الكتاب: “الروح الألمانية” (Die Deutsche Seele)
الناشر: (Albrecht Knaus Verlag 2011) (560 Seiten) (560 صفحة).
تأليف: تيا دورن (Thea Dorn ) وريتشارد فاغنر (Richard Wagner)
قراءة: الدكتور جورج كتورة*
كتاب تيا دورن وريتشارد فاغنر جديد في نوعه. وهو كما نستعيده في طبعته الحادية عشرة، مكون من أكثر من خمس مئة وخمسين صفحة ومزين بالعديد من الصور والرسوم واللوحات التي تستعيد فقراته وترافقها للتعبير عن المعاني أحياناً وللتذكير بأصحاب النصوص التي يستشهد بها صاحبا الكتاب غالب الأحيان، دون إشارة إلى الصفحة ولا إلى المؤلف، أو إلى الكتاب، باعتبار ذلك من المعروف لدى القارئ الألماني المتبحر بالعلم والمعرفة.
الكتاب استعادة للروح الألمانية، أي للروحية التي فكّر، أو يفكر بها الألمان، أو للروحية التي يعملون بها في مجالات متعددة، في السياسة، في الفنون، في الفلسفة، وفي حدائق الأطفال. ولا عجب في ذلك؛ فالكتاب كناية عن موسوعة تستعيد بحثاً في العديد من الموضوعات الحياتية أو المفاهيم السياسية بشكل تأملات في غالب الأحيان، إلا أنها تأملات تخرج من الإطار الشخصي الضيق لتتوسع استناداً إلى أفكار فلاسفة أو كتّاب (غالباً من الألمان) ليؤلف المجموع كلاً شيقاً في القراءة، لكن لا يخدم غرضاً بحثياً معيناً يوجب متابعته من ألفه إلى يائه إلاَّ ما سبقت الإشارة إليه: الروح، أو الروحية الألمانية.
بعد هذا التقديم لتصور الكتاب، لا بد من العودة لبعض هذه التأملات، وهي مرتبة فيه أبجدياً (الأبجدية اللاتينية) وبشكل انتقائي بالطبع. والمقدمة توحي بهذا التوجه؛ فالكتاب استعادة لذاكرة لا يُراد لألمانيا أن تنساها في زمن يطغى فيه الإعلام والاستهلاك، أو في زمن يدور التلفزيون فيه على مدار الساعة، الثلاجة لا تخلو من البيرة والمأكولات الأخرى، بحسب الصورة التي يوردها النص، وفي زمن تسترجع فيه الأعلام كل أربع سنوات، والإشارة إلى مباريات كرة القدم الأثيرة على نفس الألمان والشاغلة لهم أيضاً. والباحث يجب أن يعرف أن على الألماني الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك طبعاً.
من هنا البداية إذاً، ولذلك ربما، والتسلسل اللغوي الأبجدي يسهل العملية، كان البدء بلحظات تأمل، بكيفية صنع الخبز الخفيف، خبز المساء، دون أن ينسى المؤلفان تشبيه هذه اللحظات الحميمة بصنعه، والتمتع به كما بالعشاء السري. ولكن الأهم أنه لا رغبة لدينا في نقل الوصفة، بل في النقلة من همّ الوجبة إلى الهم المرافق لها الذي يتجلى في اقتباس جميل من أحد مغني ألمانيا بعد الحرب: “اليوم، لن أصنع خبز المساء، اليوم سأصنع أفكاراً“. إنها أحد تجليات ما بعد الحرب في ألمانيا الخاسرة آنذاك والساعية إلى التجدد. والأمر نفسه يمرره المؤلفان في مقطع لاحق بعنوان “هدوء المساء“، حيث الدعوة تتقاطع لمزج هدوء الطبيعة مساء، على الفحم وفوق الأشجار، بالدعوة إلى الانتظار والسكينة باستعمال الأمر للمخاطب. إنه أمر موجه للقارئ بالطبع.
تجاوز الهاوية
تتطاول المقاطع بعد ذلك، ولعل المقطع المخصص لمصطلح “الهاوية” من أكثر المقاطع عمقاً في التعبير عن خاصية الألمان، عن “روحهم” لنبقى مع عنوان الكتاب؛ فالألماني تعوّد الثقة بما هو ثابت، ولكن في أدبه وفي تاريخه اكتشف أن الهاوية فيه، تدوخه حين يرنو إليها. هذا ما اكتشفه توماس مان إذ يقول: “الألماني هو الهاوية لنتمسك جيداً” والهاوية بالألمانية أكثر من اسم، واللافت في الأسماء أنها مما لا قعر له، أي لا أصل ثابتاً له. وهذا ما عناه هيدغر حين تحدث عن هاويات الفكر والوجود (أو الكينونة). فالفلسفة تريد البحث عن ثبات، عن خير وعن حق وعن جمال، لكنها تكتشف العمق أو هي تنزع الأساس الثابت، فتجد القلق (الوجودي)، تجد الفظاعة والهول، القادر في كل وقت على زعزعة الوجود. على الفيلسوف العمل على الدفع خارج الهاوية، حتى هاوية الدين حيث الإنسان مقابل بالدفع بدل الذنب، بدل الدَّين. “فعلى الإنسان التسلح بجناح إذا ما أحب الهاوية” على ما يورد نيتشه. أو من ينظر طويلاً إلى الهاوية يلمح الهاوية في نفسه أيضاً. والسرد لنيتشه. لكن الاستنتاج عاد ليلقى على هيدغر برجعة ما زال الألمان يحنون إليها: عنيت بها قبوله رئاسة الجامعة في فريبورغ عام 1933 أثناء الحكم النازي، ما يؤشر إلى قبوله مبادئ الحزب الحاكم آنذاك. لا يسترجع المؤلفان الحقبة والأزمة وما كتب عنهما بل يشيران إلى فشل هيدغر في الإفلات من الهاوية، الأمر الذي دفعه للعزلة في عرزاله في الغابة السوداء، جامعاً الحطب للتدفئة والماء من بئر قريبة. وللعزاء لم يكن الألمان وحدهم من وقع في الهاوية، فقبلهم الإغريق الذين جعلوا جهنم في باطن الأرض، الأمر الذي لم يمنع أرفيوس من الفناء في محاولة لسحب حبيبته من العالم السفلي إلى ضوء النهار. بكل الأحوال يحاول المؤلفان رفع هذه الروح المعنوية وتخليصها من “هاوية الهلاك” (التعبير لكانط). وذلك باستذكار الماضي البطولي، إن ما صادف الألمان في الحروب الصليبية أو ما بذلوه من جهد في أناشيدهم التي استعادت الزمن الرومانسي الجميل. وهذا شأن كل فكر وطني أو قومي. إنها الهروب من الهاوية إلى الأمام على ما أورد فاغنر (الموسيقي لا مؤلف هذه الصفحات). وإلى فرويد الألماني الآخر “أركيولوجي الروح” الذي يحفز مرضاه” لنقل تاريخهم المردوم إلى وضح النهار”. وإلى سواه ممن آثروا الارتفاع من الهاوية، برفضها أو بتجاوزها. إنما الروح الألمانية التي أراد المؤلفان تعقبها، الروح المتوثبة منذ أواسط القرن الثامن عشر، بل منذ بداية النهضة الساعية على الدوام للتقدم والظهور متفائلة متوثبة ناجحة ومنتصرة مع سيل من الكتاب والفلاسفة الذين يقولون بلسان فاغنر مرة أخرى: “أن تكون ألمانياً فذلك يعني البحث عن الشيء للرغبة في البحث عنه”.
العمل الحامل للسعادة
في الإطار المشابه، وبهدف التسلسل الأبجدي يأتي الفصل الخاص بالعمل، أو بحمى العمل. العمل بعرق الجبين كما في التوراة أو العمل الحامل للسعادة كما تصوره لوثر مترجم التوراة إلى الألمانية أو حتى أن من يجمع النبات المضر هو كمن يقدم مديحاً لله شرط أن يوجه قلبه للسماء على ما قال المعلم إيكهارت، الصوفي الأشهر عند الألمان، أي هو يخرج من الهم اليومي ليوجه حياته وجهده للقداسة.
تقديس العمل وقلب النظرة إليه بتوجيه من الحركة الإصلاحية كان للألمان منعطفاً هاماً؛ فالعمل في ترجمة استلهمها لوثر هو بمثابة دعوة (Beruf) إنه ليس وظيفة أو حرفة، بل هو تلبية لنداء إلهي، إنه نعمة أو لطف يفيد منه الإنسان الطهراني ليكون عمله مع أخيه الإنسان تشاركاً بمعانٍ إلهية، أو بقبس منه تعالى. الأمر الذي أفاد منه فيبر أيضاً ليكشف أن هذا العمل / الدعوة، أو النداء الإلهي كان في أساس الرأسمالية العقلانية التي بنت أوروبا، معارضاً بذلك ماركس في صراعه الطبقي، جاعلاً العمل أمراً مقدساً عند الألمان. فالنجاح في العمل، وهذه من سمات الكالفينية، يعني العيش بسعادة؛ لأن العمل بهذه الروح إنما يفيد من نعمة الله عليه، أو من اصطفائه له. “فمن لا يشعر أنه اختير للعمل عليه أن يبقى حيث هو ويرى كيف تجرجر روحه الملعونة حتى يوم القيامة”. وعن غوته في ديوانه الشرقي: “أن العمل هو الذي يقصر الوقت أما البطالة فلا تحتمل“.
زمن التأسيس
ولأني لا أتبع تقسيماً يعتمد المتابعة بالصفحة لهذا العمل الجيد، أنقل القارئ إلى ما سماه المؤلف ريتشارد فاغنر (بين هلالين: المقالات موزعة بين فاغنر وتيادورن) بزمن التأسيس. أي الزمن الذي انطلقت فيه الثورة الصناعية وتمايزت كل دولة أوروبية بميزة ميزتها عن سواها؛ إذ رأى الكاتب أن لا يسأل عن التحول الحاصل من مجتمع زراعي إلى اقتصاد يعتبر الأول عالمياً بل وجه النظر إلى روح الخلق، أو الإبداع التي جعلت هذا التحول ممكناً. ففي حين حاول الأوروبيون الآخرون، الفرنسيون والإنكليز، الاعتماد على الصناعة (المانيفاكتورة) والمنسوجات، انصرف الألمان للأعمال الحرفية وللتفنن في العمل، فكانوا ومنذ القرون الوسطى صناع ذهب وساعات. لقد جعلوا العمل الحرفي مقابل العمل المانيفاكتوري، الأمر الذي أفادت منه حركة التصنيع. وهكذا من قلب أزمة عام 1870 خرجت شركة سيمينز لتلحقها فيما بعد الصناعات الثقيلة، صناعة الصلب والمحركات التي خلقت كروب وبوش وغيرها. وما كان ذلك لينجح لولا وجود الذات الألمانية (Selbst)، هذه الذات التي تعتز بعملها وتجعل من الماركة التي تقدمها حصناً ومرجعاً وتعبيراً عن الروح. هكذا تعتبر هنكل، وبراون وسواها. وإذا كان لي أن أنقل فكاهة شخصية فسأروي قصة صغيرة عشتها: اشتريت مرة ولاعة ماركة براون، وبعد فترة أكثر من سنة وقعت من يدي وانكسرت. عدت لأشتري بدلاً عنها وقلت للبائعة إن التي معي وقعت وانكسرت. حينها عزَّ عليها ذلك وقالت: براون وتنكسر؟ هذا مستحيل! أخذت الولاعة القديمة وادَّعت أنها لاتزال على التأمين، واستحصلت لي مجاناً بديلاً عنها. إن الاعتزاز بهذه الصناعة يعني احتضاناً شخصياً من الشركة ومن المواطنين لما ينتجون. بتعبير آخر، إنه سكب الروح الألمانية في صناعتهم. وهذا مجال يعتز به ينقله المؤلف، وأشهد أني عشته.
روح الشعب
وبالقياس نفسه أعادني هذا الكتاب إلى مقولات أخرى جديدة، جديرة بالنقاش. لقد لفتني الاستدراك الممتد والمتداول في العديد من الصفحات وهو العودة إلى مقولة الشعب. الشعب الذي يوحد أو يتوحد. ولذلك علاقته دون شك بالتاريخ الألماني، بالوحدة قديماً، وبالفدرالية المعمول بها إلى الآن، وبالتوحد الجديد بعد هدم جدار برلين. فالحرب الثانية خلقت حالة خاصة، وجد الألمان فيها أنفسهم مقسمين إلى مناطق وجود القوى الأجنبية المنتصرة في غرب ألمانيا، والاتحاد السوفياتي في شرقها. وحتى لا تقع ألمانيا المقسمة أسيرة الوضع القانوني انطلق الفكر الألماني من وضعية معينة، فآثر التشريع عدم وضع دستور نهائي جديد بعد الحرب العالمية الثانية بل قانوناً أساسياً، جعلت السيادة فيه للشعب. الأمر الذي سهل في بداية هذا القرن ومع انهيار الجدار العودة إلى هذه المقدمة الدستورية، فدخل الشعب من القسم الشرقي إلى هذا القانون الأساسي الأمر الذي لم يستوجب تعديلاً دستورياً بل إضافة إقليم أو أكثر على الأقاليم، أو الولايات القائمة، فتوسعت الفدرالية وسلمت الأمة. وتم تجاوز التوحد بجعل السيادة في الشعب، الذي قرر، وهو مصدر السلطة وحارسها. والألمان أسياد في ذلك. رددت حنه أرندت هذه العبارات سابقاً مراراً وتكراراً. وحتى هيغل رغم مثاليته كانت كلمة روح الشعب (volks geist)، من المأثورات عنده وعندما قرر الحكم النازي أن تكون السيارة بمتناول الكل لم يجد تسمية لها إلا (Volks Wagen ) (سيارة الشعب).
أمة توحدها الروح الثقافية يتحدث أحد فصول الكتاب عن اجتراح فكرة الأمة الثقافية. ففي أعقاب انتصار نابليون وتوسع إمبراطوريته لم يكن أمام الألمان من سبيل للرد إلاَّ باجتراح فكرة الأمة الثقافية. كان ذلك سلاحهم للرد على الغزو. مع ما ظهر من ترحيب أولي به، كعامل من عوامل الوحدة الأوروبية التي تأخرت لأجيال. فالدولة الألمانية وبتعبير شيللر، تسكن الثقافة. وإن عرفت الدولة السياسية الاهتزاز، فإن ما هو روحي يعتبر أكثر ثباتاً وأكثر كمالاً. وهو عصي على الاهتزاز ولا يقبل التراجع. هكذا ظلت الأمة الألمانية “داخلياً” وإن دون أرض أو دون سلطة سياسية، أمة توحدها الروح الثقافية. فالأمم بتعبير هومبولت في رسالة منه من باريس إلى غوته، لا تنمو إلا بالفلسفة والفن وبهما يتم التعرف على الفردية وعلى التنوع. ربما قصد القول إن ذلك هو سبيله إلى الرد السياسي حول صعود الإمبراطورية. أو باستعارة من فيخته، “إن تجربة العام 1806، أي بعيد احتلال نابليون لألمانيا قد حولت الأكاديمي سياسياً”.
أما في جمهورية فايمار، وحدود ألمانيا كانت محدودة آنئذٍ، فكان الشعار السائد “حيث يبدأ الثقافي (أو العلمي) يتوقف السياسي. وحين انهزم نابليون أمام القوى المجتمعة، النمسا وروسيا وبروسيا، استمرت الأمة الثقافية بل تنامت حتى إنه تم دفن شيللر إلى جانب غوته مع شيوع خبر إقامة ضريح واحد لهما معاً. هذا لا يعني أن المصير توقف هنا، بل أن ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية كان الأقسى، ولكن الأقوى تعبيراً نبش القبر. واختفى جثمان شيللر، وما وجد في التابوت من عظام لا يتوافق مع جثمان شيللر. ما زال القبر فارغاً من جثمان شيللر. لكن من يعاين المكان اليوم، وقد بات مقاماً، أو مزاراً في مكانه الأصلي، سيتيقن أنه ما زال يعاين الشاعر كما كان لحظة إبداعه. أو لحظة إصراره على القيام بدور الريادة الثقافية بديلاً عن ريادة سياسية اعترتها صعوبات.
هذه الروح الألمانية يستتبع الكتاب ملاحقتها في العديد من الموضوعات . يبدو بعضها شخصياً. كما في الفصل الخاص عن الوطن، حيث يروي المؤلف فاغنر فصلاً قصيراً عن حياته، وهو الألماني الذي عاش في ما كان سابقاً مقاطعة تابعة للنمسا، ثم اتبعت إلى هنغاريا ثم إلى رومانيا بعد الحرب الأولى. المقالة وبحنين ظاهر تستوحي معاني الوطن والبلد الأم، واللغة الأم التي ظل الأهل يصرون عليها. والتي يكتب هو بها الآن مع إتقانه للغات الأخرى. وكيف عاش ذلك قبل أن يرتحل إلى ألمانيا محتفظاً بالحنين الذي شده إلى الوطن. وكيف شرب بتربيته بوجود الأب والأم والجدة وسواهم الروح الألمانية من غنائهم ومن إصرارهم على اللغة الأم ومن طقوسهم التي ظلوا يتابعونها فصولاً رغم الابتعاد عن الموطن الأصلي.
ربطاً بما سبق، وأشير هنا، أن الرابط هذا افتراضي من جانبي لأُقيم نوعاً من الوحدة الموضوعية (تتبع موضوعية الروح الألمانية)، ينقلنا الكتاب إلى موضوعات أخرى مثل قيام الكورس الرجالي، أو الكورس الذي يقيمه الرجال إحياءً للموسيقى، وللفولكلور الألماني. وقد ارتبط، أو ربطته الدراسة هنا مع قصة انطلاقة الغناء زمن وجود نابليون على الأرض الألمانية واستمراريته بعد ذلك. إذ يصر المقال على القول إن النفس الوطنية المستعبدة والمهددة قد هربت إلى الغناء. وهكذا وجدت الفرق الغنائية الجديدة في كل مكان من البلاد. حتى الفرق النسائية الكورالية لعبت دورها أيضاً في جنوب ألمانيا متجاوزة الانقسامات ومعاداة السامية. بل إن بعض اليهود قد تحولوا إلى المسيحية، البروتستانتية، وتناوبوا على قيادة الفرق الموسيقية، مشاركين في خلق الفن الديني الرفيع أواسط القرن التاسع عشر، ومستذكرين لوثر مؤسس اللغة الألمانية من جديد أو الباعث الروح فيها بإصلاحه الديني وبترجمته الكتاب المقدس إلى اللغة التي يفهمها الشعب ويحكيها، وبذلك ارتقت اللغة وصارت متداولة ونافست اللاتينية. كما كانت أفكاره الحافز الأقوى في بث الروح الفردية والسمة الليبرالية القائمة على الحرية في الاختيار وفي العبادة وفي الحياة. فالموسيقى، وكما يرد في فصل آخر من فصول الكتاب نقلاً عن لوثر هي نعمة وهبة من الله. بل إن لوثر لم يتورع عن القول إن لها القدرة على طرد الشيطان.
الموسيقى والروح الألمانية
والكتاب يتابع مسيرة تتبع الروح الألمانية في فصول متلاحقة. وصولاً إلى الموسيقى. وهو هنا يسرد فصلاً مطولاً يستعرض فيه جوانب متعددة. لكن يبدأ بعبارة لافتة: “هل يمكن أن تكون موسيقياً دون أن تكون ألمانياً”. الأمر الذي استوعبه توماس مان في محاضرة له في الولايات المتحدة بعيد الحرب الثانية إذ أضاف “أن علاقة الألمان بالعالم علاقة موسيقية“. وعنه يروي الكتاب قصة سماعه ذات مرة معزوفة لفاغنر (الموسيقى بالطبع) في روما. الأمر الذي جعله يبكي، فيما كان الحضور إلى جانبه يصفرون. تعقيباً على الحادثة يقول: “لقد شعرت أين هو موطن روحي”. ومن هذه الروح بنى فاغنر (الموسيقي) عمارته رافعاً أغاني العاملين في المناجم إلى مصاف الفن الإيقاعي الجميل.
علماً أن هذا قد بدأ منذ اعتماد الموسيقى لاهوتياً، أي القبول بها في المحافل الدينية، لا سيما مع الحركة الإصلاحية، إلى حد القول أو الترويج لفكرة أن من يصلي بالغناء، فكأنه يصلي مرتين. إذ هو يصلي بكامل رغبته، أي محركاً كل عواطفه على ما ينقل ومن الدين إلى الفلسفة انتقلت الموسيقى. فكان تساؤل ليبنتز الأول عن سبب تحريك الموسيقى للمشاعر ثم لم يلبث أن يربط بين النظام الكوني والهارمونيكا الموسيقية. أما باخ الموسيقي فقد ذهب إلى حد القول: إن الموسيقى تؤمن “الذوبان” في الجماعة.
أي على تأسيس الروح الجماعية. الأمر الذي لا يتقبله الجميع بالطبع. واللافت هنا ما ينقله الكتاب عن قائد الأوركسترا الإسرائيلي الأصل دانييل بارنباوم، غير المحبوب في إسرائيل بالطبع، لأنه حاول جمع فرقة موسيقية مكونة من عرب ومن إسرائيليين يهود. وهذا شأن آخر. أما ما يراد إيضاحه هنا فهو نقل نقطة الاختلاف في النظرة إلى الموسيقى؛ إذ يؤكد بارنباوم على قدرة الموسيقى من خلال تعدد ألحانها أو إيقاعاتها على التعبير عن الحرية الشخصية، وعلى إمكانيتها في فرض احترام فردية الآخر والقبول بها.
ما عدا ذلك يظل الجدل قائماً حول قدرة الموسيقى وحول ارتباطها جمالياً بالفنون الأخرى. وهذا ما جعل هيغل يضع مؤلفاته ونظرياته بهذا الشأن لكن عظمة الموسيقى لا تتجلى في عظمة الموسيقيين الألمان الذين أحيوها، بل أحيوا قوة النبض فيها إلى حد دمجها مع الروح الألمانية، أو جعلها المعبر الأوحد عن هذه الروح أمثال فاغنر، موسيقي عظمة الروح الألمانية الذي تبنته الحركة النازية وكان هتلر يداوم على زيارة مسرحه الدائم الذي رفع فن الغناء الشعبي إلى مصاف فن إلهي كما نجد في هذا الكتاب.
بل إن إعجاب فاغنر بشوبنهاور قد انطلق من هذه النقطة بالذات، إذ نظر إلى العالم باعتباره إرادة وتصوراً، خلافاً لما كان يذهب إليه هيغلمن تصور معرفي رتيب.
ودون الدخول في جدل النظريات والانتقادات ينقلنا هذا الفصل إلى ما أتى به أدورنو أخيراً من نظريات حول الموسيقى ومن نقده في بداية مسيرته الفلسفية أول الأمر في ألمانيا ثم في أميركا في فترة انتقاله الجبري إليها حتى أوائل الخمسينيات لما اعتبره “صناعة الثقافة“، الأمر الذي استمر عليه حتى في انتقاداته لفاغنر من حيث ذوبان الفرد في الكل. وفي نقده أيضاً للفن الكلاسيكي على العموم ولبيتهوفن؛ إذ انطلق من مسلماته في علم الاجتماع مطبقاً إياها على الموسيقى رافضاً الفلسفة الكليانية حتى في الموسيقى؛ إذ لا بد لكل مسيرة إنتاج فردية في المجتمع أن تكون مفهومه وتالياً لا يمكن للموسيقى البيتهوفينية أن تكون تعبيراً عن الكل”.
مخاض دائم: صعود وهبوط
يصعب تلخيص هذا الفصل دون العودة لاستعراض نظريات متعددة، ليست نظرية أدورنو إلا واحدة منها. لكن معظم اللف والدوران حول هذه النقطة يستعيد فكرة الروح الألمانية. وكأنها روح تعاني مخاضاً دائماً، أو حركات صعود وهبوط مستمرة. علماً أن الكتاب يضع ذلك كله ومن مبدأ اعتبار الموسيقى فناً لا يمكن أن يكون إلاَّ تعبيراً “عن الألم الإنساني“. ولكن بهدف الانتقال إلى ما هو إنساني صرف. إذ الإنساني وحده هو ما يشير إلى الكمال. حتى الموسيقي لأحدث صرخاتها، وأكثرها جرأة وأعني به الموسيقي شتوكهاوزن لم يتورع رغم كل صخب ما يقوم به من تشبيه موسيقاه بفلك كبلر، القائم على الانسجام. وبتشبيه جو مريح وذكي يقول شتوكهاوزن إنه حيث يعبر موسيقياً عمّا يتراءى له في العالم، أو ما ينسجم مع هذا العالم، فهو كأنما ينظر إلى العالم من خلال تلسكوب هابل. إنها كتاب الكون المفتوح على الإله. والموسيقي لا يقوم بأكثر من الصلاة طالباً لا أكثر من الهداية والسكينة”. أكثر الموسيقيين عنفاً وصخباً هكذا يقول. ولا عجب بعد ذلك أن يمارس الألمان حياتهم بطرق شتى، من متابعة دروس اليوغا وتطبيقها، ومزاولة الذهاب تقليدياً إلى الكنيسة.
لكن اللافت، بل ما يوجب التوقف عنده هو تدفقهم المستمر إلى قاعات الأوبرا وحضور حفلات الموسيقى تعبيراً عن “جوانية” الروح الألمانية في أوج ما يمكن التعبير عنه. فالألمان “أمة ثقافية” تعبير يتكرر مراراً في هذا الفصل كما في سواه، أمة ثقافية تعتقد أنه بإمكانها جعل الإنسان بحالة أفضل عما هو فيه.
وإذ كانت الموسيقى في الغرب تشهد أُفولاً فذلك دليل على انتصار الديموقراطية، ولكنه دليل على معاناة الموسيقى أيضاً. الموسيقى روح الألمان. إنها روحهم الحية الباقية.
المدينة والمواطن القرن السادس عشر ودّع القرون الوسطى مع لوثر، لقد حانت ساعة المدينة والمواطن. ومن يقرأ كتابه لا يحتاج بعد اليوم للكاهن. اخترعت الساعة، ومن صارت ساعته بجيبه لم يعد بحاجة للنظر إلى برج الكنيسة. ظهرت المطبعة، أبحر كولومبوس إلى ما سماه لاحقاً “بلاد التفاح”. لقد تغيرت صورة الإنسان. ولدت شخصية جديدة، شخصية تؤمن بالانفتاح الذاتي. لعبت ترجمة التوراة والنزاع مع البابا دوراً فتح الباب أمام الألمان ليتحولوا إلى أمة لها إدارتها الخاصة. وكانت حرية الأمة من الأمور التي تناقش إلى جانب حرية الدين. هذا إلى جانب انبعاث الحركة الإنسانية وانحياز العديد من الرموز الفكرية، اللاهوتية والأدبية إلى صفه.
بكل الأحوال ثمة أكثر من فصل في الكتاب تناول مآثر لوثر ومنها أنه أعطى الألمان فرصة أكبر للوعي بالذات. هذا إلى جانب تسهيل حركته المتسامحة نسبياً، حركة العلمنة أو تقبل الدولة للعلمانية، إن حمل كل مواطن كتابه بيمينه وعدم العودة في أموره إلى الكاهن وحده العارف باللغة (اللاتينية أول الأمر) والعارف بالأمر الإلهي كونه راعياً ومرشداً، قد دفع بحركة اللبرلة إلى الأمام، وجعل الألماني مسؤولاً وفاعلاً. لقد بثت الحركة الإصلاحية فيه روحاً جديدة وجعلته أمة إصلاحية، أمة تأخذ بالكرامة الإنسانية مبدأ وشعاراً وممارسة على ما نجد في طيات الكتاب.
الانضباط والفوضوية
حاولت تتبّع فكرة الانضباط والفوضوية لدى الألمان. ولكن لم يستوقفني في هذا الكتاب مقال بعينه. وإن يكن الألمان قد عُرفوا على الدوام بالانضباط. لكن الفصل الخاص بالرياضة وتحديداً بلعبة كرة القدم الأثيرة عند الألمان قد استوقفني نوعاً ما.
أولاً: كلمة فريق في الألمانية ( Mannschaft) كلمة مركبة من Mann = رجل ومقطع يشير الى المجموعة. أي إن الفريق انتظام وكأنه رجل واحد. ولكن اللافت غير ذلك أن هذه اللعبة الدخيلة من الإنكليز على الأرجح قد توطنت عندهم. وصارت اللعبة الأكثر شعبية. فالفِرَق الألمانية تضمّ العدد الأكبر من المنتسبين إلى الأندية. أو من المشجعين الدائمين. ولكن ما إن تمّ استيراد اللعبة حتى تمّ توطينها، حتى لغوياً. إذ تمتّ ترجمة كل التعابير اللازمة فيها إلى الألمانية منذ العام 1874. الأمر الذي لم يحصل في بلدان متعددة، حتى في وطننا العربي ما زلنا نكرّر الـ Corner و Goal. ومنذ ذلك التاريخ أيضاً تمّ تأسيس الفِرَق المحلية في المدارس أولاً ثمّ مع الوقت تحولت اللعبة إلى تعبير قوي عن الشعور القومي، حتى إن بعض الجرائد بعيد الحرب الثانية قد عبرت عن مولد جديد لألمانيا الاتحادية من “روح” كرة القدم. كان ذلك في الخمسينيات، بل هي تحدثت عن العار الذي أصاب ألمانيا بخسارتها في إحدى المرات، بل أكثر من ذلك، لقد ذهب الألمان إلى حدّ القول أن الربح في بطولاتهم العالمية ليس معجزة، بل هو واجب.. واجب وطني، قومي إن لم أقُل أكثر. وحتى هذا الربح يرونه خسارة في إحدى المرات إن لم يكن يتوازى مع تطلعاتهم أو مع مستواهم. فالصحف الألمانية اعتبرت في إحدى المرات الربح مع تشيلي بنسبة واحد إلى صفر بمثابة خسارة بل فضيحة. وفي العام 1974 انطلقت حتى الأغنيات لتمجّد اللعبة وكأن كرة القدم هي كل حياتهم وأن قائد الفريق يحكم العالم. (بالكلمة وبالصورة في النص الفريق كله يسجل هذه الأغنية). مع ذلك يسجل الكتّاب مفارقة صعبة، أو لنقُل لا انسجام لها مع كرة القدم بوصفها “مرآة الروح” كما نجد في النص. وهي انصراف اللاعبين للبحث عن الثروة خارج ألمانيا. إنه الانضباط في مواجهة الثروة، والمؤلف يبدي أسفاً بالطبع “وللمقارنة بين الانتظام والانضباط الشديد” ينتهي النص باعتبار الانضباط “فضيلة ألمانية”.
الانضباط بنظر الألمان لا ينفصل عن النظام، أو لنقُل بتعبير أوفى عن الانتظام، حتى لا نخلط بين النظام بهذا المعنى والنظام بالمعنى السياسي. حتى إن بعض لاهوت القرنين السابع عشر والثامن عشر قد ربط بين النظام وبين الإله، إله النظام كما في العهد القديم، أو كما هو الحال حتى في الفلسفة القديمة. العقل الكلي الذي يؤمن نظام العالم. هذا الانتظام التقوي الذي انتقل إلى العادات حتى في البيوت، فلم تتورع العائلات في ذلك العصر من دقّ جرس صغير ليعلن ضرورة الوصول على الوقت (وبدقة) إلى طاولة الطعام.
وكذلك أبدى كانط فيلسوف العقل في ألمانيا ولعه الشديد بالنظام وبقدرة الإنسان على الانتظام. ولا حاجة إلى رواية كيفية عيشه مقسماً مهامه على اختلافها بنزهاته على مدار الساعة. حتى إن بعض المقربين منه قد كتب فيه رسالة بعنوان “الرجل بحسب الساعة، أو الرجل النظامي”. وفيه يقول هينريش هايني، بنوع من السخرية، إن كانط لم يكتب سيرة ذاتية لأنه لم يكن له حياة أو حتى من تاريخ يرويه. لقد أخضع نفسه لنظام قاسٍ. وليس أولى عن الحرص على النظام من الاختراع البسيط في أيامنا (مثل الكومبيوتر بالطبع) من الملف الخاص الذي تُحفظ فيه الوثائق أو الأوراق، والذي ما زال في كل العالم يحتفظ باسم مخترعه ( Louis Leitz) الذي أُنزل إلى السوق عام 1896. ففي كل أسواقنا نجد الوثائق تُحفظ في ملف ماركة (Leitz) بكل الأحوال وخلافاً لكل ما يُظن، فإن الألمان ومن وحي فلسفة فيبر ودعوته بُعيد الحرب الأولى لبناء الدولة مجدداً على أسس دستورية وديموقراطية، كانت البيروقراطية، ومنها تنظيم الإدارة جزءاً من شغلهم الشاغل، وكانت هذه فرصتهم للسيطرة على ما خلفته الحروب التي خاضوها وعلى فوضاها.
بالإمكان الاستفاضة في نقل فصول من الكتاب. أو بنقل فقرات منه. وهذا ما لم نقم به مع الشعور بالضرورة أحياناً لمثل هذا الأمر. لكن وفي ختام هذا التحليل لا بد من بعض الملاحظات.
ملاحظات ختامية
1- حاولت أن أكون انتقائياً حيث يجب. فالكتاب كبير، وفصوله كما أشرت أول التقديم ليست متراتبة يستدعي تاليها سابقها، بل هي نوع من الكتابة الموسوعية بشكل (Essai). أبحاث أو دراسات ولكن من منظور شخصي. الانتقائية أوصلتني إلى التركيز على المتشابهات لذلك نجد بعض التكرار أحياناً. أبعدتني عن موضوعات بسيطة لم أر أنها ذات كبير فائدة.
2- أشرت إلى الموضوعات أحياناً وكأنها ذات مؤلف واحد. ولذلك أحياناً كنت أورد “هكذا يقول الكتاب”. في بعض الفقرات أشرت إلى المؤلف الذي يرد اسمه بحرفين عادة في نهاية كل مقالة أو بحث. لكن الإشارات إلى ذلك تجعل الكتاب مقسماً ولم أرد ذلك. بل نظرت إليه كوحدة تأليفية، أشرت حين كان ذلك ضرورة لا بد منها.
3– أعود للروح الألمانية، عنوان الكتاب ( Die deutsche Seele)، وهنا الروح بمعنى النفس. ولكنها ليست النفس بالمعنى البيولوجي للكلمة. ولا بالمعنى الديني أيضاً ولا بالمعنى الفلسفي الأفلاطوني أو الأفلوطيني. الروح هي نبض الشعب الباقي. هو ما تستشعره الأمة، وهي هنا الأمة الألمانية. وكلمة الأمة تتردد مراراً في الكتاب. بل تأتي مراراً بالتزاوج مع الروح. واللغة الألمانية تجيد التركيب، بل تعتمد عليه. لكن اللافت في العنوان أن كلمة روح المستعملة هنا (Seele) ليست هي بالكلمة الألمانية الوحيدة التي تشير إلى هذا المعنى. فهنالك كلمة أخرى (Geist). وهذه الكلمة هي التي استخدمها هيغلفي الفينومنولوجيا. ولكن الكتاب (والمؤلفين الاثنين له) لا يستسيغان دائماً هذا التعبير. الذي قد يعني العقل أحياناً. وبعض الترجمات إلى العربية ترجمت أفكار هيغل في هذا الاتجاه بالذات. مع التمييز بين المعنيين تظل عبارة الروح (مذكرة أو مؤنثة) في ترجمتها لعنوان الكتاب سليمة جداً. مع عدم التغاضي كلياً عن الترجمة بتعبير “نفس”. أما لماذا استخدم الكتاب تعبير (Seele) بدل (Geist) فذلك قد يفتح صفحة يصعب الخروج منها. لكن التعقيب الأشد اختصاراً عن ذلك هو أن الكتاب اعتمد صفة قريبة إلى معنى الحياة. إذ عبارة (Geist). قد تكون معرفية أحياناً، وعقلانية بكل الأحوال، أما الروح (Seele) فهي هذه الذات الحية التي يشعر بها الألماني في ذاته ويحياها ويمارس حياته من خلالها. لذلك أيضاً نجد الكتاب، وفي أكثر من فقرة (أشرت إلى بعضها)، يربط بين الروح (Seele) وبين الذات (Selbst)، وهذا سهل في الألمانية؛ إذ يمكن ربط كلمة الذات (Selbst) بمرادفات متعددة. مثل الوعي الذاتي والاستقلال الذاتي..إلخ، ما يجعل الروح هنا مرادفة جيدة لمعنى الذات في تحولاتها وتجلياتها.
4- عود إلى العبارة الأخيرة في الفقرة السابقة، التجلي: تجليات الروح. الكتاب الجميل، بلغته الحديثة وعباراته المنتقاة، حتى لو غاب المرجع أحياناً، فإن الصوت، صوت صاحب العبارات لم يكن غائباً. رجع الصوت بالتعابير المنتقاة هو رجع لهذه الروح، الروح التي يعبر عنها هنا باللغة، اللغة المسكن بتعبير هيدغر. اللغة المعبرة عن الذات في كل عصر وفي كل مكان، هي التي تسترجع الروح وتجعلها صحبة الإنسان. الروح هذه عند الألمان تتكشف في الأزمات، والكتاب يعيدنا باستمرار إلى المراحل المتلاحقة من الأزمات التي عاشها الشعب الألماني، عاشها دون أن “يفقد روحه“، الروح الحية تستمر والأزمات تعبر. ولذلك جاء الكتاب بتعدد مقالاته، وبلسان المؤلفين مجتمعين أو متفرقين استعادة لهذه الروح التي لم تمت ولا مرة واحدة، ولا حتى على صعيد شخصي (المقالة الخاصة التي أشار فيها فاغنر المؤلف هنا إلى فصل من حياته). والروح التي اجتازت كل الأزمات وحاولت التنقل من فلسفة إلى أخرى، من مثالية إلى واقعية، إلى اشتراكية، ولكنها ظلت دائماً الروح الباحثة عن حل تتجاوز فيه أزمتها لتحيا ولتستمر ولتنتج. الإنتاج الذي يتجلى كما يورد الكتاب في الفكر، وفي الصناعة، وفي القانون وفي الموسيقى وفي الفنون، وحتى في أمور تبدو بسيطة أحياناً: كالسبق في اختبار رياض الأطفال، (فصل شيق وجميل وتعليمي جداً)، أو في اختبار انتشار بيوت الشبيبة. وكأن هذه بدورها برهان على مآثر الروح. أو على تجلياتها.
من هذه الزوايا المتعددة، والاستفاضة تظل ممكنة إلى حدود أبعد، يعتبر الكتاب مسحاً لتجليات “الروح الألمانية” في تمظهراتها المتعددة بما في ذلك التمظهرات الدينية، أو الفلسفية. دون أن يكون هذا كتاباً في الدين أو اللاهوت، أو الفلسفة أو الصناعة أو الفن أو، أو… وما يرافق النصوص من رسوم أو صور أو لوحات مأخوذة على مر العصور ليست إلا البرهان البصري الآخر على استمرارية الروح الألمانية.
كتاب جدير بالقراءة. والترجمة أيضاً. يحتاجه العالم العربي، ليتعرف ربما على روحه التي تعاني في هذه الأيام. من المعاناة تخرج روح العصر. هيغل من شدة إعجابه بنابليون هتف “رأيت روح العالم” ولكنه كان فيما بعد فيلسوف دولة بروسيا التي أسهمت بإخراج نابليون وبناء روحها الخاص. علنا نفيد من التجارب الروحية. ونبني روحنا أو نستعيدها.
5– ملاحظة أخيرة: العناوين لا تسترجع فصول الكتاب؛ إذ لا تسلسل في الكتاب لمفاهيم محددة. بل إن المفاهيم قد تتداخل مع تعدد الفقرات، وهي كثيرة، ووقوع الاختيار على أهمها ضرورة يقتضيها تقديم المضمون دون تلخيص أو تكرار.
* أكاديمي وباحث لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركية (بيروت).