دبي
تطلب إصدار كتاب (الإسلام الموازي في تركيا: البكتاشية وجدل التأسيس) (الكتاب الثالث عشر بعد المئة، مايو/ أيار 2016) مجهوداً بحثياً كبيراً، فلا تتوافر مراجع عربية كافية تساعد الباحثين على فهم هذه الطريقة الصوفية والتأريخ لها ماضياً وحاضراً، في حين نحصل على مئات الدراسات والمصادر في اللغات التركية والإنجليزية والفرنسية. من هنا جاءت الحاجة إلى ضرورة إيلاء البكتاشية الاهتمام المطلوب لسببين: الأول: افتقار المكتبة العربية للدراسات المعنية في هذا الحقل. والثاني: حاجتنا الراهنة للإضاءة على طريقة صوفية/ توفيقية ترتكز على التسامح في علاقتها مع الأديان والمذاهب كافة؛ مع أهمية الإقرار بقلة وجود أُطر إيمانية وأنماط من التدين بين المسلمين، خارجة على أشكال التسنن أو التشيّع التقليدي.
تأسيس الإسلام الموازي: التصوف الشعبي في الأناضول
يعرض أحمد محمود محمد إبراهيم (الباحث المصري في التاريخ الإسلامي) في دراسته للتيارات الصوفية في التاريخ الإسلامي عموماً وتاريخ الأناضول خصوصاً. وفي المقدمات التمهيدية والتاريخية ركز الباحث على “الإسلام النصي” و”الإسلام الشعبي”. وقد رأى أن التصوف واجه معارضةً حادة من قِبَل الإسلام السُّني، إبان القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ثم شهد القرن الرابع (العاشر الميلادي) تحسنًا ملحوظًا لأوضاع التصوف والصوفية في البيئات السُّنية، حيث اتجه طائفةٌ من أعلام التصوف إلى التوفيق بينه وبين الفقه، مع التنظير المعرفي لمعالمه الرئيسة؛ فألَّف الطوسي (ت 378هـ/988م) كتابه “اللمع”، وصنَّف الكلاباذي (ت 380هـ/990م) كتابه “التعرف لمذهب أهل التصوف”، ودوَّن القشيري (ت 465هـ/1072م) الرسالة التي نُسبت إليه، وهي “الرسالة القشيرية”، فجاءت وصفًا وافيًا لتعاليم التصوف من وجهة نظر فقيه شافعي ومتكلم أشعري.
يؤكد بعض الباحثين أن الإسلام الشعبي كان مشحونًا بألوان من البدع والهرطقات، وخصوصاً في إيران والأناضول، بسبب تداخل البيئات وامتزاج العادات وتلاقح الأفكار والمعتقدات. وقد قَرَن كولن تيرنر (Colin Turner) بين تسلل البدع والهرطقة إلى الإسلام وبين الغلو أو التطرف، فعرّف الغلاة بأنهم “أولئك الذين كانوا مسلمين اسميًّا، ولكنهم تبنوا عقائد هرطقية، إلى درجة تخرجهم عن نطاق الإسلام ذاته.
يعالج الباحث السياسة الدينية لسلاطين سلاجقة الروم في الأناضول لافتاً إلى أنهم أرسوا دعائمَ بنية قوية للإسلام السُّني في مدن الأناضول، واضطروا في سبيل تحقيق ذلك إلى استدعاء كثيرٍ من العلماء والفقهاء من إيران وسوريا والجزيرة، وتشجيعهم على الاستقرار بالأناضول في ظل رعاية الدولة؛ فلا جرم كان للعناصر العربية والإيرانية الوافدة دور حاسم في تشكيل حضارة الأناضول وصوغ صورة الإسلام السُّني بمدنها.
أوجدت السياسة الدينية التي اتبعها المغول في المشرق الإسلامي مناخًا متقبِّلاً لمختلف الميول والنزعات الدينية، الأمر الذي أفسح الطريق أمام نمو حركات الغُلُو الصوفي/الشعبي، وخصوصاً في إيران، ومنها انتقلت إلى بلاد الأناضول التي لم تنقطع هجرات القبائل التركمانية إلى أراضيها. وكانت تلك القبائل تدين بإسلام فارغ من المضمون (النصي/الفقهي)، متأثِّر بالأفكار الشامانية التي عززها الوجودُ المغولي.
وقد تزامن انتشار التصوف الشعبي مع ضمور “الإسلام النصي” وتآكل بُنَاه التقليدية، فانحسرت مفاهيم الشريعة، واعتزت الأقوام الرحل (وخاصة التركمان) بتقاليدها ونظم حياتها. وبعبارة أخرى فقد امتدت حركاتُ الغلو الصوفي ممتزجةً بأهواء شيعية واضحة في الفراغ الديني الذي صار إليه المشرقُ الإسلامي بسبب الغزو المغولي. ومن التقاطع بين التصوف والتشيع والغلو ومواريث الثقافات المحلية تكوّن ما سمي “التصوف الشعبي الهرطقي.
البكتاشية.. مجمل الدراسات والبحوث وعلاقاتها الدينية
يتناول الباحث المصري في التاريخ الإسلامي أحمد عبدالمنعم العدوي في القسم الأول من المبحث تاريخ الدراسات البكتاشية، وقد روعي في وضعه أن يكون بمثابة دليل للباحثين العرب الراغبين في دراسة جانب من جوانب تاريخ أو عقائد تلك الطريقة الصوفية، ذات الصلة الوثيقة بالتاريخ السياسي والديني للدولة العثمانية.
أما القسم الثاني، فقد ألقى الضوء على تاريخ الطريقة البكتاشية، منذ النشأة وحتى الربع الأول من القرن العشرين. حيث تناول بالدراسة البكتاشية في مرحلة النشأة والتكوين، ثم في مرحلة الإمبراطورية، ثم محنتهم في عهد السلطان محمود الثاني. وأخيرًا تاريخ البكتاشية بين الحظرين، أي الفترة من عام 1826 إلى عام 1925.
عني القسم الثالث من الدراسة بإظهار علاقة تلك الطريقة بالإسلام بصفة عامة، وما إذا كان ثمة ديانات أخرى لعبت دورًا ما في تشكل عقائد وممارسات البكتاشية. والظروف التي أدت إلى اتخاذ عقائد وممارسات تلك الفرقة ذلك الاتجاه التلفيقي.
لقد عكس ذلك الخليط من المعتقدات والممارسات ذلك التأثر الشديد بديانات ومذاهب متباينة، انصهرت معًا في شكل عقيدة جديدة، كان الهدف منها -على ما يبدو- توحيد سكان الأناضول، مختلفي الأعراق والديانات والمذاهب واللغات، تحت راية واحدة.
قراءة في كتب الصوفية البكتاشية
يلاحظ دوغان قبلان (أستاذ في كلية لاإلهيات في جامعة نجم الدين أربكان بقونيا )تركيا() أن هناك إرباك عميق في المجتمع التركي والطرف المعني بماهية العلوية والبكتاشية، ذلك لقلة المصادر. لأن هذه المسألة من الموضوعات الساخنة في السياسة التركية منذ بضع سنين. المنظمات العلوية والبكتاشية تتقدم بطلبات شتى من الحكومات التركية، من ضمنها إعطاء الوضع الحقوقي لمراكزهم الدينية “جم خانه” (Cemevleri) ودفع الرواتب لشيوخ العلويين “ده ده” (Dede ) الذين يخدمون في تلك المراكز… إلى آخره من الطلبات.
يتحدث البحث عن مشروع نشر مصادر العلويين والبكتاشيين، ويحلل تلك الآثار من حيث المحتوى لا سيما أصولهم، ويتحدث عن إمكان تعريف العلويين والبكتاشيين حسب مصادرهم.
إن تثبيت عقيدة أو فكرة يكون عبر مصادرها أولاً، وليس عن إشاعة أو أقاويل حولها. وهذه إشكالية تعيشها العلوية والبكتاشية في يومنا الحاضر.
وفي مقالة علمية تحتوي على تقويم اثني عشر كتاباً نشرت عن العلوية والبكتاشية، كانت هناك تعريفات متناقضة فيها مثل: إن أصل العلوية والبكتاشية يعتمد على الشيعة، أو على الشامانية، أو على الثقافات القديمة في الشرق الأوسط والأناضول، أو على التوفيق بين الأديان (syncretisme). وكان معظم المؤلفين من أصل علوي. لماذا كانت هناك مناهج متناقضة حول هذه القضية. لأن المسألة مرتبطة بتاريخ العثمانيين، وبالفصل المذهبي السني والعلوي في الوقت نفسه، والسياسة القاسية بين الطرفين. لذلك ليس عجبا أن نرى السنيين العاديين والعلويين العاديين مختلفين مع بعضهم البعض.
البكتاشية والتلاقح الإسلامي- المسيحي كما رواها فريدريك وليم هاسلوك
يرى الباحث السوري في تاريخ الأديان تركي المصطفى أن البكتاشية نشأت واشتد عودها في بيئة مليئة بالتناقضات، وقد كان لنشأتها هذه أثر في اختلاف النظر حولها، ومحاولة تفسيرها، والحديث حول نشوئها نشوءاً مستقلاً، أو كونها تلفيقاً جديداً لا يطابق اعتقاداً من الاعتقادات السالفة مطابقة كلية، وإن كان يشبهه على نحو جزئي.
هذا الخلاف يعود إلى طبيعتها الباطنية التي تقف حائلاً دون القطع بوجه من وجوه التفسير، كما هو الشأن في أمثالها من الظواهر الدينية الباطنية، كما تقف حائلاً دون القطع بوجه من وجوه الاستمداد؛ فنحن مع إدراكنا المطمئن إلى صلتها الوثقى بمذهب الشيعة، لا يمكننا أن نعدها فرعاً له، أو نعده مصدراً أو أصلاً لها.
يرى الباحث أن عديداً من النصوص يمكن أن تؤكد العلاقة العقائدية بين البكتاشية والمسيحية، غير أنه لا ريب أن البكتاشية الذين يؤكدون أن مذهبهم إنما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأن الطريق يبدأ بالتزام الشرع، لا يقرون بذلك. ولا بد من الإشارة –هنا- إلى أنه فيما “يتعلق بتعاليم هذه الطائفة، هناك مسافة واسعة بين ما ينسب إلى الطائفة، وما يقوله البكتاشيون عن ذاتهم. وربما يعود ذلك إلى أن البكتاشية تنظيم مراتبي؛ يعطي لكل مرتبة فيه نصيباً معيناً من المعرفة، بحيث إن الأهداف الحقيقية تبقى محصورة في فئة ضيقة للغاية.
إن الأنموذج المصنوع الذي تتخذه الدعوة البكتاشية لها فيما بين مسيحيي روميلي، إنما هو شخصية “صاري صالتق”. وأعتقد أنه، من حيث أصله، ولي قبليٌّ، حدثت بينه وبين القديس نيكولاس “مطابقة أو توحيد”، على نحو عام، ويبدو أنه شغل عدداً معيناً من الكنائس التي كانت مكرسة لهذا القديس في القسم الشرقي الأوروبي من تركيا. وقد تكون هذه الكنائس أقحمت في أسطورة صاري صالتق من خلال رحلة تطوافه الأولى، وهي تصل هذه الكنائس بمغامراته المشكوك فيها في أوروبا، وتنتهي بموته وبالتحول العجائبي لجثمانه إلى سبعة جثامين، دفنت أربعة منها في تركيا ودفنت ثلاثة منها في أوروبا المسيحية.
الله في بلد النسور: الطريقة البكتاشيّة
بعد فترة من الأهميّة السياسيّة البالغة عند انحلال الإمبراطوريّة العثمانيّة، وقع حظر الطريقة البكتاشية كليّاً من قبل النظام الشيوعي في ألبانيا، حين أصبحت ألبانيا الدولة الملحدة الوحيدة في العالم. لكن بفضل الممارسات السرّية لجماعة البكتاشيّة في المنفى، بقي الدين حيّاً وانتشر في بلدان عدّة. وفي 1988، ضمن الدستور الجديد حريّة العبادة، واستردّت المعتقدات البكتاشيّة مكانتها في المجتمع الألباني، وعاد بلد النسور إلى تقليده العريق في التسامح، وسُمح للبكتاشيّين والمسيحيين والمسلمين -سنّة وشيعة- بالصلاة جماعة في جبل توموري، حرم الآلهة في ألبانيا.
تركّز الباحثة الألبانية إدليرا عصماني على موضوع المعتقدات الدينيّة الألبانيّة، وأساساً العقيدة البكتاشيّة. تعتبر العقيدة البكتاشيّة مساوية للأديان الأخرى في ألبانيا التي تمثّل مركز البكتاشيّة العالمي، إذ كثيراً ما توصف البكتاشيّة بأنّها الدين الأصلح للألبان، بوصفها جسراً بين المسيحيّين والمسلمين، والحال أنّه كثيراً ما يوصف الألبان بأنّهم شعب ذو مشاعر دينيّة ضعيفة.
يلقي الباحث الضوء على التاريخ الألباني منذ العصور القديمة إلى اليوم، ويسعى أن يقدم فهماً أفضل لروابط الألبان بالدّين، وفي الوقت ذاته كيف أثّرت لحظات تاريخيّة معيّنة في اختياراتهم الروحيّة.
ظهور البكتاشية والإشراف على الإنكشارية
يسترجع أحمد يونم (رئيس قسم المذاهب الإسلامية في كلية الإلهيات في جامعة (Çanakkale Onsekiz Mart) )تركيا)) جذور الطريقة البكتاشية الصوفية من بدء ظهورها بين التركمان، وكيف أنها في بادئ الأمر ازدهرت في محيط سني. وبمرور الوقت لم يعد من الممكن أن يدوم هذا الحال؛ لأن بالم سلطان وسائر الحروفية والملاحدة والزنادقة أثروا على عقائد تلك الطريقة، فأبعدوها عن طريق أهل السنة. ومن ثم قادوا الطريقة إلى الاصطدام بالدولة في نهاية الأمر. وعلى الرغم من ذلك يذكر للبكتاشية ذلك الأثر الكبير وغير المنكر في أسلمة الأناضول، ودورها السياسي الكبير في ازدهار الدولة العثمانية.
وعلى الرغم من العلاقة الوثيقة التي كانت بين البكتاشية والدولة العثمانية السنية، فإن البكتاشيين يعتقدون -كمثل القزلباش- في الأئمة الاثني عشر، والمعتقدات القلندرية والحروفية، والاعتقاد في التجرد موجود أيضًا (والثالوث: الحق، محمد، علي) ولهذا أطلق البكتاشية على بالم سلطان لقب البير الثاني .
الرمز البكتاشي: الأئمّة الاثنا عشر
كان لقاء الخبيرة الروسية في الثقافات الشرقية إيرين ميليكوف (1917-2009) بإحدى العرّافات (الشامان) في منطقة ناغورني ألطاي (Nagornyj Altaj) في آسيا الوسطى، فرصة لإعادة تفسير بعض الطقوس والمعتقدات البكتاشيّة العلويّة في الأناضول، في ضوء المعتقدات الشامانيّة السائدة قبل الإسلام. وتتساءل الكاتبة – في الدراسة التي ترجمها وأعدها الباحث التونسي محمد الحاج سالم – عما إذا كان تقديس الأئمة الاثني عشر عند الشيعة البكتاشيّة في الأناضول، قد عوّض اعتقاداً قديماً في المنطقة يقدّس الحيوانات الاثني عشر المتحكّمة في الكون ومصير البشر، والتي نجدها متجسّدة في التقويم الصيني المستخدم منذ قرون عند الشعوب التركيّة، التي لا تزال تعيش في بعض مناطق آسيا الوسطى.
يبدو من المرجح أنّ تأليه عليّ منحدر من عبادة إله السماء وأنّ تقديس الأئمّة الاثني عشر يجد أصله في تقديس حيوانات التقويم الصيني الاثني عشر. وقد تلقّت هذه المعتقدات المستمدّة من شامانيّة آسيا الوسطى، تأثيرات المذهب الشيعي في الأناضول منذ وقت مبكر، وذلك بفضل تزايد أهميّة النقابات الحرفيّة (الأخيّة) في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، والتي بلغت مداها في القرن الخامس عشر بفضل الدعاية الصفويّة. فقد حوّلت الصفويّة أيديولوجيّة غائمة إلى حركة سياسيّة دينيّة مكّنت التشيّع في إيران من أن يغدو دين الدولة. وفيما غدا التشيّع في إيران معتدلاً، واصلت القزلباشيّة (kizilbachisme) في الأناضول، والتي ستغدو علويّة، حضورها في شكل ثورات ذات طابع اجتماعي. ومثل الحرباء التي تغيّر مظهرها حسب اللون المحيط بها، مع الحفاظ على هويّتها الخاصّة، وعلى الرغم من مرور القرون وتغيّر الأنظمة والعقليات، يبقى التيّار البكتاشي العلوي صلباً ومقاوماً، ومحتفظاً بطابعه الاحتجاجي، ومواصلاً العمل من أجل التقدّم الاجتماعي.
التصوف الشعبي التركي: حاجي بكتاش ولي: تجسّدات أسطورة
تلاحظ الخبيرة الروسية في الثقافات الشرقية إيرين ميليكوف إن حاجي بكتاش، وعلى الرغم من كونه شخصية حقيقية فذة، لم يكن ليدرك مدى التأثير الذي سيتركه بعد رحيله. لقد تطورت، في واقع الأمر، طريقة العبادة بعد وفاته، التي يحدد تاريخها لبعض الأسباب في سنوات 1271م، على الرغم من أن الطريقة التي تحمل اسمه لم تشهد نشأتها إلا خلال القرن الرابع عشر، ولم تعرف التنظيم على شكل جماعة دينية إلا في مطلع القرن السادس عشر.
عرف هذا النظام تطوراً تدريجياً وجذرياً، بحيث إنه يغدو من الراجح القول: إنه لم يبق بين المعتقدات الشعبية التركمانية في عهد حاجي بكتاش، وتلك التي تشكل المذاهب البدعية والمتطورة للطريقة البكتاشية، سوى تشابه ضئيل جداً.
لا تزال هذه المكانة المتواضعة لحاجي بكتاش تثير فضول الباحثين؛ ولذلك يفترض أحمد ياشار أوجاك، في أحد مؤلفاته المهمة حول الدراويش القلندرية، أن البكتاشية ليست سوى الطريقة القلندرية، وأن آخر أتباع حاجي بكتاش من القلندريين هم الذين نشروا عقيدته. وإذا كان هاسلوك قد افترض طريقة بكتاشية حروفية انتشرت بواسطة الإنكشارية، فإن أوجاك يتحدث عن بكتاشية قلندرية تأسست بطريقة غريبة حول مذهب حاجي بكتاش بأوجاق الإنكشارية.
وجود البكتاشية وانحسارها في العراق
كانت النصوص التي أرّخت لممارسات الطرق الصوفية، محكومة بوجهة نظر يمكن الحديث عنها وفق محورين: الأول: محور سياسي يعتمد مساراً رسمياً للسلطة الحاكمة آنذاك، ومذهبها الديني الذي اعتمدته في تسيير شؤون الجماعة التي تحكمها. أما الثاني: فمذهبي قد يصل إلى المستوى الطائفي، في وجهة النظر التي تكتب عن تاريخ الطرق الصوفية والمقولات العقدية التي تبنتها.
يرى الباحث العراقي علاء حميد إدريس أن الطريقة البكتاشية واحدة من الجماعات التي يمكن أن تنطبق عليها الإشكالية التي ذكرناها سابقاً، إذ ظلّ تاريخ تحديد النشأة والانتشار في البلدان التي عرفت فيها، لا سيما البلدان العربية (مصر والعراق)، يعيش أزمة بحثية وتاريخية أحيلت أسبابها على السمات الدينية التي حملتها البكتاشية ونظرة السلطة والمجتمع إليها.
في العراق، كان للبكتاشية تكايا تمارس فيها نشاطاتهم الدينية والاجتماعية. إذ تذكر الأخبار التاريخية أن التكية البكتاشية في بغداد كانت عند مدخل سوق الهرج، وفي مدينة كربلاء كانت قريبة من مرقد الإمام الحسين عند جهة قبر الشاعر فضولي البغدادي .
لم يبق من آثار البكتاشية في كربلاء سوى بيت “ده ده” الذي تعود أصوله الاجتماعية والدينية إلى البكتاشية، إذ يذكر أن أحد أجدادهم قد تولى زعامة الطريقة البكتاشية وإدارة شؤون التكية في المدينة. مدينة النجف –أيضاً- أقيمت فيها تكية بكتاشي، لكن لم يبق من آثارها شيء معلوم.
أما في مدينة كركوك فتختلط أعراق وإثنيات جعلت من ثقافة المدينة تحتضن الكثير من الطرق الصوفية، والجماعات الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية. أقيمت التكية البكتاشية في منطقة طوزخورماتو التي تسكنها غالبية من التركمان الشيعة. وظلت هذه التكية موجودة إلى هذا اليوم، تمارس نشاطها الصوفي والاجتماعي، وربما يعود ذلك إلى المشتركات التاريخية والثقافية التي جمعت بين البكتاشية كطريقة صوفية، والتركمان الموجودين في هذه المدينة. إذ إن هناك مشتركاً تاريخياً منذ تأسيس الطريقة البكتاشية مع التركمان، قام على اعتماد البكتاشية اللغة التركية العثمانية في قراءة أورادها وأدعيتها الدينية، فضلاً عن ذلك أن مؤسسها حاجي بكتاش كان قد بشّر بطريقته في بلاد الأناضول التركية.
البكتاشية بأنموذجها العراقي، وما أنتجته من شيوخ ودراويش، تمكنوا من تولي إدارة أهم تكية بكتاشية في البلقان “تكية سعيد سلطان أو تكية ديمقوطية” كان لها دور مشهود في نشر التعاليم البكتاشية في شبه جزيرة البلقان، ولكن مع هذا لم تنتج البكتاشية أثراً بيّناً في العراق طوال مدة وجودها، إلا ما ظهر في التديّن والأدب الشعبي.
ويكشف الاهتمام بكربلاء وعاشوراء عن تأثير العراق على تاريخ البكتاشية، إذ تعبر قصيدة “كربلاء” لنعيم فراشري عن هذه الأهمية؛ فهي تربطهم معنوياً وتاريخياً بالعراق، فضلاً عن ذلك أنهم كانوا يحجون إليه قاصدين المدن التي فيها الأضرحة الشيعية (بغداد، الكوفة، كربلاء).
البكتاشية.. التاريخ والممارسة في مصر
يعالج الباحث المصري في التصوف الإسلامي خالد محمد عبده تاريخ البكتاشية في مصر، وقبل تفصيل الكلام عن حضورها في أرض الكنانة يضع القارئ أمام دور هذه الفرقة في الدولة العثمانية. فقد وحّدت أغلب الفرق والطرق الصوفية، وخصوصاً ذات الشكل الباطني عقائديًا كـ”القلندرية” و”الحيدرية”، وهضمت تعاليم السابقين في طريقتها، ووحدت -إلى حدّ كبير- الفكر الصوفي في تركيا، مما قوّى الكيان العثماني وقتها.
ارتبطت الطريقة البكتاشية في مصر باسم عبدالله المغاوري، وهو من أولياء البكتاشية ومشايخها الكبار. رحل من تركيا إلى مصر وصار شيخًا للتكية (التي أنشئت له) في القصر العيني بالقاهرة عام 806هـ، وإن عُرف في الأدبيات التركية باسم (غيبي بك) أو (قايغوسز أبدال) ففي القاهرة (سيدي المغاوري) وله فيها ضريح شهير، كان مقصد الزّائرين والطالبين للبركة والشفاعة حتى وقت قريب في مصر، واستتبعت زيارته في العصر الحديث جدلاً، بسبب ممارسات الدراويش والأهالي التي رآها البعض خروجًا عن (الإسلام الصحيح)، وقد نبّه غير واحد من الكُتّاب في مقالاتهم على تلك الممارسات وضرورة مراجعتها.
تبدو قصّة دخول المغاوري الطريقة البكتاشية وانخراطه فيها ووصوله إلى قمة المشيخة ذات صبغة أسطورية، تذكّرنا بقصة إبراهيم بن أدهم المتصوف المشهور، وقصة بوذا أيضًا، فنسبه الملكيّ يؤكده بإلحاح رواة الطّريقة ومؤرخوها، وانجذابه للعالم الصوفي، وتركه لعالم المتعة والرفاهية محلّ إجماع عندهم، وعلى الرغم من تكرار طلب رجوعه إلى الإمارة والمملكة، فإن المغاوري لم يلتفت لرجاء والده، ولم يعد مرة أخرى إلى قصره، حتى نشب الخلاف بين الطريقة وجيش الإمارة، ولم يجعل ذلك المغاوري يفكر للحظة في العودة، بل إن والده أقرّ للشيخ البكتاشي بولايته وكراماته وترك ابنه ليصبح شيخًا صوفيًّا!
البكتاشية: شهادة مصرية (شهادة: عصمت داوستاشي)
يتناول الباحث المصري في التصوف الإسلامي خالد محمد عبده في هذه المقالة شهادة الفنان المصري المعاصر عصمت داوستاشي الذي اصطبغت أعماله -حسب روايته- بالحس الصوفي، نظرًا للجو الديني الذي كان محاطًا به في فترة طفولته وشبابه –كما سنقرأ في هذه الشهادة- وبدا هذا الأثر واضحًا في معرضه (المستنير دادا) ثم في أعماله التالية له. وقد حاول في هذا المعرض أن يؤكد أن داخل كل إنسان منّا حساً صوفياً لو عاش به لكانت الحياة مختلفة.
يقول عصمت داوستاشي في شهادته: “رفضتُ اقتراح بابا سري بأن أصبح شيخًا للدراويش، فلم يكن في الحقيقة أي دراويش على الإطلاق بعد سفر آخرهم الشيخ رجب، أو الشيخ لطفي إلى أمريكا، حيث فتح تكية هناك، وكانت رغبة بابا سري هي استمرار وجود التكية بعد رحيله. كنت مرتبطاً بقوة برغبتي في دخول كلية الفنون الجميلة؛ لأن تكيتي الحقيقية هي الفن أسرد هنا ما تبقى في ذاكرتي مع ما جمعته عن البكتاشية وتكيتهم من وثائق وأوراق وموضوعات صحفية”.
سبعة دراويش: جغرافيّة الصوفيّة الأناضوليّة
يقدم الباحث السوداني، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار عمر البشير الترابي قراءة لكتاب “سبعة دراويش: جغرافيّة الصوفيّة الأناضوليّة” للروائي والكاتب التركي نديم غورسيل الذي قام بزيارة لمقامات سبعة دراويش، واهتم باكتشاف عالمها الصوفي والشعري، ونشرها في هذا الكتب الذي صار بعد ترجمته على يد أحمد عثمان، مشتملًا على مقدمة خاصة للطبعة العربية بقلم المؤلف، ومقدمة بقلم غرهاردت شفايستر، وسبعة مقالات: “على هدى حاج بكتاش”، “تكية على جبال بيداغ”، “مغامرات قايغوسوز عبدالله”، “طرزان مركز أفنديا صاروخان بابا مانيسيا بلد الأمراء العثمانيين الورثة”، “في اقتفاء أثر جيكلي بابا”، “ليلة في بورصة”، و”رؤية قونية”.
يشير الترابي إلى أن شجرة الإيمان في الدولة العثمانية تغذت من ثلاثية (الجامع والتكِيّة والمدرسة الدينية)، واستثمرَتْ هذا الإيمان، وتقوّتْ به، وأضافت له “رجال دين، وعلماء” ورموز، وقد كان للأولياء الذين جاءوا من خراسان من أمثال صدر الدين القونوي، ومولانا جلال الدين الرومي، وطورسون فقيه والشيخ آده بالي، وآخي أوران، والشيخ بابا إلياس، الدّورُ الكبير، في تفاصيل قصّة التشكّل ولحم النسيج. وقد عرف عثمان بك ذلك، وأدرك بعده السلاطين الآخرين، وبعد أن أتم الغازي أورخان فتح مدينة بورصة توجه إلى أوروبا، وكان للعلماء والمشايخ من أمثال الملا داوود القيصري وجانرلي قره خليل وقراجه أحمد وكيكلي بابا نصيبٌ كبير، وفي معركة قوصوة كان معه أورانس وقوطلو بيك وحاجي إل بك، وشيخ حاجي بكتاش ولي، وكان مع السلطان بايزيد في معركة نيغلولو شيخ حامد بن موسى القيصري والملقب بأمير سلطان(الشيخ محمد بخاري)، وعبدالرحمن الأرزنجاني وطابطوق أمره ويونس إمره وحاجي بيرام (بيرم) ولي وملا شمس الدين فناري.
ويرى الترابي بعد عرضه لتفاصيل الرحلة أن هذه سياحة في أرض الأناضول شهِدَت ولادة الأساطير والكرامات، وحكايات مُفعمة بالرمزية، تُؤدي في كل ضُروبها إلى سلام وتعايش وتراحم، ووداعة، تُربّي أجيالاً من الرجال، وتحمل في جوفها رسالةً للسلام، أشبه ما تكون بالحمامة التي تُحلّق فوق الجبال، وتَمدّ يدها للآخر الذي يزاحمها، لتقول له، فلنعش بسلام.