يأنف الإنسان الوصاية قبيل بلوغه مبلغ الكبار، استعدادا لرفضها إذ يبلغه. يأنفها من أقرب الناس إليه. هذا بالنسبة للإنسان العادي، فما بالك بمن يدخلون العمل السياسي ويطرحون أنفسهم لقيادة الناس!
الإسلام السياسي يطرح نفسه وصيا على المجتمع، هذه معروفة. لكنه يطرح نفسه وصيا أيضا على هؤلاء. ذلك أن العمل السياسي، كأي منافسة أخرى في الحياة، يجب أن تكون محكومة بقواعد لا يملكها أي طرف فيها. وهذه بديهية أخرى تحطمها تيارات الإسلام السياسي التي تقدم نفسها خصما، ومنافسا، وحكما أيضا.
الإخوان العثمانيون كان لديهم تحد أكبر. نشؤوا وقد تحررت الأمة المصرية أخيرا من الاحتلال العثماني، وظنت أنه ذاهب إلى غير رجعة. فإذ بجماعة هدفها الأساسي إعادة هذا الاحتلال، تحت اسم الإمبراطورية الإسلامية.
من كل ما سبق نشأت ثنائية حتمية لدى هذه الجماعة. ثنائية السياسة والعنف. ساستها يدعون. ومسلحوها يعاقبون من يرفض الدعوة. مرات باسم تكفيره أن خرج على الهدي الرباني، ومرات بالاسم الحقيقي: إزاحته من طريق الجماعة وهدفها “الرباني” اللازم.
لم يتخل الإخوان المسلمون أبدا عن الثنائية الحتمية. لكنهم تعلموا درسا قاسيا ناجعا من الأربعينيات. حين حملت السلطات حسن البنا مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء فهمي النقراشي. فلم تفرق بين سياسي وميليشياه.
عقود مضت. التف فيها الإخوان على هذا الدرس بأن صار الجهاديون التابعون لها يعملون تحت أسماء جماعات منفصلة. الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد أو حسم أو كتائب القدس. تبرؤوا علنا من سيد قطب وهم يدرسون كتبه ويروجون أخباره.
صار هذا معروفا على المستوى المحلي، وعلى الرغم من ذلك يتكرر الخطأ في مواجهة الخدعة نفسها، في أكثر من دولة.
لكن الكارثة هي تكرار الخطأ على المستويين الإقليمي والدولي. كيف؟
منذ النصف الثاني من عقد التسعينيات تحولت الجماعة من الإخوان العثمانيين، المحلية، إلى حلف العثمانيين الإقليمي. الانقلاب في قطر، وصعود نجم رجب طيب أردوغان في تركيا، وفر لهذا الحلف ثقلا ماديا وسياسيا كبيرا، سرعان ما عبر عن نفسه في العقد الأول من هذه الألفية عبر شخصيات وتيارات متعددة، ومتنوعة، لكنها جميعا تعمل تحت مظلة هذا التحالف، يجمع بينها الفكرة الإمبراطورية، الفكرة التي جمعت النازيين والفاشيين من قبل، والتي لا تزال تعيش بقوة في العالم العربي نتيجة ركود التفكير السياسي وانحساره في قرون ما قبل الدولة الوطنية.
بالنسبة لدولة ضعيفة، محدودة المساحة، كقطر، يمثل لها هذا التحالف امتدادا استراتيجيا وجماهيريا. وبالنسبة لدولة كبيرة كتركيا، يمثل لها هذا التحالف مدخلا إلى مد نفوذها الإقليمي، في طموح لا يكتمه أردوغان في تصريحاته، فضلا عن أيديولوجيته.
شيء واحد ينقص هذا الحلف الإمبراطوري العثماني. كيف يجعل الأقران الإقليميين يذعنون لفكرة كتلك؟ كيف تقبل أوروبا أن تمد دولة على حدودها الشرقية، وذات تاريخ مقلق، نفوذها؟. لو لجأت إلى السلاح الرسمي لفقدت كل شيء. ولكان مصيرها كمصير ألمانيا النازية. بل إن أردوغان –غالبا– سيفقد السلطة في تركيا نفسها لو حاول جر مؤسستها العسكرية إلى مغامرات من هذا النوع.
من أين لمظلة التحالف العثماني بظل الرمح إذن؟
هنا نقل الإخوان العثمانيون خبرتهم إقليميا وعالميا، انتهاء بنفس الحكمة التي وصلوا إليها محليا. الثنائية الحتمية، لكن عبر ازدواجية السياسة والسلاح.
ليس صدفة أن يعلن عن تنظيم “قاعدة الجهاد” في نفس فترة التحولات تلك. ليس صدفة أن توجه اتهامات إلى أكثر من مراسل للجزيرة بالتعاون مع التنظيم، وأن يدان أحدهم. وليس صدفة أن تكون الجزيرة القطرية هي نافذة دعاية التنظيم إلى الجمهور، ثم نقطة تمويه إجرامه. سيتعاظم الدور لاحقا ليصل إلى تبن لرموز إرهابية في ليبيا وسوريا.
وليس صدفة أن تتبنى الجزيرة ترويج دعاية تنظيم القاعدة ضد التعاون العسكري السعودي- الأمريكي. وليس صدفة أن تتوقف هذه الدعاية تماما حين تحقق غرضها، بانتقال القاعدة العسكرية من السعودية إلى قطر.
ليس صدفة أن إرهابيين على اختلاف مسمياتهم عملوا في مصر، وليبيا، وسوريا، وغزة، بتوافق تام مع مصلحة الحلف العثماني.
وليس صدفة أن كل هؤلاء التأموا تحت راية واحدة حين نجح الجناح السياسي للحلف العثماني في ترويج فكرة أن حل مشكلة الشرق الأوسط هي وصول الإسلاميين إلى الحكم.
الأمثلة صارت الآن أوضح. لقد وفر الإخوان العثمانيون للحلف العثماني نفس الثنائية التي حكموا بها المجال السياسي في مصر. إن أغضبهم فرج فودة فهناك من يتخلص لهم منه. وما عليهم إلا أن يقوموا هم بحملة التشويه والتحريض، كلمة السر، ثم يدافعون عن القاتل في المحكمة. نسخة طبق الأصل تتكرر في كل قضية، صغيرة أم كبيرة، محلية أو إقليمية أو دولية.
طالما الإخوان قادرون على تحقيق الثنائية الحتمية، وفي نفس الوقت النجاة من عواقب المسؤولية عليها، فتخريبهم مستمر.
طالما الإخوان يفعلون هذا، ويجدون من القوى السياسية الأخرى من يصفهم بأنهم منافس سياسي، فتخريبهم ممتد.
طالما الإخوان قادرون على التحريض ضد مواطنين مصريين على خلفية دينية عقائدية، وفي نفس الوقت يستقبلهم أعضاء في الكونجرس والعموم ليستمعوا إلى تقاريرهم حول الحريات السياسية وحقوق الإنسان، فتخريبهم سيتعاظم.
لقد انتقل قسم من أعداء الدولة الوطنية المحليين إلى خارجها، حيث التحقوا بحلفهم، وهم الآن يستعدون للزحف عليها، باستخدام نفس الأسلوب الذي حاولوا به، ولا يزالون، تخريبها من الداخل.