تقديم
يُعنى كتاب المسبار «الإسلاميون والعمق الاجتماعي في العالم العربي وتركيا» (الكتاب الأول بعد المئة، مايو/ أيار 2015) بدراسة كيفية توظيف الحركات الإسلامية بطرفيها السُنّي والشيعي للمؤسسات والهيئات الاجتماعية، بهدف بناء قواعدها الجماهيرية وكسب المناصرين الجدد.
تتناول الدراسات تجارب الإسلام السياسي عموماً، والإخوان المسلمين خصوصاً، في تأسيس «العمق الاجتماعي» في كل من: مصر وتونس والمغرب وتركيا، ودول أخرى. كما تبحث في مصادر تمويل الجماعات الإسلامية وعمليات غسيل الأموال التي تتم عبر العالم.
اعتمدت التنظيمات الإسلامية، سواء الإخوانية أم السلفية، بالدرجة الأولى على انتشار مؤسساتها الرعائية المتمثلة في العيادات الصحية والمدارس ومراكز تحفيظ القرآن والخدمات المصرفية غير الرسمية، إضافة إلى السيطرة والتأثير في المساجد. هذا النفوذ مكّن الإسلاميين من تكوين ولاء لهم على مستوى الجمهور، لا سيما بين الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً وتهميشاً، التي رأت في الحركات الإسلامية نافذة خلاص لها؛ نتيجة انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي والاقتصادي، وغياب التنمية الشاملة التي تطال كل الشرائح والمناطق.
ومع أن التنظيمات الإسلامية اشتركت في اتباع إستراتيجية توسيع المؤسسات الاجتماعية والسيطرة على المساجد، فإننا نجد أن أولوياتها وأدواتها في تحصين حاضنتها وتغلغلها في بنى المجتمع، اختلفت من بلد لآخر طبقاً لعوامل علاقتها مع السلطة، مهادنة أو توتراً. عملياً، لم يتمكن الإخوان المسلمون من بناء علاقة سياسية مع الحكومة المصرية، في حين نجح «إخوان الأردن» في تحقيق علاقة متوازنة، على الرغم من الصدام والتحجيم اللذين حصلا لهم من قبل الدولة الأردنية.
أدت أحداث ما يسمى بــ«الربيع العربي» إلى خلخلة إستراتيجيات التنظيمات الإسلامية. سعى الإسلاميون إلى تصدّر المشهد السياسي في أكثر من دولة، خصوصاً في مصر وتونس، وكشف حضورهم السياسي عن الأثر الملحوظ لهم لدى بعض الفئات في المجتمع، بعدما بنوا بــ«صمت» إمبراطوريات اجتماعية عبر شبكات الرعاية الصحية والتربوية والدينية، في سبيل التمكين السياسي والوصول إلى السلطة.
تنبهت غالبية الحكومات العربية للخطورة المتمثلة في نفوذ الحركات الإسلامية ضمن إطار العمل الخيري، وعملت على مراقبة أنشطتها، وسعت إلى تشديد الرقابة على تحركاتها.
يسلط الكتاب الضوء على الاستثمارات المختلفة التي أنشأها الإسلاميون، سواء من كان منهم داخل السلطة أم خارجها. لقد نشطت الحركات الإسلامية المختلفة في تحقيق الاستقلال المالي لتمويل أنشطتها الخيرية والاجتماعية، من جهة، وفي تمويل برامجها السياسية المكشوفة أو السرية، من جهة ثانية. علماً بأن عديد القيادات داخل هذه الجماعات حقق ثروات مالية تحت الغطاء الديني، بذريعة خدمة المجتمع.
إن حزب الله في لبنان، وجماعة الخدمة التابعة للمفكر الإسلامي والداعية التركي: فتح الله كولن، أبرز تنظيمين من حيث القدرة على الاستثمار الدولي الذي يحقق أرقاماً كبيرة. ويتميز تنظيم الإسلام السياسي الشيعي عن الإسلام السياسي السني بقدرته على تحصيل مبالغ مالية من أتباع المرجعيات الدينية المختلفة تحت باب «الخُمس». هذا لا يلغي أن التنظيمات السنية تقوم بجمع مبالغ مشابهة من مؤيديها، ولكن بمسميات أخرى.
تأتي أهمية الكتاب من عاملين رئيسين: الأول: رصد انتشار المؤسسات الخيرية والاجتماعية والاستثمارية الواقعة تحت سيطرة الإسلاميين التي أسسوها على مدار عقود؛ والثاني: دراسة تطور العلاقات التنظيمية نتيجة جدل التمويل والإنفاق والإدارة.
يخرج الكتاب برؤية مهمة في جملة التحديات التي تواجه هذه المؤسسات، أبرزها: زيادة الإنفاق وقلق التمويل، وأهمية الجمع بين الإدارة المركزية للمشروعات والعمل اللامركزي، والتوازن في العلاقات السياسية محلياً وعربياً ودولياً، مع الحفاظ على الثوابت الأساسية، وكذلك ملء الفراغات بعد رحيل القيادات.
يُبرز الكتاب -أيضاً- تضاعف أعداد المؤسسات التابعة للحركات الإسلامية بمختلف مشاربها وأيديولوجياتها الدينية، شارحاً أسباب هذا التوسع. ويستعرض العلاقة بين كثافة عدد الجمعيات والمسألة الأمنية في الدول العربية والإسلامية، ويقدم اقتراحات لآليات التنظيم الداخلي للجمعيات والرقابة عليها، خصوصاً عبر إنشاء مرصد للجمعيات يكون بمثابة بنك معطيات يسمح بتشكيل بيانات شاملة عنها، يكون شبيهاً بالسجل التجاري للشركات، فيلعب دور الإسناد والتأطير لهذه الجمعيات فيجعلها تحت رقابة الدولة.
لقد أصبحت بعض التنظيمات التي لها هوية إسلامية حركية، بسبب انتشار مؤسساتها المختلفة وانعزالها عن الرقابة الرسمية، «دولة داخل دولة»، ولكن هذا لا ينفي أن ثمة جهوداً قامت بها الحكومات العربية في بعض الدول، غايتها إخضاع تلك الجمعيات والمؤسسات التابعة للإسلاميين للرقابة الرسمية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة: ريتا فرج، التي نسّقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
مشاهدة فهرس الكتاب
رئيس التحرير
مايو (أيار) 2015