يواجه تدريس الفلسفة في العالم العربي مشكلة مزدوجة: الأولى: ترتبط بتراجع اهتمام السياسات التعليمية بالدرس الفلسفي في المدارس والجامعات لصالح تضخم العلوم الطبيعية والرياضية، فضلاً عن العلوم التي تكفل المعارف التقنية؛ والثانية: التخوف من إدراج مقررات الفلسفة في المناهج التعليمية خصوصاً في عدد من دول الخليج لا سيما في المراحل الثانوية؛ ومرد هذا التخوف اتهام “الفلسفة” بتهديد الدين الإسلامي والعقيدة، هذا إلى جانب توجس “الأنظمة السياسية” من المقدرات التي تمنحها الفلسفة للطالب على مستوى بناء العقل النقدي والتساؤلي؛ أي ضداً من العقل الاجتراري/ الإذعاني.
إذا نظرنا –على سبيل المثال- إلى المملكة العربية السعودية، يتم تحريم تدريس الفلسفة، وإن وجدت في أقسام معينة، تُقدم في سياق موقف شيخ الإسلام ابن تيمية منها أو انطلاقاً من رد أيديولوجي/ ديني يعود إلى موقف حنبلي سلفي. يستند التحريم إلى فتاوى دينية عدة. جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية أنه “لا يجوز لمسلم أن يدرس الفلسفة والقوانين الوضعية ونحوهما، إذا كان لا يقوى على تمييز حقها من باطلها خشية الفتنة والانحراف عن الصراط المستقيم، ويجوز لمن يهضمها ويقوى على فهمها بعد دراسة الكتاب والسُنَّة، ليميز خبيثها من طيبها، وليحق الحق ويبطل الباطل ما لم يشغله ذلك عمّا هو أوجب منه شرعاً، وبهذا يُعلم أنه لا يجوز تعميم تعليم ذلك في دور العلم ومعاهده، بل يكون لمن تأهل له من الخواص، ليقوموا بواجبهم الإسلامي من نصرة الحق ودحض الباطل”. في المقابل ثمة أصوات أكاديمية ونخبوية سعودية كثيرة طالبت بتدريس الفلسفة في الثانويات وتخصيص أقسام لها في الجامعات السعودية، هذا عدا النشاطات الثقافية التي تحظى بها الفلسفة في بعض المراكز الثقافية وفي مقدمتها “النادي الأدبي بالرياض” الذي أسس “حلقة الرياض الفلسفية“ التي تسعى إلى عقد نشاط ثقافي مرتين في الشهر وتناقش أوراقاً فلسفية عدة.
إن أزمة الفلسفة، تدريساً وإنتاجاً، لا تقتصر على الأقطار العربية إنما تتخذ طابعاً عالمياً. يتحدث الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه (Régis Debray) عن “تآكل الأطر القديمة لانتقال المعنى وتراجع الاهتمام بالدراسات الإنسانية الكلاسيكية والاختصاصات الأدبية التي شهدت تفوق الإعلام البصري وتوزعاً ديموغرافياً جديداً في المؤسسات التعليمية، وشهدت كذلك نمطاً من المقاربة التقنوية الشكلانية للنصوص المدرسية والآثار الثقافية، همّشت قليلاً أو كثيراً، ما يطلق عليه صاحب «في مديح الحدود» «اختصاصات المعنى القديمة» (الآداب، الفلسفة، التاريخ، الفن) (انظر: تجارب كونية في تدريس الأديان، تعريب وإعداد: محمد الحدّاد، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، 2014).
تنبه الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum) في كتابها “ليس للربح: لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الإنسانيات” من “الأزمة الصامتة” التي ترزح تحتها الإنسانيات (ومن ضمنها الفلسفة) في المجتمعات الغربية بسبب “تغيرات جذرية تحصل فيما تُعلمه المجتمعات الديمقراطية للصغار”. تقول: “في كل أمم العالم فعلياً، يتم اقتطاع الإنسانيات والفنون في كلا مرحلتي التعليم الأولية/ الثانوية والكلية/ الجامعة. ينظر إليهما صناع السياسية كرتوش لا فائدة منها، في وقت يجب على الأمم الاستغناء عن كل ما ليس له قيمة لتبقى في مجال تنافسي داخل السوق العالمية، يتم خسارة مكانهما في المنهج، وفي عقول وقلوب الأهالي والأطفال أيضاً”، وذلك من أجل تعزيز المهارات والعلوم التي تناسب الإنتاج الربحي وسوق العمل. (انظر: مارثا نوسباوم، الأزمة الصامتة، ترجمة: فاطمة شملان، موقع حكمة، 16 سبتمبر/ أيلول 2016).
تأتي هذه السطور أعلاه تعقيباً على استفتاء طرحه مركز المسبار للدراسات والبحوث على موقعه: “هل تؤيد تدريس الفلسفة في مدارس وجامعات الوطن العربي؟” بدأ في شهر يناير (كانون الثاني) وانتهى في منتصف فبراير (شباط) 2018، ووضع المُستفتين أمام ثلاثة خيارات: نعم- لا- مؤيد لكن بشروط. تجاوب مع الاستفتاء (699) شخصاً جاءت أجوبتهم على النحو التالي: نعم، (329) بما نسبته (47.1%)؛ لا، (131) بما نسبته (18.7%)؛ مؤيد لكن بشروط (239) بما نسبته (34.2%).
نتائج الاستفتاء (يناير/ كانون الثاني- منتصف فبراير/ شباط 2018)
يمكن قراءة نتائج هذا الاستفتاء من نواحٍ عدة: من الناحية العددية (أي عدد المشاركين في الاستفتاء) لا يوجد تفاوت كبير بين المؤيدين (329)/ (47.1%) وبين المؤيدين ولكن بشروط (239)/ (34.2%)، كما أن رفض (131) لتدريس الفلسفة مؤشر سلبي لا يُطمئن، وإذا ما قاربنا هذا الرفض من نسبة المؤيدين ولكن بشروط، فهذا يسمح لنا بالافتراض أن الشريحة المُشترطة من المصوتين لديها محاذير ضمنية لجهة تدريس الفلسفة في المدارس والجامعات، وتالياً فإن نسبة المصوتين بلا/ ومع شروط/ محاذير هي النسبة الأكبر. وعلى الرغم من صعوبة التعرف على الفئات العمرية التي شاركت في الاستفتاء، فمن المرجح أن تكون من الفئة الشبابية والفئة العمرية المتوسطة، مع أهمية الإشارة إلى الخلفية الأيديولوجية والعلمية والبحثية لزوار موقع المسبار (النسبة الأكبر من زوار الموقع خلال الثلاثة أشهر الماضية من السعودية تليها مصر والإمارات العربية المتحدة ومن ثم الجزائر والعراق) الذين من المتوقع أن يكونوا من المهتمين بالظاهرة الإسلاموية، كون المركز يُعطي الأولوية في كتبه الشهرية ومنشوراته للحركات الإسلامية السلفية والسياسية والجهادية. يمكن أن نتقدم بالفرضية التالية بناء على الخلفية الأيديولوجية: إذا كان المشاركون في الاستفتاء من الذين أجابوا بـ”لا” (131) بما نسبته (18.7%) من خلفيات إسلاموية، فإن التصويت بــ”لا” متوقع. ولكن لماذا؟ لأن العقلية الإسلاموية إنما هي عقلية مسكونة بـ”ضدية الفلسفة” أو “الضد العقلي” بمعنى “العقل الضدي التكفيري” على قاعدة “من تمنطق فقد تزندق”. نستحضر هنا مقالاً تحت عنوان: “برامج الفلسفة وجيل الضياع” لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي شنّ فيه حملة على الفلسفة قائلاً: “إن درس الفلسفة ليغدو -إذا لم نحدد انتماءنا الثقافي- ليس عديم الفائدة في علاج ما نعانيه من مشكلات فحسب، بل عنصر تخريب وتدمير وتشتيت في ميدان النفس والمجتمع”. ويدعو الغنوشي إلى استبدال نصوص الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والقاضي عبدالجبار بنصوص الإسلاميين أمثال: حسن البنّا وسيد قطب والمودودي، معتبراً أن تدريس الفلسفة كما هو معمول به في كل المعاهد التونسية، هو زجّ بتلاميذنا “في وادي الضياع والحيرة والتبعية الثقافية”. ويرى أن تدريس ماركس، وفرويد وسارتر في برنامج الفلسفة بتونس كارثة على الأجيال الناشئة، منتقداً برنامج الفلسفة الإسلامية الذي يبث بعض آراء المعتزلة. (انظر: المزوغي، محمد: منطق المؤرخ: هشام جعيّط: الدولة المدنية والصحوة الإسلامية، منشورات الجمل، بيروت، الطبعة الأولى، 2014، ص169-170-172؛ انظر نقلاً عن المزوغي: الغنوشي، راشد: “برامج الفلسفة وجيل الضياع” ضمن، مقالات، منشورات حركة الاتجاه الإسلامي، 1984).
جدول زيارات موقع المسبار حسب الدول خلال الثلاثة أشهر الماضية
وبالعودة إلى الاستفتاء نطرح فرضية ثانية حول نتائج الإجابة بـــ”لا”: إذا كان المصوتون من دون أي خلفية إسلاموية، فهذا يدل على قلة الوعي حول أهمية تدريس الفلسفة في المدارس والجامعات في العالم العربي، إما بسبب الجهل أو الخوف على الدين، انطلاقاً من الشعار القائل “الإسلام لا يحتاج إلى فلاسفة”، على اعتبار أن الدين يرتكز على الحقيقة المطلقة، والفلسفة بطبيعتها تنطلق من تعدد الآراء والنقد. لا يمكن أن نغفل الجانب السلبي الذي خلفه عدد من الأئمة والمفتين بشأن الفلسفة في التاريخ الإسلامي الكلاسيكي والمعاصر. نستدعي -على سبيل المثال- فتوى ابن الصلاح الشهرزوري [ت 643هـ] الذي حرم الفلسفة والمنطق والاشتغال بتحصيلهما، وهذه الفتوى الداعية إلى إبطال العقل استمد منها الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري (1260-1309) مقولة “إسقاط التدبير”. يقول الشهرزوري في فتواه: “الفلسفة أسّ السفه والانحلال، ومن تفلسف عميت بصيرتُه عن محاسن الشريعة المطهرة، أما المنطق فهو مدخل الشرّ ومدخل الشرّ شرّ؛ فليس الانتقال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع…” أما استعمال المصطلحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية؛ فمن المنكرات المستبشعة والرقعات المستحدثة؛ فمن تمنطق “تزندق”. (انظر: السكندري، أحمد بن عطاء الله: التنوير في إسقاط التدبير، تحقيق: محمد عبدالرحمن الشاغول، المكتبة الأزهرية للثرات، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007).
إن النتائج التي خرج بها استفتاء المسبار حول تدريس الفلسفة في المدارس والجامعات في العالم العربي لا تشي بمؤشرات إيجابية علماً بأن النسبة الأكبر هي من المؤدين (329) مصوِّتاً (47.1%). ولا شك أن هذا الاستفتاء يعكس -إلى حد كبير- محنة تدريس الفلسفة عندنا، فقد شهدت تراجعاً خطراً في العقود الأخيرة في غالبية الدول العربية. في الإمارات العربية المتحدة –مثلاً- لا تُدرس الفلسفة في المرحلة الثانوية (الثانويات الرسمية) راهناً، وقد أُلغيت أواخر تسعينيات القرن المنصرم، بقرار من وزارة التربية والتعليم، حيث كانت تُدرَّس مادتا “التفكير الفلسفي” و”التفكير المنطقي” (القسم الأدبي)، وأُدرجت بعض المحاور التي ترتبط بالفلسفة في الصف الثاني عشر (أدبي)، ضمن مقرر علم النفس حيث يُعطى الطالب مواد مثل “مهارات التفكير الناقد” و”مهارات التفكير الإبداعي. (انظر: حال تدريس الفلسفة في العالم العربي، مجموعة باحثين، إشراف: عفيف عثمان، تنسيق، ريتا فرج، المركز الدولي لعلوم الإنسان بييلوس، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، 2015).
إن تحفيز الدرس الفلسفي في الثانويات والجامعات العربية عموماً والخليجية خصوصاً قضية ملحة يفرضها شرطان: بناء العقول الناقدة والواعية والمنفتحة على العالم وتعدد الأفكار والآراء تحديداً في سن المراهقة، حيث تكثر الأسئلة حول الإنسان والدين والله والوجود؛ وتفعيل تدريس الفلسفة من أجل محاربة التطرف والعنف الديني والأصولية والإرهاب، وهي أذرع تنمو في البيئات الاجتماعية التي تستبطن الذهنيات القطعية واليقينية والإطلاقية؛ بمعنى أدق الفلسفة ضداً من الأصولية الدينية وضد اليقينيات.
والحال، لماذا علينا أن نُدرِّس الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا؟ الحاجة إليها تفرضها ثلاث قضايا: الأولى: الفلسفة هي ضد العنف والأصولية والوصاية والأحكام الإطلاقية؛ الثانية: تربية الأجيال على العقل النقدي والسجالي؛ الثالثة: الفلسفة ضرورة إنسانية لأنها تضفي المعنى على الإنسان من أجل إشباع حاجاته المعرفية حول ذاته والعالم الذي تجتاحه الثقافة الرقمية والتكنولوجية التي تُهمش الوجود الإنساني.