مشاري الذايدي[1]
إن الكتابة في هذا الموضوع كانت مهمة شاقة على كاتب هذه السطور، بل الكتابة عن كلِّ شأن قديم، يتعلق بمجتمعات ودول الجزيرة العربية، يعد حفراً في الصخر، وذلك لقلة الموارد التاريخية، وحداثة اهتمام أهل هذه المناطق بالتدوين والتأليف. ومن قَبل نوه رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، أ.د. عبد الله يوسف الغنيم، وهو يرأس مركزاً من أفضل مراكز الدراسات التاريخية في الخليج، لشحة المصادر، وهو يتحدث عن كتاب الباحث عدنان بن سالم الرومي عن علماء الكويت وأعلامها: “هو أمر عسير في ظل قلة المصادر المكتوبة عن رجالات الكويت وأعلامها”([2])، ناهيك عن عزوف كثير من علماء نجد ومثلهم الخليج العربي عن الرصد والتأليف([3]).
تثير هذه الدراسة عدداً من الأسئلة عن حقيقة وجود إسلام تقليدي في الكويت قبل نشوء تيارات الإسلام السياسي في خمسينات القرن الماضي، وهل الإسلام التقليدي إسلام الفقهاء المتفرغين للفقه قد انحسر وتراجع لصالح إسلام” المثقفين” والمسيسين؟ وعن حقيقة دور وتأثير إسلام الفقهاء، كعلماء الأحساء والزبير والبصرة. كما تطرح سؤالاً عن سبب احتكار الإسلام السياسي في الكويت والبحرين وربما السعودية لاحقاً للحديث عن الهوية الإسلامية ورسم ملامحها.
لقد قرأنا شيئاً عن حركة الإخوان المسلمين منذ نشأتها في الكويت باسم جمعية الإرشاد ثم الإصلاح، ثم إنشاؤها لذراعها السياسي “حدس” أو الحركة الدستورية الكويتية حالياً، ونعرف أيضاً شيئاً عن تيارات الحركة السلفية في الكويت، مثل جمعية إحياء التراث أو السلفية العلمية أو السلفيين المستقلين، من خلال مقالات الصحف اليومية أو من الدارسات والأبحاث المتخصصة، مثل أبحاث الدكتور فلاح المديرس المتنوعة، ومع ذلك سنجد أقصى مدى زمني لهذه الحركات والتيارات السياسية لن يتجاوز 1952، وهو تاريخ إنشاء جمعية الإرشاد الإسلامي على يد عبد العزيز العلي المطوع، أحد تلاميذ حسن البنا والمعجبين به، ثم شقيقه عبد الله العلي المطوع الذي اسـتأنف عمل جماعة الإخوان من خلال جمعية الإصلاح التي انطلقت في 1962.
وكان عبد الله العلي المطوع ( الحاج بو بدر كما يحب أن يتودد إليه أصحابه)، هو رمز الإخوان في الكويت، وهو من خريجي مدرستي المباركية والأحمدية، وهما المدرستان اللتان مثلتا منطلقا لكثير من رواد التغيير في الكويت، وقد أنشأهما رواد التغيير والإصلاح، بقيادة الشيخ يوسف بن عيسي القناعي “مصلح الكويت الأكبر”، كما يسميه صديقه وتلميذه المؤرخ والاصلاحي السلفي عبد العزيز الرشيد. وكان عبدالعزيزالعلي المطوع قد التقى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا عام 1947 في مكة.[4]
بعد هذه الإشارة، نكون قد وضعنا أصبعنا على “حداثة” النشوء الحركي للإسلاميين السياسيين في الكويت من جهة، ومن جهة أخرى على تشابك العلاقات في تيار الإصلاح، وكان بقيادة الشيخ يوسف بن عيسى، وهو في الوقت نفسه الرجل الثري والمستشار السياسي، وكان كما قال عنه المؤرخ عبد العزيز الرشيد: “هو في الحقيقة مصلح الكويت الفذ”. ويضيف: “ولاغرو أن يمتاز هذا الأستاذ على إخوانه بذلك، فإنه قد جمع مع الثروة علماً جماً انكشف له به من الأسرار مالم ينكشف لأحد من مواطنيه”([5]).يصف المؤرخ عبد الله الحاتم الشيخ يوسف ابن عيسى القناعي بـ”المصلح الكبير”([6]).
كان هذا المصلح الكبير، محور الكثير من الخطوات الإصلاحية في السياسة والتعليم في الكويت، وكان تلميذاً مقرباً وصديقاً للشيخ رشيد رضا وبينهما مراسلات، كما كان له صلة وطيدة أيضاً بحافظ وهبة ومحمد الشنقيطي، وكان مناصراً للإصلاحية السلفية على طريقة الإمام محمد عبده، وفي الوقت نفسه كان هو كبير الأسرة التي ينتسب إليها الشقيقان عبد العزيز وعبد الله العلي المطوع، رمزا الإخوان المسلمين في الكويت. وبفضل الشيخ القناعي تحقق الكثير من الخطوات الانفتاحية شبه الليبرالية في البلد، حسبما سيرد بشكل أوسع في موضع آخر من البحث.
النشاط الفقهي والفكري قبل ظهور الجماعات الإسلامية
كانت الكويت، كبلاد فاعلة في منطقة الخليج والعراق ونجد، تعيش نشاطاً فكرياً ودينياً، وإن كان (باهتاً) حسب وصف المؤرخ عبد العزيز الرشيد. وقد مرَّ بالكويت علماء كثيرون عبروها إلى العراق وفارس، أو كانوا عائدين من هذه البلدان عبر الكويت إلى الأحساء ونجد والخليج ، وهو الأمر الذي أبقى أثره مع السنين في الكويت مع العلماء الزائرين، أمثال ابن فيروز أو ابن سلوم أو إبراهيم الجاسر أو الشيخ العلجي وغيرهم من علماء الإحساء ونجد، كما هو الحال مع المصلح المصري حافظ وهبة، أو التونسي عبد العزيز الثعالبي، أو الشامي المصري محمد رشيد رضا، وآخرين. كل هذا النشاط حدث قبل نشأة التيارات الإسلامية الحديثة في الكويت بتاريخ طويل، وكان أبكر تلك التيارات هم الإخوان بشكلهم الجنيني من خلال جميعة الإرشاد سنة 1952.
الكويت في القرون الماضية
نرى أن الكويت كانت معروفة منذ 1135 هـ – 1723م، وهو أقدم تاريخ علمي ديني، لأنه السنة التي ذكر مؤرخ الكويت الأكبر الشيخ عبد العزيز الرشيد أنها سنة وفاة قاضي الكويت الأول محمد بن عبد الوهاب بن فيروز. وهو تاريخ أقدم من تاريخ وفاة أول أمير للكويت من آل الصباح، وهو صباح الأول أو صباح العتبي كما يُدْعَى. وقد توفى سنة 1190 هـ-1776م، أي أن قاضي الكويت الأول مات ودفن في الكويت قبل وفاة أول أمير لها بحوالى 55 سنة.
ويذكر المؤرخ عبد العزيز الرشيد أن الشيخ مبارك الصباح، أو مبارك الكبير كما يعرف، قال في إحدى رسائله لبعض ولاة البصرة: إن الكويت تأسست سنة 1022هـ – 1613م، ويقول البعض بل هو في سنة 1083هـ – 1672م. ويرى آخرون أنها تأسست سنة 1100هـ – 1689م، وينقل الرشيد عن أحد أدباء وشيوخ البحرين آل خليفة، وهو إبراهيم ابن الشيخ محمد، أن تأسيس الكويت كان سنة 1125هـ -1713م، ويصف الرشيد الشيخ إبراهيم آل خليفة بالمحقق العلامة، ثم يرجح أن أقرب الأقوال للصواب هو قوله أو القول بأنها سنة 1100هـ -1689م([7] ).
لقد أُهمل هذا العمق الزمني المديد للتاريخ الديني والعلمي في الكويت عند العديد من الباحثين في نشأة الحركة الاسلامية بشتى أطيافها، ومهما بدا متواضعاً، تبقى له قيمته في البحث. كانت الكويت منذ نشأتها نقطة تقاطع للحراك الاقتصادي والسياسي والعلمي في منطقة شمال وشرق الجزيرة العربية؛ وفي منطقة العراق وفارس والخليج العربي أيضاً، بل إن بعض الرحالة القدماء يصف التقدم والوعي السياسي في الكويت بـ “الجمهورية “. ظهرت الكويت في خرائط القرن التاسع عشر تحت مسمى الجمهورية، منها خريطة الجزيرة العربية، التي رسمها كارل ريترC.Ritter ([8]).
ويبدو أن وصف الكويت بالجمهورية كان متداولا في تلك المرحلة، فقد أطلق والي بغداد الشهير مدحت باشا عليها الاسم نفسه، حين زارها في مايو 1872 حسب ما ورد في مذكراته، قال: “هي كائنة على الساحل بالقرب من نجد، وأهلها مسلمون، ولم تكن تابعة لحكومة من غير أهلها، وأراد نامق باشا إلحاقها بالبصرة فأبى أهلها، لأنهم تعودوا عدم الإذعان للتكاليف والخضوع لحكومات غيرهم، وشيخها اسمه عبد الله الصباح (يقصد الحاكم الثاني) وأهلها شافعية، وهم يديرون أمورهم بحسب الشرع، ومنهم حاكمهم وقاضيهم، فهم أشبه بالجمهورية”([9]).
نرى مثل هذا الوصف أو قريبا منه- كله يدور حول اعتزاز الكويت باستقلالها وخصوصيتها- يتردد كثيراً لدى مؤلفين عن الكويت من أهلها ومن غيرهم. بل إننا نرى كيف أن شيخاً “سلفياً” وإصلاحياً، تمتع بعلاقات جيدة مع الملك عبد العزيز، وكلفه الملك بنشر الدعوة السلفية في بلاد إندونيسيا، وهو الشيخ المؤرخ عبد العزيز الرشيد، لايختلف هو الآخر عن الاعتزاز بهذه الاستقلالية الكويتية.
وقد أرجع الرشيد سبب أزمة “المسابلة” الشهيرة بين أهل نجد والكويت- عندما منع الملك عبد العزيز أهل نجد من مسابلة الكويت أي البيع والشراء في أسواقها- إلى أن الملك أو “عظمة السلطان”، كما وصفه، أراد ألا يجني ثمرة متاجرة أهل نجد مع الكويت غيره، وقد صمم على ألا يتنازل عن هذا المنع إلا إذا قبل منه الكويتيون إحدى ثلاث: إما تعويض مادي شهري عن هذه الخسارة من تجارة أهل نجد الخارجية، أو أن يضع جابياً في سوق الكويت يقبض رسومه من رعاياه هناك بدل حاكم الكويت، أو أن يعين حاكم الكويت من قبله من يقبض له الرسوم. وبعد استفاضة المؤرخ في شرح غضب ونقاشات أهل الكويت حول طمع السلطان عبد العزيز فيهم وسطوته عليهم، وأن ذلك مقدمة لأطماع سياسية أكبر، قال الرشيد: “الكويت لا خوف عليها من عظمة السلطان، ومطامعه مادامت في معاهدة مع انكلترا التي لايمكنها -ولها فيها شيء من المصالح والآمال- غضُّ النظر عمن يحاول ابتلاعها، مهما كان جنسه ومهما كانت المنافع التي تجنيها من ورائه، نظراً لأهمية الكويت الجغرافية والسياسية في الخليج”([10]).
لاحظ أن الرشيد يقول هذا النص المفعم بروح التشبث باستقلال الكويت، ولو تحت حماية حراب الإنجليز، حتى ولو كانت هذه الحراب موجهة للسلطنة الوهابية السلفية، التي هو نفسه من أنصارها، فهو رجل حنبلي النشأة، أصل أسرته من مدينة الزلفي النجدية، هاجر والده المباشر منها بسبب القحط الذي أصاب الديار النجدية، وكان والده كما يصفه المؤرخ الكويتي يعقوب الحجي في كتابه الذي أصدره عنه “رجلاً متديناً على طريقة أهل نجد الحنابلة”([11]).
إذن، فنحن نتحدث عن حالة بلد مميز بموقعه، ونسيجه الاجتماعي ومحطاته التاريخية، وخصوصيته النفسية التي أدت به إلى أن يكون حريصا ًعلى استقلاله، ومأوى للجميع من سنة وشيعة، بل حتى مسيحيين ويهود!([12]).
يذكر الباحث الكويتي، المهتم بالوثائق القديمة المحلية منها والأجنبية، يعقوب البراهيم، أن السبب الرئيسي لهجرة أهل نجد إلى الكويت لم يكن كله بسبب القحط أو الجوع، مع أن هذا سبب رئيس، لكنْ هناك أسباب تتعلق بالضيق من التزمت، أو بسبب الحروب والفتن الداخلية، التي كانت كثيرة الحدوث قبل توحيد المملكة العربية السعودية([13]).
ولعله مما يصدق كلام الأستاذ يعقوب الإبراهيم أن نذكر قصة رحيل أبرز علماء الحنابلة، بل عالمهم الأول في الكويت، الشيخ عبد الله الخلف الدحيان من المجمعة إلى الكويت، وقد كان ذلك بسبب حصار الإمام عبد الله الفيصل بن تركي للمجمعة في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر، وكان والد الشيخ خلف “مطوع” المسجد”، وقد هجاه بعض الشعراء من جيش الإمام في قصيدة ظريفة ذكرها عبد الله البسام في تاريخه عن علماء نجد، ومنها هذا البيت وهي:
المطوع خَلَف بعد الخطابة
صار يغني بالمحاريب!
وبسبب هذه الحروب، آثر والد الشيخ عبد الله الهجرة إلى الكويت، على الأرجح في سنة1285هـ – 1869م. وفي الكويت ولد الشيخ عبد الله الخلف 1292 هـ- 1876م شيخ الحنابلة في الكويت بل وخارج الكويت، وقد كان والده خلف – وقيل جده- للتو انتقل من حياة البداوة إلى حياة التحضر، حيث كانت أسرته من بادية قبيلة حرب، وقرر أن يكون طالب علم وشيخاً سلفياً وهابياً، لكنه لم يستطع البقاء في نجد بسبب هذه الحروب الداخلية([14]).
هل يمكن وصف الكويت بأنها “منفتحة”- هكذا بإطلاق- خالية من أي تأثير محافظ سواء من ينبوع نجدي عادي أو نجدي سلفي، أو حتى من محافظة دينية بشكل عام؟
هنا نجد مفكراً ومصلحاً وسياسياً عربياً شهيراً، كان له أثر بارز في حياة الكويت العلمية والتربوية والسياسية حتى عُدَّ من أعلام الكويت، وهو مصري المنشأ، وهو الشيخ حافظ وهبة. حينما وصف أهالي الكويت قائلاً: “لقد وجدت في أهل الكويت الأمانة والوفاء والصدق في المعاملة والتدين، وإذا كان فيهم شيء من الجمود والمحافظة على كل قديم فالأحوال الاجتماعية السائدة في تلك الأنحاء في الخليج العربي والعراق، كلها تساعد على هذا الجمود”([15]).
وحول نشاط الإرسالية الأمريكية للتبشير، التي سمح لها الشيخ مبارك بإقامة المستشفى الأمريكي الشهير، يروي أحد الزاور الأجانب(رونكيير)، وهو يصف أسواق مدينة الكويت ومعالمها وطبيعة السكان فيقول: “وإذا مررت بسوق الفحم إلى الشارع الرئيسي، تجد على يمينك دكان الإرسالية التبشيرية الأمريكية، ويغطي طرف منضدة طويلة في ذلك الدكان طبعاتٌ من المؤلفات المسيحية باللغة العربية، ويجلس بجوارها يوما بعد يوم رجل قد وُهِب صبرا عظيما، يفوق طاقة البشر، فطوال اليوم تنساب غمغمات وأحاديث السائرين وأنهار من البشر تمر بجواره فتتجاوزه… ولكن نادراً مايحدث أن تطأ قدما عربي عتبة دكان الإرسالية، وإذا حدث ذلك فإن النهاية ستكون أسوأ من البداية، فالمناقشة الدينية بين مبشر مسيحي ووهابي متشدد يصعب أن تقود الى نتائج ايجابية مهما كان”([16]).
يروي عبد العزيز الرشيد حكاية دالة على وجود هذا المزاج الوهابي، الحذر من تعظيم الصور والأضرحة في الكويت، فقد ذكر وهو يتحدث عن آثار الكويت في جزرها وبرها، آثار ماقبل الإسلام في جزيرة فيلكا: “ويرجح بعض الباحثين أن الجزيرة الكبيرة كانت مسكونة من أمد بعيد، ويؤيد ذلك مايوجد فيها من آثار، فقد عثروا هناك على صنم منحوت عليه كتابة غير عربية، ولكن من عثر عليه حطمه بفأسه ولم يبق عليه جهلاً منه بفائدة الآثار المادية والأدبية، وقد أسف الكولونيل (نوكس) قنصل إنكلتره في الكويت عندما أُخبر بما جرى أسفا عظيما، وقال للمرحوم المكرم فهد الخالد الخضير الذي أبلغه الخبر: لو كان الأثر موجوداً لبذلت فيه دراهم طائلة”([17]).
يعطي ما تقدم بعض الإشارات عن مزاج وهابي سلفي مهيمن في الكويت، وهو في بعض جوانبه أيضاً مزاج ديني محافظ بشكل عام، كالموقف من فتح المدارس النظامية والتعليم الحديث، فقد كان: “التعليم النظامي مجاناً في الكويت، ولهذا تحفظ الناس في البداية على إلحاق أبنائهم، وخافوا أن تأخذ الحكومة أبناءهم بعد أن تعلمهم ليعملوا لديها قسراً، وكان هناك توجس أن تكون مناهج هذه المدارس على خلاف ماتعارفوا عليه من علم ومعرفة توارثوا دراستها والاستفادة منها في المدارس الأهلية، لكن ذلك لم يستمر طويلاً حيث اقتنع الناس بأهمية هذه المدارس وجديتها وفائدة مايدرس فيها، وقد بدأ الاهتمام في البداية بتعليم الأولاد، وجاء تعليم البنات في المدارس متأخراً نسبياً”([18]).
ولم تفتح مدرسة نظامية للبنات الا سنة 1357هـ – 1939م، وهذا الموقف المتحفظ تجاه التعليم النظامي للأولاد، وبشكل أكثر تشدداً تجاه تعليم البنات، مشابه لِما جرى في بلدان وأقطار الجزيرة العربية، على الأخص في نجد وسط السعودية. ولم يكن افتتاح أول مدرسة نظامية في الكويت، وهي المدرسة المباركية سنة 1910 في عهد الشيخ مبارك، بالأمر الهين([19])، رغم قيام ثلة من رجال الدين الكويتيين وغيرهم بالتدريس فيها، أمثال عمر عاصم، وقاضي الكويت يوسف بن عيسى، والشيخ حافظ وهبة، وثلة من مدرسي وعلماء الزبير والأحساء، إلا أنها لم تسلم من المعارضة والتوجس من قبل رجال دين آخرين، لكن هذه المرة رجال دين من المذاهب التقليدية، مثل الشيخ الشافعي الأشعري أحمد الفارسي، وغيره.
ممانعات علماء التقليد في الكويت
ولكن في المقابل، ليست الصورة بهذا التزمت الذي قد يخطر على البال لأول وهلة، صحيح أن هناك تحفظات “تلقائية” تجاه أي جديد، وهناك ممانعات مدبرة من قبل رجال دين ضد التيار الإصلاحي، ممثلين بالشيخين أحمد الفارسي، فقيه الشافعية، والشيخ الأحسائي عبد العزيز العلجي فقيه المالكية، وهؤلاء قد ناصبوا تيار العلماء الإصلاحيين العداء، وكفر بعضهم رشيد رضا، وكتب قصائد الهجاء فيه، كما هي همزية الفارسي الشهيرة.
وقد انتقد الشيخ عبد العزيز الرشيد هذه القصيدة وكاتبها الفارسي والعلجي معاً، حيث قال عن الفارسي : “ظل مدة يبث أفكاره الساقطة وآراءه الجامدة حتى احتل مركزاً عالياً هناك وانقاد له السواد الأعظم انقياد الأعمى لدليله:”([20]). وقال عن الشيخ عبد العزيز العلجي، تلميذ علماء آل مبارك الأحسائيين:”يفد هذا الرجل إلى الكويت من الأحساء، فيقيم هناك مدة ينفث سمومه القتالة، ويسعى في إيقاظ الفتنة النائمة وإضرام نار البغضاء في القلوب، ويستعمل الوسائل العديدة لذلك بلا خوف ولاحياء”([21]).
هذه الحدة من الرشيد ضد خصميه الفارسي والعلجي، ربما كانت بسبب طبع الرشيد النجدي الحاد الذي ورثه من أبيه، كما يذكر صاحب كتاب “علماء الكويت وأعلامها” عدنان الرومي، وربما أيضاً بسبب شراسة العداء الذي أبداه الفارسي لأفكار رشيد رضا وتلاميذه في الكويت، باعتبارها أفكاراً ضالة وبدعية.
يذكر الرومي في معجمه عن علماء الكويت في ترجمة الفارسي: “هو الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن حسن بن محمود زين الدين القلعة، الفارسي مولداً، الكويتي موطناً، والشافعي مذهباً، والقرشي نسباً، وهمش على هذه النسبة بإحالتها الى أوراق كتبها ابن الشيخ أحمد، الأستاذ شيخان”([22]). ويذكر أيضا أنه نشأ في أسرة غالب أفرادها علماء أو لهم صلة بالعلم الشرعي.
ويذكر أنه استكمل مراحله الاولى في طلب العلم الشرعي في مدينة خنج، من مدن بر فارس، حتى هاجر والده بر فارس إلى الكويت سنة 1270هـ -1854م، ثم واصل طلب العلم في الكويت لكنه لم يقتنع بما هو موجود في الكويت، فلاحظ الثري سالم البدر القناعي ذلك([23])، فرحل الشيخ الفارسي الى مسقط ومصر، ويسمي الرومي هذه المرحلة بالمرحلة الثانية من طلب العلم بعد مرحلة مدينته الأصلية في بر فارس( كوهج) .
وعن برِّ فارس، فإن مدنه السنية الكبار مثل كوهج ولنجة، كانت مراكز تعليم شرعي خصوصاً المذهب الشافعي، والمذهب الحنفي([24]). والفارسي كان شافعي المذهب. ويشير الرومي إلى نقطة هامة، حيث تساءل: هل درس الفارسي في برِّ فارس على يد بعض علماء السنة المشهورين بمناصرة السلفية مثل ملا عمران بن رضوان، الذي لقبه بعض علماء الدعوة النجدية بـ”صاحب لنجة”؟
وفي رحلته إلى مصر ودراسته بالأزهر نال مالم ينله عالم كويتي، وهي شهادة “العالية” من الأزهر، كما يذكر المؤرخ والأديب أحمد البشر الرومي في مقدمته على ديوان شاعر الكويت صقر الشبيب([25]). ثم يشير عدنان الرومي إلى جملة هي “المفتاح” في نظري، حيث يقول: “يعتبر الشيخ أحمد من مشايخ الكويت القلائل الذين يمكن أن نطلق عليهم لفظ “عالم” بما تحمله هذه الكلمة من معنى”([26]).
كذلك أشار إلى أن العالم محمد الأمين الشنقيطي، صديق الشيخ حافظ وهبة، وأحد أبرز رموز التيار الإصلاحي الكويتي المناصر لدعوة رشيد رضا، قد حاول الاجتماع بالشيخ أحمد الفارسي إلا أن الأخير رفض، كما رفض من قبل الاجتماع بالشيخ رشيد رضا لما زار الكويت سنة 1330 هـ-1912م. ويعلل الرومي ذلك بأن الشيخ الفارسي كان “يفضل الاعتزال عن الناس”. بينما نجد المؤرخ عبد العزيز الرشيد يعلل امتناع الفارسي عن الاجتماع برشيد رضا في بيت المصلح الكويتي يوسف بن عيسى للنقاش والمناظرة، بسبب انتشار قصيدة الفارسي الهجائية ضد مجلة المنار وصاحبها رشيد رضا، وبأن الفارسي: “أصيب برعدة شديدة وخوف ماعليه من مزيد، فقد كان شجاعا قبل قدوم الأستاذ ومقداما قبل أن يطلب منازلته:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر”([27]).
أما قصيدة الشيخ الفارسي فكانت سببها انتشار مجلة “المنار” في الكويت، حيث كان بيت آل خالد الشهير بالبيت الإصلاحي، قد اشتركوا فيها وفي غيرها من المجلات الخارجية، وبدأ تأثير هذه الأفكار الإصلاحية في أهالي الكويت ونواديها. فلما كثر الاحتاج واللغط أرسل آل خالد يطلبون رأي الشيخ الفارسي والموقف الشرعي، وبعثوا إليه كمية وافرة من أعداد المنار حتى يطالعها ثم يصدر رده النهائي، وبعد فترة كتب قصيدته الهمزية التي مطلعها:
أقول وقد سرت بي الندماء
هنيئا فهذا منهل وسماء
ومنها قوله عن صاحب “المنار”:
تقوَل في القرآن ماليس وصفه
فقال وأخطا ليس فيه شفاء
ومنها قوله:
ورب المنار امتاز عنهم بدعوة
إلى شرع شيطان عليه بلاء([28])
وقال الرشيد، رغم حنقه من الفارسي، الذي انتقده عدنان الرومي في كتابه لأن الفارسي –في نظره- أجلَ منه قدرا وعلما: “إن هذه القصيدة أقامت الكويت وأقعدتها([29]).
كان للشيخ الفارسي تأثير شديد على الشيخ سالم المبارك الصباح، الذي حكم الكويت من 1917 الى 1921م، بل كان الشيخ سالم المبارك تلميذاً للشيخ الفارسي، وبسبب هذا التأثر بشيخه الفارسي اتخذ حاكم الكويت قرارات بتخفيض الجمارك ومحاربة بيوت البغايا. توفي الشيخ أحمد الفارسي في 2 سبتمبر 1933([30]).
وهناك موقف آخر شبيه بموقف الفارسي، وهو موقف ضيف الكويت الأحسائي الشيخ عبدالعزيز العلجي، الذي حاول أن يؤثر على الملك عبد العزيز تجاه رشيد رضا وتياره، وألبه عليهم، فيذكر صاحب كتاب علماء الكويت نقلا عن سبط العلجي، الشيخ محمد الرومي، أن عبد العزيز العلجي كاتب الملك عبد العزيز، وضمن كتابه رسالة رد فيها على أخطاء رشيد رضا في العقيدة والشريعة، لكن هذه الرسالة مفقودة([31])، وتوفى العلجي في 8 أغسطس 1943 وعمره 76 عاماً.
لقد توسعنا قليلا في استعراض حياة الفارسي والعلجي، حتى نمر، ولو لماماً، على جانب من مواقف علماء الدين التقليديين، من شتى المذاهب، تجاه التطورات التي طرأت على الكويت مع هبوب رياح الإصلاح والتغيير. لقد بدأ التغيير والاختلاف يبرز بين رجال الدين حول مسائل الإصلاح والتطوير في التعليم والتفسير العقلاني للإسلام، في آخر عهد الشيخ مبارك الصباح.
يقول الرومي: “قام في الكويت خلاف بين أنصار المنهج الجديد ويمثلهم الشيخ عبد العزيز الرشيد، وأنصار المنهج القديم المحافظ ويمثلهم الشيخ أحمد الفارسي، كان ذلك في أواخر حكم الشيخ مبارك الصباح، حينما دخلت البلاد الصحف المصرية، وبالذات مجلة المنار التي تمثل المدرسة العقلانية”([32]).
وتذكر الدكتورة فتوح الخترش، وهي باحثة كويتية في التاريخ، مثلما يذكر عدنان الرومي، في مقالة لها في مجلة عالم الفكر: أنه “كادت أن تحدث في الكويت حرب شعواء فيما بين الناس على قراءة الجرائد والمجلات لولا أن دفعها الله في مناصرة الشباب وبعض علماء الدين لهذا الرجل العظيم”. تقصد الشيخ عبد العزيز الرشيد.[33]
عبد الرحمن الدوسري..والعودة الى الأصول
وهنا أشير الى موقف آخر، من عالم حنبلي سلفي نجدي، كان من أوائل من استلهم النفس الإخواني واستدخله إلى الجسد الوهابي، إنه الشيخ عبد الرحمن الدوسري، وهو مشهور ويحتل مكانة رمزية في ذاكرة الخطاب الإسلامي الحديث لدى التيار الصحوي في السعودية، كما أكد ذلك رئيس قسم العقيدة السابق في جامعة أم القرى الدكتور سفر الحوالي، وهو أحد رموز التيار الإسلامي في السعودية في محاضرة قال فيها :” ورحمة الله على المنتبهين والناصحين، كم ينصحون ولكننا لا نحب الناصحين، ورحمة الله على الشيخ عبد الرحمن الدوسري فقد نبهنا والله وكأنَّ صوته يرن في أذني الآن، وهو ينبه إلى خطر هذه الجمعيات، وإلى الأيادي الماسونية من وراءها.[34]
ولد الدوسري في مدينة بريدة بنجد 1914، ورحل به أبوه بعد شهور قليلة من مولده إلى الكويت، ونشأ هناك في حي المرقاب، وهو محلة لأهالي نجد، وطلب العلم في المدرسة المباركية، وتتلمذ فيها على المشايخ: عمر عاصم ويوسف بن عيسى، وعبد العزيز الرشيد. وبعد المباركية التي مكث فيها سبع سنوات درس في الكويت على شيخ الحنابلة وأهل الحديث الشيخ عبد الله الخلف الدحيان، ودرس في البحرين على قاضيها قاسم بن مهزع، وكان من زملائه محمد بن سليمان الجراح، وهذا الأخير كان من مشاهير شيوخ الحنابلة بعد ابن خلف، وقد كان للجراح مراسلات وصداقات مع شيوخ من السعودية أمثال عبد الرحمن السعدي وعبد الله بن حميد.
القصة الأهم في بحثنا هذا للشيخ الدوسري، هي ثورته في الكويت سنة 1960، حين رأت الحكومة في عهد الشيخ عبد الله السالم أن تضع دستورا للبلاد والقانون الجزائي، فقام الشيخ الدوسري ومعه شيخ حنبلي آخر هو عبد الله النوري، بوضع كتيب يعارضون فيه هذا التحول، ويحذرون منه، وبعد ذلك قدم الدوسري إلى مسقط رأسه بلاد نجد وعاش إلى أن مات في الرياض في أكتوبر 1979.
فهذا جانب آخر من جوانب الاعتراض لدى علماء التقليد السلفيين الحنبليين في الكويت، مع نكهة إخوانية لدى الشيخ الدوسري. [35]
كانت الكويت، قبل ذلك، قد استقبلت علماء رحلوا من بلادهم وحملوا على عواتقهم مهام إصلاحية كبرى، مشحونة بالتمرد والثورة، تتعلق بالتحرر من قوى الاستعمار، مثل الشيخ حافظ وهبة، الذي قام هو وشيخ الزبير محمد الأمين الشنقيطي، بقيادة أول تمرد لأهل الكويت على حاكمهم الشيخ، القوي مبارك الصباح. وكان الشيخ مبارك أراد إرسال ابنه على رأس قوة عسكرية من أهل الكويت لنجدة صاحبه أمير المحمرة خزعل باشا ضد السلطات العثمانية، وكان خزعل موالياً للإنجليز معادياً للعثمانيين، ودعم الإنجليز ضد الأتراك في العراق خلال معارك سنة 1915. فلما جاء أمر مبارك على يد ابنه جابر، قام نزيلا الكويت المصري الثوري حافظ وهبة والشنقيطي المهاجر، بتحريض أهالي الكويت على العصيان، وتحذيرهم من أن إجابة هذا الأمر ردة عن الإسلام لأنه لايجوز مناصرة المستعمر الإنجليزي ضد دولة الخلافة العثمانية، ولما كثرت الجلبة استدعى الشيخ جابر بن مبارك بعض أعيان الأهالي وسألهم عن القصة: “فذهبوا إليه وقد اصطحبوا مسدساتهم وأسمعوه كلاماً لاعهد له ولا لآبائه به من قبل”([36]).
قبل هذه المرحلة، التي بذرت فيها بوادر الوعي الثوري والحقوقي المعاصر، والوعي القومي بشقيه: العروبي والإسلامي، كانت الكويت مجرد مدينة وادعة، تقع على رأس الخليج العربي الشمالي، أهاليه مسلمون وادعون، متمسكون باستقلالهم لكنهم أهل بحر وتجارة، ليست بلد علم ولا فقه ولا أدب إلا شذرات هنا وهناك. يقول الرشيد: “كانت الكويت من نشأتها إلى قبل عشرين سنة غارقة في بحر الجمود، ومنغمسة في حمأة التأخر، ولا أثر للحركة العلمية والفكرية فيها، وكان الشائع بين أهلها إذ ذاك مبادئ الفقه والعربية والخط المتوسط والحساب البسيط”([37]).
نشير إلى أن الشيخ الرشيد توفي في 1356 هـ -1938م.
وبصرف النظر عن حماسة الشيخ الاصلاحي الظاهرة هنا، إلا أنه محق بشكل ما، فالكويت لم تعرف الازدهار الفكري والنشاط الديني إلا بعد هبوب رياح التغيير والإصلاح عليها، وقدوم علماء دين ومفكرين وقادة استقلال إليها أمثال الشيخ رشيد رضا والإصلاحي التونسي الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وحافظ وهبة ومحمد الأمين الشنقيطي. فكيف كان الحال قبل ذلك؟ وكيف صار بعد ذلك؟
الحق أننا لا نستطيع رسم صورة واضحة لمسار ومسيرة الإسلام التقليدي في الكويت، إلا بعد ملاحقته عبر ممثليه ومحاضنه، لأن جيل الشيخ يوسف بن عيسى وعبد العزيز الرشيد هو الحلقة الوسطى بين الكويت القديمة والكويت الحديثة على المستوى الديني والفكري.
ماهو مذهب الكويت؟
هذا سؤال صعب. لكن إذا اعتبرنا مذهب الحكام هو مذهب البلد فإن الكويت مالكية المذهب، لكن هذا غير دقيق فهناك وجود كبير للمذهبين الحنبلي والشافعي. بل وحتى لمذهب أهل الحديث.
يقول عبد العزيز الرشيد: “في قرى الكويت ماينيف على ثمانين ألف نسمة يدينون بالدين الإسلامي، ماعدا نفراً قليلاً من اليهود يبلغون نحو مائة وخمسين، وأقل منهم بكثير من المسيحيين. والمسلمون فرقتان: السنة والشيعة، والأغلبية الساحقة للأولى، ومنهم الحنابلة وجلهم من المهاجرين من نجد. والشافعية كثيرهم من الأعاجم السنيين(العوضية)، والمالكية ومنهم حكام البلد (يقصد آل الصباح)، وبعض البيوتات المعروفة والبادية المتحضرة، وأما الأحناف فيعدون على الأصابع”([38]).
هذا النص على وجازته إلا أنه يجيب على كثير من الإشكالات، فلو أننا اعتبرنا أن مذهب البلد هو مذهب الحاكم لكانت الكويت مالكيةَ المذهب باعتبار آل الصباح، ولكن الواقع يشهد أن كثيراً من أبرز وأهم علماء الكويت على مرّ القرون كانوا من الشافعية، مثل الشيخ أحمد الفارسي، أو بعض آل العدساني بيت القضاء الكويتي، أو من الحنابلة، مثل شيخ الكويت وعلامتها الحنبلي عبدلله بن خلف الدحيان، وقد تولى القضاء سنة واحدة، أو الشيخ محمد بن فارس وهو شيخ ابن خلف، أو الشيخ علي بن شارخ الحنبلي الذي تولى قضاء الكويت في عهد أميرها الثاني عبد الله بن صباح إثر خلاف مع أحد قضاة آل العدساني، أومن المالكية مثل قاضي الكويت الشهير عبد العزيز حمادة، وإن اعتبرنا أن مذهب الكويت هو مذهب قضاتها فهذا أيضاً غير صحيح ولا دقيق بسبب تولي القضاء في الكويت من قبل حنابلة ومالكية.
على أية حال، نستطيع القول، بشكل عام، إن المذهب الرسمي في الكويت هو المالكي، لكن ليس بشكل مغلق، حتى إنني سألت ابنَ علامة الكويت وقاضي قضاتها الشيخ يوسف بن عيسى، وهو الأستاذ في جامعة الكويت، الدكتور شملان بن يوسف بن عيسىى عن مذهب والده الفقهي، فقال لي: إن والده كان بين الشافعية والمالكية، ولكنه لم يكن يقيد نفسه بهما([39]).
وإذا اعتبرنا أن مذهب الكويت تحدده نوعية الكتب المتداولة والمنشورة بين أيدي الناس؛ وأول ما نسخ وطبع منها، فإن الشيخ عثمان بن سري القناعي كان أول ناسخ كويتي، قام بنسخ كتاب “التيسير على مذهب الامام الشافعي نظم العمريطي”، ويعود تاريخ هذا الخط إلى سنة 1213هـ – 1799م، والكتاب الذي يليه هو “المنهاج في فقه الإمام الشافعي” للشيخ محي الدين النووي، وقد قام بنسخ هذا الكتاب الشيخ إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله، وكان الفراغ منه سنة 1260 هـ – 1844([40]).
بل إن الشيخ عبد الله الخلف الدحيان – صديق مؤرخ نجد الشهير إبراهيم بن عيسى صاحب عقد الدرر- كان مولعاً بجمع الكتب والمخطوطات، وحسب صاحب “معجم علماء الكويت وأعلامها” بذل المال في سبيل ذلك، وكان وكيله في جمع هذه الكتب في بلاد نجد هو الشيخ إبراهيم بن عيسى، وجمع من جراء ذلك كتباً كثيرة من التراث الحنبلي والوهابي النادرة، وقد حدثني الباحث السعودي المتخصص في هذا المجال راشد بن عساكر أنه اطلع على جانب من هذه المكتبة في خزائن وزارة الأوقاف الكويتية([41]).
كان علماء الدين، من المذاهب الثلاثة: الشافعي والمالكي والحنبلي، يتصدون للفتوى والوعظ للعامة في الكويت، ولكن بعد تطور وتعقد الإدارة في الكويت تحددت المسالة قليلاً، دون أن تصل الأمور الى إرساء “تقاليد” مذهبية ومدارس راسخة، إنما كانت محاولات خجولة. فقد وضع قاضي الكويت عبد العزيز حمادة سنة 1943 أسس ونواة المعهد الديني، وكان هذا المعهد يفتح أبوابه لمن يحب أن يتفقه في الدين، من بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب، وكان مكوناً من أربع غرف إحداهن لطلاب الحديث (ولاحظ هنا تمييز تيار أهل الحديث بغرفة خاصة)، وشيخ هذه الغرفة هو القاضي الشيخ المالكي عبد العزيز حمادة نفسه، والغرفة الثانية للفقه المالكي، وشيخهم هو الشيخ عيد بن بداح المطيري، وغرفة ثالثة للفقه الشافعي، وشيخهم هو محمد بن محمد صالح التركيت، والرابعة للفقه الحنبلي وشيخهم هو الشيخ عبد الله النوري. غير أن هذا المعهد لم يكن له أثرٌ ملموسٌ في تشييد الإسلام التقليدي المذهبي في الكويت.
الميراث العدساني
توارثت أسرة العداسنة قضاء الكويت زهاء مائة وخمسين عاماً، منذ قدوم جدهم الأكبر محمد بن عبد الرحمن العدساني من الأحساء إلى الكويت، وكان قاضيها في ذلك الوقت رجل من آل عبد الجليل، وهي أسرة من شافعية البصرة والزبير. تزوج العدساني ابنة الشيخ ابن عبد الجليل، وبعد مدة تنازل له عن القضاء وكان ذلك سنة 1170 هـ – 1757م تقريبا، وتتابعت أسرة العدساني على هذا المنصب خلا انقطاعات قليلة مثلما حصل سنة 1225هـ -1811م، حينما اعتزل الشيخ محمد بن محمد العدساني القضاء، بسبب خلاف بينه وبين الشيخ الحنبلي علي بن شارخ على إثبات كيفية رؤية هلال رمضان، لكنه عاد للقضاء مجدداً، حتى كان آخر رجل من العداسنة يلي القضاء هو عبد العزيز العدساني، الذي توفى في رمضان سنة 1348 هـ-1930م. يقول المؤرخ الكويتي عبد الله الحاتم: “القضاء ظل في آل العدساني أكثر من مائة وخمسين سنة، يتوراثونه أبا عن جد، الأمر الذي لانظير له في تاريخ القضاء”([42]).
كن هذه المدة الهائلة لم تجعل من بيت العدساني حصناً يكوِّن من حوله جامعة فقه تقليدي، وربما يعود السبب في ذلك إلى بساطة حياة الكويتيين، أو أنهم لم يلبثوا في البلد كثيراً بسبب انشغالهم في حياة البحر، وقد كانت فترة الرحلات والغوص وبيع المحاصيل البحرية تستغرق حوالى ثلثي السنة، وعليه فلم يكونوا يحتاجون من التعليم الديني وأمور القضاء إلا الحد الأدنى([43]).
وربما أيضاً بسبب أن المنصب تحول إلى وظيفة متوارثة ووجاهة داخل أسرة العدساني، حتى لو لم يكن الشخص مؤهلاً تأهيلاً علمياً ونفسياً كما كان والده، وقد أشار إلى ذلك الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وهو يتحدث عن تاريخ القضاء الكويتي وسير قضاته، فلما استعرض جانباً من سيرة قضاة العدساني، قال متحدثاً عن شخصين من قضاة العدساني:” تصديا للقضاء بالإرث لا بالعلم والأهلية، فلهذا صارت الأحكام في زمنهما مهزلة وألعوبة، عاملهما الله بعفوه”([44]).
يمكن إيجاز التأثير العام على شخصية العالم الديني في الكويت، قبل عصر الإصلاح أواخر عهد الشيخ مبارك، في مثلث الرحلة العلمية في الكويت: الزبير والأحساء وبر فارس السني. فقد كانت الزبير تلقب بالشام الصغير، بسبب النشاط الفقهي والعلمي فيها، وقد رحل إليها مؤسس الوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب طلباً للعلم، وحافظت الزبير على أهميتها هذه حتى تأسست فيها مدرسة النجاة على يد الشيخ محمد الشنقيطي، وعلى غرارها كانت المدرسة المباركية التي أسسها الشيخ يوسف بن عيسى، مع رجالات الكويت، سنة 1911.
وأما الضلع الثاني من المثلث، وهي مدينة الأحساء بعلمائها وتنوعها المذهبي، فأول قاضٍ ذكر عند التأريخ لنشأة الكويت هو محمد بن عبد الوهاب بن فيروز، كما ذكر الرشيد في تاريخه، وهو من علماء الأحساء، ومنهم عبد العزيز آل مبارك، أحد أساتذة المباركية، وكان الشيخ مبارك الصباح يقدره، ومنهم الشيخ عبد العزيز العلجي. وقدر درس في الأحساء كثيرٌ من علماء الكويت مثل الشيخ عبد الله الخلف وأحمد الفارسي والشيخ يوسف بن عيسى.
وأما مدن برِّ فارس السنية، وهي الضلع الثالث، فهي مثل كوهج ولنجة وغيرهما، ومثل حواضر الخليج البحرين والمنامة، وقبل هذه البلدات كلها وأقدم منها بلدة “الزبارة” في رأس قطر، والحديث عنها قد يتشعب بنا إلى دروب تاريخية كثيرة. وبما أننا أتينا على سيرة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي سابقاً، وهو أبرز شخصية دينية إصلاحية وسياسية وقضائية وتربوية في الكويت، فلا بد من التوقف قليلا عندها.
يوسف بن عيسى .. قنطرة العبور
الشيخ يوسف هو القنطرة بين الكويت القديمة والجديدة، وهو الحلقة الوسطى بين “المثقف الإسلامي” أي الحركي السياسي، وبين رجل الدين التقليدي والمحترف، وقد نسبت إليه أدوار كثيرة، وحاولت أغلب الحركات الاسلامية، وعلى رأسها تيار السلف وتيار الإخوان الانتساب إليه والفوز بأبوته الشرعية والتاريخية، بينما لم يكن الشيخ يوسف يوماً حزبياً، وكان يكره التحزب والتعصب، ويفضل الانتماء للإسلام الحضاري الكبير([45]).
ولد الشيخ يوسف بن عيسى بن محمد القناعي في عهد الحاكم الخامس للكويت، عبد الله بن صباح سنة 1296هـ -1879م. كان أبوه يعمل في البحر حيث كان يملك سفينة، إلا أن هذه السفينة غرقت 1309هـ -1892م، وكانت تحمل أربعة آلاف منٍّ من التمر، وغرق معها أخوه محمد، فشق عليه الحال واشتغل وهو صبي في دفاتر التجار والحسابات، ثم أصابته رصاصة طائشة، أثناء وجوده في حفلة عرس أحد اقاربه في البصرة، أثرت على ساقه فترة من حياته، وبعهدها بقليل توفى أبوه وهو صبي. كل هذه الأمور ولدت عنده عزماً، واتجه إلى العلم، وقرأ على شيخ آل العدساني عبد الله بن خالد في النحو، ثم على علامة الحنابلة وشيخ أهل الحديث فيها عبد الله بن خلف، وشق عليه في كثرة الأسئلة، حتى خشي أن يغضب منه الشيخ عبد الله الخلف فاعتزل حلقته، لكن الشيخ لاطفه فرده.
1321هـ – 1904م رحل إلى الأحساء لطلب العلم، وكان معه أحمد بن الشيخ خالد العدساني وآخر من آل المطوع ومعهم كتاب توصية من الشيخ عبد الله العدساني، إلى شيخ الشافعية والأحساء عبد الله بن عبد القادر، وقرأ هناك في الفقه والنحو حتى أجاد. ورحل إلى البصرة 1323هـ -1906م ثم مكة من العام نفسه، وأخذ في مكة عن مجموعة من علماء الحرم المكي من شتى المذاهب، لمدة سنتين.
بعدها تفرغ للقراءة والاطلاع الحر، ونجد حبه لهذه القراءة إلى وقت متأخر من عمره في كتابه الشهير”الملتقطات”، وهي عدة أجزاء أصدرها لاحقا في مجلد ضخم ناهز الـ700 صفحة، ضمنها مختاراته وتعليقاته من بطون الكتب، بل وحتى الصحف، وفيها تعليقات جميلة ومميزة للشيخ.
يقول عن مطالعاته، حسب ما ينقل عنه المؤرخ الكويتي سيف مرزوق الشملان([46]) طبقاً للرومي صاحب معجم علماء الكويت: “كان لمؤلفات ابن تيمية وابن القيم ومجلة المنار الغراء أكبر أثر في إنارة السبيل أمامي(…). أما اعتدالي في الآراء العصرية فيرجع سببه الى مجلة الهلال والمقتطف، والمؤلفات المتنوعة”. وأشار أيضاً إلى تأثره بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ودعوتهما إلى الشورى والإصلاح الديني والسياسي ومحاربة التقليد والاستبداد.
ولما عاد الشيخ من مكة سنة 1325 هـ -1908م نشط في الدعوة لإصلاح التعليم، وحاول إصلاح تعليم الكتاتيب على نطاق ضيّقٍ، ثم صار له دوره المشهود في إنشاء المدرسة المباركية سنة 1328 هـ -1911م، وقد كانت المدرسة في بدايتها تمضي على نهج الكتاتيب إلا انها أكبر حجماً، ولذلك لم يعارضها في البداية أحد من رموز الإسلام التقليدي المذهبي في الكويت مثل الشيخ أحمد الفارسي، والشيخ عبد العزيز العلجي، ولكن لما بدأت في الأخذ بشيء من الأسلوب الحديث عارضاها([47]). ثم أنشأ المدرسة الأحمدية 1339هـ -1921م بدعم أعيان الكويت، بعدما عجز عن إصلاح المباركية بسبب معارضات البعض، وبعدما عزله الشيخ مبارك عنها.
للشيخ أدوار تأسيسية وكبرى في مجلس الشورى سنة 1921م، أيام الحاكم أحمد الجابر الصباح، وأيضا دوره في المجلس البلدي، ثم توليه القضاء بعد وفاة الشيخ عبد الله الخلف الدحيان بطلب من الشيخ أحمد الجابر الصباح، واعتذر الشيخ لكن الحاكم أصر، وبسبب إصرار الحاكم قَبِل بشرط أن يكون ذلك مؤقتا وكان يسمى وكيل القضاء، أو “قاضي القضاة”، فحكمه هو الحكم النهائي، لكنه بعد سنة ونصف طلب الإعفاء من الحاكم وخرج من القضاء. توفى الشيخ يوسف بن عيسى 1393 هـ -1973م عن عمر يناهز القرن، عن 96 سنة.
ما يهمنا من هذه السيرة هو كيف كان موقف الشيخ يوسف بن عيسى من أول حركة إسلام سياسي في الكويت، وهم الإخوان المسلمون وجمعية الإرشاد التي نشأت على يد قريبه عبد العزيز العلي المطوع، ثم جمعية الإصلاح، التي تأسست أوائل الستينات على يد الإخواني الشهير عبد الله العلي المطوع، شقيق عبد العزيز.
لم أطلع على معلومات تفيد بموقف الشيخ من نشأة الإسلام السياسي في الكويت، إلا نصاً غريباً وجدته في كتابه الضخم “الملتقطات”، حيث ينقل عن المفكر عبد الله القصيمي موقفا ناقداً للإخوان. لنقرأ هذه الفقرة من كلام الشيخ يوسف التي عنونها بـ “رد القصيمي على رسالة الإخوان المسلمين”: إن خلاصة رسالة الإخوان المسلمين هي “أن طريق المجد الإسلامي المنشود ينحصر في الرجوع إلى الأخلاق الدينية الأولى، وفي تنفيذ الحدود الشرعية، وفي أداء الزكاة وفي إقامة سائر الفروض اليومية والشهرية، ثم الإيمان بالله وبالجهاد في سبيله”.
ويرد عليهم القصيمي بقوله: “ياليت هؤلاء يعلمون أن الأخلاق الدينية المحضة، ومثل مايدعون إليه، ويبشرون به من الفضائل، هو سبيلنا إلى دخول ملكوت الله، ولكن السبيل إلى المجد القومي المطلوب ينحصر في الأخلاق الصناعية والتجارية والاقتصادية والمادية والعلمية. ثم ضرب مثلا بأمريكا فهي أقوى منا، وهي لم تتفوق علينا بسبب إيمانها بالله، ولا بسبب أخلاقها الدينية والروحية، وإنما نالت هذا التفوق بأخلاقها الصناعية والاقتصادية والمادية والعلمية. انتهى.”وأقول: – ومازال النص للشيخ يوسف- أمرنا الله بقوله (وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة) ولاشك أن لكل زمان حالاً يلابسه، وتتبدل الأحوال بحسبه، فالقوة في زماننا هذا بالعلم في الأساطيل والدبابات والطائرات، وبالأسلحة الجديدة وبالمفرقعات المهلكة وبالقنابل الذرية، فهذه القوة حدثت في أوقات متفرقة، والمسلمون يعلمون ويشاهدون ذلك، ودولتهم المعتمد عليها وهي الدولة التركية، فلم تتحرك وتستعد وتجاري الأمم الحية وتحذو حذوها بقية الدول الإسلامية والإمارات العربية. لقد انحطت الأمم الإسلامية حتى طمع بها أخس الأمم الذين ضربت عليهم الذلة في جميع أقطار الأرض، وطمعوا في الممالك الإسلامية، وهي في يد أهلها، والمسلمون إلى الآن لم ينتبهوا من سباتهم بل هم في غفلة عما يحييهم، ولله در الرصافي حيث يقول: أما والله لو كنا قروداً/ لما رضيت بحالتنا القرود”([48]).
إن هذا النص المهم، للشيخ يوسف بن عيسى، ربما لخص موقفه من جوهر دعوة الإخوان المسلمين، أول انشقاق سياسي فكري، فهو ورغم كونه إصلاحياً متأثراً بدعوة رشيد رضا، وداعياً إلى إصلاح سياسي وديني، إلا أنه استشعر الخطر في التسييس الحاد للإسلام لدى جماعة الإخوان، ثم إنه استشعر أيضا خطأً جوهرياً في تشخيص الإخوان لطبيعة الأزمة التي تمر بها الأمة، هي في نظره أزمة علم ومدنية وتقنية وتطور، وهي في نظر الإخوان أزمة هوية ومحافظة عليها، ولذلك ربما كان حذر الشيخ نابعاً من تطور دعوة الاخوان إلى مزيد من التشدد والانغلاق، وقد نقل نص القصيمي مؤيداً له في أكثر من موضع في كتابه.
ومما يؤكد أن الشيخ كان واعياً بحجج الإخوان المسلمين، استحضاره للدولة العثمانية، فهي لديه سبب الأزمة، وليست مصدر الحل كما توهم الإخوان.
يؤيد هذا التوجه النقدي عند يوسف بن عيسى طبيعة علاقته بالأخوين عبد العزيز وعبد الله المطوع، خصوصاً الأخير منهما، وهما رمزا الإخوان المسلمين، يذكر الدكتور شملان، أن والده كان بمثابة الأب لأبناء المطوع، فعلاوة على صلة القرابة الشديدة، حيث كان أبناء المطوع يدعونه بـ”الخال”، إلا أنه كان كبير علماء الدين في وقته، ورمز الكويت الفكري والإصلاحي. يقول د. شملان:” أذكر أن عبد الله العلي المطوع كان متحمساً لدعوة الإخوان، وقصة الحلال والحرام والعودة إلى نقاء الإسلام والثورة على الأوضاع، وكان أبي يحاول أن يبين له حقائق الأمور، وذات مرة غضب منه أبي فطرده من المنزل وأنا أرى”، يتابع شملان: “والدي الشيخ يوسف كان مع الإصلاح الإسلامي والحضاري بشكل كبير، ولم يكن يحب هذه الأحزاب والحركات، ويحذر من التعصب، ولذلك فكل من يدعي من التيارات الاسلامية الحركية أبوة الشيخ يوسف بن عيسى له، فهو غير أمين مع التاريخ، لقد كان أبي رجلا منفتحاً، حتى إنه كان من أوائل الشيوخ الذين شجعوا تعليم البنات، وأدخل أخواتي في التعليم النظامي”([49]).
لكن هنا يجب أن يستوقف المراقب مرحلتان من علاقة الشيخ يوسف بالإخوان المسلمين أو بالنهوض الإسلامي الجديد، بين مرحلة جمعية الإرشاد التي تأسست في 1952، وكان عبد العزيز العلي المطوع هو أول مراقب لها، وبين جمعية الإصلاح التي تأسست في 1962، ويبدو أن الشيخ لم يكن له علاقة عميقة بها كما كان مع سالفتها جمعية الإرشاد.
يذكر أحمد الشرباصي في كتابه “أيام الكويت – القاهرة” أنه تم انتخاب عبد العزيز العلي المطوع مؤسس ‘جماعة الإخوان المسلمين’ في الكويت كأول مراقب عام لـ ‘جمعية الإرشاد الإسلامي’، في حين تولى رئاسة الجمعية الشيخ يوسف بن عيسى القناعي الذي ينتمي عائلياً للمؤسس.
ويستدعي النظر التوقف عند أهداف الجمعية المعلنة حيث كانت:”الأهداف المعلنة ‘لجمعية الإرشاد الإسلامي’ تتمثل في نشر الثقافة الإسلامية وبعث روح التدين وعرض الإسلام على أنه عقيدة ونظام عالمي صالح لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وينص قانون الجمعية على عدم التدخل في الشؤون السياسية على أساس أنها جمعية دينية.[50]
نحن هنا أمام حالتين من نماذج العلاقة بين الشيخ” الإصلاحي” يوسف بن عيسى بحركة الإخوان المسلمين، فهو كما يبدو انجذب في البداية لمحتواها الإصلاحي والتجديدي، ثم غير موقفه أو صار أكثر حذراً بعد أن أصحبت حركة الإخوان المسلمين في مصر لاعباً سياسياً بامتياز. ولذلك لم يكن موقفه من جمعية الإصلاح بعد عقد من السنين شبيها بموقفه من جمعية الإرشاد، والدليل موقفه الجاف تجاه مؤسس جمعية الإصلاح عبد الله العلي المطوع.
لماذا تركت الكويت سكونها الديني؟
لقد مرت الحالة الدينية في الكويت بعدة أطوار وتأثرت بمشارب شتى من الأحساء إلى الزبير إلى نجد إلى ساحل فارس العربي إلى العراق والشام، وغني عن القول إننا نتحدث هنا عن المشهد الديني السني، الذي هو المشهد الغالب، ولا نستطيع أن نضع ميزة خاصة للكويت أكبر مما هو عليه الحال في الزبير أو الإحساء، أو بلدة الزبارة في رأس قطر قديما. لكن هذا البلد أصبح في مهب التغييرات والإصلاحات والتحولات التي ألمت بالشرق الأوسط في الذبالة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية ونشأة الحركات التحررية، وأصبح مقصداً لأشخاص مشبوبين بهم الإصلاح والتغيير بل “والتمرد” على الأوضاع والقوى المهيمنة.[51]
وفي عهد الشيخ مبارك الصباح الذي تولى الحكم بعد مقتل أخويه في مايو 1896، أصبحت الكويت مع استفحال صراع القوى الكبرى في المنطقة بؤرة تجاذب عالمي بين بريطانيا وروسيا وألمانيا والدولة العثمانية.
الخليفة العثماني كان يعتبر الكويت مع البحرين والقطيف، القشرة الواقية للمدينتين المقدستين في الحجاز، ولذلك لما ظهرت سفن حربية فرنسية مبحرة قريباً من مياه الكويت، غضب وأمر وزير خارجيته أن يأمر سفيره في باريس بفتح الموضوع مع الفرنسيين وبحث هذه التحركات.[52]
كانت منطقة شمال الخليج التي تضم البصرة والمحمرة وطرفا من سواحل الخليج الغربية، منطقة صراع ونفوذ بين تحالف الألمان مع العثمانيين، ضد بريطانيا العظمى، وكان على الخط أيضا روسيا وفرنسا، وتجلى هذا الصراع بشكل أوضح في معركة مد سكة الحديد التي كانت الكويت هي حلقتها الرابطة الأهم، ونشأ في منطقة الخليج الشمالي ماعرف بـ:” معركة السكك الحديدية في الخليج.[53]وصارت الكويت في مرحلة مبارك رمانة الميزان لأنها تتميز:” بموقع استراتيجي هام بالقرب من من وادي الرافدين، مع الارتباط بإمارة عبدالعزيز بن سعود الجديدة في وسط الجزيرة العربية، كما أنها تمتلك ميناء رائعاً، وكانت نقطة التقاء لمحاور الخطوط التي تتنافس عليها الدول الاستعمارية، فالمحور الألماني يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي بينما يمتد الروسي من الشمال إلى الجنوب، أما المحور البريطاني فيتجه من إنجلترا إلى الهند، وينطلق من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي عبر المحيط الهندي وخليج عمان. كل هذه المحاور تلتقي عند نقطة واحدة هي الكويت.[54]
إذن لم يكن المشهد في الكويت مثيرا للانتباه، فظل ملازما لحال السكون والدعة، حتى أتتٍ المرحلة ” التحولية” التي أصابت الكويت برعشة التغيير، وبسبب سكون الحال قبل ذلك، ووجود مرايا باهتة للنشاط الديني العلمي التقليدي تعكس ماكان يجري في حواضر العلم بجزيرة العرب أو تخومها مثل الزبير والأحساء، أوتعكس صخب الدعوة السلفية الوهابية في نجد. ولم يكن حنابلة الكويت ثوريين مثل حنابلة نجد، بل كانت الكويت ملاذاً لحنابلة الأحساء ونجد المختلفين مع الوهابية مثل علماء آل فيروز الحنابلة في الأحساء أو علماء نجد الآخرين.
في عهد الشيخ مبارك، وبسبب التجاذب الذي أصاب الكويت ورحلة بعض أبنائها تسرب وعي جديد، أصاب فيما أصاب سكون الإسلام التقليدي، وقبل أن يسفر وجه الإسلام السياسي والحركات المسيسة بشكل صريح، كانت هناك وجوه تجمع بين ملامح الماضي وبصمات الجديد، كان من أشهرها، الشيخ يوسف بن عيسى والشيخ عبد العزيز الرشيد.
نقف عند هذه التخوم من مراحل وتشكلات الإسلام التقليدي في الكويت، حيث جرت في الساقية مياه كثيرة بعد بروز الإسلام السياسي عقب هزيمة حزيران 67، وهي مياه لاعلاقة لشيوخ التقليد أو شيوخ الإصلاح في الكويت بها.
______________________________________________________________________________________
[1] كاتب سعودي
[2] – عدنان بن سالم بن محمد الرومي. علماء الكويت وأعلامها خلال ثلاثة قرون. مكتبة المنار الإسلامية، الطبعة الاولى: 1999.
[3] – يذكر الدكتور عبد الرحمن العثيمين، وهو باحث سعودي من المهتمين بتراث علماء الحنابلة وعلماء نجد أن الشيخ محمد بن عبد الله بن مانع .ت 1291 هـ-1874، كان أكثر من ابن حميد معرفة بالفقه والتاريخ والأنساب إلا أنه لم يؤثر عنه تأليف، شأن كثير من علماء نجد- رحمهم الله- يؤثرون التدريس والوعظ والإفتاء على التأليف”. وابن حميد المشار إليه هو محمد بن حميد المكي، صاحب كتاب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة (ت 1295هـ-1878)، وكان زميلاً لابن مانع .عبدالرحمن بن عثيمين.مقدمة السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة. تأليف محمد بن عبدالله بن حميد النجدي ثم المكي. ص 40. مؤسسة الرسالة. الطبعة الاولى1996.
[4] فلاح المديرس .دراسة حول الحركات والجماعات السياسية في الكويت. الحلقة الأولى. جريدة القبس بتاريخ 4 يونيو 2006.
[5] عبد العزيز الرشيد.تاريخ الكويت. ص 197. دار قرطاس للنشر.الطبعة الثالثة.
[6]عبد الله بن خالد الحاتم. من هنا بدأت الكويت. ص79. المطبعة العصرية،لبنان. الطبعة الثالثة 2004
[7] -عبد العزيز الرشيد، مصدر سابق ص 18 و ص 135.
[8] – د.يوسف عبد المعطي، الكويت بعيون الآخرين.. ملامح من حياة مجتمع الكويت وخصائصه قبل النفط، ص 31 ، 2002، منشورات مركز البحوث والدراسات الكويتية. وريتر عالم ألماني يعتبر أحد مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة. والخريطة منشورة في كتابه: علم الأرض الذي نشر سنة 1818
[9]- المصدر نفسه، ص32.
[10] – المصدر نفسه، ص49.
[11] – عدنان الرومي. مرجع سابق ص251
[12] عبدالعزيز الرشيد.مرجع سابق.ص 64.
[13]- حديث للباحث مع يعقوب البراهيم . وأسرة البراهيم خرج منها أهم شخصية سياسية حاربت حاكم الكويت القوي مبارك الصباح، وهو الثري يوسف البراهيم الذي كان حليف عبد العزيز بن متعب الرشيد في معركة الصريف سنة 1318 هـ – 1901م.
[14] – الرومي. مرجع سابق ص 154 و ص155.
[15] – حافظ وهبة، خمسون عاماً في جزيرة العرب، دار الآفاق العربية.الطبعة الأولى، ص 13..
[16]- يوسف عبد المعطي، مرجع سابق ص 9، 16
[17] – عبد العزيز الرشيد، مصدر سابق ص38.
[18]- عبد الله السريع، الكويت قبل نصف قرن، نشر خاص، ص94.(هو آخر مؤلفاته).
[19] – يوسف بن عيسى القناعي، صفحات من تاريخ الكويت، ذات السلاسل للطباعة والنشر. الطبعة الخامسة، ص83.
[20] – عبدالعزيز الرشيد، مصدر سابق، ص85.
[21]- مصدر سابق ، ص 91.
[22] – الرومي، مصدر سابق، ص 231.
[23] – يوسف القناعي، مصدر سابق، ص 48.
[24]- الرومي، مرجع سابق، ص 235.
[25]- مرجع سابق، ص 236.
[26]- مصدر سابق، ص 236.
[27] -عبدالعزيز الرشيد، مصدر سابق، ص 291.
-[28] مصدر سابق، ص 86.
[29]- مصدر سابق، ص 90.
[30] -الرومي .مرجع سابق .ص 239.
[31] – مرجع سابق، ص679.
[32]- مرجع سابق، ص 242.
[33] فتوح الخترش، مجلة عالم الفكر، مجلد 21 العدد 4 ص 155.
[34]سفر عبدالرحمن الحوالي. رسالة إلى فتاة الإسلام.أبريل 1991.موقع الحوالي على الإنترنت. http://alhawali.com/index.cfm?method=home.ShowContent&contentID=665&keywords=رسالة
[35]عدنان الرومي. مرجع سابق.من ص 531 الى ص562.
[36]- عبد الله بن خالد الحاتم ، مصدر سابق، ص 34.
[37] -عبد العزيز الرشيد، مرجع سابق، ص 83.
[38]- عبد العزيز الرشيد، مصدر سابق، ص 64-65.
[39]- حديث مع الدكتور شملان العيسى، بتاريخ 7/ 6/ 2010.
[40]- عبد الله الحاتم، مصدر سابق، ص 60. وفي الصفحة صور ضوئية من شكل المخطوطتين.
[41] – حديث للباحث مع راشد العساكر، في تاريخ 5 يونيو2010
[42] – عبد الله بن خالد الحاتم.مرجع سابق، ص 206.
[43]- من حديث للباحث مع المؤرخ الكويتي يعقوب الإبراهيم.
[44] – يوسف بن عيسى القناعي، صفحات من تاريخ الكويت، ص 40.
[45]- من حديث مع أ. شملان بن يوسف بن عيسى.
[46]- مجلة مرآة الأمة، العدد الصادر 12/7/ 1973.
[47]- الرومي. مصدر سابق، ص466.
[48]- يوسف بن عيسى القناعي، الملتقطات حكم وفقه وأدب وطرائف، من غير ناشر. مطابع الرسالة في الكويت. الطبعة الثانية 1998 ص 151-152.
[49] حديث للباحث مع شملان بن يوسف العيسى 7 يونيو 2010.
[50] د. فلاح المديرس.مصدر سابق.
[51] حافظ وهبة، أحد أعلام الإصلاح الديني والسياسي في الكويت، وهو مصري النشأة، قال عن نفسه:” لقد كنت ثائرا بفطرتي على الجمود كما كنت ثائرا على الاحتلال البريطاني”. حافظ وهبة :خمسون عاما في جزيرة العرب. ص9..دار الآفاق العربية. الطبعة الاولى 2001 .
[52]وثيقة عثمانية مؤرخة 8 يناير 1902. الوثيقة بتفاصيلها في كتاب: علاقة نجد بالقوى المحيطة 1902- 1914 . د.منيرة عبد الله العرينان، دار ذات السلاسل. الطبعة الاولى 1990. ص 104.
[53] مصدر سابق.ص 145
[54] مصدر سابق.ص152