عندما نحاول تحليل السياسة الخارجيّة القطريّة نجد أنفسنا أمام معضلة تبرز لأول مرّة على مسرح السياسة العربية منذ رحيل الاستعمار وتشكل دول الاستقلال، وتتمثل في ظاهرة الخروج عن الأنساق المستقرّة منذ ذلك الزمن وحتّى وصول حمد بن خليفة إلى الحكم في قطر.
وحتّى نوضّح ما نعنيه بهذا الخروج عن نمطيّة السلوك السياسي، وجب الرجوع إلى الفترة الّتي شهدت تكوين دول المنطقة، والّتي اتّخذت صور شكل الحكم فيها من الدول المستعمرة. فالدول الّتي كانت تحت هيمنة بريطانيا أصبحت أنظمة ملكيّة، أمّا الدول الّتي استقلّت عن فرنسا فقد أخذت بالنظام الجمهوري باستثناء المملكة المغربيّة الّتي ظلّت على نظامها الملكي السابق حتّى في فترة الوصاية، والمملكة السعوديّة الّتي تأسّست مبكراً وانتقلت من الخلافة العثمانيّة إلى الاستقلال دون المرور بالفترة الاستعماريّة وكذلك اليمن.
كذلك أغلب هذه الدول ملكيّة، ولكنّها مع بداية الخمسينيات بدأت تتقلص بقيام الانقلابات العسكريّة في كلّ من مصر والعراق واليمن وليبيا حتّى أصبحت تشكّل الأغلبيّة العدديّة في هذه الأنظمة. منذ ذلك الزمن تكوّنت في المنطقة مجرّتان لكلّ منهما قوانينها وأنظمتها ورؤيتها في الحكم، وهذا ما أردت أن أطلق عليه تسمية «الأنساق السياسيّة».
فالأنظمة الجمهوريّة الانقلابيّة كانت تتبنّى -في أغلبها- أيديولوجيات مستوردة عابرة للحدود، تهدف إلى تغيير خرائط المنطقة بشعارات شعبويّة على حساب الأنظمة الملكيّة، أي إنها اعتمدت استراتيجيّة الهجوم لتحقيق الهيمنة. وقد دفعت بعض هذه الأنظمة تلك السياسات إلى حدّها الأقصى لتصل إلى درجة النّزاع المسلح، ابتداء بحرب اليمن في الستينيات وانتهاء باحتلال الكويت من العراق في التسعينيات من القرن المنصرم.
أمّا الأنظمة الملكيّة فقد كانت تحاول الدفاع عن نفسها أمام هذا المدّ الثوري الّذي قلّص من المساحات الّتي كانت تهيمن عليها، فاعتمدت سياسات دفاعيّة وتحالفات دوليّة وطوّرت من وسائلها في الدبلوماسيّة الناعمة لاحتواء هذه الأخطار. كما استدعت كلّ أسلحتها العقديّة من مخازن التراث ووظّفتها في هذه الحرب، ولم يكن لها حتّى الوقت الكافي لإزالة ما علق بها من غبار العصور. كانت الحرب حرب وجود بامتياز. وقبل نهاية القرن العشرين سقطت كل نماذج المشاريع الثوريّة في الجمهوريات الانقلابيّة، الواحد بعد الآخر، وذلك بسبب فشل التنمية واكتشاف الشعوب بؤس الأيديولوجيات المكرّسة، وبدأت تتلمس الطريق إلى سياسات أكثر واقعيّة حتى تضمن استمرارها. وحاولت أن تجترح نظام حكم مضحكاً فيما سمي بالجمهوريات الوراثية كما حدث في سوريا، وبدأت ملامحه واضحة في ليبيا واليمن ومصر وتونس في سبيل ترقيع هذه الأنظمة الهالكة.
انقلاب النظام القطري والاستراتيجيّة الأمريكية الجديدة
في هذه اللحظة الحاسمة والمفصلية في تصفية الحسابات التاريخيّة والمتراكمة، حدث انقلاب خطير في منطقة الخليج وأقصد به الظاهرة القطريّة، وهنا لا أقصد انقلاب الشيخ حمد على أبيه الذي أعتبره من أهون الشرور، وإنّما انقلاب النظام القطري على النسق السياسي في منطقة الخليج، ومحاولة هذا النظام إعادة إنتاج السياسات الثورية الّتي انهزمت وأثبتت فشلها في المنطقة العربية، وتتمثل في إنفاق الأموال الطائلة من مقدرات الشعب القطري على إعلام شعبوي موجّه ضدّ دول المنطقة، والتحالف مع قوى ظلاميّة مثل الإخوان المسلمين، وإقامة علاقات مشبوهة مع منظمات صنفت عالميا بأنّها إرهابيّة، لخلق القلاقل والدسائس وتقويض أنظمة لا تستطيع قطر الإفادة من سقوطها حتّى لو حدث.
كل هذه الأدوات الّتي استخدمها النظام القطري في سياساته الخارجيّة ما كانت تؤثر في المنطقة العربية ومحيطها الخليجي لو لم تتوافق مع الاستراتيجيات المكرّسة دولياً للمنطقة من فترة تاريخيّة محددة.
فبعد الهجمات الإرهابية الّتي طاولت الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر (أيلول) 2011، وكانت صادمة للعقل الأمريكي في نظرته لنفسه وللآخر، فقد كانت ثقته في نفسه الّتي يدعمها تاريخ مديد من قدرته على التدخل في كل مكان من العالم ما وراء البحار، وعدم قدرة الآخر على نقل مسرح العمليات الحربية إلى داخله قد اهتزّت بشكل جدي. وممّا جعل هذه الحادثة أكثر كارثيّة وقوعها بعد انتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة على المعسكر الآخر بقيادة الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تفكك هذا الأخير، ففي الوقت الذي ما زالت فيه الكؤوس تقرع احتفالاً بهذا النصر ونهاية الحرب الباردة، جاء هذا الاعتداء ليفسد هذه الفرحة.
كان المنظرون من المحافظين الجدد وعلى رأسهم فوكوياما قد سارعوا إلى وضع الأسس النظريّة للنظام العالمي الجديد، وإذاعة مفهوم نهاية التاريخ الّذي يعني نهاية الصراعات العالميّة، والانتصار النهائي للرأسمالية والليبرالية وبداية عصر العولمة، وتصور عالم تسقط فيه كلّ الحواجز الحمائية، وتتدفق فيه السلع والخدمات والمعلومات والأموال دون عوائق. فيتحوّل العالم إلى قرية كونيّة تنعم بالرخاء. وكان فوكوياما على رأس أولئك الّذين يعتقدون بأنّ اكتساح الديمقراطيّة للعالم الإسلامي أمر لا مفرّ منه، حتّى إنّه كان أحد الموقعين على رسالة مفتوحة لبل كلينتون سنة 1998 يطالب فيها بإسقاط ديكتاتورية صدام حسين.
غير أنّ أحد هؤلاء المحافظين الجدد لم يكن مقتنعاً بالنتائج التي وصل إليها فوكوياما في بحثه، والتي مفادها أنّ العالم سوف تنتهي فيه الحروب والصراعات. فقد خلص عالم السياسة الأمريكي «صامويل هنتنغتون» (1927-2008)، في كتابه «صدام لحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» إلى أنّ الصراع سوف يستمر وإن لم يكن بالوسائل نفسها والصيغ الأولى، بل سيكون صراعاً ثقافياً ودينياً. واعتبر أنّ العدوّ الحقيقي للعولمة والحضارة الغربيّة وقيمها المنتصرة هو الدين الإسلامي الذي يقوم في جوهره على التضاد مع هذه القيم مثل العلمانية والفردانية والديمقراطيّة والمساواة بين الجنسين، وبيّن أنّ الوسائل المكرّسة كافّة في الحرب الباردة لم تعد تجدي نفعاً في هذا الصراع. نستطيع القول: إنّ الأفكار الّتي أجمع عليها المحافظون الجدد تلخصت في «التقرير الاستراتيجي للأمن الوطني» (NATIONAL SECURITY STRATEGY) الصادر عام 2002 الّذي عرضه البيت الأبيض على الكونغرس كخطة عامة لسياساته الدولية. وكان يقوم على التدخل العسكري ليس في البلدان التي تموّل وتحتضن الإرهاب فحسب، وإنّما حتى في تلك الدول التي لا تستطيع احتواءه والتصدي له.
يتبين من خلال القراءة المتأنية لهذا التقرير بروز الأفكار الكلاسيكيّة للمحافظين الجدد في محاربة الإرهاب، وذلك باستزراع القيم الغربيّة في الديمقراطية والحرية إلى جانب القوة العسكرية في العالم. وقد أوصى دانيل بابيس ( DANIEL PIPES) مدير ( Middle East Forum ) الذي أوكل إليه جورج بوش الابن مهمة استشراف العالم الإسلامي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 بالتبشير بالقيم الحضارية الغربيّة، ومحاولة استنباتها في العالم الإسلامي كجزء لا يتجزأ من القضاء على الإرهاب، على الرغم من معارضته لفكرة اعتبار الإسلام ديناً إرهابياً في جوهره كما استخلص هنتنغتون. غير أنّ المحافظين الجدد الأكثر تطرفا من أمثال ويليم كريستول ( William CRISTOL ) وبول ولفويتس (Paul WOLFOWITZ) كانوا يرون وجوب إسقاط الأنظمة المعادية ومعها الأنظمة الموالية؛ لاعتقادهم بأنّها سوف تنتج من خلال سياساتها التطرف، وأنّ الحلّ الأخير للمشكل الإسلامي لا يكون إلاّ بدمقرطته، وإصلاح مجتمعاته راديكاليا حتّى تغدو شبيهة بالغرب.
هذه الاستراتيجيّة الأمريكية الجديدة الّتي استبدلت فكرة الاحتواء بقرار المواجهة الشاملة وقدّمت نماذج لها في حربي أفغانستان والعراق، التقت مع طموحات قطر والإخوان المسلمين في الإفادة من هذا الزلزال القادم، باعتبارها الكتلة الوحيدة المتماسكة في المنطقة، الّتي تمتلك أحزاباً سياسية وتنظيماً أممياً عابراً للحدود، وأموالاً طائلة في الخزينة القطريّة، وتأمل في أن تفضي هذه الفوضى إلى وراثة كل الأنظمة التي سيطاولها غضب المارد القادم من وراء البحار. كما بدؤوا يبشرون بالديمقراطية الّتي كانت حتى وقت قريب يعتبرونها نوعاً من الشرك والكفر البواح حسب أدبياتهم السابقة، وذلك بطريقة انتهازيّة تهدف إلى الوصول للسلطة بمباركة هذا التوجه الجديد للغرب.
كانت المحصلة لهذه السياسات الأمريكيّة التي بنيت على الدراسات النظرية للمحافظين الجدد، إيصال الجميع إلى نتائج كارثيّة، وهي انتصار الحركات الإسلامويّة في المجتمعات التي حدث فيها تكريس مفهوم الديمقراطيّة الشكليّة، أي الديمقراطيّة الّتي تمّ اختزالها في العملية الانتخابيّة دون أي محتوى ليبرالي.
فقبل حدوث ما يسمى بالربيع العربي قامت انتخابات في فلسطين انتصرت فيها حركة حماس الإخوانية، وفي العراق أفرزت انتخابات 2005 اقتسام السلطة بين الأحزاب الدينية الشيعيّة والسنيّة، وفي أفغانستان أنتجت تقاسم السلطة بين أمراء الحرب الّذين يكرسون مفاهيم اجتماعية وثقافية متخلّفة باسم الإسلام.
لذلك أصبحت تتراءى في الأفق رؤية أمريكية جديدة أكثر واقعية، وقد عبّر عنها فوكوياما في كتاباته الّتي أعقبت «نهاية التاريخ»، ومفادها أنّ المحافظين الجدد قد ارتكبوا خطأ فادحاً في التحليل بمقاربتهم المشكل الإسلامي على غرار الحرب الباردة، وأنّ سقوط الأنظمة العربية سوف ينتج نظماً ديمقراطية بشكل تلقائي كما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط حائط برلين. ويرى فوكوياما أنّ إنتاج الديمقراطيّة في مجتمع مّا لا يكون من خلال الضغوط الخارجيّة، سياسية كانت أم عسكريّة، وإنّما بإحساس هذه المجتمعات إلى الحاجة إليها والمطالبة بها، لذلك يجب أن تتغيّر الرؤية بالكامل وأن يكون الهدف هو بناء الدولة القويّة في هذه المجتمعات الّتي لا تستطيع أن تعمق فكرة المؤسسات وتنهض بالاقتصاد من خلال التنمية المستدامة، وعندما يصل مجتمع مّا إلى الازدهار ويجد من خلال مسيرته أن غياب الديمقراطية أضحى عائقا للتنمية وعاملا لعدم استقرار المجتمع، عندها فقط ستكون المطالبة بالديمقراطية وإمكانية تحققها أمراً ممكنا.
كانت أمريكا تقف في تلك اللحظة على مفترق طرق، تلعق جراحها التي أصيبت بها في حربي أفغانستان والعراق. فوصل أوباما إلى الحكم برؤية انعزالية سيطرت على إدارته في واشنطن، وغدت تنظر إلى المنطقة العربية من موقع المتفرج لا صانع للأحداث. انتهزت قطر والإخوان فرصة هذه الهدنة الأمريكيّة واستمروا في عملهم كمقاولين فضوليين لذلك المشروع القديم، واستخدموا أدواتهم المتمثلة في قناة الجزيرة والتنظيم العالمي للإخوان، ومحاولة الاستيلاء على الرأسمال الرمزي في الخليج، فادعى الشيخ حمد أنّه أحد أحفاد محمد بن عبدالوهاب منشئ الحركة الوهابية، وبنى جامعاً باسمه في الدوحة، وهي طريقة معروفة في إضفاء الشرعيّة على حكام القرون الوسطى، باتّخاذ صفة تواصل بيولوجي بأحد رموز الأسلاف المحاطة بهيبة مقدّسة.
الإخوان المسلمون: الظهير الأول للإمارة الخليجية
كانت قناة الجزيرة تطلق شعاراتها الشعبوية وتستضيف معارضي الأنظمة العربية لزرع الفتنة وتضخيم الأحداث السلبية التي تحدث هنا وهناك، واستطاعت في فترة معينة أن تمتطي الرغائب المستثارة للشارع العربي الذي يحس بالتهميش والإحباط والغبن. وجيّشت المشاعر الطائفيّة تحت شعار مقاومة الاحتلال في العراق. وكانت تضفي ألقاب الشيوخ على ابن لادن والظواهري والزرقاوي، وكانت لا تتكلّم عن الإرهاب إلا وتسبقه عبارة «ما يسمّى» في دلالة واضحة على أنّ هذه الأعمال المريعة التي تتبناها هذه الحركات ما هي إلا أعمال من أعمال المقاومة المشروعة. وقد ثبت بأحكام قضائية أنّ بعض مراسليها كانوا على اتصال وثيق بهذه المنظمات الإرهابية.
وكان الظهير الأول للحكومة القطرية والشريك الأساسي في الاستراتيجيات التآمرية ضدّ دول المنطقة الإخوان المسلمون. وهنا يبرز سؤال مشروع عن نوعيّة العلاقة بين قطر ممثلة في أميرها حمد بالإخوان: هل هي علاقة شراكة وتحالف أم هي علاقة عضويّة؟ أميل للاعتقاد بأنّها علاقة وحدة عضويّة للأسباب التالية:
ما بلغني عن سيف الإسلام القذافي قبل أحداث الربيع العربي بأنّ الشيخ حمد كان قد أسرّ له بأنّه عضو في هذه الجماعة، وكان ذلك في فترة بداية التآمر القطري على النظام الليبي، عندما أقنع سيف الإسلام بإطلاق سراح الإخوان من السجون على أن يكونوا حلفاءه في مسعاه الإصلاحي، وأنّه الضامن في عدم قيامهم بأيّ عمل عدواني ضدّ النظام.
الحظوة الّتي كان يحظى بها النظام القطري في الحكومات الإخوانيّة الّتي أعقبت الربيع العربي في كلّ من مصر وتونس وليبيا، والدور المركزي للدوحة في الإملاءات السياسيّة على هذه العواصم، والدعم اللامحدود الّذي قدّمته لهم سياسياً وإعلامياً.
وجود القيادات الإخوانيّة والإرهابية التابعة لهم في الدوحة، واستقبالها لهم كمكان آمن واعتبار الدوحة أنّ هذا الوجود أحد الثوابت السيادية التي تمثّل المصلحة العليا في قطر، حتى إنّه أكثر أهميّة من عضويّة قطر في مجلس التعاون الخليجي، كما اتّضح أخيراً عندما رفضت الاستجابة لمطالب دول مجلس التعاون بطردهم من أراضيها.
أيّا كانت نوعيّة هذه العلاقة بين الشيخ حمد وتنظيم الإخوان المسلمين، تبقى ثمة حقيقة لا يمكن دحضها وهي وحدتهم في المنطلقات والغايات والمصائر. تنظيم الإخوان المسلمين وجد ضالته في دولة قطر الّتي تمتلك فائضاً مالياً ضخماً من ثرواتها الطبيعيّة، يمكن استغلاله لتحقيق مآربهم السياسية ووجود مكان آمن في دولة مستقلة وعضو في المجتمع الدولي، يستطيعون العمل فيها والانطلاق منها دون تعرضهم للملاحقة. والشيخ حمد يعتقد أنّه سيحقق حلمه في أن يصبح أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين بتحالفه هذا الّذي يعتبره مسألة حياة أو موت، حتى لو جرّ بلده إلى الخراب. هذا التحالف بدأ يقترب من تحقيق أهدافه بعد ثورات ما يسمى بالربيع العربي، فأصبح الإخوان يحكمون تونس ومصر ولهم اليد الطولى في ليبيا من خلال ميليشيات مسلحة ترعاها قطر بالمال والسلاح، وهذا ما جعل الشيخ حمد يتنازل عن حكم قطر لابنه تميم استعدادا لتسلمه قيادة الأمة الإسلامية.
غير أنّ تونس ومصر اللتين لم تسقط فيهما الدولة استطاعتا أن تكشفا المؤامرة، وتمكنتا من خلال المؤسسات العسكرية والأمنية والنخب المدنية إحباط هذا المخطط الإخواني- القطري، ولم تبق لهما غير ليبيا وهي الحلقة الأضعف، حيث تمكّنت قطر وحلفاؤها الإخوانيون من الاستيلاء على إرادتها السياسية، وما زالوا يتمسّكون بها كآخر معقل يستميتون في الدفاع عنه؛ لأنّها تتوسط تونس ومصر وباستيلائهم على قدرات هذا الإقليم ومقدراته المادية يستطيعون أن يبثوا القلاقل في المنطقة تمهيدا لإعادة السيطرة عليهما من جديد .
التآمر القطري – الإخواني على الدول العميقة
كان المخطط القطري- الإخواني هو الاستيلاء على حكم مصر وسوريا والأردن وحصار السعودية ومحاولة إسقاط الحكم فيها بكلّ الوسائل، حتى بالتعاون مع إيران وأذرعها في اليمن. وكانت هذه الخطة سابقة حتى على مرحلة الربيع العربي، فقد أثبتت الوثائق السرية بعد سقوط النظام الليبي والتسجيلات الصوتية التي أذيعت أخيراً حجم تآمر قطر على المملكة العربية السعودية عندما حدثت الملاسنة في مؤتمر شرم الشيخ بين الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي كان وقتها ولياً للعهد والرئيس الليبي معمر القذافي، كما تدلّ وثائق أخرى على مدى ضلوع قطر في دعم الحوثيين في حروبهم السابقة.
تقف قطر اليوم موقفاً عدائياً ضد أكثر من نظام عربي. ففي شمال أفريقيا، اتخذت من ليبيا قاعدة لتحركاتها واستطاعت أن تمنع إقامة الدولة فيها من جديد، وباتت تستعملها منصة لإطلاق الإرهاب على مصر وتونس وتهريب السلاح براً لدول عدة مثل النيجر ومالي وتشاد. كما سيطرت من خلال حليفهم عبدالحكيم بالحاج على مطار «معيتيقة» في طرابلس لنقل الأسلحة والأموال من وإلى ليبيا، وكما هو معروف تم نقل الإرهابيين من تونس والجزائر والمغرب والسودان إلى سوريا والعراق من خلال هذا المرفأ.
أمّا في الدول العربية الآسيوية، فقد قامت بتمويل داعش والقاعدة، واستخدمت قضايا إنسانية لدفع الأموال لهذه التنظيمات علناً وعلى رؤوس الأشهاد، بدعوى إطلاق سراح مختطفين من قبلها. ولم تقف عند هذا الحد، بل حاولت -وما زالت- زعزعة نظام الحكم في البحرين، وتآمرت على دولة الإمارات العربية المتحدة بالتجسس ومساعدة الإخوان على إقامة التنظيمات السرية فيها، بغية تقويض الدولة التي تعتبر نموذجا ناجحا في التنمية والاستقرار. ولن تكون الكويت بمنأى عن الأذى القطري، خصوصاً وأن في هذه الدولة أتباعاً لجماعة الإخوان المسلمين العالمية، وبيئة خصبة لحركتهم نتيجة تبنيها ديمقراطية القبائل والطوائف المدمرة .
والسّؤال الّذي يجب الإجابة عنه بوضوح: هل ثمّة احتمالية أو حتى مجرد إمكانية لنجاح قطر والإخوان المسلمين في مشروعهم هذا؟ أعتقد أن الجواب سيكون سلبياً لهذه الأسباب:
أولاً: هذا التّحالف يعتمد على قراءة خاطئة للتاريخ، وهي إمكانية إنتاج حالات متشابهة في التجربة البشرية على الرغم من التباعد الكرونولوجي، بتصفية الظروف الذاتية والموضوعية كافة للاجتماع البشري، وبنظرة أيديولوجية متعالية على إكراهات الواقع.
أوهام الإمبراطورية الإسلامية
ويتبدى ذلك في وهم إمكانية قيام إمبراطورية تحت مسمى الخلافة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين. هذا الوهم يشترك فيه أكثر من نظام إقليمي في المنطقة. فتركيا أردوغان تحلم بإقامة إمبراطورية عثمانية ثانية، وكذلك إيران التي ترى أنّها دائنة للتاريخ بحقوق الفرس في حكم الأمة الإسلامية كما حكمها العرب والأتراك.
لذلك فإنّ التكتل الإخواني- القطري له حلفاء ومنافسون في الوقت ذاته. فهم حلفاء في محاولة القضاء على الأنظمة القوية في المنطقة حتّى لا تتصدى لأهدافهم، ومؤجلون للصراع في ما بينهم إلى ما بعد الاستحواذ على التركة. لذلك لا يمكننا قراءة مواقفهم السياسية في كثير من الأحيان دون هذه الفرضية، والمثال الأوضح هو محاولة إيران حصار السعودية بمساعدة قطر والإخوان في اليمن، وزرع القلاقل في الكويت والبحرين، وقيام تركيا بإرسال كتائب عسكرية لقطر، وإقامتهم قاعدة عسكرية في الصومال. هذا التحالف الذي هو ليس بالضرورة مكتوبا وموثقا، وإنما توافق ضمني يُستجلى من خلال المواقف السياسية والعسكرية والإعلامية لهذه الدول، قد بدأ يترنح بعد خروج المملكة السعودية من سياسة الاحتواء إلى سياسة المواجهة.
ثانياً: إنّ الإصلاحات الكبرى الّتي دشنها الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده في الفترة الأخيرة، وخروج المملكة العربية السعودية من عصر المواجهات اللاهوتية الّتي اعتمدتها بعد قيام الثورة الإيرانية إلى صراع النماذج الحضارية، وثورة المعرفة التي تعتبر أخطر ما وقع في المنطقة العربية منذ أكثر من قرن، ستقضي في المديين المتوسط والطويل على هذه الأوهام الفارسية- التركية- الإخوانية، وستنقل المعركة الحضارية إلى تلك الأوطان التي ما زالت تغط في سباتها منذ العصور الوسطى.
ثالثاً: لقد أثبتت التجارب التاريخية أنّ القوة العسكرية والأمنية لا تستطيع وحدها خلق تماسك مجتمعي، وأنّ سياسة الهيمنة وتصدير الثروات تستنزف موارد الدول على حساب التنمية، وقد تكون عاملاً في سقوطها مثلما حدث في الاتحاد السوفيتي الذي على الرغم من قدرته على تدمير العالم مئات المرات، سقط نظامه وتشظت إمبراطوريته المترامية الأطراف بسبب هذا التوجه غير العقلاني، كما حدث ذلك في بعض الأنظمة العربية مثل العراق وليبيا وسوريا.
ويبدو من قراءة المعلومات والإحصاءات في إيران أنّها ذاهبة الى المصير نفسه، وكذلك تركيا الّتي دخلت في مغامرات غير محسوبة في الداخل والخارج، وفي بداية تآكل المنجزات الاقتصادية الّتي بنى عليها أردوغان مجده، فهي قد توصله إلى الطريق المسدود نفسه. لهذه الأسباب مجتمعة نستطيع أن نرى بوضوح تدرج هذه التحالفات إلى السقوط المدوي، والسبب الرئيس هو اعتمادها في تحقيق أوهامها أسلحة قروسطية لا تصلح في معارك القرن الحادي والعشرين.