هناك طريقان لفهم السياسة الخارجية القطريّة. الأولى: تبدأ وتنتهي بالنظر إلى القيادات القطرية والعوامل النفسيّة التي تؤثر على قراراتهم. والثانية: تبدأ بالنظر إلى الواقع الجيوسياسي القطري والخيارات التي يفرضها ذلك الواقع، ثم تنتهي بربط الاختيارات بالعوامل النفسيّة للقيادات القطريّة. الطريق الثاني يمكننا من تشخيص أزمة قطر مع نفسها ومع محيطها بشكل أدق، ويجعلنا أقدر على التنبؤ بالقرارات القطريّة المستقبليّة. وبناءً على الطريق الثاني، فإنّه يُمكن القول بأنَّ السياسة الخارجية القطريّة هي نتيجة لاختيارات استراتيجية كانت انعكاساً لأزمة قطرية جيوسياسية.
الواقع الإقليمي المضطرب، وحجم قطر الصغير ديموغرافياً وجغرافياً، وقدْر ثروتها تفرض على القيادة القطرية الإحساس المتواصل بالخوف وتدفعها لترقّب مصيبة قادمة. ولا يُمكن أنْ يُتوقّع من القيادة القطريّة سوى هذا. لمواجهة هذا الخوف والترقّب كان أمام قطر عدّة خيارات استراتيجية. من هذه الخيارات وأكثرها بداهةً كان خيار التحالف مع أحد جيرانها الأكثر قوّة منها، مُقترناً بتحالف مع قوّة عُظمى والسعي لتعويض محدودية قدراتها المادية من خلال تعزيز قوتها الناعمة. خيار آخر كان التحالف مع قوّة عُظمى وفي الوقت نفسه محاولة تفتيت النظام الإقليمي لإضعاف كافة جيرانها الأكثر قوّة منها. الخيار الأول كان يفرض عليها التحالف مع المملكة العربية السعودية والمنظومة الخليجية وذلك لسببين: الأول: هو التحالف الطبيعي نظراً للاشتراك في الثقافة واللغة والتركيبة الاجتماعيّة. والسبب الثاني: هو أنّ الجار القوي الآخر كان إيران، والتحالف مع إيران لم يكن ممكناً لقطر لأنّه سيضر بتحالفها مع القوّة العظمى الوحيدة المتوافرة، أي الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا تدخل العوامل الشخصية لتؤثر على القرار القطري. القيادة القطريّة لأسباب نفسيّة بالدرجة الأولى وكبرياء سياسي لم ترد أنْ تتحالف مع السعودية، وبالتالي ذهبت إلى الخيار الثاني؛ وهو تفتيت النظام الإقليمي ومحاولة إضعاف المملكة وحلفائها وإيران في آن واحد.
وقد وجدت قطر في ما سمُي بالربيع العربي فرصتها لتفتيت الإقليم، وصارت منصة انطلاق للعمليّات السياسية والثورية ضدّ المملكة وحلفائها تحت شعار دعم الديمقراطيّات. لقد رأت أنَّ أمنها سيتحقق من إضعاف جيرانها من خلال صناعة أزمات سياسية واقتصادية لدول الجوار أو للدول الصديقة لدول الجوار، واعتبرت أنَّ ورقتها الرابحة في ذلك هي شبكات وتنظيمات الإسلام السياسي بكافة أطيافه.
وقد يُقال: إننا متحيّزون ضد قطر، ولكن الكلام نفسه يقوله مروان قبلان -مدير وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو مركز قطري- في مقال له بعنوان: “سياسة قطر الخارجية: النخبة في مواجهة الجغرافيا”. حيث يقول بكل صراحة: إنَّ سياسة قطر الخارجية تتلخص في كونها “استراتيجيات النخبة القطرية في مواجهة البنية”. ويشرح هذا بقوله: “تبنت [أي قطر] استراتيجية هجومية في محاولة لبناء نظام إقليمي جديد، تتبوأ فيه مكانًا قياديًا، ويتعارض مع إرادة القوى الكبرى الأخرى في الإقليم ومصالحها”. إذاً نحن أمام تفاعل واقع جيوسياسي قطري مع خيارات النخبة القطرية.
إنّ الواقع الجيوسياسي القطري قدرٌ لا يُمكن تغييره، ولكن خيارات قطر الاستراتيجية ليست قدراً. حِلفها مع الولايات المتحدة كان يكفي لحمايتها إذا كانت تعتبر نفسها مُهدّدة أو كانت خائفة من جيرانها. كان بإمكان قطر تحقيق أمنها الوجودي بدون الاعتماد على تدمير الأمن الوجودي الإقليمي. كان يُمكنها التركيز على بناء قوّتها الناعمة بدلاً من السعي لتدمير ما حولها وتدمير نفسها نتيجة لذلك. الأهم من هذا، كان الأفضل لها الثقة بأنَّه ليس من مصلحة أيّ دولة خليجية تدمير دولة خليجية أخرى. قطر لم تثق بإخوتها الخليجيين، والنتيجة أنَّها وضعت نفسها والجميع على كف عفريت، واستنزفت قدراتها في مسار انتحاري ستكون هي الخاسر الوحيد فيه.