دبي
يهدف كتاب المسبار «الإسلام التقليدي: التشكُّل التاريخي والتحديات الراهنة» (الكتاب السابع والثلاثون بعد المئة، مايو/ أيار 2018) إلى دراسة دوائر التقليد الديني في الإسلام السُّنِّي، متتبعاً مسارات التأسيس والتطور العقائدي والفقهي والمؤسساتي، ومبرزاً أهم المخاطر التي يواجهها من قبل الإسلامويين. إن القراءة الموضوعية والمحايدة للتاريخ الإسلامي وصراع التأويلات على فهم الدين، نتج عنهما مدارس فقهية وعقائدية حددت قواعد الفرق والمذاهب، وما تفرع عنها لاحقاً من تمازج بين الديني والسياسي، مما فتح النظر على إسلام متعدد يستند إلى منظومة اجتماعية توارثها المسلمون ورعتها الدولة.
دوائر التقليد الديني في تاريخ الإسلام الكلاسيكي وتحولات الجماعة في التاريخ
درس الكاتب والأكاديمي اللبناني رضوان السيد دوائر التقليد الديني في تاريخ الإسلام الكلاسيكي وتحولات الجماعة في التاريخ، ويرى أنّ الدين لكي يستمرَّ ويتمدد أو تظلَّ الحيويةُ فيه إمّا أن يخلف صاحب الرسالة فيه: مؤسسة معصومة أو قوية، أو قائدٌ كارزماتيٌّ أو معصوم ذو صلةٍ مباشرة بالجماعة المؤمنة دونما توسُّط المؤسسة أو التقليد المعيَّن . علماء الدين في القرن التاسع عشر قالوا بذلك مع إضافات. لكنهم احتاروا في الديانتين الآسيويتين الكبريين (البوذية والهندوسية)، بسبب عدم وجود الكتاب المقدس أو النصّ فيها بمعنى «الكتاب» مثلما هو في الديانات الإبراهيمية، والذي يدور حوله العقيدة. بل وعدم وجود المؤسَّسة الظاهرة صاحبة السلطات المحدَّدة، وعدم وجود القادة الكارزماتيين وإنما هم أفراد مباركون أو فئات مباركة. وهكذا وبعد أخذٍ وردٍّ اضطروا للقول: إنّ الدين يمكن أن يقوم ويستمرَّ بالروح العام، والتقليد الصلب الذي يكتسب القائمون عليه (الغيورون) القداسة في نظر الجمهور من خلال اقتناعهم بأمانة هؤلاء المباركين للروح العام المتبلور في التقليد الديني الرئيس (الأرثوذكسي).
يدعو الباحث في دراسته إلى النهوض بمشروع بحثي كبير في التقليد الإسلامي، ليس المقصود بذلك كتابة تاريخ ثقافي أو تاريخ للتفكير الديني أو ما يسميه الألمان: تاريخ الأفكار؛ وإن كان البحث في التقليد يتناول أشياء من ذلك كلِّه؛ بل: الأفكار والمؤسسات، والتاريخ الديني، والتاريخ الثقافي. ويرى أنّ ما يدفع إلى مشروع بحثي واسع وعميق بشأن التقليد الإسلامي، أو ما سمّاه الحداثيون: التراث، هو الاضطراب الهائل الذي نزل بالإسلام كُلِّه تحت وطأة الحداثة. ويضيف أنه عبر عقود القرن العشرين المنقضي ساد التأزمُ في ناحيتين: ناحية إقامة الدولة الوطنية، وناحية المصير إلى فقهٍ جديدٍ للدين. وفي المجال الثاني يتركز طرحه -لأنّ كلَّ الباحثين والدعاة والمستشرقين انصبّت جهودهم على اختلاف وجهات النظر في التفاصيل – على الخلاص من التقليد أو الموروث أو التراث، إما للخلاص من الإسلام، أو لتجديد شبابه بالعودة إلى ما فوق التاريخ، ما فوق التجربة التاريخية، أي إلى النص المقدَّس أو الإسلام الأول. كما دعا الباحث إلى قراءة تقاليد الجماعة أو التيار الرئيس، وتجربتها التاريخية، قراءةً نقديةً في المجال الفقهي، والمجال العقدي، والمجال الروحي أو الصوفي، بمعنى قراءة وتتبع فصول ومفاصل المنظومة، في التكوين، وفي التطور، وفي التيارات الفرعية السارية، لكتابة تاريخ متّسق للأفكار والمدارس وكبار صُنَّاع التقليد من جهة، والتتبُّع الدقيق لاكتشاف عوامل وعناصر الفعالية، وعوامل التعطُّل والجمود. إن المقصود ليس الإحياء ولا حتى التجديد في الحقيقة، بل الفهم الدقيق باتجاه التجاوز. فالمشروع الذي يدعو له في شقين: تاريخ الظهور والاستتباب، ومسارات التصدع والاضمحلال، وصولاً لزماننا هذا، زمان الأصوليات والانشقاقات.
تشكُّل المدوَّنة الرسميّة في الإسلام السُنّي
اشتغل المفكر المصري عبدالجواد ياسين، في هذه الورقة على المدونة الرسمية السُنيَّة في إطارها العام؛ كيف تشكّلت كبنية متكاملة في سياقات التحول الاجتماعي السياسي التي شهدتها مرحلة التدوين، قبل أن تتحول إلى سلطة مهيمنة داخل الثقافة بدءاً من مرحلة التجميد . وهي تستدعي مصطلح «المدونة الرسمية» إلى دائرة النقاش لغرضين؛ الأول: رصده «كواقعة» متكررة في تاريخ التدين الكتابي، تشرح عملية التأسيس الثاني للديانة. والثاني: تسكينه «كمفهوم» كاشف عن الطبيعة التاريخية للديانة. أعني كآلية لقراءة الديانة بوصفها تمثلاً اجتماعياً لفكرة الدين المطلقة، أي بوصفها صيغة من صياغات ممكنة للتدين تنشأ وتتطور داخل الاجتماع، وتنطوي، بالنتيجة، على شق زمني يعكس ثقافة البيئة التي تشكّلت فيها. تقدّم الورقة قراءة إجمالية للمدونة السنية تحت عنوانين: الإطار العام: تحولات الاجتماع السياسي: وهي قراءة للمدونة في سياق التشكّل التاريخي العام للمذهبية الإسلامية، أي بوصفها واحدة من مدونات ثلاث تمثّل أنساق التدين الرئيسة الثلاثة، التي أفرزها الانفجار السياسي الكبير عند منتصف القرن الأول. العنوان الثاني هو نسق التدين السُّني: سلفية مُعدَّلة: وهي قراءة في خصائص المذهب السني، تعالج: تشكّله في سياق سجالي جدلي (سياسي/ كلامي/ أصولي) وعلاقته الوثيقة بالدولة، وتمثيله لتيار الأغلبية بوصفه التيار العام المحافظ. ثم تقف أمام بنيته الداخلية بما هي، في نواتها المركزية، بنية «سلفية» نقلية، وضعها تيار أهل الحديث، قبل أن يجري تطعيمها بتنظيرات «وسطية» أصولية شافعية، وكلامية أشعرية.
يرى الباحث أن المدونة الرسمية تطرح نفسها لا بوصفها أنموذجاً مثالياً للتدين فحسب، بل الأنموذج الحصري الملزم على المستويين الفردي والجماعي. وتعتمد المدونة على قابليات الامتثال التسليمية الكامنة في فكرة المقدس، لكنها تستمد نفوذها المباشر من سلطة «المؤسسة» التي تمثل الديانة وتقوم على حراستها، وهو ما يُكسبها وصف الرسمية. في الإسلام –الذي لم يعرف نظام الكهنوت المؤسسي كما في اليهودية والمسيحية- تقمصت الدولة «السنية» دور المؤسسة الدينية كحارسة للدين بمساعدة فقهية. وعندما بدأت هذه الدولة مرحلة التفكّك كان «الفقه» قد تحوّل إلى «مؤسسة معنوية» واسعة ظلّ نفوذها يتفاقم تدريجياً حتى بعد ظهور الدولة الوطنية الحديثة.
أهل السُنَّة والجماعة: التكوين التاريخي والتأسيس الفقهي
يقول الأكاديمي المصري معتمد أحمد سليمان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة أسيوط بمصر : إنه لا خلاف في أن إعادة قراءة فكر هذه الأمة بقضاياه المختلفة، وأنساقه المتعددة من أولويات الدارسين والمهتمين به درساً وبحثاً في عصر يتحتَّم علينا فيه إخراج العقل المسلم المشتت من أزمته، وتحويله إلى عقل فاعل مؤثر، يحسن الأخذ والتلقي، ويجيد التأثير، ويمارس الوعي بذاته وحضارته، ويتقن الفهم والنقد والمراجعة لقضايا أمته؛ انطلاقاً من خصوصيته الحضارية . وتأتي مشكلة المصطلحات وضبطها وتوحيدها كأوعية تحمل مضامين ورسائل للتعبير عن الرؤى والأفكار ، من أهم القضايا التي تشغل بال المعاصرين، لأن ضبط المصطلح، والوقوف على دلالته هو الطريق الأمثل لضبط ممارساته، ومن ثم تضيق دائرة الخلاف .
يتحدث الباحث عن دلالات تلك المصطلحات، ومرادفاتها، وإشكاليات تأصيلها، وكيف تشكلت تاريخياً، ورصد محاذير ممارساتها، وذلك فيما يلي: مصطلح أهل السنة والجماعة (الدلالات والمرادفات): يتناول مفهوم أهل السنة : مصطلح الجماعة، مصطلح أهل السنة والجماعة. التشكل التاريخي لمصطلح أهل السنة والجماعة. التأسيس الفقهي لمصطلح أهل السنة والجماعة. السلفية وأهل السنة والجماعة بين المنهجية والطائفة. محاذير في التأصيل والممارسة.
مؤسسة الفتوى في تاريخ الإسلام من الماضي إلى الراهن
يشير الأكاديمي نجيب بن خيرة، أستاذ مشارك بقسم التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الشارقة (الإمارات العربية المتحدة)، إلى أن وجود الفتوى في التاريخ بالحضارة الإسلامية، ارتبط بحياة الناس بأحكام الدين تحريماً أو إباحةً أو استحباباً، والقرآن الكريم ربط أتباعه من أول يوم بسؤال العلماء وطلبِ النصح منهــم، وتــلمس المســلك الصحيح من فتــاواهم. وقد مدّ الفقه الإسلامي سلطانه على حياة المسلمين في فترات متلاحقة، مستمداً هذا السلطان من قدسية الدين الذي ارتبط به المسلمون من أول يوم، فاكتسب الإفتاء هذه المكانة الاعتبارية لكون المفتي مخبراً عن حكم الله بعد الرسول. ولما كانت النصوص متناهية والوقائع والأحداث غير متناهية بحكم تراكم العصور وكثافة المتغيرات والمستجدات، كان لا بد من إعمال الرأي والاجتهاد، مما جعل التفكير الفقهي يدرك درجات متزايدة من الإتقان في الحضارة الإسلامية، وأنعش البنية المعرفية الداخلية للعلوم الإسلامية برُمتها، وجعل لها نسقاً معرفياً خاصاً، تطورت من خلاله تطوراً طبيعياً، دون أن يمنعها من الانفتاح على علوم الأمم السابقة، والحضارات المجاورة.
ومن خلال الفتاوى التي زخرت بها كتب الفقه الإسلامي، نرى تنوع الآراء الفقهية والاجتهادات داخل المدرسة الفقهية الواحدة وفي العصر الواحد، وما نجده بين الأئمة وتلاميذهم من اختلاف، وما بين تلاميذ الإمام أنفسهم من تباين في الدليل والمنزع والاختيار، مما لم يحصل في أي ثقافة أخرى عبر التاريخ. كما تنوعت الفتاوى في مجالات حضارية كثيرة ملأت وقائعها ونوازلها كتب الفقه، فالسائل المتعبد لم يدخر وسعاً في استفتاء العلماء حول مسالك التعبد، وأحكام المرء في يقظته وفراشه، في خلوته وجلوته، في سفره وإقامته، في أدق شؤون جسده وأسرته وأعماله وأمواله، كما اتسع ليشمل الشؤون التجارية من بيع وإيجار وشركات، وكفالات وحوالات، وتحدث في الجنح والجنايات، وشرّع أنواع الحدود والقصاص، وحكم في الشؤون الدولية، وما يقع من حرب أو يعقد من صلح أو هدنة أو أمان. كما ارتبطت الأحكام الواردة في الفتاوى المروية بأنواع من الحكمة والمصلحة المعتبرة التي مهّدت للقياس، ولم يعجز الفقه أن يفتي في أي موقف، أو أن يسوس الأمم الداخلة فيه سياسة لم يُعرف لها نظير في الأصالة والحصافة والكياسة والاستيعاب، مما يثير الدهشة والإعجاب لشموله وكميته ونوعيته، أصالة في العلم، وعمقاً في التفكير، وقوة في الحِجاج، ودقة في الفهم، وغزارة في التأليف والتصنيف. وهذا الاستيعاب الشامل هو الذي جعل الفتوى مركز الحياة في المجتمع، ومعصم القيادة فيه. ومع الثورة الإعلامية المعاصرة التي بوّأت الإعلام مكان الصدارة في التأثير والتوجيه، والتعبئة والتحريك، قفزت الفتوى من قدرة المفتي على الاستنباط والشرح وبسط الأدلة، والاجتهاد في الإقناع إلى المهارة في صناعة فتوى مؤثرة تعتمد النفوذ الاجتماعي، والترويج الإعلامي، وبدأ الاهتمام بإقامة مجامع للفتوى، ومجالس للاجتهاد الجماعي، يضم علماء وفقهاء ومفكرين وأعلاماً من المتخصصين في الفقه الإسلامي، وخبراء من جميع التخصصات ذات الصلة العلمية بالفتوى.
التسامح والتعصب داخل أنماط التقليد الإسلامي
يقول الأكديمي والباحث المغربي في التاريخ والفكر السياسي الإسلامي، امحمد جبرون : إن الإسلام تمثل مبكراً في تيارات وفرق كلامية، وفقهية، وسلوكية (أخلاقية )، وذلك لأسباب كثيرة، بعضها يرجع للطبيعة الكُلِّية للدين، وقابليته الكبيرة للتفسير والتأويل تبعاً لنصه؛ وبعضها يرجع لطبيعة الواقع والأسئلة التي يثيرها، والإكراهات التي يفرضها؛ والبعض الآخر يرجع إلى الخبرة الثقافية والتاريخية للجماعات المتدينة. وقد أمست هذه التمثلات مع مرور الوقت المظهر الأساسي للتقليد الديني الإسلامي في الشرق والغرب، فالسُّنَّة والشيعة والخوارج من جهة، والمذاهب الأربعة من جهة ثانية في نهاية المطاف هي تعبير عن التقليد الإسلامي من الزاوية التاريخية. وإذا كان هذا التنوع والاختلاف في التأويل، وما نتج عنه في الواقع -مبدئياً- يبدو طبيعياً، وخاصية جوهرية في كل معتقد، سواء تعلق بالإسلام أو غيره، فإن غير الطبيعي هو تجاهل الكثير من المتدينين لهذه الطبيعة، وميلهم إلى الاعتقاد بإطلاقية تصوراتهم وممارساتهم للدين، وأنها صالحة وواجبة على كل الناس مهما اختلفوا، وهكذا وجدنا الكثير من أتباع الفرق أو المذاهب لا يترددون في السعي وبكل الوسائل إلى إكراه غيرهم على تبني معتقدهم أو مذهبهم، الذي هو في نهاية المطاف تأويل ممكن من بين تأويلات محتملة.
تتأسس هذه الدراسة على فرضية رئيسة يمكن اختزالها على النحو التالي: إن التقليد الإسلامي كما جسدته تاريخياً الفرق والمذاهب كانت العلاقة بين مكوناته في مجملها علاقة متسامحة، تجسد الوعي بالجوهر التعددي للإسلام، ولدينا أمثلة ونماذج كثيرة من تاريخ الإسلام، دالة على هذا التسامح، وإن التعصب والإقصاء الديني الذي مارسه البعض وعانت منه بعض المذاهب، لم تكن أسبابه مذهبية صرفة، بل يرجع بالأساس لأسباب سياسية استعمل فيها الدين والمذهب لتصفية الخصوم أو التضييق عليهم، وقليلة هي الحالات التي مورس فيها التعصب المذهبي الصافي. يختبر الباحث تلك الفرضية ومعالجتها من خلال العناصر التالية: التقليد الإسلامي أو الإسلام التاريخي: في الدلالة الثقافية للتنوع الديني: يتحدث خلال هذا العنصر في حتمية الاختلاف والتعدد في مفهوم الإسلام من الناحية التاريخية، وأن الإسلام في منظور الواقع وما جرى في الماضي لا يمكن إلا أن يكون مختلفاً، وفي سياق ذلك يحاول بيان دور الثقافة والموروث التاريخي في تغذية الاختلاف والتنوع، فشيعية بعض المجالات، وسنية البعض الآخر ليس أمراً معرفياً محضاً، متعالياً على البيئة، بل هو في كثير من الحالات متصل بمسبقات ثقافية محلية (القابلية). الشيعة والمالكية بالقيروان في العهد الفاطمي: جدل التسامح والتعصب: يسلط الضوء على أنموذج تاريخي للعلاقة التي جمعت بين مكونين رئيسين في التقليد الإسلامي، ويتعلق الأمر بالمكون السنّي والمكون الشيعي في الغرب الإسلامي، وذلك في سياق تأكيد عجز التعصب عن تغيير التقليد والقضاء عليه. الظاهرية والمالكية بالأندلس: إقصاء سياسي أم تعصب مذهبي: يقف الباحث من خلال هذه الفقرة مع مثال آخر من أمثلة الصدام داخل التقليد الإسلامي، ويعتبر هذا المثال أنموذجاً لبيان الطبيعة المتبدلة لكثير من الصدامات «المذهبية» الإسلامية التي تبدو في الظاهر صدامات مذهبية لكنها في الباطن صدامات سياسية في البدء والختام. كما يعرج الباحث إلى حادثة إحراق»إحياء علوم الدين« لأبي حامد الغزالي بالغرب الإسلامي: حيث شكل إحراق كتاب «الإحياء» في الغرب الإسلامي في العصر المرابطي لدى الكثير من الدارسين رمزاً لتشدد الفقهاء المتحكمين في السلطة المرابطية ضد المتصوفة، فهل الأمر -فعلاً- على هذا النحو أم إن الواقعة تحتمل تفسيراً آخر. أما من الناحية المنهجية، فيوظف آليات متعددة مستمدة من تقاليد منهجية مختلفة، فمن جهة وظف بعض آليات البحث التاريخي في تتبع ومناقشة مظاهر التسامح والتعصب في التاريخ الإسلامي، ومن جهة ثانية تناول بناء الوعي حول بعض القضايا الاستراتيجية في هذه الدراسة من قبيل قضية تشكل الإسلام التاريخي أو التقليد الإسلامي.
تحولات المؤسسات الدينية التقليدية: الأدوار، العلاقات والمرجعيات
تتناول الباحثة المصرية فاطمة حافظ في هذه الدراسة تاريخ ثلاث من المؤسسات الدينية الكلاسيكية وأكثرها نفوذاً وتأثيراً، وهي على ترتيب نشوئها: الزيتونة، والقرويين، والأزهر، مع التركيز بوجه خاص على التحولات التي طرأت عليها في الأزمنة الحديثة، وخصوصاً على صعيد مرجعية المؤسسة التي اهتزت بفعل صعود الدولة وسيطرة الحداثة، وما صحب ذلك من تغير في الأدوار، وتناقش الدراسة علاقتها بمؤسسة الدولة وتقدم تحقيباً للمراحل التي مرت بها، وتعرض لكيفيات تعاطي الدولة في مرحلة ما بعد الاستقلال مع المؤسسة الدينية، مع بيان الآثار التي خلفها الربيع العربي على المؤسسة، وأهمها -بطبيعة الحال- مسألة الاستقلال واستعادة المرجعية. استهدفت من وراء ذلك إثارة مجموعة من التساؤلات، بعضها يتعلق بكيفية تشكل المرجعية وعلاقتها باستقلال المؤسسة، أو بعبارة أدق: كيف يؤثر فقدان الاستقلالية على مرجعية المؤسسة، وبعضها الآخر يدور حول العلاقة مع الدولة، وكيف تدير المؤسسة بعد الربيع العربي معركتها مع الدولة في سبيل الاستقلال.
الصراع على الشأن الديني بين الإسلام التقليدي والإسلام السياسي
حاول الأكاديمي المغربي عبدالسلام الجعماطي، في هذه الدراسة، تأصيل مفاهيم من قبيل “الإسلام التقليدي”، و”الإسلام السياسي”، و”الصراع على الشأن الديني”، وفق مقاربة تاريخية وفكرية، تهدف إلى تبيان سيرورة تبلور هذه الظاهرة، التي كان من شأنها تخويل أهمية قصوى للجانب الديني في تشكيل المشهد السياسي العربي، والتحكم في آليات ممارسة السلطة بالوطن العربي.
يخلص الباحث في دراسته إلى أنّ مخاض الانتقال من الإسلام التقليدي إلى الإسلام السياسي، أفرز جملة معطيات في غاية التعقيد والدقة، فلم يعد الشأن الديني موكولاً إلى مؤسسات عمومية تسهر على تدبيره، وإنما بات هاجساً يشغل الأنظمة القائمة في العالم العربي الإسلامي، وشعارات يتبناها معارضوها، وفق خطاب تكفيري، يُوجه فيه الاتّهام للحاكم بمخالفة شرع الله والتضييق على حرية التدين، أو خطاب تشهيري للطرف الآخر بتوظيف الدين لأغراض سياسية، في طليعتها استقطاب الجماهير وإقناعها بأحقية التيارات «الإسلامية» لقيادة الأمة، وهدم أركان الدولة المدنية الحديثة، التي تستهين -في نظره- بتعاليم الدين، وتهمش دوره في تدبير شؤون الرعية. وما ردود الأفعال المتبادلة بين الطرفين، وتجلياتها في الصراعات الدائرة حول توظيف الدين لصالح هذا أو ضدّ ذاك، إلا نتيجة مباشرة لهذا المخاض العسير الذي سلكه الدين بين الممارسة التقليدية والتوظيف السياسي.
الأصوليات الإسلامية ومخاطرها على الإسلام التقليدي
المؤرخ التونسي أعلية علاني، يرى أن العالم العربي والإسلامي لم يتمكنا منذ عصور الانحطاط في القرن الرابع عشر الميلادي إلى اليوم؛ من احتلال موقع مؤثر في الحضارة الإنسانية، حيث انتقل من وصاية الدولة العثمانية (1923-1299) إلى وصاية المستعمر الأوروبي، كان الفكر الإسلامي، فيها شبه غائب عن حركة التجديد والتحديث في المجالين الثقافي والعلمي، إذ سيطر التقليد ومحاكاة ما أنتجه السلف. ويضيف أنه بالرغم من شذرات التنوير التي حدثت في القرن التاسع عشر نتيجة تأثيرات صدمة الحداثة التي أعقبت غزو نابليون لمصر 1798، ونتيجة الثورة الصناعية والتقنية في أوروبا لم يتمكن التيار الإصلاحي ورموزه أمثال: رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي، وشكيب أرسلان، وعبدالقادر الجزائري، وعلال الفاسي المغربي، من أن يجعلوا من تيار الإصلاح تياراً متجذراً وشعبياً نظراً لسيطرة الفكر المحافظ وانتشار الأمية وجمود الحياة السياسية بحكم الاستغلال الاستعماري. اكتفى هؤلاء الإصلاحيون بتوصيف حالة التخلف، وكانوا يأملون في قيام نهضة فكرية وعلمية تكون محركاً لطموح الشعوب نحو التقدم والانعتاق من براثن التخلف الاقتصادي والفكري. لكن ذلك لم يحدث نتيجة عوامل محلية وإقليمية من بينها بروز تيارات أصولية في العالم العربي والإسلامي، تتعارض مع فلسفة الفكر الإصلاحي الذي بشّر به رموز الإصلاح في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كما ذكرنا. وبدأ هذا التيار الأصولي، وفي مقدمته تيار الإخوان المسلمين، يسيطر على بعض العامة والحكام وبعض النخب، منذ أن أسس حسن البنا سنة 1928 «جماعة الإخوان المسلمين». وانتشر التيار الأصولي كذلك في الباكستان مع أبي الأعلى المودودي، وأصبح له نقاط التقاء مع التيار الأصولي الشيعي أو الإسلام السياسي الشيعي في الأربعينيات من القرن العشرين، ثم ازداد انتشاره أكثر فأكثر مع قيام الثورة الإيرانية سنة 1979. وبالتوازي مع التيار الأصولي، كان الإسلام التقليدي يعيش أزمة ويبحث عن أساليب جديدة تجعله يتموقع بشكل أفضل على الساحة الاجتماعية والدينية، لكن محاولاته كانت محدودة نظراً لضعف هيكلي اعتراه بسبب غياب التجديد في الفكر، وعدم الحفاظ على هامش من الاستقلالية تجاه السلطة الحاكمة. وبذلك أصبح الطريق ممهداً لهيمنة الخطاب الديني الشعبوي والشعاراتي، وأحياناً الإطلاقي لتيّار الأصولية الإسلامية. ولا يزال العالم العربي والإسلامي يعيش على وقع تداعيات هذه الأصوليات لمدة تقارب القرن بدءاً من عام 1928 إلى اليوم. وعليه، يحاول الباحث الإجابة عن ماهية أبرز سمات الأصوليات الإسلامية على المستوى الأيديولوجي وعلى مستوى تجربة الحكم، وما مخاطرها على الإسلام التقليدي في العالمين العربي والإسلامي؟ وما مستقبل الأصوليات الإسلامية في مرحلة ما بعد القاعدة وداعش وحلفائهما؟
التأريخ للتقليد الإسلامي لدى الكُتَّاب المعاصرين: الإشكاليات والمناهج
الكاتب والأستاذ الجامعي الموريتاني، عبدالله السيد ولد أباه، يتتبع تلك الإشكاليات والمناهج التي وقف عليها بعض الكتاب المعاصرين. فتتناول دراسته الأصوليات الإسلامية: الإطار الأيديولوجي، والأصوليات الإسلامية والفكر الأصولي، وموضوع الصراع على الشأن الديني، ويدعو نحو رؤية إنسانية للإسلام.
يشير الباحث إلى أنه يمكن اعتبار سلسلة المؤرخ المصري أحمد أمين (1886-1954) حول تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط “فجر الإسلام” و”ضحى الإسلام” و”ظهر الإسلام”، أول محاولة منهجية حديثة للتحقيب للتقليد الثقافي الإسلامي. ما يعنيه أحمد أمين بتاريخ العقل هو «الحياة العقلية» للمجتمع الإسلامي في مقابل «الحياة المادية»، أي المذاهب الكلامية والعقائدية والإنتاج العلمي والفكري بالانطلاق من المحدد التاريخي السياسي والمؤثرات الاجتماعية، وسياقات التأثر والتأثير بالأفكار الوافدة إلى الثقافة الإسلامية. ومع أن الكتاب حظي بقبول واسع، لعله لا يزال مستمراً، فإن تجاوزه من حيث المنهج والرؤية بدا ضروريا منذ ستينيات القرن الماضي التي طغت عليها مناهج التاريخ الثقافي ذات الخلفية الماركسية. في حين يرى أن كتابات المؤرخ المغربي عبدالله العروي الصادرة في تلك المرحلة عبرت عن هذه الأزمة التي شخصها بقوة من خلال أنموذج «التحليل الأيديولوجي» الذي كان جديداً على الفكر العربي آنذاك. ما نبه إليه العروي هو أن الكتابات الحداثية الأولى التي أرادت كتابة تاريخ «الحياة العقلية الإسلامية» انساقت باسم الموضوعية والوضعية التجريبية إلى دراسات المستشرقين التي اعتقدت أنها البديل الأمثل لكتب الآداب والطبقات والتراجم الوسيطة، في حين أنها لا تنسجم مع معايير الكتابة التاريخية الموضوعية التي ربطها بما أطلق عليه «الماركسية الموضوعية». عبرت مقالة شهيرة للمفكر المصري أنور عبدالملك (1924-2012): «الاستشراق في أزمة» (l’orientalisme en Crise) عن القطيعة بين الكتّاب الحداثيين العرب والمستشرقين، الذين كان نقدهم محصوراً في أدبيات المدرسة السلفية والإخوانية.
ما نبه إليه عبدالملك هو أن الخطاب الاستشراقي يصدر عن مركزية غربية، ولا ينطلق من واقع المجتمعات العربية الإسلامية، ولذا فإنه من الضروري السعي إلى تكريس استقلالية الذات العربية في تاريخها وثقافتها خارج مقاييس الأدبيات الاستعمارية. إنه المسلك المنهجي الذي سيصل ذروته مع كتاب إدوارد سعيد (1935-2003) الشهير «الاستشراق» الذي يعتبر أحد الأعمال المؤسسة لتيار «ما بعد الكولونيالية» (Postcolonialism) وقد كرس نهاية هيمنة البراديغم الاستشراقي في الدراسات الإسلامية. ولا شك أن النتيجة الكبرى لهذا التحول المنهجي هي النظر إلى التقليد الإسلامي، لا من حيث هو رصيد معرفي من نتاج حياة عقلية إسلامية متفاعلة مع مؤثرات فكرية وافدة، بل من زاوية الأيديولوجيا أي الثقافة من حيث هي تعبير عن تمثل جماعي لا يعكس محددات فكرية أو عقدية متماهية مع نفسها، بل يعكس أوضاعاً اقتصادية ومادية هي الخلفية العميقة والحاسمة لهذه التمثلات التي تأخذ شكل أفكار ومعتقدات. وهكذا برزت المسألة التراثية في الفكر العربي من خلال هذا الانتقال في التاريخ الثقافي نحو التحليل الأيديولوجي المستند للأنموذج التجديدي في تأويلية التقليد العربي الإسلامي. في حين ظهر مفهوم التراث بمعنى التقليد الثقافي بداية من أوائل سبعينيات القرن الماضي، فلم يعد موضوع تاريخ الأفكار هو «الحياة العقلية» للأمة -حسب عبارة أحمد أمين وطه حسين- بل التركة المعرفية التي ابتعث لها مفهوم «التراث» الذي كان حكراً على الأبحاث الأركيولوجية والإثنوغرافية المتعلقة بالماضي السحيق والمجتمعات ما قبل الحديثة.
يشير الباحث إلى أن ما تعنيه مقولة «التراث» هو أمران أساسيان: الوعي بالانفصال الجذري عن الماضي في تعبيراته الثقافية والفكرية من جهة، والنظر إليه من جهة أخرى بصفته رأسمالاً معبراً عن الهوية وقابلاً للتوظيف والاستخدام لأغراض راهنة، ما دام يشكل أحد مكونات المتخيل والتمثل، وإن كان متجاوزاً من حيث المضامين النظرية والأيديولوجية. ظهر بوضوح هذا التصور للمسألة التراثية في مشروعات قراءة الموروث الفكري العربي لدى المفكر السوري طيب تزيني والعلاّمة اللبناني حسين مروة، قبل أن يلتحق بهما المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي، والمفكر المصري حسن حنفي في مشروعه «التراث والتجديد». يستعرض الباحث هنا الخصائص المنهجية المعتمدة في تاريخ الأفكار، وفي التحقيب للمدونة العلمية والثقافية العربية الإسلامية الوسيطة.
قراءة في كتاب: الإحياء والإصلاح في الإسلام: دراسة في الأصولية الإسلامية
قدمت الباحثة اللبنانية ريتا فرج، عضو هيئة التحرير بمركز المسبار للدراسات والبحوث، قراءة في كتاب الإحياء والإصلاح في الإسلام: دراسة في الأصولية الإسلامية، لمؤلفه فضل الرحمن مالك، وترجمة مروان الرشيد، حيث يُعد فضل الرحمن مالك (1988-1919) أحد أبرز المتخصصين في دراسة القرآن والتراث الإسلامي، تركت أفكاره وخلاصاته تأثيراً في الأوساط العلمية المعنية بقضايا الإسلام في الغرب. لم يحظ المفكر الباكستاني بالحضور الذي يستحقه في العالم العربي بسبب تأخر ترجمة العديد من كتبه إلى العربية.