أفرام عبّود إسحق[1]*
في القرن الرّابع الميلادي تُخبِرُنا مواعظ أفراهاط السريانيّ[2] عن مُكرَّسين يُدعَون بأبناء العهد، وغالبًا كانت الترجمات في بدايات القرن العشرين تصفهم بالرهبان التي اختلط مفهومها مع الرهبنة المصريّة؛ التي بدأت بالانتشار سريعًا في العالم المسيحي، ابتداءً من نهايات القرن الرّابع. ويُطلق المستشرقون على تلك الظاهرة التي عاشها مار أفرام السريانيّ “الرهبنة البدائيّة السريانيّة”، التي اختفت مع رواج الرهبنة المصريّة في سوريّا وبين النهرين.
وازنت الرهبنة بين التكريس الكامل لابن الله الوحيد مع العيش في إطار حياة الجماعة المسيحيّة اليومي. هذه الورقة تسلّط الضوء على أهميّة هذا النوع من الرهبنة البدائيّة، وإمكان الإفادة منها بالتركيز على مبدأ التكريس ليسوع في المجتمع، ومناقشة إمكان إحيائها في العالم المعاصر.
كيف صوّر المؤرّخون الرهبنة البدائيّة؟
عندما اعتاد المؤرّخون التكلّم عن النسك السوريّ، أو السريانيّ، قبل القرن الرّابع الميلاديّ في سوريّا، حاولوا تصوير لوحة بسيطة عن بدائيّة طرق الحياة النسكيّة هناك، وقد لا تخلو من السخرية تجاه تلك المذاهب النسكية البدائيّة[3].
إلاّ أنّ المقالة الرائعة للأب العلاّمة سيدني غريفيث من الجامعة الكاثوليكيّة – واشنطن د. س. (Asceticism the Church of Syria: The Hermeneutics of Early Syrian Monasticism[4])، قد غيّرت هذه الصور التي اعتاد مؤرّخو هذه المرحلة تقديمها دون التركيز على مدى أهميّتها. فأيّ باحثٍ ملمٍّ بالنسك في سوريّا، يعرف تمامًا المؤسّسة النسكيّة الفريدة التي امتازت بها تلك المنطقة، وخصوصاً المعروفة بكورة أنطاكية وبين النهرين. ولعلّ واحدًا من أبرز الأمثلة المشهورة هو القدّيس سمعان العاموديّ[5]، وهو ممثّل لمدرسة العاموديّين التي امتدت في تلك المناطق المذكورة، وأصبحت مناصًا لعشاق الزهد والروحانيّة السوريّة الفريدة، حيث يتدرّج العاموديّ على سلّم النسك بأنّ يترفّع حرفيّا عن ما حوله بحجر ثم على رأس عامود، ويُخدم من قِبَل الجماعة الرهبانية التي تتجمّع تحت هذا العامود. ولعب العاموديّون دورًا كاريزمياً في حلّ كثير من الأسئلة والتحديّات التي لم تستطع السلطات الكنسيّة بأجوبتهم إقناع المؤمنين.
من أهمّ الأمثلة ربّما قد يكون يوحنا عامودي أتارب الذي كان يسأل مار يعقوب الرّهاوي في قضايا عدّة حساسّة بما يخص قدوم العرب المسلمين إلى شمال سوريّا[6]. إذن الصورة البسيطة عن تلك الرهبنة التي يصوّرها المؤرّخ الكبير بيتر براون (Peter Brown)، بأنّها “مارست الحريّة في التعبّد كالبهائم التي تسرح وتمرح في الجبال، مع الخراف التي تتغذّى على الأعشاب”[7]، هي صورة غير دقيقة. ولا يعطي المؤرّخ براون أهميّة حقيقيّة لتلك الظاهرة الرهبانية المتميّزة، بل هو وغيره من المؤرّخين اعتادوا إعطاء صورة سلبية، بأنّها مثال لفوضى نسكيّة غير منظّمة.
عندما نتكلّم عن المسيحيّة السريانيّة، علينا أن نتذكّر مدينتين هامّتين: نصيبين والرّها[8]. ولا مجال للشكّ بأنّ أسماء معروفة قد لعبت دورًا رياديًا من أمثال أتباع ماني ومرقيون وبرديصان. هاتان المدينتان كانتا القطبين اللذين تفاعلت بينهما اللغة والثقافة السريانيّة. نصيبين: كانت دائمًا في تقلّب ما بين الحكم الفارسيّ والرومانيّ، وعاشت تجربة المدينة الحدوديّة.
أمّا الرّها: فعلى الأقل منذ القرن الثاني الميلاديّ صارت تحت سيطرة شبه دائمة تحت أركان الإمبراطوريّة الرومانيّة، مع الحفاظ على استقلاليّتها الثقافية. ولقد تكوّنت فكرة “كنيسة الإمبراطورية” بشكلٍ مبكر في هذه المدينة، والتي ترافقت أيضًا مع حركاتٍ رهبانيّة باكرة. إذ إنّنا نلاحظ مع القرن الرّابع الميلادي في مدينة الرّها، ازدهارًا للمؤسسّة الرهبانيّة التي تطوّرت بشكلٍ متوازٍ مع المؤسّسة الإكليزيولوجيّة والأسقفيّة، خصوصاً بعد إعلان المسيحيّة دينًا رسميًا.
تحتاج الحركات الرهبانيّة السريانيّة لدراسات أكثر تعمّقًا، من دون العودة إلى الافتراضات التي اعتاد مؤرّخو هذه الحقبة تصوريها. إنّ معظم الدراسات التي تمّت في العقود الأخيرة من القرن العشرين اعتمدت على الافتراضات السابقة كأنّها حقائق، والتي لها مصدران: أوّلاً: الأدب الهاغيوغرافي الرهبانيّ التقليدي الشائع المنحدر من الوسط اليوناني– السريانيّ، والذي نال رواجًا في مراحل لاحقة مثل تاريخ أصفياء الله لثيودوريتوس القورشي[9]. ثانيًا: الخطأ الأكاديميّ في تحديد تاريخ أصالة بعض النصوص التي تتعلّق بتراث الرهبنة البدائيّة السريانيّة.
هذه الدراسات حاولت تقديم أيقونات نصيّة مُعتمدةً على البروفايلات الهاغيوغرافيّة، التي مصدرها الحلقات الرهبانيّة ذات الخلفيّة السريانيّة- البيزنطيّة بين القرنين الخامس والسادس الميلاديّين. هذه النصوص المهجّنة بروحانيّة متأخّرة ليس لها أي علاقة تاريخيّة مباشرة بهؤلاء الرهبان السريان القُدامى. النتيجة كانت: تقديم الصورة المتعارف عليها فيما بعد، بأنّ مصدر الرهبانيّة في العالم الناطق بالسريانيّة كان جزءًا من ظاهرة بدأت في الصحراء والبوادي المصريّة في أيّام القدّيس أنطونيوس. هذه الصورة بدأت بالترسّخ حتى في الأدب السريانيّ الرهبانيّ المتأخّر، مثل سيرة مار أوكين[10]، التي نالت رواجًا كبيرًا.
في الدراسات الحديثة يتلخّص الخطأ حول الرهبنة السريانيّة من خلال نَسبِ خمسة نصوص سريانية إلى مار أفرام السرياني. هذه النصوص تصف فكر النسّاك السريان الذين هربوا إلى الصحارى والجبال في سوريّا لكي يتمثّلوا بالمتوحّدين (Anchoritic Ideal). هذه النصوص هي: “رسالة إلى الجبليّين”. “في حياة الوحدة للمتوحّدين”. “عن المتوحّدين والنسّاك والباكين”. ونصّ آخر بعنوان مشابه: “عن المتوحّدين والنساك والحزانى”. “عن الوحدة”. المشكلة في هؤلاء المستشرقين مثل العالم الكبير آرثر فوبوس في كتابه المشهور: تاريخ النسك في الشرق السريانيّ[11]، والذي يدافع بقوّة عن أصالة هذه النصوص في نسبها إلى مار أفرام السريانيّ.
هذا الاعتقاد أفضى إلى معاملة هذه النصوص على أنّها وثائق تنقل لنا صورة النسك السريانيّ في سوريّا خلال القرن الرّابع، وربّما هذا ما دفع المستشرق بيتر براون كما ذكرنا سابقًا، لتشكيل تلك الصورة البسيطة عن تلك الرهبنة السريانيّة البدائيّة. في الحقيقة، وكما يقول الأب سيدني غريفيت (Sidney Griffith) في مقالته التي أَشَرتُ لها في البداية[12]، يوضّح أنّ هذه النصوص موجودة في مخطوطات أخرى وهي منسوبة إلى مار إسحق السريانيّ[13]، أي للقرن الخامس الميلادي، أي بعد حوالي قرنٍ كامل من عصرِ مار أفرام السريانيّ. النتيجة التي يمكننا الوصول إليها، أنّ هذه النصوص لا تخبرنا عن أصل الرهبنة ضمن النسّاك السريان، بل تعكس تطوّر فكرة التوحّد التي أتت في وقت متأخّر، ولا علاقة لها بأعمال مار أفرام الأصلية.
قراءة للنصوص التي تتحدّث عن الرهبنة السريانيّة
عندما نقرأ نصوص كتّاب سريان من القرن الرّابع بدون الافتراض المزروع سلفًا في الذهن؛ من الأيقونة البيزنطيّة للقدّيس الذي يقود حياة النسك، ومن دون الفكرة المُفتَرضة -حسب فوبوس- بأنّ هذه الأنماط هي تطوّر للرهبنة، أو شكل بدائيّ للرهبنة المصريّة لاحقًا، سنوافق الأب سيدني غريفيت بأنّ النمط الرهباني في أيّام مار أفرام هو نمط مشابه لما قد يجده الدارسون المعاصرون من الرهبنة في مصر على سبيل المثال. وتجدر الإشارة إلى أنّه في العالم الناطق بالسريانيّة، المصطلحات التي أُطلِقَت على الحياة الرهبانيّة لها خصوصيّتها من حيث المعنى والمفهوم، والتي لم تضع في التطوّرات والتأثيرات اللاحقة.
قد نأخذ -مثلاً- النصوص المهمّة التي كتبها أفراهاط[14] (الحكيم الفارسي 345†) وأفرام السريانيّ[15]، والتي تسلّط الضوء على نمط حياة في كنائس سوريّا، وهو نمط جماعات “غير المتزوّجين” في خدمة الله، والتي تشبه طريقة حياتهم بما قد يتوازى مع العذارى والأرامل في الكتاب المقدّس[16]. تلك الجماعات احتوت رجالاً ونساءً والذين قانونيًا قُبِلوا رسميًّا في الكنيسة في الربع الأول من القرن الرّابع[17]. وبالإضافة إلى تلك الجماعات البتوليّة، برزت أيضًا أنماط رهبانيّة متوّحدة في سوريّا مثل شخص يوليان سابا (يوليان الشيخ 367†)،
إذ إنّ خبرته في الرهبنة أخذت رواجًا وإعجابًا في قصائد مار أفرام التي باتت تُرتّل في الكنائس، مثل حياة أنطونيوس التي كتبها أثناسيوس وصار لها رواج كبير في مصر والعالم لاحقًا[18]. ولكن ما يميّز قصائد مار أفرام عن شخص سابا هو أنّها نقلت مصطلحاتٍ للنسكِ التقليدي السريانيّ.
في نهاية القرن الرّابع وحتى القرن الخامس، تبنّت الكنيسة في سوريّا النمط الرهبانيّ الجديد، وأشكال النسك الجديدة التي ترافقت مع القيادات الإكليزيولوجيّة الكنسيّة التي هدفت لتوحيد الأنماط، كاتّباع نمط ليتورجيا “الكنيسة العظمى[19]“، وفي الوقت نفسه تطورّ هذا النمط الرهبانيّ ضمن خصوصيّة فيما يتعلّق باستخدام بعض المصطلحات التقنيّة الخاصّة بها، والتي من الأرجح أنّها كانت مألوفة ومُستَخدمة سلفًا ضمن الأجواء المانويّة[20].
عكسَ العاموديّون أيضًا تعبيرات لهذه الخصوصيّة الرهبانيّة السريانيّة، كذلك أيضًا النوّاحون أو الباكون والمتوحّدون والجبليّون. وفي وقت لاحق تأثّر السريان بروحانيّة وفكر إيفاغريوس البنطي بشكلٍ ملحوظ، والشرّاح الذين تأثّروا به مثل: بالاديوس وحتى ثيودوريطوس القورشي، وتدريجيًّا بَدَأَ هذا الفكر الرهبانيّ بالرواج ضمن الإطار السريانيّ النسكي. النقطة المهمّة هنا فيما يتعلّق بهذه الشخصيّات المذكورة هو أنّهم لم يكونوا من النسّاك السريان الأصليّين. إنّما حماسهم النسكيّ كان نتيجة التغيير في المناخ النسكيّ الأصيل الذي بدأَ في القرن الرّابع بعد إعلان قسطنطين السلام على الكنيسة. “الرهبنة” ( Monasticism) هو المصطلح الذي أتى طبيعيًا للشكل النسكيّ الجديد، وصار العلامة المميزة لما أطلق عليه اليونان “التصوّفAnachoresis) “) وهو مغادرة أفراد أو مجموعات حياة المدينة –حياة كنيسة المدينة- إلى مناخٍ أكثر ملاءمة لممارسة النسك وللحصول على الحريّة الكافية لعيش الحياة الروحيّة بشكلٍ يومي مُلتَزِم. ولكن الكنيسة في سوريّا حافظت على الطُرُق الأقدم، واستمرّت بعيش هذه الطرق الروحيّة القديمة في إطار الجماعة العام، وحافظت أيضًا على استخدام المصطلحات النسكيّة القديمة على الرغم من تبنّي الأنماط النسكيّة الجديدة. أي بكلامٍ آخر: تطوّرت المصطلحات الرهبانيّة القديمة ضمن الأشكال الجديدة للحياة الرهبانيّة القادمة لسوريّا.
في هذه الورقة سنتكلّم فقط عن نمطين عريقين من الرهبانيّة السريانيّة: الإيحيدايا (المتوحّدون)، وبناي قياما (أبناء العهد) والهدف هو التركيز على المبادئ الأساسيّة التي قامت عليها هذه الأنماط الرهبانيّة، وكيف يمكننا الإفادة من هذه المبادئ في عالمنا المعاصر؟ خصوصاً وأنّ أبناء العهد -كما سنجد- عرفوا كيف يعيشون روحانيّتهم مع بقائهم في المجتمع دون الانفصال عنه ماديَّا، وهذا ما قد نستفيد منه اليوم.
الإيحيدايا
في تقليد الكنائس الناطقة بالسريانيّة، يظهر مصطلح “الإيحيدايا” في النصوص القديمة معًا مع مصطلح بناي قياما، والبتولة، والقاديشة، ليميّز طبقة من الناس في الجماعة المؤمنة الذين يحتلّون مكانًة خاصة في الكنيسة. لم يكونوا خدّامًا في الكنيسة (أي إكليروسًا) مثل الشاموشي، أو المشمشوني (شمامسة)، أو القاديشي (الكهنة)، أو رعيوثا (المطارنة الرعاة). ولكن ومع هذا فإنّ الإيحيدايا في بعض الأحيان نجد أنّهم من ضمن الرتب الرسميّة الثانويّة في الخدمة الرعويّة في الكنيسة لأنهم كانوا يُدعون في بعض الأحيان لخدمة المطران المحليّ[21].
إلاّ أنّ “الإيحيدايا” احتلّوا مركزًا يمكن مقارنته بالأرامل والبتولات المعروفات في العهد الجديد من الكتاب المقدّس. في الحقيقة، إنّ مصطلح الإيحيدايا -بشكلٍ عام- أتى ليشمل كلًّا من الرجال والنساء البتولييّن، بالإضافة إلى هؤلاء الذين كانوا متزوّجين في وقتٍ ما، والذين كرّسوا أنفسهم بطريقة خاصّة ثمّ عاشوا مُكرَّسين بلا زواج في الجماعة المسيحيّة تحت اسم القاديشي (أي القديسين). النصوص الأقدم بالسريانيّة التي قد تساعدنا لفهم المعنى الصحيح لمصطلح الإيحيدايا في إطار القرن الرّابع، هي مواعظ أفراهاط، الحكيم الفارسي، والترانيم والعظات لأفرام السريانيّ، إذ إنّه مع القرن الرّابع مصطلح الإيحيدايا كان قيد الاستخدام في الحلقات الكنسيّة الإكليزيولوجيّة.
من الجدل حول هذا المصطلح اتفق المستشرقان إدموند بيك وآرثر فوبوس على أنّ المعنى أقرب إلى الكلمة اليونانية (MONACHOS) بينما آلفرد آدم[22] وأنطوان غويلومونت[23] شدّدا على أن الكلمة في العالم السريانيّ كانت تعني “المتوحّد، المنفرد، الأعزب.
لخّص العلاّمة المستشرق روبيرت مري معنى مصطلح الإيحيدايا من مرجعيته إلى الزهد المسيحي، عندما صار واضحًا علميًّا في بداية النصف الثاني من القرن العشرين في الجدل حول معنى الإيحيدايا، بأن المصطلح يتجلّى في ثلاثة معانٍ ( Monachos):الأعزب من مرأة أو عائلة، و( Monotropos ) أعزب القلب و(Monogenes) المتحد بالابن الوحيد. هذه المعاني الثلاثة هي في الحقيقة معاني الــ Monachos) (التي ذكرها أوسابيوس القيصري[24] خلال مناقشته لكلمة Monotropus) (
استطاع المستشرق روبيرت مري أن يُظهر أنّه في السريانيّة خصوصاً في كتابات مار أفرام، هذه المعاني لكلمة إيحيدايا مهمّة جدًّا لنفهم الاستعمالات المتعدّدة لهذه الكلمة[25]. فكلمة إيحيدايا ليست محدودة بمعنى العزوبية أي البتوليّة وعدم الزواج، بل المعنى أكبر من ذلك بكثير، إذ تشمل التوحّد وطلبًا لسبب روحي ما خلال مرحلة روحيّة معيّنة. خاصّة عندما تُقال عن العلاقة الخاصّة مع يسوع المسيح “الوحيد”، ابن الله الوحيد. هذا المعنى الأخير كما يقول الأب سيدني غريفيث كان الأكثر شيوعًا بين السريان. بكلام آخر: التركيز في التكريس على شخص يسوع الإيحيدايا ليكون الهدف بغض النظر عن تفاصيل شكل التكريس، أي: ابن الله الوحيد هو الهدف من النسك.
أفراهاط هو الكاتب الأكبر الذي يخبرنا عن الإيحيدايا. من ضمن مواعظه، هناك مجموعة خاصة معنونة بــ”بناي قياما” أبناء العهد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الإيحيدايا في زمن أفراهاط، لتمييز بعض الإيحيدايا الذين لهم خدمة خاصة في المجتمع. فعند أفراهاط الإيحيدايا هم حتمًا بتوليّون أي غير متزوّجين. إذ يقول: “إنّه حسن وجيّد لي أن أعطي هذه النصيحة لنفسي ولإخوتي الإيحيداية، أن لا يأخذوا زوجات” ثم يصف بعد ذلك المعنى الديني الذي يبرّر اختياره البتوليّة. أفرام السريانيّ أيضًا يتحدّث بالمعنى نفسه عن الإيحيداية، ولكن مع إشارات واضحة بأنهم لا يجب أن يتزوجوا، مع إشارات واضحة للمعنى المرتبط بالابن الوحيد، الذي هو أيضًا عند أفرام: يشوع الإيحيدويو.
بناي قياما
كما ذكرنا سابقًا، فإنّ الجماعات الناطقة بالسريانيّة في القرن الرّابع وربما أبكر من هذا التاريخ، الإيحيداية، سواءً كانوا بتوليّين (غير متزوّجين) أو قاديشي (مرسومين في الكنيسة)، ينتمون إلى طبقة غير رسميّة من المؤمنين في الكنيسة، أُطلق عليهم لقب: بناي أو بناث قياما. المعنى الذي أتت منه هذه الكلمة الثانية “ق-و-م” يشير إلى “قام” “وقف” وأيضًا إلى “عهد”. قد تعني أيضًا “حالة” أو “محطة زمنية في الحياة”، أو حتى “القيامة”. ولكن ما اتفق عليه معظم العلماء مثل الملفونو الكبير سيباستيان بروك، أن المعنى هنا هو: أبناء العهد. يتحدّث بروك في كتابه الشهير: العين المستنيرة أو العالم الروحاني عند مار أفرام السريانيّ[26]، عن أبناء العهد، خصوصاً في طقس تكريسهم وذلك في ليلة سبت النور من عيد القيامة، إذ يتعمّد الموعوظون ويتعهد المكرّسون بالحفاظ على وعود معموديتهم بحياة القداسة. هذه القداسة ليست بالضرورة مرتبطة فيما إذا كان المكرّسون متزوّجين أو بتوليين، بينما المهم هو في عهدهم لحياة القداسة مع يسوع ابن الله الوحيد.
في بعض المقاطع من مواعظ أفراهاط وقصائد مار أفرام، الإشارة واضحة في ربطهم مع فكرة القيامة مع موعد تكريسهم في ليلة عيد القيامة، ولغويًا مرتبطة بوضوح مع الجذر “قايم”. حسب مواعظ أفراهاط، الإيحيداية والبناي قياما هم ناس أخذوا شكلاً يشبه الملائكة، وبالنسبة لهم البتوليّة هي “المشاركة مع اليقظين في السماء”.
فقط باحثٌ واحد هو: الأب ميشيل بريدي[27]، الذي أكمل النقاش والاعتقاد بأن كلمة بناي قيامي ببساطة تعني “أبناء القيامة”! وبهذا لا أحد يستطيع أن ينفي العلاقة الوطيدة بينهم وبين مفهوم القيامة التي هي حجر الأساس لمفهوم تكريس بناي قيامي. ويمكننا أن نستنتج أن الاسم مرتبط مع العهد الذي قطعه هؤلاء المكرّسون ليلة عيد القيامة في أن يبقوا أوفياء لنذورهم باليقظة والاستعداد الكامل لخدمة كلمة ابن الله الوحيد مثل الملائكة التي لا تنام.
إذن فإنّ دور الإيحيدايا هو كأيقونة حيّة للفردوس المُستَعاد، مِثلَ يوليان الشيخ الذي تكلّم عنه مار أفرام: هذه الأيقونة تتبلور وتتضح ضمن إطار الجماعة الكنسيّة الإكليزيولوجيّة.
أمّا البناي قياما فهم مجموعة مميّزة ينتمون إلى محطة مرحليّة من الحياة الروحيّة، مُرتبطون ومُكرّسون بعهدٍ خلال المعمودية، ومُرتكزون على مفهوم القيامة، هدف كلّ المسيحيّين. وهذه المرحلة كانت ما يُتوقّع من كل مُعتمد، بأن يكون جديًّا في تمسّكه بوعوده ليسوع.
الخاتمة
يبقى السؤال الأهم في ورقتنا هذه: ماذا يمكننا أن نتعلّم من مدرسة الـ”بناي قياما” اليوم؟
كما وجدنا في هذا البحث المختصر عن تكريس أبناء العهد، والذي يعكس روحانية الرهبنة السريانيّة البدائيّة، بأن السؤال الأهم في التجرّد والتكرّس ليسوع لا يكمن فيما إذا كان المكرّس متزوّجًا أم لا، إذ إنّنا وجدنا أن أفراهاط ينصح رفقاءه أبناء العهد باختيار البتوليّة مثله، مما قد يشير –ربّما- إلى أنّ هناك بعضًا منهم كان متزوّجًا، ونصيحة أفراهاط هي أَشْبَهُ بنصيحةِ بولس الرسول في البتوليّة. فالسؤال الأهمّ هو في مدى إخلاص المكرّس ووفائه للوعود التي قَطَعَهَا أمام جماعة الكنيسة ليتمثّل بيسوع ابن الله الوحيد، من خلال حياة القداسة.
أعتقدُ أنّ فهم هذا النوع من التكريس هو أمرٌ مهم جدًّا في كنيستنا اليوم، أوّلاً: لأننا بهذا نفهم المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الرهبانيّة في القرن الرّابع، لنكتشف أصاله فكرة التجرّد والتخلّي في السير على درب القداسة. وثانيًا: لأنّ التركيز على التكريس لشخص يسوع -بغضّ النظر عن الزواج أو البتوليّة- قد يفتحُ المجال أمام كثيرٍ من المؤمنين الملتزمين، ويدعوهم لعيش حياة الرهبانيّة مع عائلاتهم تحت إطار مكرّسي أبناء العهد. أعتقد أنّ هذا المفهوم يتوافق مع مبادئ الرهبانيّة العلمانية، أو –مثلاً- كما في الرهبنة البندكتانيّة اليوم في الولايات المتحدة الأمريكيّة، إذ هناك عدد كبير من المكرّسين، ومنهم مَنْ هُم مع عائلاتهم مرتبطون مع أديرةٍ ويعيشون دعوتهم الخاصّة تحت رعاية الدير الذي ينتمون له روحيًّا. ثالثًا: وأخيرًا، بإحياء هذا المفهوم لأبناء العهد سوف نذكّر بعضنا بعضا، سواءً كنّا علمانيّين أو إكليروس، بنذورنا المسيحيّة قبل كلّ شيء، تِلكَ التي قطعناها وأنابَ عنّا الأشبين، بأنّ نكونَ قدّيسين أبناءَ نعمة المعموديّة. فواجبُ كلّ مسيحيٍّ أن يعيشَ دعوته وتكريسه كمسيحيٍّ سائر على درب القداسة.
[1]* باحث ما بعد الدكتوراه في جامعة غراتس (University of Graz) النمسا.
[2] – أفراهاط (بالسريانية: ܐܦܪܗܛ – بالفارسية: فرهاد) أو معروف بـ(يعقوب أفراهاط الحكيم الفارسي): راهب وكاتب سرياني عاش في منطقة حدياب شمال بلاد ما بين النهرين، التي كانت واقعة حينها ضمن أراضي الإمبراطورية الفارسية. راجع: ألبير أبونا، أدب اللغة الآرامية، الموصل، بيروت، 1970.
[3]– Peter Brown, The Body and Society; Men, Women and Sexual Renunciation in Early Christianity (New York: Columbia University Press, 1988) p. 330.
[4]– Sidney H. Griffith, “Asceticism in the Church of Syria: The Hermeneutics of Early Syrian Monasticism,” in Asceticism, eds. Wimbush, Vincent L. and Valantasis, Richard (New York / Oxford: Oxford University Press, 1995) pp.220-245.
[5] – سمعان العاموديّ: ناسك سوريّ ولد بين سوريّا وقيليقيا في الربع الأخير من القرن الرابع. عاش بالقرب من مدينة حلب (كورة أنطاكية) ابتكر طريقة التنسّك على عمود حجري، وهي طريقة انتشرت بعده في مدن ومناطق الشمال السوري كافة. من أهمّ الدراسات العلميّة عن هذه الطريقة من النسك العاموديّ، قد تكون الأبحاث التي نشرها الآباء الفرنسيسكان في حلب، وخصوصاً بهمّة الأب باسكال كاستيلانا. راجع:
Ignacio Peña, Pascal Castellana and Romuald Fernández, The Syrian Stylites . SBF Collectio Minor 16. (Milano: Franciscan Printing Press, 1975).
[6]– Karl-Erik Rignell, ed. A Letter from Jacob of Edessa to John the Stylite of Litarab Concerning Ecclesiastical Canons: Edited from Ms. Br. Mus. Add. 14,493 with Introduction, Translation and Commentary (Lund: C.W.K. Gleerup, 1979).
[7]– Peter Brown, The Body and Society; Men, Women and Sexual Renunciation in Early Christianity, p. 332.
[8] – لمعلومات شاملة وكمقدّمة للتعرّف على المسيحيّة السريانيّة والتراث الآرامي قبل المسيحيّة، والفترة المسيحيّة الذهبيّة وعصر النهضة للأدب السريانيّ حتى نهاية القرن العشرين، راجع:
Sebastian P. Brock and David G.K. Taylor, The Hidden Pearl: The Syrian Orthodox Church and its Ancient Aramaic Heritage (Rome: Trans World Film, 2001).
[9] – للاطّلاع على الترجمة العربيّة، راجع: تاريخ أصفياء الله – ثيودوريتوس أسقف قورش، ترجمه عن أصله اليونانيّ: الأرشمندريت أدريانوس شكّور، المكتبة البولسيّة، يونيو (حزيران) 1987.
[10]– Jean-Maurice Fiey, “Aonès, Awun, et Awgin (Eugène) aux origenes du monachisme mésopotamien”, Analecta Bollandiana 80 (1962) pp.52-81.
[11]– Arthur Vööbus, History of Asceticism in the Syrian Orient: A Contribution to the History of Culture in the Near East. CSCO 184, 197, 500, Subs. 14, 17, 81. (Louvain: Secrétariat du Corpus SCO, 1958, 1960, 1988).
[12]– Sidney H. Griffith, “Asceticism in the Church of Syria: The Hermeneutics of Early Syrian Monasticism,” in Asceticism.
[13]– Edward George Mathews, ”‘On Solitaries’, Ephrem or Isaac?”, Le Muséon 103 (1990) pp.91-110.
[14]– Jean Parisot, ed. Aphraatis Sapientis Persae Demonstrationes. Patrologia Syriaca (Paris, 1884).
[15]– Edmund Beck, ed. Des heiligen Ephraem des Syrers Hymnen de Paradiso und contra Julianum. CSCO 174-175, Syr. 78-79 )Louvain: Peeters, 1957(.
[16]– Sebastian P. Brock, The Luminous Eye: The Spiritual World Vision of St Ephrem (Rome: Center for Indian and Inter-Religious Studies, 1985).
[17] – سبستيان، بروك، نشوء الفكر المسيحي: مدارس أنطاكية والرّها ونصيبين اللاهوتيّة – المسيحيّة عبر تاريخها في المشرق، الطبعة الثانية، بيروت، 2002.
[18] – لمعلومات أكثر عن مار أفرام السريانيّ ونمط الحياة النسكيّة في عصره، راجع: مار أفرام السرياني شاعرٌ لأيامنا، سلسلة التراث السرياني – أعمال المؤتمر الحادي عشر، مركز الدراسات والأبحاث المشرقيّة، أنطلياس، 2007.
[19] – في دراسة اللاهوت الشرقيّ الأرثوذكسيّ، مصطلح “الكنيسة العظمى” يعني كنيسة “هاغيا صوفيّا” في القسطنطينيّة، والتي من خلال المكانة السياسيّة لكنيسة عاصمة الإمبراطوريّة المسيحيّة الكبرى، صارت هذه الكاتدرائيّة المثال الليتورجيّ والتي توجّب في مراحل لاحقة، اتّباع نمطها الليتورجيّ ليكون “الترتيب الليتورجيّ” في أرجاء الإمبراطورية البيزنطيّة. نجد هذا التأثير واضحًا في شروحات القدّاس اليونانيّة والتي تأثّرت بها الشروحات السريانيّة.
[20]– Han J.W. Drijvers, “Odes of Solomon and Psalms of Mani: Christians and Manichaeans in Third-Century Syria” Studies in Gnosticism and Hellenistic Religions Presented to Gilles Quispel on the Occasion of His 65th Birthday. Ed. Roelof van den Broek and Maarten J. Vermaseren. Études préliminaires aux religions orientales dans l’Empire romain 91 (Leiden: E.J. Brill, 1981).
[21]– A.J. van der Aalst, “A l’origine du monachisme syrien. Les ‘ihidaye’ chez Aphraat”, Fructus centesimus. Mélanges offerts à Gérard J.M. Bartelink à l’occasion de son soixante-cinquième anniversaire. Ed. Antonius Adrianus Robertus Bastiaensen, Anthony Hilhorst and C.H. Kneepkens, Instrumenta Patristica 19. (Dordrecht: Kluwer / Steenbrugis: Abbatia S. Petri, 1989) pp. 315-324.
[22]– Alfred Adam, “Der Monachos Gedanke innerbalb der Spirituahcat der alten Kirche,” Glaube, Geist, Geschichte; Festschrift E. Benz (Leiden, 1967) pp.259-265.
[23]– Antoine Guillaumont, “Monachisme et éthique judéo-chrétienne”, Recherches de science religieuse 60 (1972) pp. 199-218.
[24]– Eusebius of Caesarea, “Commentaria in Psalmos”, PG 23.689.
[25]– Robert Murray, Symbols of Church and Kingdom: A Study in Early Syriac Tradition (London / New York: Cambridge University Press, 1975) p.355.
[26] – سبستيان بروك، العين المستنيرة – نظرة مار أفرام الروحانيّة للعالم ونظرته للعالم الروحانيّ، تعريب الأب جوزيف ترزي، ميشيغين 1992.
[27]– Michel Breydy,“Les laics et les bnay qyomo dans l’ancienne tradition de l’Église syrienne“, Kanon: Jahrbuch der Gesellschaft für das Recht der Ostkirchen 3 (1977) pp.51-75.