عماد توماس[1]*
تقدم هذه الدراسة لمحة تاريخية عن الرهبنة السريانية باعتبارها فصلاً مهما ورئيسًا في تاريخ المسيحية السريانية وتطوراتها. فقد نالت الكنيسة السريانية الأنطاكية حظًا وافرًا من الرهبانية، فانتشرت منذ القرن الرابع في نواحٍ كثيرة من ولاية الكرسي الأنطاكي، أي في سوريا وفلسطين وما بين النهرين ولبنان وتركيا وفارس، ووجد في القرن الخامس في الرها وحدها ثلاثمئة دير يقيم فيها تسعون ألف راهب، وفي دير مار متى شرقي الموصل اثنا عشر ألف راهب، وفي القرن السادس بلغ عدد رهبان دير مار باسوس -حمص- بسوريا ستة آلاف وثلاثمئة. ومن الثابت أن عدد الرهبان والراهبات السريان بلغ ستمئة ألف في ذلك العصر الذهبي، وبرز في الكنيسة السريانية نساك يعتبرون من أقطاب الزهد والنسك، لا في الكنيسة السريانية فحسب بل في المسيحية جمعاء[2].
وتوضح الدراسة دور الرهبنة السريانية في خدمة الكنيسة من خلال مغادرة النسّاك والمتوحّدين صوامعهم وأديرتهم، ونزولهم إلى المدن إبّان الشدة، لتثبيت المؤمنين على التمسك بالإيمان وتحمل الاضطهاد بصبر وإيمان. وتستعرض عرضًا موجزًا لثلاث مدارس في الرهبنة السريانية، الأولى: مدرسة النُسك في العراء، والثانية: المدرسة العمودية، والثالثة: مدرسة الرهبان الرعاة. ونختتم الدراسة بعرض لأشهر الأديرة السريانية الباقية حتى الآن.
للسريان مكانة علمية متميزة في الحضارة العربية، فمن منا لا يتذكر عائلة الأطباء المسيحيين بني بختيشوع الذين توارثوا مهنة الطب وبرعوا فيها، فكانوا أطباء للخلفاء المنصور والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق؟. ولم يفت السريان دراستهم للرياضيات والهندسة والفلسفة. فهل يمكن أن ننسى شيخ المترجمين العرب السرياني حنين بن إسحق، وعالم المنطق أبا زكريا يحيى بن عدي، والفيلسوف واللاهوتي النسطوري أبا الفرج عبدالله بن الطيب وغيرهم؟.
شكل السريان شعبًا واحدًا، بتاريخه وثقافته ولغته، لكنهم انقسموا في القرن الخامس الميلادي ليشكلوا طائفتين: السريان الشرقيين الذين أطلق عليهم تسمية “النساطرة”، والذين استقروا بشكل خاص في بلاد ما بين النهرين وفي إيران. والسريان الغربيين أي “اليعاقبة” الذين سكنوا في سوريا وفي أعالي بلاد ما بين النهرين، إضافة إلى الموارنة في لبنان[3].
واشتهر السريان بنقلهم أمهات المصنفات الفلسفية اليونانية وتدريسها لأبنائهم[4]. فانتقلت العلوم اليونانية التي كان مركزها الأساسي في الإسكندرية وفي أثينا إلى الشرق. فكانت الأماكن التيالتي ازدهرت فيها هذه العلوم في المنطقة التي تتكلم اللغة السريانية والفارسية الوسطى هي الرها ونصيبين والمدائن وجنديسابور في خورستان (عربستان) بالنسبة للنساطرة. ثم أنطاكية وآمد بالنسبة إلى اليعاقبة.
وإلى جانب هذا كانت هناك مدارس في الأديرة اسمها بالسريانية (اسكول)… وقد صنع العرب من هذا اللفظ كلمة (اسكول) وهي تدل على مدرسة مسيحية أو مدرسة ملحقة بدير، وبطبيعة الحال كان يدرس فيها اللاهوت والعلوم الدينية بجانب بعض العلوم الدنيوية، مثل النحو والبيان والطب والفلسفة والموسيقى والرياضيات والفلك[5].
تميزت الحياة النسكية في سوريا والعراق بالفردية وانعدام وجود التنظيم الرهباني لها، خصوصاً في مراحلها الأولى. ولم ينقل المؤرخون لنا، وخصوصاً ثيودوريتُس، أية فكرة واضحة عن الجماعات الرهبانية الأولى في سوريا والعراق، بل نقلوا سير النساك الكبار وحدهم، الذين لم يهتموا كثيرًا بتنظيم حياة رهبانية جماعية، كما حدث في مصر مع القديس باخميوس وفي فلسطين في ما بعد[6].
كما تميز النسك السوري عن غيره بممارسة حالات التقشف والزهد، ونذكر -على سبيل المثال- سلامانس الذي يقول عنه ثيودوريتُس: إنه وجد في قريته كوخًا صغيرًا حبس ذاته فيه بعد أن أحكم إغلاقة من كل النواحي ولم يترك فيه بابًا ولا نافذة، إنما يفتح مرة في السنة كوة صغيرة في أسفل الحائط ليأخذ منها مؤونته للسنة كلها. قضى حياته النسكيه كلها حتى الممات في الصمت الكلي، فلم يتكلم مع أحد بل صرف وقته في التوبة والصلاة والتأمل الدائم بالعالم السماوي، عاش سلامانس حياته -على ما يبدو- ما بين نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس[7].
الرهبان الأوائل
منذ منتصف القرن الثالث والناسكون المسيحيون يعيشون حياة تقشف وزهد في الصحراء المصرية والسورية. قام القديس أنطونيوس (251-356م) بجذب وحشد كثير من الناسكين سنة 305م، أما القديس باخميوس (390-346م) فقد ابتدأ أسلوب الحياة الاشتراكي كما عاشه في ديره الأول في نابينيسي.
انطلقت الرهبنة من مصر وسوريا في القرن الرابع. فكتب باسيلوس القيصري الكبير قانونًا للكنيسة الشرقية أقل تشددًا. وصاغ بينيديكت من نورسيا قانونًا تم قبوله في الغرب. كانت الرهبنة البينيديكتية بطيئة الانتشار، ولكن ابتداءً من القرن الثامن حتى الثاني عشر أصبحت فعليًا النمط الوحيد للحياة الدينية[8].
ومن الأديرة التي عُرفت بكثرة قلاليها دير الزعفران بنصيبين. ودير سعيد بجانب الموصل… وكان بعض هذه القلالي لا يخلو من النفاسة والتألق والزخرفة[9].
الحياة النسكية- الرهبانية ومدارسها المختلفة في سوريا والعراق
الرهبنة في خدمة الكنيسة
كان النسّاك والمتوحّدون يغادرون صوامعهم وأديرتهم وينزلون إلى المدن إبّان الشدة، لتثبيت المؤمنين على التمسك بالإيمان وتحمل الاضطهاد بصبر وإيمان في سبيل ذلك، وعندما كانت البدع تتفشّى كان النسّاك والزهاد يعظون المؤمنين ليتجنّبوا الهرطقة؛ وليثبتوا في العقيدة التي تسلّمتها الكنيسة من الرسل الأطهار. اهتم مار أفرام السرياني (373م) بتأليف جوقة مختارة من فتيات الرها السريانيات اللواتي علّمهن ما ابتكره من أنغام، وما نظمه من قصائد لتثبيت العقائد المسيحية ودحض الهرطقات، وإليه يعود الفضل في بدء تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية[10].
وعندما حدثت مجاعة في الرها في شتاء سنة 372/373م، ومات عدد غير يسير من أهلها جوعًا، كان مار أفرام يطوف دور الأغنياء في الرها ويجمع منهم الصدقات ويوزّعها على الفقراء. وأسّس دورًا جمع فيها ألفًا وثلاثمئة سرير صارت ملجأ للعجزة، وكان يشرف بنفسه على الاعتناء بهم. وعلى إثر الجوع انتشر وباء الطاعون فانبرى مار أفرام في تطبيب المرضى ومواساتهم حتى أصيب بدوره بداء الطاعون، واحتمل صابرًا آلامه المبرحة، وفاضت روحه الطاهرة نتيجة لذلك في 373م[11].
النساك الأولون
أول ناسك وصلت إلينا أخباره من سوريا والعراق هو يعقوب النصيبيني الذي يذكره ثيودوريتس القورشي في كتابه عن رهبان سوريا، وقد عاش قرب مدينته نصيبين التي كانت –آنذاك- على الحدود ما بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية. بدأ يعقوب النصيبيني حياته النسكية في بداية النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي وهو فتى يافع، وسيم أسقفًا على نصيبين وهو في شبابه، وكان ذلك حوالي سنة 300 ميلادية. وعاش حياة نسكية مستقلة في أعلى الجبل الذي يقع في البادية المجاورة لنصيبين، وكان يقضي الشتاء في مغارة والربيع والصيف والخريف في العراء، حيث لا سقف يعلو رأسه سوى السماء. كان يرفض تناول أي طعام مطهو على النار، ولذلك كان يقتات بالأعشاب البرية وبعض الفاكهة التي تجود بها الأرض، ولمرة واحدة في النهار فقط، وأحيانا لمرة واحدة في الأسبوع عندما كان يصوم. أما لباسه فكان ثوبًا واحدًا لا غير، مصنوعًا من شعر الماعز الخشن. كان ينام قليلا ويقضي معظم الوقت في التأمل والصلاة ومناجاة الخالق الذي صنع العجائب الكثيرة على يده. وتوفي سنة 337/338م. ودفن في مدينته نصيبين[12].
ونستعرض هنا عرضًا موجزًا لثلاث مدارس في الرهبنة السريانية، الأولى: مدرسة النُسك في العراء، والثانية: المدرسة العمودية، والثالثة: مدرسة الرهبان الرعاة[13].
- مدرسة النسك في العراء
مدرسة النسك في العراء بدأت جزئيًا مع الناسك يعقوب النصيبيني الذي جاء ذكره أعلاه، ويقول بلاديوس[14]: إن متزهدًا اسمه أدوليوس من طرسوس قد جاء إلى أورشليم واتبع طريقة غريبة في الزهد. كان أدوليوس يقضي الوقت واقفًا في العراء على جبل الزيتون، في المكان المدعو جبل الصعود، وهو يرتل ويصلي مبتدئًا من صلاة المساء حتى صلاة الفجر. وكان لا يأبه البتة للصقيع أو الثلج، بل يواظب على هذا الحال صيفًا وشتاءً، مدى أيام حياته. يقول بلاديوس: إنه التقاه وشاهده بأم عينيه حوالي سنة 388 ميلادية.
لكن أشهر من اتبع هذه المدرسة في العراء هو مارون الناسك الذي يذكره ثيودوريتُس في الفصل السادس من كتابه عن رهبان سوريا. وله يعود الفضل بتأسيس الحياة النسكية في العراء في منطقة قورش. لقد عاش مارون على قمة من قمم جبال قورش في شمال سوريا في معبد وثني قديم لا سقف له، وكان يفترش أديم الأرض. يضيف ثيودوريتُس أن مارون كان يأوي إلى خيمة من الشعر كان يستعملها نادرًا ليتقي برد الشتاء القارس وحر الصيف اللاذع. توفي مارون خلال العقد الثاني من القرن الخامس. وقد جمع حوله بعض محبي الحياة النسكية في العراء. وفي سنة 452م، أسس البعض من تلاميذه دير مار مارون (بيت مارون) في سوريا الذي أصبح في ما بعد النواة الأولى للكنيسة المارونية.
أشهر تلاميذ مارون هو يعقوب القورشي الذي عاش في العراء بدون أن يستعمل أي سور لحمايته أو أية خيمة لوقايته من تقلبات الطقس القاسية؛ معرضًا ذاته لكل سلبيات الطبيعة بشتى فصولها. عاش ناسكا خلال القرن الخامس، وذاع صيته في شمال سوريا حتى إن الإمبراطور الروماني استشاره بشأن مجمع خلقيدونية الأول.
رهبنة نسائية[15]
ومن النساء اللواتي ترهبن وورد ذكرهن في كتاب ثيودوريتُس، مارانا وكيرا اللتان اتبعتا حياة مارون في العراء، كتب سيرتهما ثيودوريتوس القورشي، وعلّق في مطلع الكلام عليهما بالقول: إنّهما بين النساء اللواتي: “جاهدن بعزيمةٍ ليست في شيء أقل من عزائم الرجال؛ لأنّهن على الرغم من طبيعتهن الضعيفة أظهرن من البسالة ما يضاهي شجاعة الرجال”. وأضاف أن مارانا وكيرا تفوّقتا على جميع النساء في بطولتهما في الجهاد.
مدينتهما كانت حلب، ويقع ديرهما في باب الجنائن قرب باب أنطاكية في حلب. وانتماؤهما كان إلى طبقة الأشراف. تربّتا تربيةً راقية. لكنّهما تخلّتا عن كلّ شيء وجعلتا لهما حصناً صغيراً عند مدخل المدينة، وأوصدتا الباب بالطين والحجارة. عاشتا في الهواء الطلق دون غرفة ولا كوخ. طعامهما كان يصل إليهما عبر نافذة، ومنها أيضاً كانتا تخاطبان النساء الآتيات لزيارتهما.
صامتا، على غرار النبي موسى، أربعين يوماً لم تتناولا شيئاً من الطعام. فعلتا ذلك ثلاث مرّات. كما صامتا صوم دانيال ثلاثة أسابيع. خرجتا لزيارة الأماكن المقدّسة فلم تتناولا الطعام ذهابًا وإيابًا إلا مرّةً واحدة، مع أن الرحلة استغرقت قرابة العشرين يوماً. استمرتا في الجهاد وأضحتا زينة لجنس النساء ومثالاً لهن، إلى أن أخذهما الرّب الإله مكمَّلتين بالفضيلة.
أما دومنينا (إحدى المعجبات بحياة مارون) فقد بنت لها كوخًا بدون سقف في حديقة منزل والدتها لتمارس حياة العراء ساكبة دموع التوبة الغزيرة. لم تعش مدرسة الحياة في العراء طويلا، على الرغم من استمراريتها في المدرسة العمودية.
2- المدرسة العمودية
المدرسة العمودية هي وجه آخر لمدرسة الحياة، وقد أسس هذا النوع من حياة الزهد الناسك سمعان الملقب بالعمودي لأنه عاش حياته التقشفية على عمود حجري.
ولد سمعان العمودي في نهاية القرن الرابع الميلادي في مدينة سيس في شمال سوريا. وقد مال منذ حداثته إلى الحياة الرهبانية، فعاشر الكثير من النساك في منطقته حتى انتهى في دير تلعدا. ونظرًا إلى رغبته الشديدة بممارسة أقسى أنواع التقشف، قرر سمعان اعتناق الحياة في العراء فاعتلى عمودا بناه لذاته، وظل يرتفع به حتى بلغ ارتفاعه ستًا وثلاثين ذراعًا.
ذاع صيت سمعان العمودي، ليس في سوريا وحدها، بل أيضا في آسيا الصغرى وبلاد فارس، وبين القبائل العربية التي كانت تأتي إليه بالمئات لتسمع كلمة الله من فمه وتشفى من أمراضها. فكانت حياته منارة إنجيلية جذبت الألوف من الناس التي كان يعظها، وردت الكثير من الوثنيين إلى ملكوت الله.
مات سمعان العمودي خلال سنة 459م ودفن حيث عاش في المكان المعروف اليوم بقلعة سمعان قرب حلب.
استمرت الحياة النسكية العمودية خلال التاريخ لفترة قصيرة من الزمن، ولكنها لم تجذب إليها إلا القلة القليلة من عشاق حياة الزهد، لقساوتها وصعوبة الاستمرار فيها، نذكر منهم دانيال العمودي الذي عاش في النصف الثاني من القرن الخامس قرب القسطنطينية.
3- مدرسة الرهبان الرعاة
من الجماعات النسكية التي ظهرت في سوريا والعراق خلال القرنين الرابع والخامس، جماعة الرعاة التي يذكرها سوزومين في تاريخه الكنسي. كانوا يمارسون حياة تقشفية صعبة كمعظم النساك في ذلك الوقت، فلا يأكلون الخبز ولا اللحم ولا يشربون الخمر، يسكنون في المغاور والكهوف في الجبال النائية، عملهم الدائم هو تمجيد الله بالتراتيل والصلوات حسب الأوقات الليتورجية التي تأمر بها الكنيسة، وعندما يحين وقت الطعام، يأخذ كل واحد منهم منجله ليقطع به العشب ويأكله، وكأنهم جميعًا -كما يقول سوزومين- قطيع ماشية يرعى في الحقول، ولهذا سُموا بالرعاة.
هذا النوع من الحياة مذكور أيضًا في أحد الميامر (العظات) المنسوبة إلى مار إفرام. وهناك ناسك اسمه هيليودورُس عاش حياة مشابهة لحياة الرعاة في أحد جبال طوروس في كيليكيا. وكان شعره الطويل يغطي جسده حتى أضحى منظره شبيهًا بالحيوانات البرية.
الرهبنة السريانية[16]
عززت الكنيسة السريانية شأن الرهبنة، فأسست منذ القرن الرابع مئات الأديرة التي انضم إليها ألوف من الرجال والنساء، ففي القرن الخامس وجد في جبل الرها وحده ثلاثمئة دير، يقيم فيها تسعون ألف راهب، وفي دير مار متى شرقي الموصل اثنا عشر ألف راهب.
وفي القرن السادس بلغ عدد الرهبان والراهبات السريان ستمئة ألف راهب في هذه الحقبة التي تعتبر العصر الذهبي للكنيسة السريانية، وبرز فيها نساك يعتبرون من أقطاب الزهد والنسك، لا في الكنيسة السريانية حصرًا، بل في المسيحية جمعاء، أشهرهم:
القديس مار برصوم: ولد عام 409م في قرية بكورة في سميساط. حضر مجمع أفسس الثاني ممثلا الأديار في الشرق، وسمي برصوم بالسريانية، أي ابن الصوم، لصومه العجيب المتواصل، وكان يقف في الصلاة ليل نهار. أما لباسه فكان من الحديد يعلوه قميص من الشعر، سماه مار يعقوب الروجي “رئيس الأبيليين”.
القديس مار سمعان العمودي: كان يعيش في القرن الخامس، وهو من ولاية أنطاكية، أفرط في التعبد والنسك، وابتنى لنفسه عمودًا ضخمًا بين حلب وأنطاكية أقام عليه أربعين سنة. بدأه بثلاثة أمتار حتى بلغ به عشرين مترًا على الأقل، وكان منه يرشد تلاميذه والجماهير. هدى كثيرين من العرب والأرمن والبرابرة إلى المسيح، وتوفي عام 459م. أحيط عموده بقلعة كبرى تُعرف اليوم بقلعة سمعان التاريخية وهي قريبة من حلب.
الأديرة السريانية[17]
كانت ولاية الكرسي الأنطاكي تزخر بمئات الأديرة السريانية التي ضمت في رحابها مئات الألوف من الرهبان والنساك. ومن الأديرة الباقية حتى يومنا هذا:
دير مار مرقس بالقدس: وهو بحسب التقليد بيت مريم أم يوحنا الذي دعي مرقس، وقد ورد ذكره في سفر أعمال الرسل، ففيه أكل السيد المسيح الفصح مع رسله. وانتخبوا ماتياس، وحلّ الروح القدس عليهم، وفيه عقد أول مجمع في المسيحية عام 51م.
وفي 1940م وعند إجراء ترميمات، وصيانة كنيسة مار مرقس اكتشفت كتابة سريانية بالقلم الأسطرنجيلي، على القائمة اليمنى في مدخل باب الكنيسة، يرتقي تاريخها إلى القرنين الخامس والسادس، تنطق بهذه الحقيقة إذ جاء فيها: (هذا بيت مريم أم يوحنا الذي دعي مرقس، وكرَّسه الرسل القديسون كنيسة باسم والدة الإله مريم بعد صعود سيدنا يسوع المسيح إلى السماء، وبني ثانية سنة 73م بعدما خرب الملك تيطس القدس).
إذاً دير مار مرقس للسريان هو أول كنيسة في المسيحية كرَّسها الرسل باسم العذراء والدة الإله، الأمر الذي تفتخر به الكنيسة السريانية الأنطاكية الأرثوذكسية لحيازتها هذا الأثر التاريخي المسيحي المنقطع النظير، وهو بكل حق لا يقل أهمية عن كنيستي القيامة والمهد.
وحيث إن دير مار مرقس يحوز هذه القيمة التاريخية الروحية اتخذ مقراً لأساقفة القدس بدءاً من مار يعقوب الذي يعتبر أول أساقفته، وحتى القرن الرابع حيث أخذ الأساقفة يتنقلون إلى أديار أخرى، كدير مار سمعان الفريسي ومريم المجدلية، ودير مار توما وغيرهم، ثم أضحى بعد هذا مجرد دير فقط انقطع فيه الرهبان للعبادة، ومزارًا دينيًا مقدسًا يحجّ إليه المؤمنون للتبرك، ثم اتّخذ هذا الدير مرة أخرى كرسيًا أسقفيًا منذ أواخر القرن الخامس عشر ولا يزال حتى هذا اليوم.
دير قرتمين في تركيا: هو دير مار جبرائيل. يقع على مسافة (24) كلم شرق مذيات- تركيا. دعي باسم مار جبرائيل القسياني الذي كان رئيسه ومطرانه عام 668م. وفي عام 521م أنشا الملك أنسطاس هيكله الكبير حيث أرسل أساتذة مهندسين وبنائين ونجارين ومصورين وعاملي الفسيفساء، وعاملي القرميد ونحاتي المرمر، وصاغة، وذهبًا للنفقات، وبُنِي الهيكل واكتمل بجلال مهيب جدًا، وفي عام 1400م أُتلفت تلك الآثار العجيبة كلها، إلا أن الهيكل لا يزال قائمًا. كان هذا الدير مركز مطرانية طور عبدين من 615-104م. وأشهر قديسي هذا الدير مار شموئيل المشتي وتلميذه مار شمعون القرتميني، ومار كبرئيل القسياني أسقف الدير الذي توفي سنة 667م.
بلغ عدد رهبانه في العهد الذهبي (1800) راهب، وضم مدرسة تخرج فيها معلمون ورعاة من ضمنهم أربعة بطاركة ومفريان واحد و(79) مطرانًا، منهم البطريرك ثيودوسيوس رومنوس 887-896م، الذي عد من مهرة الأطباء والبطريرك بهنام الحدلي البرطلي 1412-1454م العالم الجليل والإداري الحكيم، ومار فيلكسينوس مار أخسنويو أسقف منبج 523م المجاهد العتيد. كان هذا الدير مركز مطرانية طور عبدين من 615- 1049م ثم صار أخيرًا أبرشية خاصة عام 1915م[18].
دير مار متى بالعراق: يقع شمال شرقي الموصل بالعراق على مسافة (35) كلم على قمة جبل مقلوب وعلى ارتفاع (3400) قدم. وهو من المزارات الدينية المقدّسة للسريان الأرثوذكس، ومن أشهر أديرة المسيحية صيتاً ومكانة. اشتهر في القرنين السادس والسابع، إذ أصبح مركزا مهما في كنيسة المشرق، كما اشتهر بمعهده الديني ومكتبته الذائعة الصيت.
أسسه القديس مار متى الناسك السرياني في غضون القرن الرابع الميلادي. وتعين أول رئيس عليه. يعتبر القديس مار متى من أبطال النسك والتقشف في المشرق. جمع إليه عدداً كبيراً من الرهبان ونظم حياتهم. قيل إن عدد الرهبان في عصور الدير الذهبية بلغ سبعة آلاف. وعندما ضعفت أحوال الرهبنة فيه بعد القرن الرابع عشر، أخذ عدد الرهبان بالهبوط. فلم يسكن فيه منذ القرن السابع عشر وإلى هذا اليوم أكثر من ستة أو سبعة منهم، وقد ينقص عددهم إلى اثنين أو ثلاثة[19].
بعد مرور مئة عام –تقريباً- على تأسيس الدير، أصيب بحريق هائل عام 480م. وعلى إثر ذلك قضي عليه، وبادت معالمه. وفي نهاية القرن الخامس عاد إليه بعض الرهبان واستأنفوا الحياة النسكية ورمموا الدير المحترق حتى برز اسمه من جديد عام 544م، فواصل مسيرته التاريخية بصورة منتظمة لا سيما في العهود العربية التي أعقبت العهد الساساني.
دير الزعفران في تركيا: ويسمى دير مار حنانيا. يقع في الجهة الشرقية من ماردين وكان أول عهده حصنًا منيعًا أقامه بعض ملوك الروم، ولما استولوا على قلعة ماردين عام 607م خربوه، فظل مهجورًا حتى ابتاعه مار حنانيا مطران ماردين بعد سنة 793م وجعله ديرًا. وقد حمل أسماء قديسين مختلفين كالقديسَين مار شليمون ومار أوكين. ومنذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر سمي باسم القديس مار حنانيا، وهو راهب من دير مار متى بجبال الموصل جاء إلى هنا وأصبح مطران ماردين وتوابعها. وصار مقرًا للكرسي الأنطاكي منذ القرن الثاني عشر وحتى أوائل القرن العشرين.
دير العذراء – السريان بوادي النطرون[20]
يقع على بعد (14) كيلو –تقريبًا- من الرست هاوس الموجود في منتصف طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي. بوادي النطرون بالصحراء الغربية في برية شيهيت (ميزان القلوب). وهو من القرن الخامس الميلادي تقريبًا.
تبلغ مساحة الدير الأثري حوالي فدان وثلاثة عشر قيراطًا، لذلك يعتبر دير السيدة العذراء السريان من أصغر الأديرة من حيث المساحة، إلا أنه يحتوي بداخله على كنوز قبطية نادرة من حيث الرسوم الجدارية أو النقوش الجصية ذات الأثر العظيم من الناحية الأثرية والفنية، يأخذ سور الدير شكلًا مستطيلًا مثالًا لفلك نوح، ويتراوح ارتفاعه من تسعة أمتار ونصف إلى أحد عشر مترًا ونصف.
كنائس الدير
يحتوي الدير على عدد من الكنائس مثل: كنيسة العذراء السريان – كنيسة الأربعين شهيدًا بسبسطية – كنيسة المغارة – كنيسة الأنبا متاؤس الفاخوري – كنيسة الأنبا يحنس القصير – كنيسة الأنبا يحنس كاما – كاتدرائية السيدة العذراء مريم – كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل – كنيسة الأنبا أنطونيوس – كنيسة البابا كيرلس السادس.
– كنيسة العذراء السريان
تعتبر أقدم وأجمل مكان في الدير. تمتاز بالنقوش الجميلة التي تغطي جدرانها وأبوابها وقبابها، خصوصًا داخل هيكلها المتسع، وهي من الطراز البازيليكي المنتشر في معظم كنائس مصر الأثرية. تعتبر أقدم مكان في الدير بعد مغارة الأنبا بيشوي (غرب الكنيسة) وشجرة مار إفرايم السرياني التي تقع شرق كنيسة المغارة بالدير.
يبلغ طولها حوالي (30) متراً وعرضها (12) متراً، ويغطي الخورس الأول قبة عالية على جانبها من قبلي نصف قبة نقش عليها البشارة والميلاد، وعلى جانبها من بحري نصف قبة نقش عليها نياحة السيدة العذراء، والسيد المسيح يحمل روحها وحولها (12) تلميذاً، مع كتابة باللغة السريانية والقبطية في كليهما. بها مذبح متسع وحوله (4) أعمدة خشبية يعلوها قبة خشبية، والعمودان الشرقيان يحملان أيقونة السيد المسيح في القبر. ويوجد بالكنيسة ثلاثة هياكل، الرئيس منها باسم السيدة العذراء مريم، والقبلي باسم الشهيد يوحنا المعمدان، والبحري باسم الشهيد مار بقطر بن رومانوس.
يحتفظ دير السيدة العذراء السريان بمجموعة مخطوطات نادرة في خمس لغات مختلفة هي: السريانية والقبطية والعربية واليونانية والإثيوبية. لهذا السبب وعلى غرار مكتبة دير سانت كاترين، تتمتع مكتبة دير السريان بمكانة خاصة بين مكتبات ومتاحف العالم، كذلك في الأوساط البحثية في العالم. وتعتبر مجموعة مخطوطات دير السريان من أقدم وأهم المخطوطات التي تمتلكها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على الإطلاق. حيث يرجع تاريخ أقدم مخطوط بها للقرن السادس الميلادي وهو مجلد على رق باللغة السريانية، ويعتبر أقدم مخطوط مسيحي في العالم كله حتى الآن، وهو نصوص للكتاب المقدس من العهد الجديد. كذلك يوجد بالمكتبة مخطوطات على شرائح البردي، وترجع للقرن الثامن الميلادي وهي نصوص متفرقة من الكتاب المقدس باللغة السريانية. وقد تعرض الدير في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 لسيول تسببت في تدمير أجزاء منه وسببت خسائر جسيمة، وشكلت نقابة المهندسين لجنة، تشرف كاتب هذه السطور بعضويتها، لمعاينة آثار السيول التي داهمت الأديرة بوادي النطرون، وأوصى التقرير بإجراء دراسة تفصيلية لمخاطر السيول في كامل المنطقة المتضررة، حتى يمكن اختيار أعمال درء أخطار السيول المناسبة، والتي يمكن أن توفر حماية كاملة للمنطقة.
توصيات
- تبني حملة لترميم الأديرة السريانية التي تعرضت للهدم والتخريب على أيدي “داعش”، أو للتدمير بواسطة العوامل الجوية (السيول).
- ترجمة الكتب السريانية التي تتحدث عن تاريخ السريان وإسهاماتهم في الحضارة العربية الصادرة بلغات غير عربية إلى اللغة العربية.
[1]* أستاذ مادة التراث العربي المسيحي في كلية لاهوت الإيمان (القاهرة).
[2]– إسحق ساكا، كنيستي السريانية (أنطاكية: بدون، 2007)،64.
[3]– إفرام، يوسف، الفلاسفة والمترجمون السريان، ترجمة: شمعون كوسا (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010)، 9.
[4]– سمير، عبده، السوريون والحضارة السريانية (دمشق: دار الحصار للنشر والتوزيع، 1998)، 94-95.
[5]– سهيل قاشا، تاريخ التراث العربي المسيحي (جونية: منشورات الرسل، 2003 )، 151.
[6]– مجموعة مؤلفين، المسيحية عبر تاريخها في المشرق (الحياة الرهبانية في سوريا والعراق وفلسطين)،) بيروت: مجلس كنائس الشرق الأوسط، 2001) 395.
[7]– المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مرجع سابق، 388.
[8]– تيم، داولي، أطلس الكتاب المقدس وتاريخ المسيحية (القاهرة، أوفير،2007)، 85.
[9]– حبيب، زيات، الديارات النصرانية في الإسلام (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1938)، 309.
[10]– مجموعة باحثين، الكنائس الأرثوذكسية الشرقية (القبطية- السريانية- الأرمنية)، (القاهرة: لجنة المطبوعات والنشر بالكنائس الأرثوذكسية، 2007)، 85.
[11]– المرجع السابق، 85.
[12]– المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مرجع سابق، 388.
[13]– يمكن الاطلاع في هذا الجزء على كتاب المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مرجع سابق، 389-395.
[14]– القديس بلاديوس من أهم مؤرخي الرهبنة القبطية، وُلد في غلاطية سنة 363 أو 364م. وتوفي عام 431م.
[15]– موقع بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، تم الاطلاع عليه يوم الأربعاء 4 يناير (كانون الثاني) 2017 ، على الرابط التالي:
http://antiochpatriarchate.org/ar/page/1009/
[16]– مار سويريوس إسحق ساكا، نشوء الكنائس المشرقية وتراثها (القرن الخامس- القرن الثامن) – الكنائس السريانية التراث (السريان) ص248-251.
[17]– يمكن الرجوع في هذا الجزء إلى: مجموعة باحثين، الكنائس الأرثوذكسية الشرقية (القبطية- السريانية- الأرمنية)، مرجع سابق، 85-89.
إسحق ساكا، كنيستي السريانية، مرجع سابق، 68-74.
[18]– موقع محبة زيدل، تم الاطلاع عليه يوم الخميس 5 يناير (كانون الثاني) 2017، على الرابط التالي:
[19]– موقع كلدايا نت، تم الاطلاع عليه يوم الخميس 5 يناير (كانون الثاني) 2017، على الرابط التالي:
http://www.kaldaya.net/index.asp
[20]– الموقع الرسمي لدير العذراء- السريان – تم الاطلاع عليه يوم الأربعاء 4 يناير (كانون الثاني) 2017، على الرابط التالي:
http://www.st-mary-alsourian.com/index.php?lang=ar