وصف الوثيقة
نحن أمام رسالة أرسلها أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الدكتور محمود أبو السعود، لقيادات مكتب إرشاد الجماعة في القاهرة، وأرخها في 13/8/1988.
تقع الرسالة في (9) صفحات مكتوبة بخط يد «أبي السعود»، وضمن سلسلة رسائل أخرى، لمكتب الإرشاد، وصلت إلينا عن طريق، قيادي آخر في الجماعة، هو محمد المأمون، أحد من أسسوا فرعًا للجماعة في الكويت منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، والذي شهد بأن هذه الرسائل هي بخط يد «أبي السعود» وذلك عبر حوار مسجل «فيديو» نحتفظ بنسخة منه.
أبرز ما جاء فيها
تؤكد هذه الرسالة أن جماعة الإخوان المسلمين قد نصبت «مرشدا خفيًا» بعد وفاة مرشدها الثاني حسن الهضيبي، ثم بايعت عمر التلمساني مرشدًا آخر علنيًا، وكان ذلك محلًا للنقد من جانب عدد من قادة التنظيم الدولي للجماعة، ومنهم محمود أبو السعود، الذي رأى أن ذلك يعد نقصا في الشرعية والأهلية.
أهميتها
على الرغم من أن عدداً من الصحف أثار قصة «المرشد الخفي» لجماعة الإخوان المسلمين، فإن قادة الجماعة لم تعترف بها، بل أنكرتها القيادة الرسمية للجماعة عندما كانت تواجه بها، ولم تستطع الصحف المصرية أن تدفع بأدلة ووثائق تدعم تلك القصة، وهو ما ساهم في دفنها ونسيانها مبكرا، إلا أن هذه الوثيقة لا تثبت قضية «المرشد الخفي» فحسب، بل تسوق الرواية من جذورها، وبخط يد أحد القادة الذين تشكل على يدهم التنظيم الدولي للجماعة، وتؤكد وجود خلافات في التنظيم وصلت إلى الطعن في الشرعية والأهلية.
أبرز المعلومات عن كاتبها
انضم محمود أبو السعود إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو شاب لم يتجاوز (16) عاما من عمره، وبات أحد المقربين من مرشدها الأول، حسن البنا، الذي اختاره سكرتيرًا خاصًا للأمير سيف الإسلام الحسن، نجل الإمام يحيى، حاكم اليمن.
ذكر عبدالوهاب العقاب في كتابه «تاريخ اليمن»: «عندما عقد مؤتمر فلسطين في لندن من مندوبي الدول العربية، وممثلي فلسطين العرب بدعوة من الحكومة البريطانية عام 1938، كان يمثل اليمن فيه الأمير سيف الإسلام الحسن، وقد مر من القاهرة بعد عودته من اليابان، وفي معيته القاضي العمري والقاضي الشامي، فاتصل في مروره هذا بالإخوان، وطلب من المرشد العام أن يختار له من الإخوان (بهذا الوصف) سكرتيرًا خاصًا، إذ إنه سيكون له من الأعمال الخاصة ما يستدعي كفؤًا أمينًا فقدم له الأستاذ محمود أبو السعود أحد إخوان المركز العام الذي صحبه إلى لندن، وقام بمهمته خير قيام مما كان له أجمل الأثر في نفس الأمير (رحمه الله) وتوثقت صلته بالإخوان منذ هذا التاريخ».
وفي كتاب “أحداث صنعت التاريخ” لمحمود عبدالحليم ورد اسم محمود أبو السعود: «طلبت (إنجلترا) عقد مؤتمر من أجل فلسطين في لندن يضم العرب واليهود وممثلي الحكومة البريطانية، وكان من ممثلي العرب عدا عرب فلسطين الأميران فيصل بن عبدالعزيز وأحمد بن يحيى، واشترك الإخوان في المؤتمر باعتبارهم سكرتيرين للأميرين ومترجمين لهما، وأذكر أن ممن أوفد الإخوان الأخ محمود أبو السعود وكان طالبا بكلية التجارة ويجيد اللغة الإنجليزية كتابة وتحدثا، وسمي هذا المؤتمر بمؤتمر المائدة المستديرة»
بعد عام 1954 ودخول الجماعة في صدام مع جمال عبدالناصر وثورة يوليو (تموز)، هرب محمود أبو السعود في اتجاه ليبيا ليحتل مركزا مرموقا في نظام الملك إدريس، الذي عينه مستشارًا مركزيًا للمصرف المركزي الليبي ولوزارة الاقتصاد، إلا أنه استطاع الإفلات بعد أن قام العقيد الليبي معمر القذافي بانقلاب ضد الملك إدريس، حيث تصادف أنه كان يقضي إجازته خارج البلاد.
جاء في كتاب «من داخل الإخوان المسلمين» لدوجلاس تومسون ويوسف ندا :«في عام 1962 قابل يوسف ندا الملك إدريس، ونشأت بينهما علاقة ود، وتوسط لهذا اللقاء فتحي الخوجة رئيس المراسم، الذي أدرك الشاب أنه مسلم ملتزم نزيه، لقد أخبره الشاب يوسف عن اعتقاله والمعاملة التي تلقاها في مصر، كان له أيضًا علاقات مع مسؤولين آخرين مثل الدكتور محمود أبو السعود، الاقتصادي العالمي وعضو جماعة الإخوان المسلمين، والذين كان معه في معتقل عبدالناصر الحربي 1954، كان الملك إدريس قد عين أبا السعود مستشارًا مركزيًا للمصرف المركزي الليبي ولوزارة الاقتصاد كذلك».
يضيف الكتاب: «غادر يوسف طرابلس في التاسع من سبتمبر (أيلول) 1969 مختبئا خلف ثلاجة قبطان السفينة، في اليوم التالي وصلت قائمة أخطر المطلوبين من القاهرة، وعلى رأس قائمة المطلوب ترحيلهم الدكتور محمود أبو السعود، ثم يليه الاسم الثاني في القائمة يوسف ندا».
أما عن مصير أبي السعود فيقول الكتاب: إنه كان «يقضي إجازة عندما حدث الانقلاب، إذ ذهب إلى أمريكا حيث ساعد في تنظيم جماعة الإخوان، وساهم في نشاط جمعية الطلاب المسلمين في أمريكا».
خرج الدكتور محمود أبو السعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد ثورة القذافي على السنوسي ملك ليبيا، ليؤسس هناك واحدة من أكبر المنظمات، التي لعبت دورًا كبيرًا وخطيرًا لصالح الجماعة.
اجتمع أبو السعود وسعيد رمضان، وشرعا في تجميع أعضاء التنظيم الدولي للإخوان في أمريكا واستقطبا المهاجرين من الدول العربية، ودمجوهم في جمعية الطلاب المسلمين… ثم كان لأبي السعود دور كبير في تأسيس مؤسسات اقتصادية، شرع قادة في الجماعة لاستكمالها فيما بعد.
تحليل مضمون الوثيقة
فتح الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، أبواب السجون، في منتصف مطلع سبعينيات القرن الماضي، ليخرج منها الآلاف من أعضاء تنظيم جماعة الإخوان الذين كان قد زج بهم داخلها سلفه الراحل جمال عبدالناصر، على إثر الصدام الذي شب بين الجماعة ومجلس قيادة ثورة عام 1952، وأفضى في نهاية الأمر إلى محاولة اغتيال عبدالناصر في حي المنشية بالإسكندرية (شمال القاهرة) عام 1954.
حاولت الجماعة إعادة إحياء نفسها مجددًا، فعقد قادتها اجتماعًا مصغرًا لمناقشة شكل العودة، وأي ثياب يمكن أن ترتديه الجماعة في العصر الجديد.
اقترح البعض أن يتحول التنظيم لجماعة ثقافية تعنى بإنشاء دور النشر وإقامة الندوات الثقافية، وكان من بين هؤلاء محمود عبدالحليم، مؤرخ الجماعة وصاحب كتاب «الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ» والذي كان حكى هذه الواقعة في حوار له مع الباحث حسام تمام نشره في كتاب «الإخوان المسلمون .. تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم».
بينما رأى عدد من القادة ضرورة عودة التنظيم السري للجماعة، وكان من بين هؤلاء مصطفى مشهور، وأحمد حسنين، وهو ما اعترض عليه غالبية الحضور الذي انتهوا في نهاية الاجتماع إلى ضرورة عودة الجماعة بشكل علني وإنهاء العمل السري.
إلا أن قادة الجماعة من أصحاب النظام الخاص القديم شرعوا في العمل السري، تاركين القادة العلنيين يخطون مسارهم كما رسموه، فباتت هناك جماعتان: واحدة يقودها عمر التلمساني كمرشد علني وحوله مكتب الإرشاد الرسمي، وأخرى تعمل في باطن الأرض لكنها تتمدد وتسيطر على مقاليد الأمور في الجماعة كلها.
تأتي هذه الوثيقة في هذا السياق لتكشف اعتراض صاحبها «محمود أبو السعود» على ازدواجية القيادة في الجماعة، وليطعن في شرعية القيادة السرية شارحا القصة بتفاصيل، على الرغم من أنه أخفى عدداً من الأسماء على رأسهم مسمى المرشد «الخفي».. ونعرض لتحليل مضمون الوثيقة في النقاط الآتية:
- لا ينسى صاحب الرسالة في مقدمته كشف الغاية من كتابته لها فيقول: «المقصود من هذه الرسالة محاولة استكمال النقص في البناء الراهن لجماعة الإخوان المسلمين، والكمال لله وحده، وإزالة ما يعترض طريقها من عوائق نشأت من قصور في هياكلها وأحسب أن أوجه النقص الداخلية بادية، وإجمالها نقص في الشرعية ونقص في الأهلية».
يحاول «أبو السعود»، على طريقة الإسلاميين التنظيميين، إثبات أن هدفه هو البناء لا الهدم، واستكمال النقص لا إثارة الفتنة، وأن الهدف الأسمى له من الرسالة هو إزالة العوائق، لا وضع العصا في تروس العجلة، في محاولة منه -على ما يبدو- لقطع الطريق على خصومه في التنظيم، الذين يواجهون مثل تلك الرسائل أو الخطابات بسيل من التهم والتشكيك.
محور نقص الشرعية
- يتطرق «أبو السعود» للمحور الأول وهو «الشرعية» فيعود إلى الماضي القريب، قبيل رحيل المرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي عام 1973 فيقول:
«قيل: إن فضيلة المرشد حسن الهضيبي (رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء) استخلف أخًا كريما، وأن هذا الأخ اعتذر عن قبول المنصب -وهو الآن من المطالبين بالشرعية- ثم قيل: إن البعض اقترح على فضيلته اسمًا آخر، فرأى (عليه الرحمة والرضوان) أن يُسأل هذا عن رأيه أولًا، إلا أن الله اختار المرشد إلى جواره قبل أن يُخطر بالنتيجة».
مع أن الكاتب بدأ بـ«قيل» وهو ما يشير إلى عدم قدرته على إثبات الرواية إلاّ أنه يعود فيكمل: «والمتواتر -والعهدة على الرواة- أن هذا الأخ الكريم قد قبل تحمل عبء القيادة بشرطين…».. إذن هناك تواتر وهناك رواة، إلا أننا نلفت إلى أننا لم نستطع التأكد من وجود رد مكتوب من مكتب إرشاد الجماعة أو أحد قادتها على ما أورده «أبو السعود» في رسالته، لكننا نملك أدلة على اجتماع الرجل مع قادة الجماعة في مصر بمكتب الإرشاد القديم في الحلمية (شرق القاهرة) من خلال رسائل أخرى كشفت عن ذلك.
- مع أن حسن الهضيبي، كان قاضيًا، متأثرًا بالقوانين واللوائح، فإنه حسب ما جاء في الرسالة، اختار أن يستخلف مرشدًا للجماعة من بعده، ضاربًا بلائحة الجماعة عرض الحائط، إلا أن الضعف والترهل الذي أصاب الجماعة نتيجة انهيار هياكلها، ربما دفع بالرجل إلى أن نحا هذا المنحى.
- يكمل أبو السعود: «المتواتر -والعهدة على الرواة- أن هذا الأخ الكريم قد قبل تحمل عبء القيادة بشرطين: هما ألا يكون مرشدًا وألا يعلن عن اسمه، ويبدو أنه لم يرغب في أن يتولى المنصب عن طريق الاستخلاف، فأراد أن يقود الدعوة في غياب مرشدها حتى تسمح الظروف باختيار مرشد جديد بالطريقة المشروعة، أي المقررة في النظام الأساسي للجماعة ولأمر ما، دعا الإخوة الذين قاموا بهذه الاتصالات إلى بيعة من اشتهر بعد ذلك بـ”المرشد الخفي” فكانت بدعة قبلها كثير من العامة، ورفضها غالبية الخاصة، والمهم إظهاره الآن أن البيعة أخذت لمرشد اشترط ألا يكون مرشدَا، وهذا إخلال بشرط العهد…»
ينتقد أبو السعود البيعة لشخص اشترط أن يكون سريًا، لكنه حاول أن يطرح أسبابا خاصة بالرجل المبايع بدت غير مقنعة… إلا أنه مع معرفة اسم المرشد الخفي يمكن الوصول لأسباب أخرى دفعت هذا الشخص إلى أن يشترط أن يكون خفيًا.
المرشد الخفي هو المهندس حلمي عبدالمجيد، الذي انضم لجماعة الإخوان المسلمين عام 1938، ثم التحق بالنظام الخاص للجماعة، وشارك في العديد من أعماله، وكان له دور كبير في إنشاء العشرات من شُعب الإخوان في هذا العصر، وتعرض للسجن في العهد الملكي ثم العهد الناصري في مصر.
اختاره حسن الهضيبي لتولي منصب رئيس التنظيم السري بعد مقتل مسؤوله سيد فايز، حتى تولاه يوسف طلعت بعد ثورة يوليو (تموز) 1952.
إلا أن «عبدالمجيد» كان قد انخرط في مشاريع استثمارية وقومية كبرى، ساعده في ذلك قربه من الرئيس الراحل أنور السادات، ومن رجاله المتنفذين، من أمثال عثمان أحمد عثمان، وحسب الله الكفراوي.
ولذا فقد كان مديرا عاما لمشروعات كبرى مثل مطار القاهرة الدولي، وتوسيع قناة السويس، كما كان من مؤسسي بنك فيصل الإسلامي المصري، كما شارك في تأسيس شركة المقاولون العرب، شغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة فودكو للمواد الغذائية، كما كان من مؤسسي بنك التقوي «وفق موقع المعرفة».
توسع «عبدالمجيد» وانخراطه في المشاريع الكبرى والقومية المصرية، ربما وقف خلف دوافعه برفض أن يقبل أن يكون مرشدًا علنيًا.
- فوجئ أبو السعود وغيره من إخوان الخارج بمبايعة عمر التلمساني مرشدًا بالرغم من وجود بيعة أولى سرية لحلمي عبدالمجيد فيكمل قائلًا: «ثم إذا بنا نفاجأ بأن الأخ الكريم الأستاذ عمر التلمساني (رحمه الله وأرضاه) قد عُين مرشدا باعتباره أكبر الأعضاء سنًا في آخر مكتب شرعي للإرشاد، وطُلب من الإخوان مبايعته، ويبدو -والله أعلم- أن من أحجم عن مبايعته اعتبر مفارقًا للجماعة.
- يرى أبو السعود أن «وجه القصور في شرعية هذا التعيين هو انعدام منطقيته إذ لو اجتمع أعضاء مكتب الإرشاد القديم –آنئذ- واتخذوا هذا القرار وما يستتبعه من وجوب الدعوة إلى الهيئة التأسيسية لاختيار مرشد جديد، لكان ذلك متمشيًا مع الشرعية لمطابقته لنصوص أحكام القانون الأساسي، أما أن يصدر قرار التعيين من غير هؤلاء، وأن يفضي إلى دعوة الهيئة التأسيسية وأخذ رأيها ولو “بالتمرير” فذلك انتهاك صارخ لدستور الجماعة، وتصرف أدى فعلا إلى خلل ظاهر في بنيتها، وهو ما دعانا إلى كتابة هذه الرسالة».
إذن، فأبو السعود يرفض آلية اختيار المرشد السري كما يرفض آلية اختيار التلمساني، باعتباره أكبر الأعضاء سنًا في آخر مكتب شرعي للجماعة، أيضا باعتبارها مخالفة للنظام الأساسي للجماعة.
- لكن لماذا يسرد أبو السعود كل هذه التفاصيل في 1988 مع أنها وقعت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي؟
تبدأ الإجابة في الوضوح شيئا فشيئًا عندما يكمل الرجل رسالته: «على أن أسوأ ما في القضية وأبعدها أثرًا هو منطق الواقع الذي يستعمله ويحتج به الذين بدؤوا جهدهم وجهادهم المشكور ساعين إلى إيجاد كيان للجماعة في وقت ادلهمت فيه الخطوب.. فكانوا صلة بين المرشد العام (عليه الرحمة والرضوان) وبين ذوي السابقة، وانتهى بهم الأمر إلى تبوؤ مراكز القيادة».
يبدو أن الرجل يشير -بشكل مهذب- إلى من استطاع أن يقفز إلى المراكز العليا في الجماعة عن طريق اللعب على منصب المرشد، وخلق كيانات موازية وغالبيتهم كانوا كوادر في النظام الخاص للجماعة.
يضيف: «كان طبيعيًا أن يتصرف هؤلاء الإخوة الكرام حسب تكوينهم الفكري والعملي في الدعوة، ولم تكن لهم سابقة في المعترك الثقافي أو السياسي، إذ كانوا في غالبيتهم من أعضاء (الجهاز الخاص) فكان من المنطق المعقول أن يلجؤوا إلى أساليبه، وأن ينظروا إلى الأمور كلها بمنظار قيمه، وأن يبدؤوا في تجميع الإخوان على أساس تعاليمه، ورأوا بعد فترة أن يضعوا ما شاؤوا من لوائح ويلغوا ما شاؤوا مما استقر من النظام الأساسي للجماعة ومن لوائحها، كل ذلك حدث مستمدا شرعيته من “الأمر الواقع” بحجة أنهم وحدهم أصحاب الفضل، الثُّبت البهاليلُ، حين خلا الجو في ظنهم من كل فارس عداهم».
هنا تتعالى نبرة أبي السعود في النقد الذي يصل إلى حد الهجوم في من رأى أنهم قليلو الخبرة الثقافية السياسية، الذين قفزوا على القيادة في لحظة من تاريخ الجماعة، بعد أن صدروا أنفسهم بأنهم أصحاب السبق والفضل، في حين أن خبراتهم اقتصرت على كونهم أصحاب تجربة في التنظيم السري، إلا أنهم استطاعوا فرض أنفسهم بحكم الأمر الواقع.
- يذهب أبو السعود إلى نتيجة تحكم أصحاب الجهاز الخاص في الجماعة فيستطرد: «وكان طبيعيًا أن يستمروا في هذه السياسة القاصرة، في تجميع الإخوان حسب فلسفة الجهاز وعقليته، وتربية الشباب على مقتضى نظامه، وإبعاد كل من يخالف عن هذا التكوين».
يقف أبو السعود عند هذه النقطة ليؤكد أن كلامه السابق ليس «افتئاتاً ولا مبالغة، فكاتب هذه الرسالة (أبو السعود) ضحية هذا التطور المحزن.. ومعه جموع من خيرة الإخوان، وليس هذا اتهاماً ولا هو عتاب، ولكنه شرح لحقيقة قد تغيب عن بعض الأذهان، إنه تقرير وتفسير لواقع نريد أن نغيره، وأن نرقى به إلى ما هو أفضل وأكمل».
يكشف أبو السعود عن تحول الجماعة بكاملها لشكل النظام الخاص في ثقافته وأدبياته كما في هيكله التنظيمي «وهكذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين مكونة من أسر أو خلايا أو غير ذلك من الأسماء، تسير حسب النظام الذي اشترعه إخواننا، وهو نظام الجهاز، وهو نظام في صادق تصورهم خير ما يجب أن يكون عليه النظام… وذلك مبلغ علمهم فلا تثريب ولا تجريح».
- لكن أبو السعود يلفت إلى وجود تناقض داخل التنظيم بين من يعتبر أن الجهاز الخاص هو «أصل في دعوة الإخوان» ومنهم من عينه مرشدا للجماعة (لم يحدد أي مرشد هل هو العلني أم الخفي) بينما «يسمع في الجلسة نفسها من أخ هو من صفوة الإخوان وهو رئيس الكتلة الإخوانية البرلمانية أن (الجهاز) هيكل اقتضته ظروف تاريخية معينة، وحيث انقضت هذه الظروف فليس هناك مبرر لوجوده وليس هناك مجال لأفكاره ونظامه… وفي الجلسة نفسها من الإخوة المتبوئين مقاعد القيادة عدد ينظر بعضهم إلى بعض ولا يعقبون».
- ينتقل أبو السعود لمرحلة ما بعد المرشد الثالث، عمر التلمساني، بعد تكون مكتب إرشاد جديد أو ما في حكمه، إذ يحكي واقعة تنصيب مرشد جديد، بعد وفاة التلمساني «اتجه أعضاء هذا المكتب إلى مكتب الإرشاد القديم، ليختاروا أكبر أعضائه سنًا مرشدًا عامًا…!».
ذهبت الجماعة في البداية لاختيار مصطفى مشهور، على اعتبار أن حامد أبو النصر، وهو أكبر الأعضاء سنا في مكتب الارشاد القديم، لن يقبل منصب الإرشادية، لظروف تتعلق بسنه ومرضه، إلا أنهم فوجئوا بقبوله المنصب «وفق شهادة السيد عبدالستار المليجي، أحد القيادات المنشقة عن الجماعة».
يتعجب الرجل من هذا الإجراء فيقول: «هذا أمر يعز فهمه على كل صاحب منطق سليم أو سقيم» ثم يدفع بعدد من الأسئلة الاستنكارية: «لماذا لم يختاروا أكبر الأعضاء سنا من بينهم؟ لماذا لم يرجعوا إلى لوائحهم الجديدة ونظمهم التي سنوها بأنفسهم لأنفسهم؟ أهو شعور بالإثم إن خالفوا النظم التأسيسية واللوائح التنظيمية التي وضعت في عهد حسن البنا، والتي عدلت في عهد حسن الهضيبي؟ أم هي حيلة تشريعية لاكتساب الشرعية؟».. ويبدو أن التساؤل الأخير هو الذي قصده أبو السعود.
- وفق مفهوم كاتب الرسالة، فإنه يريد أن يصل إلى أن مجموعة النظام الخاص، تريد أن تنزع الشرعية لنفسها بالأمر الواقع، وأن تفرضها على الأغلبية العظمى من الجماعة، بل إنه ذهب لتشبيههم بجمال عبدالناصر، الذي يحتل في مخيال الجماعة، الرجل المستبد الذي أراد الانفراد بحكم الشعب، وفرض شرعيته.
في هذا السياق يكمل أبو السعود: «إذا حسب الإخوان القائمون على هذه الدعوة حاليًا أن منطق الأمر الواقع ينسحب على الإخوان جميعًا فإنهم واهمون، إن الإسلام لا يقبل هذا المنطق، وإلا لقبل الإخوان عبدالناصر كسائر الحكام المستبدين، فرض نفسه بالسلاح بينما فرض إخواننا أنفسهم بالاقتصار على بقايا الخلايا والأسر أو ما سواهما، كل منهما استعمل ما توافر لديه من أسباب للوصول إلى غايته، وكل منهما انتهز فرصته: عبدالناصر أراد حكم الشعب ومن اقتنع في عقله وقلبه أنه أفضل من يحكم، وإخواننا الأعزة أرادوا الحفاظ على كيان الجماعة وقد اقتنعوا في عقولهم وقلوبهم بأنهم خير من يفعل ذلك.. وكلاهما نبذ من خالفه، وكلاهما طلب ممن يريد العمل مخلصًا وجهه إلى الله أن ينخرط في سلك نظامه، وأن يبايعه على السمع والطاعة، وأن لا يخالف عن أمره».
- يختم أبو السعود هذه المحاور بسؤال المحاسبة فيقول: «سأل كاتب هذه الرسالة: من الذي يحاسب مكتب الإرشاد الراهن؟ لم يجرِ أحد من القائمين على الأمر ممن سمعوا السؤال جوابًا، وكل ما قيل له هو أن هؤلاء الإخوة الكرام قد وصفوا دستورا جديدا أو نظاما أساسيا جديدا تتكون بمقتضاه هيئة للشورى، وحين تتغير الأوضاع السياسية فستنتخب هذه الهيئة من المناطق والأقاليم، لتكون صاحبة الكلمة في اختيار المرشد وفي انتخاب مكتب الإرشاد، وقيل أيضًا إن ذلك غير متيسر في الوقت الراهن لما هو معروف من موانع قانونية وأحكام عرفية».
ظلت هذه إجابة قادة التنظيم لكل من يتساءل من خارج الجماعة ومن داخلها عن نظام المحاسبة، وعن كيفية إنهاء سيطرة مكتب الارشاد -الذي هو في الأصل جهة تنفيذية- على قرارات الجماعة بحجة عدم إمكانية إجراء انتخابات مجلس الشورى، أو عدم قدرة الجماعة لدعوة هذا المجلس للانعقاد لأسباب أمنية، فظل مكتب الإرشاد صاحب القرار الأصيل في الجماعة.
يسخر أبو السعود من هذه الحجج فيقول: «أما أن يجتمع الإخوان في معسكرات تضم المئات، فهذا ممكن مندوب إليه… بالرغم من الموانع القانونية والأحكام العرفية».
يؤكد الرجل أن «قضية المسؤولية من الأهمية بمكان، وهي من صميم الشرعية، وهي الواجب الذي يقابل حق القيادة، وإغفالها إغفال لمبدأ الشرعية، ولا يعفى منها أن يقال: إن القائمين على الأمر “مفوضون” بالعمل مسؤولون أما أنفسهم وضمائرهم، ولا يغني قولهم: إن الله اختارهم في مواقعهم، فذلك كله مما لا يقبله منطق الإسلام، بل لا يقبله منطق أي نظام سياسي وضعي غير إسلامي».