أخيراً ألقى يانج فامينج (رئيس الرابطة الإسلامية الصينية المرتبطة بالحكومة) خطاباً وطنياً خالصاً خلال اجتماعات الدورة الثالثة عشرة للهيئة الاستشارية التابعة لمجلس نواب الشعب الصيني، نقلته وكالة الأنباء الصينية الرسمية (شينخوا) والعديد من وسائل الإعلام المحلية، أوضح من خلاله أن “للإسلام تاريخاً طويلا ومجيدا في البلاد”، في إشارة إلى ما يعرف بـ(الاسلام القديم) الذي وصل إلى الصين منذ زمن بعيد جداً، والذي أصبح اليوم مذهباً إسلامياً صينياً أصيلاً يطلق عليه الصينيون (قا دي مو)، وهو عبارة عن الفكر والتقاليد والعادات التي ورثها المسلمون الصينيون الأوائل منذ دخول الإسلام بلادهم قادماً من جزيرة العرب. ومذهب (القديمو) هو “الإسلام القديم الذي يلتزم الفكر السني الأصيل الذي كان موجوداً في صدر الإسلام، والتمسك بالكتاب والسنة” بحسب تعريف الموسوعة الإسلامية الصينية المعتمدة لدى الحكومة الصينية، حيث يتسم معتنقوه بالتسامح والاعتدال والولاء للوطن والإخلاص لقيادته والانفتاح على العادات والتقاليد الصينية، والانسجام معها، وهو ما تكشفه بوضوح القصص التي يرويها التاريخ الصيني عن علاقات المسلمين الصينيين القدماء بالإمبراطوريات الصينية القديمة، واعتمادها عليهم في العديد من شؤونها، وتقديرها لهم في أمور كثيرة.. بيد أن رئيس الرابطة الإسلامية الصينية (يانج فامينج) حذر في الوقت ذاته من مشكلات ذكر أنها أصبحت واضحة في الأعوام الماضية ولا يمكن تجاهلها، موضحاً أن “البعض يولي تعاليم الدين أهمية أكثر بكثير جداً من أهمية القانون الوطني” في دلالة على انتشار ظاهرة تقديس رجال الدين وطاعتهم العمياء، ولو كان فيه مخالفة للقانون باعتبار أوامر وفتاوى الأئمة وشيوخ الطرق فوق القانون، وكما لو كانت أوامر من السماء، حيث تنتشر مثل هذه المعتقدات التي يعتبرها (القديمو) “دخيلة” في بعض المناطق في الشمال الغربي من البلاد كما في “كاشغر” و”آتوش” و”كوتشار”، حيث توجد مجاميع المسلمين من عرقية الإيغور -على اختلاف مذاهبها سواء أكانت جهرية أم خفية نقشبندية- والذين يحمل بعضهم نزعة انفصالية، ويرفضون الاندماج مع العرقيات الصينية الأخرى، بالإضافة إلى مذهب (الإخوان) وتفرعاته، كمن يطلقون على أنفسهم مسمى الـ(سلفية). وتتميز بعض هذه المجاميع بملابس خاصة وهيئات خاصة تميزهم عن غيرهم من أبناء الشعب الصيني، كـ(الطاقية السداسية) أو الغترة البيضاء أو الشماغ، أو العمائم.. وقد أشار (فامينج) أيضاً في كلمته إلى “أن أسلوب بناء بعض المساجد صار يقلد بالضبط نماذج أجنبية” حيث يظهر بناء القباب -على سبيل المثال- على الطراز التركي النقشبندي، والابتعاد عن المساجد ذات الطراز التقليدي الصيني الأشبه بالمعابد التقليدية الصينية المحلية كالكونفيشيوسية أو غيرها.
وشدد يانج على أهمية أن تتوافق صور ممارسة الديانة داخل الصين مع طبيعة الحياة الصينية، مؤكدا أهمية التعايش وفقاً لثقافة المجتمع وتماشيا مع أعرافه وتقاليده. ولفت إلى أن توافق الممارسات والشعائر الدينية مع الطابع الصيني من شأنه المحافظة على الاعتدال والتصدي لمخاطر التطرف الديني.
وقد قوبلت تصريحات يانج باهتمام واسع في مختلف دول العالم. واهتم الكثير من المراقبين بإشارته إلى “الأسلمة الزاحفة” التي حذر من تسللها داخل البلاد على نحو قد يغير الصورة التي مارس بها المسلمون الصينيون شعائرهم على مر العصور. حيث دخل الإسلام الصين قبل ألف عام تقريباً، واندمج مع المجتمعات المحلية بكل سلاسة، فيما لم تدخل الطرق الصوفية والإخوانية البلاد إلا في القرون الأخيرة -الإخوان أحد مذاهب المسلمين الصينيين المعروفة بهذا الاسم.
وتشير الإحصائيات إلى أن إجمالي مسلمي الصين يبلغ نحو (23) مليون شخص يتوزعون على عدة مقاطعات. وعلى الرغم من أن بكين تكفل بصورة رسمية حرية الأديان؛ فقد شددت الرقابة في الأعوام الماضية في المناطق ذات الغالبية المسلمة، لا سيما في أعقاب وقوع عدة اعتداءات وتفجيرات إرهابية قامت بها مجموعات من عرقية الويجور (الإيغور) المسلمة المتمركزة بمقاطعة شينجيانج الواقعة أقصى غرب وشمال غرب الصين. وأخيرا أعلنت السلطات الصينية أن هناك ما لا يقل عن (300) مواطن صيني من عرقية الويجور (إثنية تركستانية) قد انضموا إلى صفوف داعش، عبر تركيا، ثم انفصلوا عنه وأعلنوا تأييدهم لجبهة النصرة وتحالفوا معها ومع التنظيمات المتطرفة الأخرى في الداخل السوري ذات العلاقة بالإخوان المسلمين كـ”لواء جند الأقصى” و”لواء المهاجرين” و”هيئة تحرير الشام”. كما كونوا لهم تنظيماً شبه مستقل يدعى (الحزب الإسلامي التركستاني في الشام) وصلت تقديرات أعداد مقاتليه إلى بضعة آلاف، يتمركزون في جسر الشغور وإدلب وجبل التركمان في ريف اللاذقية، بحسب مصادر سورية، ويقدم هؤلاء المقاتلون أنفسهم كفرع عن (الحزب الإسلامي التركستاني) الذي تم إنشاؤه في مدينة (كاشغر) عام ١٩٩٣ في إقليم شينجيانج، وأن وجودهم في سوريا مؤقت، كمرحلة إعداد وتجهيز لمعركتهم الأساسية في إقليم شينجيانج الصيني لـ”تحريره” من الصين وإقامة دولة الخلاقة فيه بحسب زعمهم. ويرى مراقبون أن لهذا الحزب ارتباطات بطالبان الصوفية والقاعدة الإخوانية، من الناحيتين العقائدية والحركية، بل وتعتبره الولايات المتحدة الأمريكية إحدى أذرع حركة طالبان، لا سيما وأن مؤسسه وزعيمه الأول (حسن مخدوم) كان قد قُتل وهو في صفوف حركة طالبان في غارة للجيش الباكستاني على المرتفعات بين باكستان وأفغانستان. وتجري أحاديث على نطاق واسع أن (التركستاني) في سوريا يتلقى دعماً مباشراً من جهات تركية، ويقيم فيها معسكرات تعليمية تنمي نزعة الانتماء للقومية التركية، والدعوة للانفصال عن الصين، إذ لطالما كان التضامن مع نضال الأويغور ضد سياسات الاندماج الصينية، جزءاً من السياسة التركية الداخلية. وهذا يفسّر وجود عدد كبير من الأويغور في تركيا حيث تُقدَّر أعدادهم بنحو خمسين ألف شخص.
وفيما تدعي جماعات حقوقية غربية أن العنف في الغرب الصيني ما هو إلا رد فعل على القيود المفروضة على الحقوق الدينية والثقافية للويجور، وتشير في هذا السياق إلى قيام السلطات الصينية بفرض إجراءات مراقبة وسيطرة أمنية واسعة، إلا أن بكين تنفي الاتهامات بحدوث قمع في الإقليم، وأن الأمر لا يعدو كونه بسط النظام والأمن ومكافحةً للتطرف والإرهاب، لا سيما وأن الإقليم يتمتع بحكم ذاتي.
والملاحظ أن سلوك الحكومة الصينية يتسم غالبا بالتسامح مع عرقية الهوي المسلمة بالمقارنة مع قومية الويجور التي توجد لدى بعض فصائلها نزعات انفصالية.
وتشير الدلائل إلى أن السلطات الصينية تكفل معظم الحريات لمسلمي الصين من قومية الهوي، حيث إنهم يتكلمون اللغة الصينية نفسها ويحافظون على مختلف العادات والتقاليد السائدة، شأنهم شأن عامة مواطني الصين.
على سبيل المثال، عام 1989 اندلعت المظاهرات من جانب المسلمين الصينيين في أعقاب قيام مؤلف صيني بنشر كتاب ينطوي على إساءة للإسلام، فقامت السلطات الصينية بحظر الكتاب، ولاحقا قام ممثلو الجمعيات الإسلامية الصينية بإحراق الكتاب في مكان عام بحضور ممثلي الحكومة الصينية.
وفي 2007 والذي تصادف مع العام المعروف في الثقافة الصينية باسم عام الخنزير، قامت الحكومة الصينية بحظر عرض صور الخنزير على شبكات التلفزيون الرسمية، حرصا على عدم إيذاء مشاعر المسلمين الصينيين وتقديراً لهم.
وفي 2015 حين وقعت الهجمات الإرهابية على مجلة تشارلي إبدو الفرنسية التي نشرت الرسومات المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) قامت القنوات التلفزيونية الرسمية الصينية بلوم المجلة الفرنسية. ودعت وكالة الأنباء الصينية الرسمية إلى وضع ضوابط لحرية التعبير، بحيث تحترم الرموز الدينية وبخاصة عند المسلمين. ووجهت جريدة جلوبال تايمز الرسمية الصينية اتهاما للمجلة الفرنسية بمحاولة تهييج واستفزاز مشاعر المسلمين حول العالم، الأمر الذي قد يدفع باتجاه الصدام بين الحضارات.
كما أنه قد يخفى على غير المطلعين، حقيقة أن الحكومة الصينية تمنح المسلمين الحق نظاماً بالحصول على إجازة مدفوعة الأجر في أيام الأعياد الإسلامية في جميع أنحاء البلاد، كما تقوم الحكومة بإعلان أيام الأعياد الإسلامية عطلةً رسمية في المقاطعات ذات الأغلبية المسلمة.
ولكي نفهم أسباب هذا الاحترام الصيني البليغ تجاه المسلمين ينبغي أن ندرك أهمية الدور الذي قام به المسلمون الصينيون وما قدموه من تضحيات وإسهامات في مختلف المراحل التي سطرها التاريخ الصيني. على سبيل المثال، خلال حكم الإمبراطور (هونج وو) مؤسس أسرة مينج، كان هناك (6) جنرالات مسلمين من ضمن النخبة المقربة من الإمبراطور، بمن فيهم القائد العسكري (لان يو) الذي تمكن عام 1388 من قيادة جيش الإمبراطور إلى ما وراء سور الصين العظيم، ليحقق نصرا حاسما على قوات المغول، واضعا بذلك نهاية لكل طموحات المغول في إعادة غزو الصين. وكان من بين أبرز القادة في ذلك الجيش قائد مسلم آخر هو (فينج شينج) الذي لعب دورا أساسيا في تحقيق النصر.
لا غرابة –إذن- أن يحتفي الإمبراطور بهؤلاء القادة، بل وأن يكن تقديرا خاصا للإسلام ذاته. حتى إنه كتب بنفسه العديد من الرسائل في مديح الإسلام والرسول (عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم) وأمر ببناء المساجد في مختلف المقاطعات.
لاحقا سطعت في سماء الشهرة شخصية أخرى صعدت من أوساط المسلمين هي “زينج هي” (أهم وأشهر رحالة صيني) الذي تولى قيادة الأساطيل الصينية في سبع رحلات تاريخية عبر المحيط الهندي، في الفترة من 1405 إلى 1433. ولا يزال الصينيون حتى اليوم يتذكرون “زينج هي” بالكثير من الإعزاز والإجلال. وما زالت مختلف الدوائر الصينية تداوم على إقامة الاحتفالات في ذكراه، حيث تقام العديد من الفعاليات لإبراز جهوده والإشادة بإنجازاته. ولا يزال ذلك البحار هو أحد الرموز اللامعة التي ترتبط في الوعي الجمعي الصيني بأمجاد الحضارة الصينية في أزهى عصورها.
من هنا، فإن غالبية العرقيات المسلمة في الصين تحظى بالحرية في الحفاظ على موروثها وممارسة شعائرها، إلا أن تصريحات رئيس الرابطة الإسلامية قد أثارت تكهنات لدى بعض المحللين بأن الصين قد تكون في طريقها لفرض المزيد من الضوابط والقيود على مختلف العرقيات المسلمة التي تعتنق أفكاراً صوفية أو إخوانية أو سلفية، بما في ذلك عرقية الهوي التي ظلت تحظى بالحريات وظلت ترتبط بعلاقات طيبة مع الحكومة الصينية ومع مختلف أطياف المجتمع.
ففي شهر يناير (كانون الثاني) قامت السلطات التعليمية في مدينة “جوانج هي” ذات الأغلبية المسلمة بحظر حضور الأطفال للدروس الدينية خلال عطلة رأس السنة الصينية التي استمرت لبضعة أسابيع، مطالبة أولياء أمورهم بجعل أطفالهم يتمتعون بالإجازة التي ترتبط بالثقافة الصينية والموروث الوطني، ومنع إرغامهم على حضور الدروس الدينية على الطرق الصوفية أو المذاهب الإخوانية. كما تم منع استخدام مكبرات الصوت لرفع الأذان في بعض المناطق، لما قد يسببه ذلك من إزعاج للسكان وكبار السن، وبخاصة في أوقات المساء والفجر. ويشير عدد من الأئمة إلى أن مثل تلك التعليمات كانت تصدر شفاهيا من جانب السلطات الصينية في السابق، إلا أن المسلمين كانوا غالبا ما يقابلونها بالتجاهل.
وردا على تساؤلات بعض وسائل الإعلام الغربية حول هذه الضوابط، أصدرت الجهات المتحدثة باسم الحكومة تصريحا أشارت فيه إلى أن الدستور الصيني ينص على فصل الدين عن الدولة، مؤكدة أن الدوائر المختصة بالشؤون الدينية تحرص على إضفاء الطابع الصيني على الديانات الموجودة داخل الصين، وأنها تقف جادة في وجه تسرب الأيديولوجيات الدينية المتطرفة إلى داخل البلاد.
كما سارعت جريدة جلوبال تايمز الصينية الرسمية بتسليط الضوء على تلك القضية. حيث أشارت في عدة مقالات نشرت أخيرا إلى أن المسؤولين الصينيين حذروا من ممارسات إسلامية وافدة وغريبة على المجتمع الصيني، في إشارة إلى حلق الذكر الصوفي في الشوارع، ومراسم عاشوراء، ومظاهر التمييز في اللباس أو نشر الكراهية بين أطياف المجتمع على أساس ديني.
ونقلت الصحيفة عن شين جيوبينج (الخبير في الشؤون الدينية بمعهد الدراسات الاشتراكية الصيني) قوله بأن غلبة المظاهر الدينية على شؤون الحياة من شأنه تهديد طبيعة الحياة العلمانية في الصين، وأن توسع تلك الظاهرة قد يؤدي في النهاية إلى إحداث الفرقة ونشوب النزاعات بين فئات المجتمع. وأضاف “شين” بأنه في حال تبنى المسلمون الصينيون صورا من ممارسة الشعائر الوافدة من بلدان أخرى، وابتعدوا عن الممارسات المتوارثة داخل الثقافة الصينية، فإن ذلك من شأنه أن يمثل تهديدا للتجانس والوحدة الوطنية داخل الأراضي الصينية، مما قد ينجم عنه عواقب وخيمة في المستقبل.