتقرير تتصدر العديد من دول الساحل الإفريقي قائمة مؤشر الإرهاب العالمي، حيث تأتي بوركينا فاسو في المركز الثاني بعد أن سجلت أول هجوم إرهابي لها في 2015، فيما سجلت تشاد على مدار الخمس سنوات الماضية ما يقارب (210) قتلى نتيجة العمليات الإرهابية بسبب الإرهاب.
- استغلال الجماعات الإرهابية انعدام الأمن البيئي للإقليم
يرى التقرير أن تدهور الأمن البيئي كان من أسباب انتشار التنظيمات الإرهابية؛ حيث دفع تدهور الأوضاع البيئية الأفراد للانتقال والبحث عن مناطق للرعي والزراعة ومصادر للمياه والطعام، فوفقًا للتقرير تبلغ معدلات الصراع في المناطق ذات الاستخدام الرعوي والزراعي المختلط (54%) مقارنة بـ(17%) بالمناطق غير المختلطة، ويشمل تدهور الأمن البيئي عددًا كبيرًا من المؤشرات لعل أبرزها تدهور الأمنين المائي والغذائي، مما يؤدي إلى حدوث مجاعات وصراعات دموية على موارد ضعيفة، بالتوازي مع النمو السكاني المرتفع وضعف الإمكانيات، وعدم قدرة الدولة على تلبية احتياجات المواطنين. واستنادًا إلى تقرير التهديد البيئي لسنة 2022، فإن مخاطر المياه هي أخطر تهديد كارثي، تليها مخاطر الغذاء، ثم التزايد المستمر للنمو السكاني.
يتوقع التقرير أيضًا استمرار ارتفاع درجات الحرارة التي تؤدي لحالات من الجفاف المؤثرة بشكل مباشر على إنتاجية المحاصيل الزراعية، الأمر الذي أدى لنشوب صدامات بين الرعاة والمزارعين، من ثم تزايد معدلات الوفيات الناتجة عن حالة الصراع على الموارد، وقد شكلت البيئة الجغرافية لدول الإقليم محفزًا لتلك الصراعات، حيث صارت الغابات والجبال بمثابة ملاذات آمنه للمتمردين، الأمر الذي صعب المهمة على السلطات الأمنية لاحتواء هذا النمط من الصراع.
أورد التقرير أيضًا أن دول الساحل تم تصنيفها ضمن النقاط الساخنة، أي تلك التي لديها مستويات منخفضة من المرونة في التعامل مع الأزمات، مما يعني أن لديها درجة عالية من التهديد الكارثي.
يمكن أيضًا ربط الإرهاب بانتشار الموارد الطبيعية خاصة مورد الذهب، فعلى سبيل المثال تم اكتشاف مناجم للذهب بالسودان سنة 2012، ومنذ ذلك الحين توسعت اكتشافات الذهب في غالبية دول الإقليم، خاصة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ليصبح الذهب محددًا رئيسًا ضمن محددات ديناميات الصراع، ومحفزًا لانتشار التنظيمات الإرهابية وتمركزها حول مناجم الذهب، لا سيما في الدول التي تفتقر إلى وجود حكومة قوية تفرض سيطرتها على الإقليم.
كشف التقرير عن استخدام عوائد الذهب في تمويل أنشطة الجماعات الإرهابية من جهة، وترغيب مواطني الدول المهمشين في الانضمام للتنظيم من جهة أخرى لتوسيع قاعدة أعضائه، فمنذ 2018 تزايدت الهجمات في بوركينا فاسو التي استهدفت مناجم الذهب، مما دفع المجلس العسكري في بوركينا فاسو لإغلاق مناجم الذهب في يوليو (تموز) 2022 جزئيًا؛ لتقييد وصول الجماعات الجهادية إليها والسيطرة عليها.
- تنوع استراتيجيات وتكتيكات التنظيمات الإرهابية
تواجه منطقة الساحل عددًا من التحديات الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فيما تمثل التهديدات الإرهابية التحدي الأخطر نتيجة تنوع استراتيجيات وتكتيكات التنظيمات، حيث انقسمت تكتيكات الجماعات الإرهابية لنوعين، أوردهما تقرير مؤشر الإرهاب على النحو التالي:
- التكتيك القائم على الرعوية الشعبوية: وقد تبنى هذا النهج تنظيم القاعدة، وحظي بقبول كبير بين الأوساط القبلية وعلى رأسهم قبيلة الفولاني. ويعتمد هذا النهج على تسليط الضوء على مظلوميات المواطنين من الضرائب والفساد ونقص الموارد وغيرها، وبناءً على ذلك يتمكن التنظيم من استقطاب قاعدة شعبية عريضة، مقابل إضعاف نفوذ المؤسسات الحكومية. جدير بالذكر أن هذا النهج يتضمن عنف أقل.
- نهج النظام الهرمي: تبنى تنظيم الدولة الإسلامية بأفرعه المختلفة هذا النهج، ويعتمد على ضم العناصر بالتهديد واستخدام العنف والوحشية، كما يعمل على الاستهداف المباشر للمواطنين، وتعتمد قاعدة عناصره -بشكل كبير- على الأجانب، للقيام بالمهام مقابل الحصول على غنائم نظير مجهوداتهم القتالية، ويعتبر النموذج الهرمي هو الأكثر انتشارًا بإقليم الساحل.
- قتل واستهداف القادة المحليين
كشف التقرير تبنى الجماعات الإرهابية نمطًا جديدًا بمنطقة الساحل، يعتمد على استهداف وقتل النخب السياسية المؤثرة، كرؤساء البلديات وأعضاء المجالس الدينية، حيث تقوم مرجعية هذا النمط على ركيزة أساسية وهي القضاء على الأفراد المعرقلين لتنامي وانتشار التنظيمات، وبناءً على ذلك تحدث حالة من الفوضى الناتجة عن فراغ مناصبهم، حيث تزداد حدة التنافس على السلطة بين الفاعلين، لتتمكن بعد ذلك الجماعات الإرهابية من اختراق المجتمع، واستقطاب أكبر عدد من الأفراد، مستغلين الأوضاع المتدهورة للبلاد.
ثانيًا: استراتيجية قطع رأس القيادات
أشار التقرير إلى أنه منذ انتفاضة الطوارق في مالي سنة 2012، شهدت منطقة الساحل تصاعدًا في الاستعانة بالقوات الدولية، والتي كان أبرزها (عملية سيرفال، برخان، بعثات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي) لمواجهة تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، واعتمدت القوى الدولية والإقليمية تدابير للمكافحة، تستند إلى قطع رؤوس قادة التنظيمات الإرهابية، مما أدى لمقتل العديد من الإرهابيين، منهم عبدالمالك دروكدال قائد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وبرغم ما حققته تلك الاستراتيجية من نجاح في مرات عدة، فإن هناك مجموعة تحديات عرقلت فاعلية تلك الاستراتيجية؛ لعل أبرزها أن القائد الجديد سيسعى لإثبات قوة التنظيم وقدرته على الانتشار عبر شن هجمات متتالية واستهداف مزيد من الضحايا، فعلى سبيل المثال دعا أبو عبيدة يوسف العنابي الذي جاء خلفًا لدروكدال زعيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي طوال حياته، إلى مزيد من الهجمات ضد العناصر الفرنسية المتمركزة بمنطقة الساحل، مما أدى لتصاعد أعداد الوفيات داخل صفوف القوات الفرنسية.
أما على صعيد الدعم الدولي والتدريبات المقدمات للسلطات المحلية، فقد كشف التقرير أنها أدت إلى نتائج مختلطة، حيث تعرضت المناطق التي تحيط حدود بوركينا فاسو مع النيجر ومالي، لأكبر عدد من الهجمات الإرهابية، لتضم بذلك (81%) من إجمال حالات الوفاة الناجمة عن هجمات إرهابية بمنطقة الساحل خلال 2022، ناهيك عن أن انسحاب القوات الدولية بعد فشلها في مواجهة التنظيمات، أفسح المجال للتدخل الروسي لمكافحة الإرهاب، مما شجع التنظيمات الإرهابية على شن هجمات مضادة، الأمر الذي أدى لارتفاع معدلات الضحايا.
ثالثًا: تغير ديناميكيات التنظيمات
أشار التقرير إلى أن عدوى الإرهاب تنتشر بشكل سريع إلى دول الجوار الجغرافي للساحل الغربي الإفريقي، فيما شهدت دولتا توغو وبنين معدلات انتشار أعلى برغم أن الدولتين كانتا الأقل تأثرًا بانتشار الإرهاب في السنوات السابقة، باستثناء هجوم 2007 على أحد المواقع بتوغو، الذي أسفر عن مقتل ثمانية جنود، وصُنف حينذاك بالأكبر. واستمر الإرهاب في الانتشار جغرافيًا من منطقة الساحل، وفي يوليو (تموز) 2022 تم شن عدد من الهجمات على عدة قرى في المنطقة المتاخمة لبوركينا فاسو، أدت إلى مقتل ما لا يقل عن (15) مدنيًّا، وبناءً على ذلك صُنفت توغو باعتبارها ثاني أكبر زيادة في مؤشر الإرهاب العالمي، حيث ارتفعت (49) مرتبة لتحتل المرتبة (27)، كما عانت بنين من أسوأ عام لها مسجلة ارتفاع (23) منزلة لتحتل المركز (28).
أورد التقرير أن أسباب تغير الأوضاع الأمنية لدولتي توجو وبنين، وانتقالهما من حالة الاستقرار إلى اللااستقرار يرجع بالأساس لديناميكية التنظيمات الجهادية، التي تسعى باستمرار لإيجاد ملاذات آمنة ومسارح جديدة لانطلاق عملياتها، فهاتان الدولتان متشابهتان -إلى حد كبير- ديموغرافيًا واقتصاديًا وبيئيًا لمناطق في مالي ونيجيريا.
رابعًا: استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي
يشهد إقليم الساحل والصحراء تزايدًا في معدلات الانقلابات العسكرية، حيث شهد الإقليم خلال سنتي 2020 و2022 (13) محاولة انقلابية، سبع منها كانت ناجحة، ويرجع السبب الرئيس وراء هذه الانقلابات إلى فشل السياسات الحكومية المتعلقة بالحكم، وسوء الإدارة، والفساد، وارتفاع معدلات الفقر المدقع، والسياسة التهميشية للأقاليم الحدودية، ففي مالي أدى انتشار الفساد والمحسوبية إلى تقويض المؤسسات الأمنية وإضعاف أي جهود للتنمية، فوفقًا لمؤشر التنمية البشرية تعاني مالي من مستويات تنمية منخفضة، مما يعكس ضعف الحكم، ويشير كذلك إلى تصاعد فرص الإرهاب، وفي بوركينا فاسو ازداد عدم الاستقرار بشكل أكبر من خلال انقلابين سنة 2022.
ذكر التقرير أن التداخل بين عدم الاستقرار السياسي والإرهاب ليس واضحًا، ففي بعض الحالات قد تكون الأنظمة شديدة الديكتاتورية أكثر قدرة على دحض التنظيمات الإرهابية بسهولة، وفي حالات أخرى قد تصبح غير قادرة على المواجهة بشكل فعال، مما يؤدي لدورات متتالية من عدم الاستقرار والانقلابات كما الحال في بوركينا فاسو.
خامسًا: جهود مكافحة الإرهاب واستمرار دورات العنف
ذكر التقرير أنه بالرغم من أهمية تطوير وتعزيز جهود الدول لمكافحة الإرهاب والتصدي لموجات العنف، فإن تلك الجهود لا بد أن ترتهن بعدة ضوابط منعًا لتداعياتها السلبية على أمن واستقرار الدول، فعلى سبيل المثال لا بد أن تكون الجهود موجهة ضد العناصر الخطرة بعيدًا عن المدنيين، من جهة أخرى لا بد من تقليل اعتماد القوات النظامية على مرتزقة، حيث أثبتت الأدلة أن نشاط المرتزقة المسلح لا يفرق بين عناصر إرهابية ومدنيين، ومن شأن هذا تعزيز مشاعر الغضب وتعزيز الطائفية والعرقية وتصعيد العنف، مما يسهل المهمة على التنظيمات الإرهابية لاستقطاب المواطنين وتجنيدهم.
فعلى سبيل المثال نجد دولًا كمالي وبوركينا فاسو ذات معدلات مرتفعة للهجمات التي تشنها قوات نظامية أسفرت عن مقتل مدنيين، ففي مالي خلال عام 2021 قُتل (158) مدنيًا من قبل قوات تابعة للدولة، وفي 2022 زادت الأعداد إلى (1058) مدنيًّا، وتشير تلك الزيادة في معدلات العنف ضد المدنيين إلى تصاعد حدة الصراع في مالي، وبعد إعلان باريس سحب قواتها تبين أن الجيش المالي كان مسؤولًا عن مقتل (845) مدنيًّا خلال 2022، بينما كان تنظيم داعش وجماعة نصرة الإسلام مسؤولين عن (221) قتيلًا بزيادة قدرها (75) حالة مقارنة بسنة 2021.
سادسًا: الجغرافيا السياسية
شهدت منطقة الساحل والصحراء منذ 2012 العديد من العمليات الأمنية متعددة المستويات؛ بغية إعادة الاستقرار لدول الإقليم، وشملت تلك العمليات بعثات تابعة للاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسية، كعملية سيرفال وبرخان، من جهة أخرى تبنت الأمم المتحدة بعثات أمنية متعددة الأبعاد لإعادة الاستقرار في مالي، كبعثة مينوسما وكذلك تقديم الدعم الدولي لمجموعة الخمس دول، ناهيك عن العمليات الأمنية أحادية الجانب، كان أبرزها العمليات الخاصة التي تم خلالها استهداف بعض من قادة التنظيمات الإرهابية.
وفي فبراير (شباط) 2022 بدأت القوات الفرنسية بالانسحاب من مالي نتيجة لتدهور العلاقات بين المجلس العسكري المالي وباريس، على خلفية فشل عملية برخان ومن قبلها سيرفال في تنفيذ أهدافها المتعلقة بتطويق الجماعات الإرهابية والقضاء عليها، وفي أغسطس (آب) 2022 تم الانسحاب الكامل للقوات الفرنسية وانتقالها لإحدى القواعد العسكرية في النيجر، وفي يناير (كانون الثاني) 2023 أعلن المجلس العسكري في بوركينا فاسو أن جميع القوات الفرنسية يجب أن تغادر البلاد في الداخل، وبالفعل انسحبت القوات الفرنسية وتمركزت في دولتي النيجر وتشاد الحليفتين لباريس.
أشار التقرير إلى أن هذا الانسحاب ترك مستقبل مينوسما في خطر فيما يتعلق باستمراريتها نتيجة خلافات قائمة بين الدول الأعضاء، وبالتزامن من الانسحاب الروسي بدأت روسيا التغلغل بواسطة الوسيط الأمني الخاص بها، والمعروف بـ”شركة فاغنر” داخل دول الإقليم وعلى رأسهم مالي، بزعم مساعدة المجلس العسكري في مواجهة التنظيمات الجهادية، لتتحول بذلك المنطقة إلى ساحة للتنافس بين القوى الكبرى.
أورد التقرير أن قوات فاغنر أصبح لديها قبول بين الأوساط الشعبية لدول الإقليم، يستدل على ذلك من امتناع عدة دول إفريقية من التصويت في الأمم المتحدة ضد قرار يدين روسيا في الحرب الأوكرانية، حيث أصبح الوسيط الأمني الروسي يعمل جنبًا إلى جنب مع القوات المالية، وتمكنوا من إحراز بعض النجاحات فيما يتعلق بمواجهة التنظيمات الإرهابية، ومن المحتمل أيضًا أن تشارك قوات فاغنر في عمليات عسكرية ضد الجماعات الجهادية في بوركينا فاسو.
كشف التقرير عن وجود تحولات في المشاعر تجاه القوى الدولية المتمركزة في منطقة الساحل لصالح الدولة الروسية، فالمشاعر الإيجابية تجاه روسيا زادت بنسبة (35%) في مالي منذ 2017. في المقابل أصبحت فرنسا لا تحظى بشعبية كبيرة عبر العديد من دول الساحل، فوفقًا للتقرير هناك نحو (59%) من الماليين يحملون آراء سلبية حول فرنسا، كما تصاعدت العديد من موجات الغضب الشعبي إزاء الوجود الفرنسي في دولهم كمالي وبوركينا فاسو.
يشير التقرير إلى أن التنافس الجيوسياسي بين فرنسا وروسيا سيكون له دور كبير في عرقلة الجهود المبذولة لمعالجة أزمة الإرهاب في الساحل، كما أنه سيعزز من حدة الانقسام بين دول الجوار، نظرًا للانقسامات بين الدول التي تدعمها روسيا، وتلك التي تدعمها فرنسا والغرب.
مجمل القول؛ فإنه وفقًا للتقرير لا يمكن الفصل بين الأوضاع السياسية والاقتصادية والبيئية والأمنية الهشة من جهة، وانتشار التنظيمات الإرهابية وتغلغلها في دول الساحل من جهة أخرى، فهناك علاقة وثيقة بين الأوضاع الداخلية المتردية للبلاد، وانتشار العنف والصراعات المسلحة، فالدول التي تعاني حالة عدم استقرار دائمًا ما تصنف بالأعنف، لذا فإن مواجهة المشكلات الداخلية لدول الساحل، ينبغي أن تتم عبر استراتيجية ومنهجية متعددة الأبعاد، تشمل مقاربات تنموية واجتماعية واقتصادية، ومنح فرص التمكين السياسي لكافة الأطياف السياسية بجانب بعدها الأمني، كل ما سبق يعد بمثابة ركيزة أساسية لمواجهة معضلة الإرهاب والقضاء على التنظيمات الإرهابية.
[1] Global Terrorism Index 2023, available at: https://www.economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2023/03/GTI-2023-web.pdf
- جميع الأشكال البيانية الواردة في العرض مصدرها تقرير مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2023 ، متاح على الرابط السابق.