لا يمكن عزل معركة الحديدة عن عملية استيعاب الخطر الإيراني في المنطقة ومن اليمن تحديدا، وهو خطر تصدى له التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، بشكل تدريجي، عن طريق “عاصفة الحزم” منذ ما يزيد على عامين.
عاجلا أم آجلا ستتحرر الحديدة وتخرج من سيطرة الحوثيين (أنصار الله). المدينة ساقطة عسكريا، كذلك المطار والميناء. لكنّ القوات التي تتولى الهجوم، ومعظمها من “لواء العمالقة” الجنوبي المدعوم من وحدات يقودها وزير الدفاع السابق هيثم قاسم طاهر والعميد طارق محمد عبدالله صالح، ابن شقيق الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، تريّثت قليلا. لجأت إلى التريّث بغية تفادي سقوط ضحايا مدنيين من أهالي الحديدة وهي من أكبر المدن اليمنية. هؤلاء لا حول لهم ولا قوّة وهم معروفون بأنهم قوم مسالمون وجدوا أنفسهم فجأة تحت رحمة الحوثيين وإرهابهم وجهلهم.
تكمن أهمية الحديدة في أن الانتهاء منها يغلق البحر الأحمر والساحل اليمني كلّه في وجه الحوثيين، الذين سارعوا إلى التمدد في اتجاهها مباشرة بعد سيطرتهم على صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2014.
ما كان لافتا -وقتذاك- ليس إعلان غير مسؤول إيراني أن بلاده صارت تتحكم بأربع عواصم عربية هي: بغداد، دمشق بيروت، وصنعاء فحسب، بل بدأ الكلام الإيراني أيضا عن القدرة على التحكم بخطوط الملاحة في الخليج. اعتبرت إيران أنها تسيطر على مضيق هرمز، مدخل الخليج، ومضيق باب المندب الذي هو المدخل الإجباري إلى قناة السويس.
من هو موجود في ميناء المخا اليمني إنما يستطيع إغلاق قناة السويس. أمّا ميناء الحديدة الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، فهو يمتلك مهمتين: من الحديدة يمكن إطلاق هجمات في اتجاه سفن مبحرة في البحر الأحمر أوّلا، ومن الحديدة يمكن، ثانيا، تهريب كلّ أنواع الأسلحة الآتية من إيران ومن الأسواق الدولية، والتي تهمّ الحوثيين. في مقدّمة ما يهمّ “أنصار الله” الصواريخ الباليستية الإيرانية التي تنتجها إيران، والتي تطلق من الأراضي اليمنية في اتجاه الأراضي السعودية. تغلق استعادة قوات تابعة للشرعية اليمنية تلعب دورا محوريا في تنظيف الشاطئ من الوجود الحوثي، أي الوجود الإيراني، ملفّ ابتزاز المملكة العربية السعودية الذي أرادت طهران استغلاله انطلاقا من اليمن. أرادت أن تجعل من اليمن شوكة في خاصرة دول الخليج عموما والسعودية على وجه التحديد.
ستشكل استعادة الحديدة نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة. سيكون طرد الحوثيين من الميناء والمدينة والمطار بمثابة إغلاق للحدود البحرية لليمن أمام إيران. ستظل هناك عمليات تهريب تمارس برّا وبحرا، لكنه لن يعود ممكنا إرسال أسلحة ثقيلة إلى “أنصار الله” المتحصنين في منطقة لا منفذ بحريا لها. الأهم من ذلك كلّه أن إغلاق ميناء الحديدة سيغلق مصدر تمويل أساسي للحوثيين الذين اعتمدوا على حركة الميناء لجمع الضرائب والخوات التي عادت عليهم بملايين الدولارات. أكثر من ذلك، سمح الميناء، الذي تستورد منه المواد الغذائية والوقود، للحوثيين بجعل أهل الحديدة نفسها وأهل صنعاء والمناطق المحيطة بها تحت رحمتهم.
بدأ كلّ شيء بانطلاق “عاصفة الحزم” التي فاجأت الإيرانيين قبل غيرهم. فالحوثيون لم يتمددوا في اتجاه الحديدة فقط، بل توجّهوا جنوبا وبلغوا عدن بعد الالتفاف على تعز، عاصمة الوسط، كبرى مدن اليمن وأكثرها كثافة سكانية.
كان الهدف من السيطرة على عدن إظهار أن الحركة الحوثية قادرة على أن تحكم البلد كلّه وأن عهدا جديدا بدأ في اليوم الذي دخل فيه “أنصار الله” صنعاء قبل أقلّ بقليل من أربع سنوات من الآن.
كان إخراج الحوثيين من عدن ضربة قويّة لإيران على طريق إفشال مشروعها اليمني. تلت ذلك عملية إخراج “القاعدة” من المكلا في حضرموت. فـ”أنصار الله” و”القاعدة” وجهان لعملة واحدة هي الإرهاب الذي يرتدي لباسا سنّيا أحيانا، وشيعيا في أحيان أخرى.
كانت معركة عدن في غاية الأهمّية. وأدت إلى ربط ميناء المدينة التي هي عاصمة الجنوب بمينائها ومطارها بشبكة أمنية ذات طابع إقليمي تتجاوز اليمن إلى بحر العرب ومنطقة القرن الأفريقي بضفّتيه العربية وغير العربية.
بعد عدن والمكلا، جاء دور ميناء المخا الذي كانت السيطرة الحوثية عليه مدعاة فخر لإيران؛ نظرا لأهمّيته الاستراتيجية. في الواقع، قلبت “عاصفة الحزم”، على الرغم من كلفتها الكبيرة، كلّ الحسابات الإيرانية في اليمن. وجاءت معركة الحديدة المستمرّة منذ أسابيع عدة لتؤكد أن لا مستقبل للوجود الإيراني في اليمن، وأن هذا البلد لا يمكن أن يكون قاعدة إيرانية. وفي حال وجدت قاعدة إيرانية في اليمن، سيكون هناك حصار لهذه القاعدة.
ستتحرر الحديدة في القريب. المسألة مسألة وقت ليس إلّا. لو لم يكن تحرير الحديدة مسألة جدّية لما كان مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث، الذي زار صنعاء أخيرا، حصل على عرض من القيادة الحوثية في شأن مستقبل ميناء الحديدة. تقبل القيادة الحوثية بوجود للأمم المتحدة في الميناء، لكنها تريد استخدام المنظمة الدولية لإبقاء سيطرتها عليه وعلى ما يوفره لها من موارد. مثل هذه الأحابيل لم تعد تنطلي على أحد، بمقدار ما هي وسيلة كي يتفادى “أنصار الله” وزعيمهم عبدالملك الحوثي الهزيمة الجديدة المقبلة عليهم.
قبل كلّ شيء يعرف قادة القوات التي تقترب من الحديدة أن الحوثيين من النوع الذي لا يؤمن لهم، وأن اللغة الوحيدة التي يفهمونها هي لغة القوة. لعلّ أكبر دليل على ذلك غدرهم بعلي عبدالله صالح الذي أقام شراكة معهم، وسعى إلى تنسيق سياسي وعسكري معهم في مرحلة معيّنة. عندما وجدوا أنّه لم تعد فائدة منه أقدموا على قتله بدم بارد، من منطلق أنّ لديهم حسابات قديمة يريدون تصفيتها معه.
ما لا بدّ من التفكير به الآن مرحلة ما بعد الحديدة، أي مرحلة ما بعد الانتهاء من السيطرة على كلّ الساحل اليمني. ما لا بد من الاعتراف به أن الحوثيين ما زالوا أقوياء في الجيب الذي يسيطرون عليه في صنعاء. وفي غياب قوى تابعة للشرعية تمارس عليهم ضغطا في صنعاء انطلاقا من مأرب بالذات، سيلجأ “أنصار الله” إلى تكرار تجربة غزة في مناطق سيطرتهم، خصوصا في صعدة وعمران وصنعاء وذمار وجزء من إب وحجة. إلى متى يستطيعون الاستمرار في هذه التجربة، أي تجربة “حماس” في غزّة؟
هناك نقاط تلعب ضد الحوثيين وأخرى معهم. ما يمكن أن يلعب ضدهم في مرحلة ما بعد الحديدة أن فقدان الميناء سيقلص كثيرا من إمكاناتهم المالية، كما سيقلص عدد الصواريخ التي سيحصلون عليها، هذا إذا لم يقض على أي أمل لديهم في الحصول على صواريخ.
ما لا يزال يلعب في مصلحتهم طبيعة المنطقة التي يسيطرون عليها، وهي منطقة جبلية، فضلا عن أن قبائل الطوق التي تتحكم بصنعاء ما زالت موالية للحوثيين. هناك من يستثمر في هذه القبائل، نكاية بالسعودية والإمارات، أي بالقبائل التي لعبت دورا أساسيا في عملية سحب الغطاء عن علي عبدالله صالح تمهيدا لاغتياله. إلى جانب ذلك، هناك ضعف كبير للشرعية في مناطق مثل مأرب أو تعز. هذا عائد إلى تركيبة هذه الشرعية من جهة، والروح الانتهازية المترسخة في الإخوان المسلمين من جهة أخرى.
ما يلعب ضد مصلحة الحوثيين عدم امتلاكهم أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو حضاري من أيّ نوع، باستثناء القدرة على ممارسة الإرهاب مع المواطن اليمني في كل منطقة من المناطق.
السؤال في نهاية المطاف في غاية البساطة: كم يمكن أن تستمرّ تجربة “حماس” في غزّة في مكان اسمه اليمن؟