تنامت مستويات القلق لدى الحكومات، بعد سيطرة طالبان على الحكومة في كابول أخيرًا. صعّدت حكومات دول الجوار الأفغاني وأبرزها الصين وباكستان من وتيرة تواصلها الدبلوماسي مع طالبان في الأسابيع الأخيرة السابقة على الحدث، تحسبًا لاحتمال أن تصبح قوة سياسية في وقت قريب. الآن، أصبح هذا الاحتمال حقيقة تُنذر بتغيرات جيوسياسية واسعة في آسيا. وما يزيد الأمر سوءًا يتعلق بمدى السهولة والسرعة التي تمت بها السيطرة، التي وصفت بالمفاجئة.
يشير خبراء بالشأن الآسيوي إلى أنّ الدول المجاورة لكابول قلقة بشكلٍ خاص بشأن عدم الاستقرار السياسي، وتدفقات اللاجئين التي نشهدها منذ سيطرة طالبان، واحتمالية أن تُصبح أفغانستان ملاذًا للأنشطة الإرهابية مرة أخرى؛ والأخطر، احتمال أن يثير ذلك الخلايا الإرهابية في المنطقة، وخصوصًا في باكستان.
قال مايكل كوجلمان Michael Kugelman، نائب مدير برنامج آسيا في مركز وودرو ويلسون woodrow wilson لشبكة (سي إن بي سي): “هناك الكثير من التقلّبات الجيوسياسية في الوقت الحاضر، إذ يختبر جيران أفغانستان كيفية التكيّف مع نظام طالبان الناشئ”[2].
كيف ستكون انعكاسات سيطرة طالبان على المشهد السياسي؟
بدت باكستان الدولة الأكثر حماسًا في الترحيب بوجود طالبان في أفغانستان. قال رئيس الوزراء عمران خان عقب سيطرة طالبان على الحكومة: “إنّ الشعب الأفغاني كسر قيود العبودية”. شكّلت باكستان لسنوات عديدة، ملاذًا لقادة طالبان وعائلاتهم، حيث كان المقاتلون يتلقون الدعم والتدريب والخدمات الطبية.
يصف عبدالباسط، وهو زميل باحث مشارك في مدرسة S. Rajaratnam للدراسات الدولية (RSIS) في سنغافورة، العلاقة بين باكستان وطالبان بأنّها “زواج مصلحة قائم على الاختلافات التكتيكية”. بالنسبة لباكستان، كان الهدف هو إبقاء الهند خارج أفغانستان من خلال مساعدة طالبان. وبالنسبة لطالبان، كان الهدف الاستفادة من الملاذات الآمنة في باكستان”[3]. وفي ضوء المجريات الأخيرة، من المتوقع أن تتمتع إسلام آباد بنفوذ أكبر في كابول، مقابل تحييد نفوذ نيودلهي.
أمّا بالنسبة للهند، فإلى جانب تقويض نفوذ نيودلهي في كابول، ستتنامى فرص حدوث مشاحنات أوسع بين الهند وباكستان؛ إذ كثيرا ما اتهمت إسلام آباد حكومة كابول بالعمل مع وكالات الاستخبارات الهندية لدعم المتمردين البلوش. كما عانت نيودلهي سابقًا من المتشددين الموالين لباكستان منذ كانت طالبان تسيطر على السلطة في كابول.
انتقالا للصين، هناك من يعتبر أنّ استيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان يمثل حيلة أمريكية جديدة ضد بكين، لإبقاء المنطقة غير مستقرة، ومنع مبادرة الحزام والطريق من التبلور -وهي نظرية[4] تجد صدى مفاجئًا- وتمثل احتمالا آخر يثير قلق باكستان، والصين، اللتين ترتبطان بمشاريع[5]، أبرزها “الممر الاقتصادي” الذي يندرج ضمن مشاريع البنية التحتية الصينية، المعروفة باسم “طريق الحرير الجديد”، الذي يهدف إلى ربط إقليم شينجيانغ في غرب الصين بمرفأ جوادر، لضمان منفذ آمن للبضائع الصينية إلى بحر العرب. كما أثارّ الانسحاب الأمريكي مخاوف من اتساع شبكة الجماعات المسلحة التي تستهدف مشاريع البنية التحتية الطموحة التي تنشرها غربًا عبر أوراسيا.
فعليًا، أكثر ما تخشاه الصين (القوة الدولية الصاعدة) دخول المنطقة إلى فوضى واسعة، وحدوث العنف، وأن تصبح أفغانستان مرة أخرى مركزًا مصدرًا للإرهاب العابر للحدود. ففي حين أنّ بكين لم تشعر بالارتياح تجاه الوجود العسكري الأمريكي في البلاد -التي تتاخم منطقة شينجيانغ الحدودية في أقصى غرب الصين- فإنها كانت تأمل بشكل خاص في أن تؤدي جهود واشنطن إلى تحقيق استقرار دائم في الدولة المضطربة. في الوقت الحاضر، ينظر القادة الصينيون إلى خروج أمريكا من أفغانستان بمشاعر مختلطة[6].
لطالما كان حكام بكين براغماتيين بحياديتهم بشأن من يحكم أفغانستان، طالما أن المصالح الحيوية للصين محفوظة. تتلخص هذه المصالح الحيوية في الانتقال السلس إلى حكومة وطنية جديدة يمكنها الحفاظ على الاستقرار والنظام المحلي في كابول. على مر السنين، واصلت بكين التعامل الدبلوماسي مع طالبان، إذ رحبت أخيرًا بوفد رفيع المستوى في الصين في يوليو (تموز) 2021. لذا تسعى بكين بنشاط إلى تسوية مع السلطات الجديدة في كابول، للحصول على تأكيدات بأنّ إدارة طالبان لن تثير المشاكل في إقليم شينجيانغ، ولن تعطل مساعي الصين الاقتصادية في أفغانستان[7]. من جهة أخرى، يرى خبراء أقل اعتمادًا على وجهة النظر السابقة أنّ الانسحاب الأمريكي قد يشكّل فرصةً قدمتها الولايات المتحدة كهدية مجانية لمنافستها الصين؛ إذ تتمتع أفغانستان بثروات ومعادن قد تستفيد منها بكين في خططها لتنمية الاقتصاد.
ستراقب كل من إيران وروسيا ودول الخليج الأوضاع في كابول عن كثب، للنظر في كيفية التعامل مع طالبان؛ لا سيما أنّها تسعى إلى كسب المجتمع المحلي والدولي من خلال تبني خطابٍ أكثر اعتدالا.
تأثير “انتصار” طالبان الملهم على الجماعات الإرهابية: باكستان والتطرّف الموازي
يقول تشارلز فيربانكس، وهو زميل بارز في معهد هودسون: “عندما فرّ الشاه من طهران عام 1979، قال لي أحد طلابي الخريجين بحماس: (لقد منحتنا إيران الأمل). جفّ هذا الأمل في نهاية المطاف، ولكن لسنوات، كرّس النموذج الإيراني معظم أعمال عنف التطرف الإسلامي اللاحق، الشيعية والسنية”. ويضيف: “بالمثل، عندما سيطرت (الدولة الإسلامية) على جزء من سوريا ومناطق من العراق، كان لها تأثير محفز للجهاديين. بدأ المنتمون بالتدفق من أوروبا ودول الشرق الأوسط، متحمسين للقيام بمهام إرهابية. ويضيف: إلى جانب إلهام التجارب “الناجحة”، تمثل إقامة الدولة الجهادية بذاتها مصدر إلهام كبيرا جدا”؛ إذ سعت الحركات الإسلامية لفترة طويلة لإنشاء “دولة إسلامية”، وحددت هذا الهدف بمثابة أنّه هدفها الأسمى. توفر الدولة ملاذًا أفضل للإرهابيين، ولديها قدرات أكثر تنوعًا بكثير من الحركة. ليخلص إلى نتيجة مفادها أنه: “يمكننا أن نتوقع شيئًا مشابهًا قريبًا في أفغانستان”[8].
وبالمثل، إنّ سيطرة طالبان على الحكومة في أفغانستان، إلى جانب رواية الانتصار المصاحبة لها، قد تشجع الجماعات الإرهابية في باكستان، بما في ذلك حركة طالبان الباكستانية، مما قد يؤثر على أمن المنطقة. خصوصًا في ظل وجود تاريخ مشترك؛ إذ يشار إلى دعم الحكومة الباكستانية حركة طالبان ماديا ولوجستيا.
نفّذت حركة طالبان الباكستانية، مئات الهجمات على قوات الأمن الباكستانية والمدنيين، بما في ذلك هجوم على مدرسة عام 2014 أسفر عن مقتل (145) شخصا -على الأقل- معظمهم من الأطفال. حتى العام الماضي، بدا أنّ “حركة طالبان باكستان” في طريقها للانهيار، إذ قُتل عدد من قادتها في هجمات بطائرات أمريكية بدون طيار، وعانت من صدع داخلي، ودفعت حملة القمع المستمرة من قبل باكستان المجموعة إلى أفغانستان. لكنها أعلنت الشهر الماضي وحده مسؤوليتها عن (26) هجوما إرهابيا في باكستان[9].
كما وصف أمير حركة طالبان باكستان المفتي نور والي انتصار طالبان الأفغانية بأنه: “انتصار يتقاسمه جميع المسلمين”[10].
بلا شك، إنّ اشتعال التطرّف في باكستان، وتدحرج الأوضاع إلى الأسوأ في الدولة التي تمتلك سلاحا نوويا، محفوف بمخاطر جمة. في هذا الشأن، يقول ساداناند دوم (كاتب عمود صحفي في صحيفة وول ستريت جورنال) في مقالٍ نشر بعنوان “تمتلك باكستان أسلحة نووية ويبلغ عدد سكانها (200) مليون نسمة، يحتفل الكثير منهم بانتصار طالبان”: في أوائل عام 2009، عندما ضغط الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي على نائب الرئيس المنتخب جو بايدن لقمع ملاذات طالبان الآمنة عبر الحدود، أوقفه السيد بايدن بإشارته إلى أنّ “باكستان أهم (50) مرة من أفغانستان بالنسبة للولايات المتحدة”. يضيف الصحافي معتقدًا أنه: “كرئيس، قد يكون السيد بايدن تأكد أن باكستان أكثر خطورة بمقدار (50) مرة على الولايات المتحدة وعلى العالم أيضًا”[11].
في الختام
إنّ الأحداث الأخيرة في المشهد السياسي بعد سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان -بلا شك- عززت معنويات الحركات الإرهابية عمومًا، فقد يقوم بعضها بإعادة تنظيم وحشد قواها، وهذا الأمر ينطبق كذلك على حركة طالبان الباكستانية والجماعات المتشددة الباكستانية الأخرى. الأمر الذي سيؤدي إلى تكريس المزيد من الصراعات الإقليمية والدولية، إلى جانب التحول الجزئي في الاهتمام الدولي إلى أفغانستان ودول الجوار.
من جهة أخرى، قد تؤدي الأحداث الأخيرة إلى إعاقة الجهود الإقليمية لتعزيز الترابط الاقتصادي بين جنوب ووسط آسيا، إلى جانب إعاقة الاستثمارات الصينية- الباكستانية في حال تصاعد عنف موازٍ في باكستان. وستشهد المرحلة القادمة الكثير من النقاشات، وستتطلب الكثير من الحكمة.
[1] – باحثة في العلاقات الدولية، تعمل في مركز المسبار للدراسات والبحوث.
[2]– “From India to China, the Taliban’s return leaves Afghanistan’s neighbors scrambling to adjust,” CNBC, 17 Aug 2021, https://www.cnbc.com/2021/08/18/afghanistan-taliban-impact-on-pakistan-india-china-russia-iran.html
[3]– Tom Hussain, “With the Taliban’s ascendancy in Afghanistan, does Pakistan stand to gain or lose?”, SCMP, 20 August 2021, https://www.scmp.com/week-asia/explained/article/3145790/talibans-ascendancy-afghanistan-does-pakistan-stand-gain-or?module=perpetual_scroll&pgtype=article&campaign=3145790
[4]– “Explained: A look at Pakistan’s long relationship with the Taliban,” India Express, 20 August 2021, https://indianexpress.com/article/explained/afghanistan-crisis-taliban-islamabad-kabul-equation-7457025/
[5]– “المصالح الصينية في باكستان هدف للمتمردين الانفصاليين”، Swiss Info، 13 مايو (أيار) 2019، https://www.swissinfo.ch/ara/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%83%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%B5%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%8A%D9%86/44965974
[6]– “How the Region is Reacting to the Taliban Takeover,” USIP, 19 August 2021, https://www.usip.org/publications/2021/08/how-region-reacting-taliban-takeover
[7] – المرجع السابق.
[8]– “The Talibanized Afghanistan Will Inspire and Attract Radicalism,” Hudson, 18 August 2021, https://www.hudson.org/research/17194-the-talibanized-afghanistan-will-inspire-and-attract-radicalism
[9]– “As the Taliban Advance in Afghanistan, Pressure on Pakistan Grows,” NYT, 16 August 2021, https://www.nytimes.com/2021/08/13/world/asia/pakistan-afghanistan-taliban.html
[10]– المرجع السابق.
[11]– “What’s 50 Times More Dangerous Than Afghanistan?”, WSJ, 19 August 2021, https://www.wsj.com/articles/biden-withdrawal-afghanistan-pakistan-nuclear-lashkar-e-taiba-tehreek-e-taliban-islamist-11629402468