من مقولات هيغل الأكثر شيوعاً ضمن تفاسير متضاربة: “المعقول واقعي، والواقعي معقول”، أوردها في كتابه: “أصول فلسفة الحق”[1]. ودافع عنها في الجزء الأول من موسوعته في العلوم الفلسفية[2]. مقولة تعرضت لتفاسير جائرة من قبل بعض مفسريها، محملين هيغل معنىً لم تدل عليه مقولته، وعلى رأسها أن هيغل يرفع عن الواقع لامعقوليته، ويسلم بعقلانية الواقع.
وعلل هذا الخلل في الفهم كثيرة، يفسرها بوضوح الشارح إمام عبدالفتاح إمام قبل أن نعود إلى غضب هيغل من سوء الفهم. يقول إمام: “أحدثت هذه العبارة ردود فعلٍ واسعة، كان بعضها نتيجة لخلطٍ وسوء فهم، وكان بعضها الآخر يتضمن سوء طوية! ومصدر الخلط يكمن في كلمة الواقعي Wirklich التي فهمت في كثيرٍ من الأحيان على أنها تعني الواقع الحاضر، أو ما هو ماثل أمامنا على نحو مباشر، وبالتالي فإن هيغل يدعونا إلى عبادة الواقع ما دام يعبر عن العقل. ويكفي هنا أن نسوق ملاحظتين:
الأولى: أننا ينبغي أن نلاحظ أن الكلمة الألمانية Wirklich مشتقة من الفعل أو العمل Wirken-act ومعنى ذلك أن الواقع الفعلي الذي يتحدث عنه هيغل ليس مجرد شيء سلبي أو طبيعة معطاة، فما هو واقعي أو متحقق بالفعل هو دائماً نتيجة لعمل ما أو لفعل، فليس هنا كعبادة للواقع أو تراخ بل عمل ونشاط ليتحقق العقل.
والثانية: أن هيغل لم يبدأ عبارته (على نحو ما اقتبسها إنجلز، خطأ وأساء تفسيرها ثم شاعت بعد ذلك) بقوله: ما هو واقعي عقلي، بل العكس، بدأ بقوله: ما هو عقلي فهو واقعي، أعني أنه لا يسلم أولاً بعقلانية الواقع، بل بالأحرى يفترض واقعية العقلي وتحققه الفعلي. أعني أن ما هو عقلي يحمل في جوفه القوة التي تجعله يتحقق بالفعل أو يتحول من القوة إلى الفعل فالعقل ليس مجرداً ولا هو ملكة بشرية إنه قوة، إنه النوس الذي كان يتحدث عنه اليونان قديماً والذي يتحقق في العالم. وبعد أن تأكد هيغل أن ما هو عقلي سوف ينتصر تماماً ويحقق نفسه، في هذه اللحظة فقط أضاف الجزء الثاني من العبارة وهو: ما هو عقلي كنتيجة مترتبة على الجزء الأول”[3].
والمقولة وصفها هيغل بالبسيطة، مع أنها أثارت موجة من الدهشة والعداء، ويحاول تقريبها ببساطة: “إن الغاية العليا والنهائية التي يهدف إليها العلم الفلسفي، من خلال التحقق من هذا التوافق، هي الوصول إلى ضرب من التوفيق بين العقل الواعي لذاته والعقل الموجود في العالم، أو بعبارة أخرى، الواقع الفعلي”[4].
لكن ما هدف هيغل من هذه المقولة؟!
يجيب: “إن القول بواقعية العقلي يتعارض مع وهمٍ شائع يتصور أن الأفكار والمثل العليا ليست إلا أضغاث أحلام، وأن الفلسفة ليست إلا نسقاً من هذه الأوهام، كما أنه يتعارض مع وهمٍ آخر مختلف يقول: إن الأفكار والمثل العليا هي أشياء أسمى من أن يكون لها واقع فعلي، أوهي أعجز من أن تكتسب لنفسها مثل هذا الواقع”[5].
ومرد شيوع التفسير المغلوط بالنسبة لهيغل يلخصه بقوله: “على الفلسفة في أحيانٍ كثيرة أن تتحمل عبء الاستماع إلى أناسٍ لم يكلفوا أنفسهم أية مشقةٍ من أجل فهمها ثم يتحدثون عنها حديث العالم بكل دقائقها، وهكذا… تراهم لا يترددون في التفلسف وفي نقد الفلسفة، لا سيما، تحت تأثير العاطفة الدينية”[6].
هذه مداخلة يسيرة لتصويب فهم مقولة هيغل التي انتزعتها بشكلٍ متسرع مجموعة من التيارات والأحزاب التي لم تر في جور فهمها ما يستوجب المراجعة والنقد.
[1] –هيغل، أصول فلسفة الحق، ص86.
[2] –هيغل، الموسوعة الفسلفية، الجزء الأول، الصفحات من: 54-56.
[3] –المرجع السابق، ص55، هامش رقم (10).
[4]–نفسه، ص54.
[5] –نفسه، ص56.
[6] –نفسه، ص53.