ليس النّواب وحده مَن توهم، أو جهل ماذا ستخلف له القوى الدّينيّة السّياسية، فذاب بجهيمان ومِن بعده خميني، وكان نزار قباني السّباق إلى اعتبار خميني قمر شيراز، ويساريون، ممِن يُشار إليهم بالمفكرين أو الفلاسفة، غربيون وعرب، قد اعتبروا الخميني أملهم في التغيير، لكنها أيام وشهور وبانت مقدمات الثّورة التي أخرجت اليسار والديمقراطيين، مِن مجالها، لتؤسس دولة إسلاميّة يديرها الولي الفقيه، وتفرض قوانينها، وتضطهد رجال الدين والأفندية، ممَن لم يتوافق مع خيال الخميني بولاية الفقيه. غير أن مظفر تجاوز وتأخر بمديح خميني بعد أن تراجع الكثيرون، وكان ينظر للأمل مِن عقل جهيمان والخميني معًا.
الهنديّ العِراقيّ
في البدء لي اعتبار الشَّاعر محمّد مظفر النَّواب عبقريًّا، فالعبقريّة لا تقتصر على المخترع أو المكتشف، إنما الذّكي الحاذق، أكثر مِن سواه، له أن يُعرف بالعبقريّ، ومظفر النّواب (تـ: 2022)، عبقريته أنه تمكن مِن المفردة الشّعبيّة العراقيّة، فكانت قصائده الشَّعبيَّة مزاميرَ، تغنى بها الصّغار والكبار، بينما هو مِن أب وأمّ، لا يُجيدان العربية ناهيك عن اللهجة العراقيّة، إلا بحدود التّفاهم، حسب صديق طفولته وجيرانه لأربعين عامًا، الصّديق رضا منتظر.
ولد مظفر في أسرة حلت بالعراق قبل ميلاده (1934) بسنوات، فظلت تتحدث بالهندية بينها، فلا الجد ولا الأب ولا الأمّ كانوا يتحدثون العربية بطلاقة، وظل مظفر نفسه يتمكن مِن التّحدث بالهنديّة، لكن الأسرة ومظفر فاقوا عراقيين كثيرين بعراقيتهم، ومظفر يعد مِن فصحاء العربية، كما تفوق في المفردة الشعبيّة العراقيّة فصاحةً.
حدثني الملحق والقنصل الثّالث في السّفارة الهنديَّة الأسبق بدمشق، الصّديق الكاتب والباحث ذِكر الرَّحمن، أحد كُتاب “وجهات نظر” في جريدة “الاتحاد” الإماراتية، ورئيس “مركز الدّراسات الإسلاميّة” بنيودلهي حاليًا، سألني في أحد لقاءاتنا بأبو ظبي، عن مظفر النَّواب، على هامش مؤتمر “الاتحاد” السّنويّ، الذي يُعقد عادةً في العشرين مِن أكتوبر (تشرين الأول) مِن كل عام، وكان الحديث سنة (2012)، واستغربتُ أنه سألني عن محمّد مظفر النَواب (هكذا أورد اسمه)، والمعروف عندنا مظفر النّواب، الاسم المفرد لا المركب، فأول مرة أعرف أن اسم مظفر كان مركبًا.
لما استفسرت عن علاقته بمظفر، قال: إنه كان، في مطلع الثَّمانينيات، مِن القرن الماضي، ملحقًا، والقنصل الثّالث، في سفارة الهند بدمشق، فأتى محمَّد مظفر إلى السّفارة طالبًا تجديد جوازه الهندي، لأنه هندي الأصل، ومِن حقّه هذا، فجددنا له الجواز، وأخبره أنه بالأصل من كشمير، مِن بيت النَّواب، وكانوا أمراء هناك (الحديث لمظفر)، وأخبره بأنه كان معه جواز سفر عراقيّ أيضًا، لكنه منتهي الصّلاحيّة، ولديه مشاكل مع النِّظام العراقي (السَّابق)، فلا يستطيع تجديده، فأخذ يستعمل الجواز الهنديّ، فجددوه له؛ ولما سألته: هل كان مظفر يتحدث الهنديّة؟ قال: يتحدثها، ولكن ليس بطلاقة، وشبهه لي بالعربي الذي يعيش بالهند، أو الهندي الذي يعيش ببلاد عربيّة، مع أنه يتحدث العربية بطلاقة، والكلام للقنصل الهنديّ، وحسب ما قاله له مظفر: إنه أراد باستعمال جوازه الهنديّ حماية نفسه.
قال ذِكر الرّحمن، وكتب لي هذا، وما تقدم من حديث، بعد أنّ طلبته منه، وكنتُ واهمًا أن ما جرى كان بليبيا، وأنا أعد لهذا الموضوع (رسالته الصوتية مؤرخة في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2023): فهمتُ منه أنه كان مِن عائلة “نواب”، ومعناها بالهندي “الأمير” عندما يكون الأمير مسلمًا، يقابلها “المهراجا” عندما يكون الأمير هندوسيًّا، والمعنى غير النَّواب بالعربيّة.
أتيت بما سمعته مِن الصّديق الدُّكتور ذِكر الرّحمن لتأكيد عبقريّة هذا الرّجل، أنه شغل العراقيين والعرب كافة بقصائده الشّعبيّة والفصحى، والتَّمكن مِن المفردة، حتّى تستغرب كيف يكون صاحب العبارة السَّابحة بالخيال، والمليئة بالعاطفة “هُودَر هواهم وِلَك/ حَدر السَّنابل قطى/ يا بو مْحابس شَذر/ يَلْشاد خزامات”، هو نفسه القائل: “خل الدّم يجي طوفان كلنا نخوض عبريّة”.
إلى جانب ذلك كان مظفر رسامًا، أقمنا له معرضًا بلندن في ديوان الكوفة، عرض أعماله وبيعت أغلب اللّوحات، عُرضت تحت عنوان “مظفر النَواب اهتمامات تشكيليَّة وحوار” في (5 يونيو/ حزيران 1995). كان صاحب الدِّيوان المعماري المعروف محمّد مكيّة (1914-2015)، فقال لي، وقتها مظفر: عملت في مكتب مكيّة ببغداد في الخمسينيات، ثم “طردني”، قالها وهو يضحك، وخلال المعرض كان قد أقام أمسية تجمع بين الشّعر والغناء بصحبة ذائع الصّيت بالعراق سعدي الحديثي، وقد عملا البروفات صباحًا في قاعة الدّيوان.
غير أنّ لمظفر النّواب روايته، المعتمدة على الذّاكرة الأُسريّة، كما يرويها هو، ولا يوجد تحقيق عنها: “خرجت العائلة من الجزيرة إلى العراق، وفي أيام اضطهاد العبّاسيين، رحلت إلى منطقة كشمير في الهند؛ وحكمت جانبًا من المنطقة. بعدئذ، بعد دخول البريطانيين، كانت هناك مقاومة وتم نفيهم، وخيروهم فعادوا إلى العراق لوجود العتبات المقدّسة، ولأنهم قدموا من العراق أصلاً، فمنذ الصغر ونحن نسمع عن هذا التاريخ” (حديث لمظفر النّواب، لمجلة الدِّراسات العربية الفصليَّة، العدد 2، خريف 1996، أجرى الحوار: سنان أنطوان). من الصعب اعتماد هذه الرواية، وتفاصيلها من العصر العباسيّ، فهل كانوا من الثوار العلويين مثلاً، أما لأنهم شيعة؛ فكبار فقهاء الشيعة وعوامهم ظلوا مقيمين بالعراق. لكن نذكر ما جاء على لسانه.
عندما توفي مظفر ظهرت كتابات خادشة، فيها تجنٍّ واعتداء، مِن دون أن تحسب حساب منزلة هذا الرّجل في الشّعر العراقيّ والعربي الحديثين؛ فعلى الرّغم مِن صلاته مع أنظمة كانت سخية على المعارضين لبلدانهم، فإنه لم يجنِ لا مالاً ولا منصبًا، إنما اكتفى بالشّعبيّة الثّوريّة، وكان التّصفيق لأي كلمة يتفوه بها، بالفصحى، وكثير منها كان هتافات، مع أنّ قصائده الشّعبيّة بالذات العراقيّة كان بمثابة معلقات، حتّى صارت لرقتها بريد الهوى بين العراقيين، والثّوريّة منها كانت مغناة في السّجون، ومَن لم يحفظ له قصيدته “البراءة” (1963- 1964)، التي قالها لرفاقه الشّيوعيين لوقف انكسارهم بالبراءة التي كانت تُطلب منهم؛ مقابل إطلاق سراحهم مِن المعتقلات.
في مديح جهيمان
غير أنَّ مظفر النّواب، وبعد حين، صار يدعو بقصائده إلى الجبهات بين الإسلاميين واليساريين، ولا أدري إذا ما كان الذين دعوا (بعد 2003)، إلى قيام الجبهة بين التيار الصّدري الإسلاميّ، وحزب اليسار الحزب الشّيوعيّ العراقيّ، وتحقق ذلك بالفعل، وفشل فشلاً ذريعًا. غير أنَّ مظفر كان له السّبق في هذه الدّعوة، عندما لام إلى حد الشَّتم اليسار العربيّ على عدم تلاحمه مع حركة جُهيمان العتيبي (نوفمبر/ تشرين الثّاني 1979)، وقد صرح بذلك في قصيدته “الأساطيل”، أو مثلما اشتهرت: “يا جُهيمان حدق”، وكرر هذا اللوم في قصيدته، غير المشتهرة، كشهرة قصيدة “جهيمان”، التي خاطب بها الخميني.
إنّ قصيدته في جهيمان (1979-1980)، التي سبقت قصيدته في الخمينيّ (1984)، دفعت عنه تهمة الطّائفيّة؛ فمثقف مثل مظفر النّواب، لا ناقة ولا جمل له بالطائفيّة، فالبعض أخذ هذا الأمر عليه، عندما أكثر بذكره لعلي بن أبي طالب والحُسين بن عليّ، وشتمه لعمرو بن العاص مثلاً ، مثلما جاء في وتريات ليلية، التي شاعت عبر الكاسيت لا عبر الإذاعات والجرائد حتى نُشرت في مجموعته الشّعرية “وتريات ليلية”، ومنها: “لعليٍّ يتوضأ بالسّيف قُبيل الفجرِ/ أُنبيك عليًّا ما زلنا نتوضأُ بالذُّل/ ونمسحُ بالخرقةِ حد السّيفِ” (ديوان وتريات ليلية، 1979). كانت هذه القصيدة وغيرها، تعكس المزاج الشّعبي بالبلدان العربيَّة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالقضية الفلسطينيَّة، وتتصاعد هذه الشّعبيّة بين الفلسطينيين بالخارج، واليسار بشكل عام.
كتب مظفر النّواب ممجدًا جُهيمان العتيبي (أُعدم: 1980)، وهو لم يعرف شيئًا عنه، إلا أنّه ثار ضد المملكة العربيّة السّعوديّة (اعتصم في المسجد الحرام في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1979)، بطبيعة الحال، من ناحية المنطق، كان مظفر النّواب، كمثقف وصاحب اتجاه فكري يساري، هدفًا لجهيمان وجماعته، وفكرته المهدويّة، أخذ مظفر طلب التّمرد، فلا يهمه أن يتحقق على يد أي أحد، ثائر أو متمرد، ولو ظل مظفر يفكر بالمنطق نفسه لقال قصيدة في أبي مصعب الزّرقاويّ (قُتل: 2006) مثلاً، وأن يكون أُسامة بن لادن عنده يعادل جيفارا (قُتل: 1967)، فهو القائل: “لهم وجه واحد في روحيّ”، كل المتمردين كافة على الأنظمة، بينما لم يكن الزّرقاويّ ولا بن لادن إلا خلاصة مِن خلاصات جهيمان العتيبيّ، لكنَّ الزّمن اختلف، فمظفر في هذا الوقت أخذ يتردد على الخليج العربي، ثم الاستقرار بالشّارقة ورأس الخيمة مِن الإمارات العربيّة المتحدة، مع إقامة وعناية طبية، وزار بغداد واُستقبل هناك، وبغداد تحت الاحتلال الأميركيّ.
دوى صوت النَّواب، عبر الكاسيت، في قصيدة “الأساطيل”، الخاصة بتمرد جهيمان، حتّى إنّها بعد حين قيل نشرت في جريدة عراقية، وذكر هو في مقابلته المشار إليها أنها “الثّورة العراقيّة”، النّاطقة بلسان حزب البعث العربيّ الاشتراكي، سنة (1990-1991)، وحرب الخليج الثّانيّة تتوافد لها الأساطيل، والعراق في أعلى خلافه أو عدائه للمملكة العربيّة السُّعوديّة، كجزء من منظومة اليسار وعداواته التّقليديَّة مع الأنظمة الملكيّة العربيّة، مع صورة الشّاعر، مع أنه كان مِن المنبوذين مِن قِبل النّظام العراقيّ السّابق (مجلة الدّراسات العربيّة، المصدر نفسه). لكن بعد تحقق وجدنا أن الثّورة لم تنشرها، وربما أحدهم نقل لمظفر هذه المعلومة خطأً، أو لغاية ما، أو كان توهمًا من مظفر نفسه، ففي الأحاديث ومقابلاته هناك أوهام، كأنه تبناها حقائق.
دعا النّواب في قصيدته إلى حرق الخليج، وسد منافذه، وإشعال الثّورة بدوله، مع شتائم وتحريض، بصوت تغلب عليه نبرة البكاء والصّراخ، وبحماسة الإلقاء: “مرحبًا مرحبًا أيها العاصفة/ أيها الشَّعب احش المنافذ بالنَّار/ أشعل مياه الخليج/ تسلح وعلم صغارك نقل العتاد كما ينطقون/ إذا جاشت العاطفة”.
ثم تصعد النّبرة بلوم اليسار، ومناشدة جهيمان كبطل ثوريّ، وليس ذلك الظّلاميّ، الذي اعترض على وجود سينما، وظهور المرأة على شاشة التلفزيون السّعوديّ، والعودة إلى صدر الإسلام الأول، كما يعتقد، فقال: “يا جهيمان حدق/ فما يملكون فرائصهم/ نفذت نفذت/ زرعتهم قرحًا/ ونفذت بعيدًا فأصلابهم عاقرة/ فإذا طوفوا كان وجهك/ أو سجدوا/ فالدِّماء التي غسلوها تسد خياشمهم/ ومناخيرهم وقلوبهم الآثمة”. إلى قوله: “لم يناصرك هذا اليسار الغبي/ كأن اليمين أشد ذكاءً/ فأشعل أجهزة الروث/ بينما اليسار يُقلب في حيرة مجمعه/ كيف يحتاج دمٌ بهذا الوضوح/ إلى معجم طبقيّ لكي يفهمه/ أي تفوُّه بيسار كهذا/ أينكر حتّى دمه/ مرحبًا.. مرحبًا.. مرحبًا أيها العاصفة/ مرحبًا أيها العاصفة” (قصيدة الأساطيل).
لا نناقش القصيدة على أنها نظرية فكرية؛ ولا نتعامل معها إلا في زمانها، وفورة الشّاعر الثّوريّة، لكن مع ذلك حتّى الشّاعر، وخياله الجامح، غير الرَّاسي على واقع مِن الحوادث، مع كل هذا الاعتبار، لا يقول الكلام على عواهنه، أنّ يتحول عنده الظَّلامي متنورًا، وأقصى اليمين يغدو عنده جوهرًا لليسار، لكن شخصية جهيمان وفكره وممارسته الظّلاميّة كانت مغطاة عن عيون مظفر النّواب، ليصبح عنده ذلك الثّوريّ، الذي سيبني دولة العمال والفلاحين، مثلما يريدها مظفر النّواب، وعلى هذا وصف اليسار بالغبي، وأن الثّورة، أكانت دينيّة أو غيرها، تعبر عن طموح اليسار.
هل يرضى جهيمان باليسار حليفًا؟
يختلف محمد مظفر النَّواب؛ فهو يُساق مع عاطفته مع الممدوح أو المذموم مِن قِبله؛ لم يقرأ شيئًا عن السّلفية المحتسبة، التي كانت بمثابة تنظيم جهيمان العتيبيّ؛ ولم يعطِ نفسه فرصة للتعرف على منطلقات ممدوحه جهيمان الفكرية والحركيّة، فانطلق مبالغًا في ثوريته، وأنه سيعمر الأرض لا يبدأ بخرابها، وكذلك فعل مع الخمينيّ عندما مدحه، وسيأتي الحديث، لم يتوقف عند فكرة “ولاية الفقيه” المدمرة، والتي بُنيت على روايات مختلف عليها، لهذا لا يُحسب لدعوته، وإن كانت شعرًا ثوريًّا، أي حساب أو اعتبار، فالأمر كله مبني على تهييج، بدون أي فكرة لنتائج ما يدعو له.
إذا أخذنا دعوة مظفر النّواب، خارج مزاج الشّعر، “وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (الشعراء: 224-226)، وأخذناها كنظرية، فهل كان جهيمان يرضى باليسار، مثلما هل كان التَّيار الصّدري صريحًا بالتَّحالف مع اليسار، مثلما دعا البعض إلى التحالف معه، وما نتيجة هذا التحالف؟! معلوم أنَّ التّيار الصّدريّ الدّينيّ يظهر أقل تشددًا مِن “الجماعة السّلفيّة المحتسبة”؛ وهي الجماعة التي قادها جهيمان واحتل بها الحرم المكيّ.
أين ذهب ذلك الصراخ، وهل تراجع عنه مظفر النّواب؟! تراجع عندما وجد المصفقين له، في مديح جهيمان ثم الخمينيّ، يسمعون الألفاظ صوتًا، رنين أجراس ثوريّة، بلا أدنى تفكير بالمعاني والأهداف، يوجههم الصّوت الغاضب، وبعد حين عاد مظفر ووجد نفسه في أحضان الخليج، الذي لم يحاسبه على تحريض أو شتائم.
كان مظفر النّواب، وغيره مِن شعراء الثورات، في وقتها، يرون في معمر القذافيّ (قُتل: 2011) أملاً للأمة، ولم تعنهم الجثث التي كانت تُصلب على الأعمدة، باسم الثّورة، وتحرير فلسطين. عاد مظفر إلى بغداد، وجسده مجرد شبح، أنهكه المرض والتّرحال، واستقبله في داره صاحب عِمامة، كان يُقيم الولائم للمحتلين الأميركان، وزير الخارجية الأميركي والحاكم المدني الأميركي على العراق، وكانا بصحبة الجنرالات، وشارك بالتَّصويت أو الانتخاب، الذي وفرته أميركا بإسقاط النظام السابق، لم يسع مظفر في هذا الوقت للتفكير بهذه اللحظة، مثلما لم يكن يفكر، عندما صرخ: “يا جهيمان حدق”، بأنه واليسار كافة كانا هدفًا لجهيمان، وأبنائه من بن لادن والزّرقاوي والبغدادي.
لم يدر مظفر، وكل الذي أرادوا لجهيمان الانتصار، أنه لم يكن أرحم مِن داعش ولا القاعدة، في سبي الإيزيديات والمسيحيات، وأخلوا المدن والقرى مِن أهلها، وتدمير معالم التّقدم، واعتبار الآثار أصنامًا حطموها بالفؤوس، كان سيحصل ذلك لو سمعت دعوة مظفر لتحالف اليسار مع جهيمان، وانتصر جهيمان وبويع خليفةً، ومع ذلك هناك مَن لا يزال يصفق، وينتصر لهدم أنظمة وبلدان، مِن دون معرفة ولا اطلاع على عقيدة “السّلفيّة المحتسبة”، بل لا مظفر ولا المصفقين، قد سمعوا بهذه الجماعة، بل ألبسوا زعيمها قناع جيفارا، ودعوا إلى حرق الخليج، وهم لا يعلمون أن ابن كاسترو قد حل في يوم ما ضيفًا على الرّياض، وأن ثوريين اتخذوا مِن بلدان الخليج مقرات للإقامة والعمل والاستشفاء.
في مديح الخمينيّ
مثما صعَّد جهيمان إلى السّماء، وجعلها نبيه الثّوريّ، فعل ذلك مع الخمينيّ، ولا أظنه قد قرأ “الحكومة الإسلاميّة” لممدوحه، ولا توقف عند بشاعة الإعدامات، ولا نظر في ممارسات قاضي قضاته خلخالي. كان انتصار الثّورة الإيرانيّة، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة (1979)، ووجود مرشدها آية الله روح الله الخمينيّ (تـ: 1989) على رأسها، حافزًا لحركة جهيمان العتيبيّ ليكون خميني السُّنة مقابل خمينيّ الشّيعة، ولو انتصر لحصل الاقتران والاتفاق، لكنّ مظفر لم تطربه الثّورة الإيرانيّة، في لحظتها، مثلما أطربته حركة جهيمان، فتأخرت قصيدته بالخميني حتّى (1984)، وهو العام الذي ضرب به الخميني اليسار الإيرانيّ، الممثل بحزب تودة (تأسس 1948)، أي الحزب الشّيوعي الإيرانيّ، الذي أحبط خيال مظفر في تحالف اليسار مع القوى الدّينية، فقال معظمًا ومعاتبًا الخميني، مما كان يفصح عنه في الجلسات الخاصة، وما سُجل بصوته، وهو يخطئ مرة أخرى، بأنْ ربط مستقبل الثّورة بوجه جهيمان الآخر، الخُمينيّ، فقال له: “كيف سنلقي زهرةَ البيعةِ/ والعتابِ في يدِ الإمام/ مبايع أصالتي بالحجرِ/ الأساس منزلٌ يُقام/ مبايعٌ طيني وحبٌ كُلّه/ روح بلا منزلها بلا سَلام/ مبايعٌ أنَّك بين/ الدُّول الكُبرى الإمام”.
ثم يذم اليسار، الذي لم يتحالف مع الإسلاميين، لومه له في خذلان جهيمان، لكن الأمر آخر في الثّورة الإيرانيّة، بدأها اليسار، وبشخص الخميني صادرها الإسلاميون، فحزب تودة (الحزب الشّيوعيّ الإيرانيّ) شارك في الثّورة، قبل الإسلاميين أنفسهم، وتحالف تحت قيادة الخمينيّ، لكنه الخطأ نفسه، عندنا صار الزّمام بيدهم، اكتشفوا أن هذا اليسار كافر، يجب أن يُمسح مِن على وجه الأرض، على يد الذي أعلن مظفر مبايعته، وألقى زهرة البيعة في يده! فقال: “أما ترى الذِّئاب قد عوت أجوافها مِن الوحام/ كيفَ اليسارُ كاليمنِ/ هكذا الضّياء كالظَّلام”.
كان النّظامان، العراقي بزعامة صدام، والإيراني بزعامة الخمينيّ، ضربا الحزبين الشِّيوعيين، العراقيّ والإيرانيّ، ولا يُزايد أحدهما على الآخر في خطاباتهم مع القضية الفلسطينية، وما فعله الخميني باليسار عين ما فعله صدام حسين (أٌعدم: 2006)، لكن ترى مظفر يتحدث مع الخميني معاتبًا، على ما حصل بالحزب الشيوعي (تودة) 1984، مِن إعدامات وسجون وظهور على الشّاشات على أنهم جواسيس، عتاب المريد للشيخ، أو التابع للإمام.
شتم اليسار
ناشد مظفر الخميني مادحًا وذامًّا صدام: “تفتحُ قرآنًا على القُدسِ صباحًا/ وبها مهما أعاقتك النُّفايات خِتام/ مبايعٌ حرية الإنسان لا/ شرط سواها إذ هي التزام/ مبايعٌ وبخصام/ أما ترى الذِّئاب قد عوت أجوافها مِن الوحام/ كيفَ اليسارُ كاليمنِ/ هكذا الضّياء كالظَّلام/ مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ قومية الذّئاب أو منافق زُئام/ كيف اليسارُ كالظَّلام/ بعض اليسارِ سيدي به فصام/ عاش على موائد الحرام/ بعضٌ وليس البعضُ في الكُّلِ احتكام/ لا لم يكن يومًا عليٌّ وسطًا بين الوراء والأمام”. وهذا الطّائفي الثّعلبي عند مظفر هو صدام حسين.
يقصد مظفر بقوله: “بعض اليسار سيدي به فصام”، عدم الالتحاق بجهيمان والخميني، لكن أليس حزب تودة وقف بصف الخميني، ومهد له ما صار إليه مِن سُلطة، فماذا فعل به؟! ما تقدم، مِن إعلاء شأن جهيمان والخميني الثّوري، ونقد اليسار لعدم الالتحاق بالأول وتمجيد الخميني ثوريًّا، كان مظفر السَّبعينيات والثَّمانينيات، لكن بعدها وجد نفسه في حلٍ مِن ذلك، فلم يذهب إلى إيران الخميني، وقاسم سليماني (قُتل: 2020) يؤسس الميليشيات المدمرة، ويسطو على بغداد بها، ويقتل بها شباب العراق، ولم ير في مخلفات جهيمان، داعش والقاعدة، غير الدمار والترويع، فاستقر بالخليج الذي دعا إلى حرقه وإسقاط أنظمته، ولم يعاند ما شاهده مِن عُمران، وهو القائل في الماضي “مرحبًا مرحبًا أيها العاصفة”. تجده كتب في سجل ضريح مؤسس الإمارات الشيخ زايد، الملحق بمسجده الكبير، تعظيمًا لهذا الباني، حتّى لا يُفهم أنه كان انتهازيًّا، وهذا بعيد جدًّا عن مظفر النَّواب، قالها قبل أن يحل معززًا مكرمًا، حتّى وفاته بإمارة الشّارقة. هذا، وليس لنا إلا القول: إنَّ مظفر أوهمته الحوادث وسحرته، أن يجعل جهيمان والخميني سيدي الثَّورات، وبأنهما سيُحققان أهدافه الثّوريّة، فالمزاج العام كان معهما، فلابد للشاعر ألا يكون مخالفًا.
نزار سبق مظفر
لم يتوقف الأمر على مظفر النّواب، فشعراء عرب الشّمال سبقوه إلى الحلم الوردي بالخميني وثورته، فاليسار والشّعراء (اليساريون أو القوميون أو المعتقدون بالاثنين)، يرونها ثورةً مِن نوعٍ آخر، أيّ لم تكن انقلابًا عسكريًّا، ولم تحمل سمة عقائدية، كانت مطلبية، حالها حال انتفاضة تشرين (2019) ببغداد، مطلبية كادت تقود إلى تغيير شامل للوضع المزري، لكن قضي عليها بنتائج الثّورة الإيرانيّة نفسها، فمدير تشتيتها وقتل شبابها كان أحد أولاد تلك الثورة قاسم سليمانيّ (قُتل: 2020)، والقوى الدِّينية التي انقضت عليها هي مِن صناعة تلك الثّورة. فكان الاعتقاد أنها ثورة بطهران نبعت من بين النّاس، وكانت في بدايتها هكذا، قبل التفاف الإسلاميين عليها، وتحويلها إلى عقيدة دينية طائفيّة، وهذا يحتاج إلى حديث طويل، ليس مِن صلب مقالنا.
كذلك لم يكن نزار قباني (تـ: 1998)، ومظفر النَواب، وحدهما من مجدوا آية الله الخميني، أو ما اُصطلح عليه مِن قَبل بـ”لاهوت التَّحرير”، فيساريون كبار صفقوا للخميني وتراجعوا، ومنهم مَن دس رأسه في الرّمال، بعد النَّتائج التي أسفرت عنها الثّورة في شهورها الأولى، ومنهم مَن ظل معتزًّا بخطيئته، كالشّاعر الذي قضى جل حياته يمدح رئيسًا، وهو يعرف كغيره أن رئيسه كان يشرب الدّماء، وبعد سقوط الرَّئيس، ظل معتزًّا بالمديح، لأنه وجد له مصفقين في المنافي.
قد يكون نزار قبانيّ سبق الشّعراء، مظفر النواب وغيره، بقصيدته إلى الخمينيّ، وما كنا نظن أنَّ نزارًا كان بهذه السّذاجة، معتبرًا الخميني سيدحر “الفرس”، وأن ثورته لإخراج الفرس مِن إيران، ولم يكن يعلم أنَّ عروبة (حسب ما تقول عمامته السَّوداء إنه مِن آل النَّبي الهاشمي) الخميني وهنديته (أسرة هندية نزحت من كشمير إلى النَّجف ثم إلى خمين بإيران)، سيكون ضد الحلم الكسروي، بالإطاحة بتاجه، ولا يعلم نزار أن العمامة استبدلت بالتّاج، فقال فيه بعد وصفه بـ”قمر شيراز” عنوان قصيدته:
“زهرُ اللّوز في حدائق شيراز/ وأنهى المعذبون الصِّيامَ/ ها هم الفُرس قد أطاحوا بكسرى/ بعد قهرٍ وزلزلوا الأصنامَ/ شيعٌ سُنةٌ جياعٌ عطاشٌ/ كسروا قيدهم وفكوا اللّجامَ/ شاه مصرَ يبكي شاه إيران/ فأسوا ملجاٌ لليتامىَ/ والخُمينيّ يرفع الله سيفاً/ ويُغني النّبيّ والإسلامَ/ هكذا تصبح الدِّيانةُ خلقًا مستمرًّا/ وثورةً واقتحامَ” (تسجيل فيديو بصوت الشّاعر).
وماذا بعد
لم نكتب هذا تخطئةً ولا تصويبًا، إنما تعجبًا مما حصل، كانت الألوف تصفق معه حماسةً، وتُردد معه “أشعل مياه الخليج تسلح/ وعلم صغارك نقل العتاد/ كما ينطقون/ إذا جاشت العاطفة”، وقد جاشت العاصفة فأفرزت ما أفرزت. حتّى عجبنا مما قاله الخميني وهو يزور مقبرة “جنة الزّهراء”، حال عودته إلى إيران (1979): “ينبغي القول بأن محمَّد رضا بهلوي، هذا الخائن الخبيث، قد رحل وفرَّ، وترك كلَّ ما لدينا هباءً منثورًا، لقد دمر بلادنا، وعمر مقابرنا” (3 ربيع الأولى 1399)! لكنّ كم مِن المقابر عمرها الخميني، حتّى إنَّ مراجع دين، مِن درجة آيات الله العظمى، لم تُعرف لهم شواهد قبور، كآية الله محمد كاظم شريعتمداريّ! وضحايا الميليشيات وسليماني، تملأ مقابرهم البلدان، فكيف ببقية الخصوم، والإصرار على استمرار الحرب! أما جهيمان العتيبي، فهل لو تمكن مِن الحُكم سيفعل أقل وحشيةً مما فعله الزّرقاويّ والبغداديّ مثلاً؟! حلمٌ عاشه مظفر النّواب، وعلى الرّغم مِن صحوته مِن الخيال، لكن المصفقين ما زالوا يحلمون وينادون: “يا جهيمان حدق…”.