تمهيد
شهدت الجزائر فى 12 ديسمبر 2019 أول انتخابات رئاسية منذ سقوط نظام بوتفليقة، غير أن الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في فبراير العام الماضي، أعلنت رفضها لهذه الانتخابات وإفرازاتها، بإعتبارها ليست حرة ولا نزيهة. ورغم الضغوطات التي واجهتها السلطات الانتقالية فى البلاد من أجل تأجيل الاستحقاق الانتخابي لطمأنة الرأي العام، عمدت السلطات إلى الوفاء بتعهداتها في تنظيم الانتخابات بموعدها.
ومع إعلان الهيئة الانتخابية المستقلة فوز “عبد المجيد تبون” برئاسة الجمهورية، تبقى جميع السيناريوهات مطروحة أمام المشهد الراهن في الجزائر، في ظل استمرارية الحراك الاحتجاجي، فضلاً عن الرحيل المفاجئ لقائد أركان الجيش الفريق “أحمد قايد صالح”، الأمر الذي قد يمثل منعرجاً هاما في السياق العام للمشهد.
أولاً: قراءة تحليلية لنتائج الانتخابات الرئاسية، ودلالات فوز تبون
اعتادت الجزائر خلال العقود الأخيرة على نظام سياسي ثلاثي الأبعاد، فثمة توازن في القوى قائم بين رئيس أركان الجيش، ورئيس الأجهزة الأمنية، ورئيس الجمهورية، ولطالما توافق الطرفان الأول والثاني لإختيار مرشحين لتولي المنصب الثالث، غير أن بوتفليقة نجح فى كسر هذا الثالوث، من خلال التهميش التدريجي لرئيس الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أفرز بحلول 2015، نظاما قائم على سلطة غير مسبوقة لرئيس الجمهورية، يليه سلطة أقل لقائد الجيش. ومع اندلاع الاحتجاجات فى الجزائر، أصبح قايد صالح رئيس أركان الجيش الرجل الأقوي في البلاد، خصوصًا بعد وقوفه مع الحراك الشعبي. غير أن الانكشاف الناتج عن ذلك، لم يكن دائماً محمودًا، فرغبة الحراك للاستمرار في الشارع أدت إلى صدامات مع قايد صالح، مما أدى إلى إدانته من قبل المحتجين، الأمر الذي دفع المؤسسة العسكرية للإسراع فى إجراء الانتخابات لتسليم السلطة إلى الرئيس الجديد.[1]
جاءت نتائج الانتخابات مغايرة نسبياً لاستطلاعات الرأي العام الجزائري، الذي رجح فرص المرشح “عز الدين ميهوبي” أمين حزب التجمع الوطني الديموقراطي، والمدعوم من أحزاب السلطة في الجزائر، فمن بين خمسة مرشحين قبلت السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات أوراقهم، حسم المرشح المستقل “عبد المجيد تبون” الاستحقاقات الرئاسية في الجولة الأولى، بعدما حصل على نسبة تجاوزت الـ 58 %، وذلك بفارق كبير عن بقية المرشحين الأربعة، إذ حصل “عبد القادر بن قرينة” رئيس حركة البناء الإسلامي على نسبة 17.4%، وحصل “علي بن فلس” رئيس حزب طلائع الحريات على نسبة 10.6 %، بينما حصل “ميهوبي” على نسبة 7.3%، وحصل “عبدالعزيز بلعيد” رئيس حزب جبهة المستقبل على نسبة 6.7%.[2]
وتمخضت نتائج الانتخابات الجزائرية عن عدد من الدلالات الهامة، يمكن بلورتها في العناصر التالية:
- انخفاض المشاركة السياسية وأزمة الشرعية: على الرغم من محاولات السلطات الانتقالية طمأنة الجمهور من خلال تسريع محاكمات رموز نظام بوتفليقة والاعلان عن اعتقالات واسعة بحق أطراف محسوبة على هذا النظام، غير أن ذلك لم يكن كافي لدفع كثير من الناخبين للمشاركة في عملية الاقتراع. إذ بلغت النسبة الرسمية للمشاركة السياسية 40%، وهي الأدنى على الإطلاق، في تاريخ الانتخابات الرئاسية في الجزائر، وهو ما يمثل إحدى المعضلات الوجودية أمام شرعية الرئيس المنتخب تبون.
- التركيبة الانثروبولوجية والجغرافية للناخبين: يمثل المكون الشبابي أغلبية العدد الذي يتمتع بحق الانتخاب، والذي يبلغ 24 مليونًا، و741 ألف ناخب. إذ تمثل نسبة الفئة العمرية التى تتراوح ما بين 18-40 سنة حوالي 40% من إجمالي الهيئة الناخبة، وهو أحد عوامل تدني نسب المشاركة في التصويت. من ناحية أخرى، عكست نتائج الانتخابات رفض مناطق بعينها في الداخل الجزائري للمشاركة في الاقتراع، مثل مدن البويرة وبجاية وتيزيوزو، ويمكن التعويل على العوز الاقتصادي لهذه المدن كمبرر لعزوفها.[3]
- تفتت أحزاب الدولة: بعد أن ظل حزب جبهة التحرير الوطني هو المسيطر على المشهد السياسي باعتباره الوريث الشرعي لحركة التحرير الوطني، عكست نتائج الانتخابات الأخيرة فقدان الحزب لشرعيته الجماهيرية، ولا يستبعد طرح فكره حل الحزب في المستقبل القريب، لإرضاء الحراك الشبابي المحتج، كما حدث فى مصر بعد احتجاجات 25 يناير وحل الحزب الوطنى الديموقراطي. ويرتبط ذلك بمستقبل الأحزاب السياسية في الجزائر، الذي يرجح أن يشهد تشرزم كبير، والافتقاد الى وجود حزب أو أحزاب كبرى مهيمنة، مع تراجع مصداقيتها بالنسبة للشعب.[4]
وفعلياً، رغم أن مرشح التيار الاسلامي “عبد القادر بن قرينه” لم يحصل سوى على 17% من أصوات الناخبين، غير أن ذلك لا يمكن التعويل عليه كثيرا كدلالة على تراجع أو ضعف تيار الإسلام السياسي؛ نظرًا لتفتت كتلة التصويت لهذا التيار، نتيجة لرفض قادة الحركات والأحزاب الإسلامية دعم ابن قرينه، لكن يجب التنبه إلي أن هذا التيار يمثل التنظيم السياسي الأقدر على الهيمنة.
ثانياً: أبعاد ومحددات تعامل الحراك الاحتجاجي مع نتائج الانتخابات
فضلاً عن استمرارية الحراك الشعبي، يبدو أن الرئيس الجزائري الجديد أمام سلسلة من التحديات الفارقة التي يمكن بلورتها فى العناصر التالية:
- تشكيل حكومة توافقية: يبقى ملف الحكومة الجديدة أولى القضايا التي يمكن لها أن تمنح الرئيس الجديد تعاطفًا نسبيًا في الشارع الجزائري. ومع إعلان تبون بأنه سوف يعتمد على شخصيات مستقلة فى حكومته الجديدة، من المحتمل أن شكل وتركيبة هذه الحكومة سوف تعكس توجهات الرئيس ومرتكزات سياساته. ومع تباين مواقف الأحزاب السياسية المعارضة من إمكانية المشاركة في أي حكومة مقبلة، يرجح أن يغلب على هذه الحكومه الطابع المستقل مع تضمينها بشخصيات ذات قبول شعبي لإرضاء الشعب، خصوصًا بعد رفض عدد من الأحزاب الرئيسة المشاركة فى الحكومة على غرار حركة مجتمع السلم (حزب أخوان الجزائر)، التي أرجت إمكانية مشاركتها في الحكومة إلى أعقاب الاستحقاقات البرلمانية المقبلة.
- حالة العوز الاقتصادي: تزداد أهمية وخطورة هذا التحدي مع الأخذ فى الاعتبار أنه المحدد الرئيس لخروج الاحتجاجات التي أطاحت بنظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فعائدات الطاقة تمثل 95% من الصادرات الخارجية للجزائر و60% من إيرادات ميزانية الدولة، ومع تراجع إنتاج النفط بنسبة 12% في 2019، يضاف لذلك الانخفاض الحاد في أسعار النفط منذ 2014، أدى إلى تدهور في الناتج المحلي الاجمالي وارتفاع غير مسبوق فى معدلات البطالة التي وصلت إلى 31%. [5] ومع تراجع الاحتياطي الأجنبي في البلاد من 200 مليار دولار في 2014 إلى أقل من 50 مليار دولار نهاية 2019، تبقى هذه التحديات أحد أهم الملفات المطروحه أمام الرئيس الجديد، الذي يرفع شعار محاربة الفساد، مع التعويل على قضية إعادة الأموال المنهوبة خارج الجزائر، التي تقدر بـ100 مليار دولار.[6]
- معادلة موازين القوى الداخلية: ستبرز مدى القدرة على المناورة خارج إطار المؤسسة العسكرية، التي أضحت الحاكم الفعلي في البلاد بعد مساندتها للحراك الشعبي لإجبار بوتفليقة على التنحي عن الحكم من بين التحديات التي قد تواجه الرئيس الجديد. كما يجب الأخذ في الاعتبار، واقع أن تبون كان يمثل مرشح الجيش في هذه الانتخابات، غير أن الإشكالية في الوقت الحاضر تكمن في قدرة الرئيس الجزائري على إعادة فرض سيطرة مؤسسة الرئاسة على المؤسسة العسكرية من جديد، كما كان الحال فترة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
بيد أن الرحيل المفاجئ لقائد أركان الجيش الجزائري “قايد صالح” قد تفرز توازنات جديدة، ترجح كفة تبون، وتحرره من أية قيود في التعامل مع الملفات المختلفة. إذ جاءت وفاة قايد صالح لتمثل منعرجًا هامًا في مسار الحراك الراهن في الجزائر. فقد عكست الحشود الكبيرة التي اجتمعت لتأبين صالح عن وجود فئات رافضة لمطالب الحراك، خصوصًا مع الاستجابة التي أبدتها فئات معتدلة كثيرة من داخل الحراك، إلى دعوات الحوار التي أطلقها الرئيس عبد المجيد تبون.
- السياسة الخارجية إزاء المحيط الإقليمي المضطرب: في ظل السياق الإقليمي المفعم بالأزمات، قد يحتاج الرئيس الجزائري الجديد إلى التعامل مع ملفات خارجية حرجة، يقع في مقدمتها الملف الليبي، الذي يشهد تطورات ومتغيرات متلاحقة، تمثل تهديدًا مباشرًا للحدود الجزائرية، فضلا عن ملف العلاقات مع المغرب.[7]
ثالثاً: السيناريوهات المحتملة للمشهد السياسي الجزائري بعد الانتخابات
فى ضوء قراءة في نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وربطها بالمتغيرات الراهنة في الداخل الجزائري، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات محتملة للمشهد السياسي، تكون على النحو التالي:
السيناريو الأول: تصاعد الحراك وفشل الدولة: قد تتسبب بعض سياسات الرئيس الجزائري الجديد في إثارة سخط الشارع مجددًا، في حال لم تتخذ إجراءات من شأنها زيادة الضغط الاقتصادي على الأفراد، الأمر الذي قد يصعد الحراك الاحتجاجي، خصوصًا في حال تزامن مع وجود حالة عدم رضى القيادة العسكرية الجديدة إزاء سياسات الرئيس.
السيناريو الثاني: استنساخ التجربة التونسية: في حال تمكن الرئيس من اجتذاب شريحة أكبر من الشعب، مع العمل على إنشاء حزب سياسي جديد له، يمكنه من خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، ومنافسة التيار الإسلامي، الذي يبقى الأكثر قدرة على إعادة التنظيم والتكتل. ويستند هذا السيناريو إلى قدرة الرئيس على تهدئة الحراك الراهن، والبدء فى مشاورات وضع الدستور، الذي سيتضمن دور أكبر لمنصب الوزير الأول لتحقيق التوازن مع سلطة الرئيس. ويبقي الجيش هو المحدد الأهم وفقًا لهذا السيناريو، من خلال نصوص دستورية تضمن حقوق المؤسسة العسكرية وتجعل منها الحكم في أي صراع مستقبلي.
السيناريو الثالث: استمرارية دولة بوتفليقة: ويتحقق هذا السيناريو من خلال قدرة الرئيس على استيعاب الحراك، من خلال شعبوية سياسية تزيد من رضا المواطنين، بالتزامن مع توافقات مؤقتة مع المؤسسة العسكرية لتجاوز المرحلة الحرجة، يتبعها العمل على إعادة تشكيل حزب الرئيس المهيمن مع سيطرة أكبر على الجيش.
خلاصة واستنتاجات
وفقاً للحراك الراهن في الجزائر، يمثل الرئيس الجزائري الجديد، والمرشحون الأربعة جزء من نظام بوتفليقة. ورغم الانقسامات الراهنة في الحركة الاحتجاجية نفسها حول إمكانية التشاور مع تبون خصوصًا بعد رحيل قايد صالح، لا يزال يُنظر إلى التصويت باعتباره محاولة من قبل السلطات الجزائرية لاستعادة ثقة ودعم الشعب.
يجب الأخذ في الاعتبار، أن خيار مساندة الحراك من قبل قيادة المؤسسة العسكرية، والتخلي عن بوتفليقة، قد جاء لحماية هيكل النظام القائم وتجنب الصدام المباشر مع المحتجين وتكرار سيناريو العشرية السوداء، مع الدفع باتجاه الإسراع بتنظيم الاستحقاق الانتخابي بقوة، في ظل الموروثات الهيكلية الراهنة، باعتباره السبيل الوحيد للخروج من المأزق.
يبقى الخيار الأفضل أمام تبون هو الشروع في فتح حوار جاد مع الحراك المحتج، وقبول إجراء بعض الاصلاحات التي تطالب بها الاحتجاجات، ولو جزئياً، لاستعادة الاستقرار في الجزائر، والترتيب لمرحلة صياغة الدستور والانتخابات البرلمانية.
[1]– Sarah Feuer, Algeria’s Election Is a Make-or-Break Moment, The Washington Institute for Near East Policy, December 10, 2019, https://bit.ly/2t27URR
[2] -Karim Mezran and Alessia Melcangi, Algerian election and legitimacy: Impossibility of change, Atlantic Council, DEC 17, 2019, https://bit.ly/2SxNs5L
[3]– مبارك أحمد، قراءة في نتائج الانتخابات الرئاسية الجزائرية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 24 ديسمبر 2019، https://bit.ly/2snwVH3
[4]– SHLOMO BEN-AMI, Not Another Arab Spring, Project syndicate, Dec 19, 2019, https://bit.ly/364kNcz
[5] Scott Carpenter, Beneath Algeria’s Political Stalemate: An Economic Crisis Smolders, forbes, Dec 9, 2019, https://bit.ly/39r0Yym
[6] –, Algerians fear their election will be a blow to democracy, The Economists, Dec 7th 2019, https://econ.st/2Mw9dPF
[7] -ILHEM RACHIDI, Algeria’s Election Won’t Save Its Democracy, foreign policy, DECEMBER 11, 2019, https://bit.ly/2EScWCO