تعلم الجماعات الإسلامية التي أطلقت على أحزابها تسمية “حزب الله”، أن الله لا علاقة له بمنهج، ولا تنظيم، ولا حراك سياسي، لأنه خالق الأكوان العليا والسُّفلى، والبشر وما به يختلفون، من ألوان ولغات وطِباع، لا ينزل إلى مستوى التَّنظيم الحزبي، بل وليس هو بحاجة إليه. هذا ما تعلمه أحزاب الله، المتعددة المشارب والعقائد، قبل غيرها. وقد يقول قائل: إن الاسم قرآني، فكيف يُشكك بصلة هذه الأحزاب بربِّ العالمين؟! ناهيك عن أن الحزبية معترف بها قرآنياً؟!
نعم، وردت مفردة “حزب” في القرآن ست مرات، وبصيغة الجمع (أحزاب) تسع مرات، وبعبارة “حزبه” مرة واحدة. هناك سورة اسمها “الأحزاب”. كما أتت التَّسمية نصاً بالإشارة إلى حزب الله: “أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (المجادلة: 22)، و”وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ” (المائدة: 56). وأتت بالسَّلب أيضاً: “أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ” (المجادلة: 19). غير أن هذه الألفاظ لا تنطوي على معنى الحزب، الذي أمينه العام فلان، أو ولي فقيهه فلان مِن الناس، ولا عقيدة هذا الحزب محصورة على ناس دون غيرها، لكن التجاوز على المعاني، وإن كانت كلام القرآن، لا يقدر عليها إلا صاحب جرأة على الدِّين، ليجعل من نفسه حزب الله دون غيره.
قبل هذا بكثير، بل وقبل الإسلام نفسه، ظهر مصطلح “أهل الله”، ومنه برزت ظاهرة التَّطرف الديني، قبل الإسلام، المحصور بما عُرف بـ”الحُمْس”. جاء في الرواية: “لما أن أهلك أبرهة الحبشي صاحب الفيل، وسلط عليه الطَّير الأبابيل، عَظمت جميع العرب قريشاً وأهل مكة، وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم، فازدادوا في تعظيم الحرم، والمشاعر الحرام والشَّهر الحرام ووقَّرُوها، ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله، وولاة البيت الحرام، وساكنوا حرمه وقُطانه، فليس لأحد مِن العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف العرب لأحدٍ مثلما تعرف لنَّا. فابتدعوا عند ذلك أحداثاً في دينهم أداروها بينهم، فقالوا: لا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم” (الأزرقي، أخبار مكة).
مِن هنا نأتي على محاولة توظيف “اسم الله” بإضافة “أهل” “أبناء”، و”حزب”، “آية الله”، “روح الله” (اسم الخميني الأول)، وإذا كان التوظيف الأول اجتماعياً لإعلاء درجة قُريش على غيرها، ففي “حزب الله” توظيف الدِّين في الشّأن السِّياسي. فليس أكثر إيغالاً في التَّوظيف مِن إطلاق اسم الله على حزب بكامله، ليكون اسمه الرَّسمي “حزب الله”، وأن يؤتى بالآية شعاراً “فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ”! مع أن ليس مِن حق أحد مِن عباده، ولا مختلف الأديان والمذاهب، أن يحتكر هذا الاسم لحزبه، إلا إذا أراد أن يُقابل حزبه بما أشارت إليه الآية: “اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ” (سورة المجادلة: الآية 19). فتخيل فظاعة التَّوظيف!
لعلَّ أول مَن اتخذ اسماً لحزبه «حزب الله» هو الشَّاعر محمود الزُّبيري (اغتيل 1965) باليمن، وذلك إبان الصِّراع بين الملكيين والجمهوريين باليمن الشِّمالية، عقب ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 اليمنية بصنعاء (المسعودي، الزبيري ومشروع حزب الله). قال أحد المؤسسين في لحظة التعبير عن الحزب: «وفي الطَّريق … قال الزُّبيري: سنفجر لهم قنبلة عظيمة ستكون شديدة الوقع عليهم، سنعلن إنشاء حزب نسميه حزب الله، وهم سيقولون ونحن من حزب الله» (المصدر نفسه). وتأمل العبارة: “سنفجر لهم قنبلة عظيمة…”! هذه القنبلة هي التوظيف السِّياسي بعينه.
غير أن التَّسمية غدت مرتبطة بحزب الله اللبناني، الذي تأسس العام 1982، في حياة مرشد الثورة الإسلامية بإيران روح الله الخميني (ت 1989)، بالتعاون مع سورية، حيث انطلق من هناك، وهو حزب عقائدي يركن إلى فكرة ولاية الفقيه بنسختها الإيرانية، حتى أصبح اسم الحزب محتكراً للتابعية الإيرانية.
بالتزامن مع وجود حزب الله اللبناني ظهر حزب الله الكردي، بزعامة محمد خالد بن أحمد البارزاني (ت 2015)، تأسس تحت هذا الحزب ودخل ضمن تكوينات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”، والأخير كان قد تأسس (1982) بإشراف وإمداد إيراني، وكان أول أمين عام له محمد الشاهرودي، الذي تربطه صلة مع حزب الدَّعوة الإسلامية، وصار في ما بعد رئيساً للسلطة القضائية في إيران. قيل إن مؤسس الحزب الكردي أو “حزب الله في كردستان”، ينتمي إلى الاتجاه الخورشيدي، نسبة إلى خورشيد (قُتل 1983) ابن أخت الشيخ أحمد البارزاني (ت 1969)، في الطريقة البارزانية، والتي هي جزء من الطريقة الكبرى النقشبندية، وتأخذ عليهم السلفية أن له طريقتهم في التدين.
قبل ذلك، تأسس حزب الله التركي (1979)، وبتأثير الثورة الإيرانية أيضاً، واتخذ لمواجهة حزب العمال الكردي اليساري، في ما بعد، وصار قريباً من تيار الإخوان المسلمين بزعامة رجب طيب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”. نشأ حزب الله التركي بمدينة طمان من إقليم كردستان تركيا، ولأنه حزب الله وشعاره “الإسلام ضد الكفر” أطلق على حزب العمال الكردي التسمية المناقضة أي “حزب الشَّيطان”، مثلما ورد في الآيات أعلاه، انشق هذا الحزب إلى جماعتين (بوابة الحركات الإسلامية).
ما عدا حزب الله اليمني، ظهر قبل الثورة الإيرانية بنحو سبعة عشر عاماً، ففي أي مكان يُعلن عن حزب بهذا الاسم تجده، أو تتصور هكذا، أنه حزب إذا لم يكن ملحقاً بإيران فهو مؤيد لسياستها، وظل الاسم محصوراً بين الشِّيعة، بينما كانت بدايته سُنية متصلة بالإخوان المسلمين، مثلما تقدم.
تشكل أكثر مِن حزب ومنظمة عراقية باسم “الله”، منها حزب الله، ومنها كتائب “حزب الله”، وعقيدة الكتائب هي عقيدة الدولة الإيرانية وحزب الله اللبناني نفسها «ولاية الفقيه»، ويتشددون فيها، واختارت الحركة أن تكون ولادة موقعها الإلكتروني الجديد في يوم «الغدير»، وهو اليوم الذي يعتقد الشِّيعة أن أعلن فيه النَّبي الوصية لعلي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)، في 18 من ذي الحجة العام 11هـ، خليفة مِن بعده.
لكن كلَّ تلك الأحزاب، التي اتخذت مِن اسم الله عنواناً لها، اضمحلت أو أخذت بالاضمحلال، في الحالة العِراقية، ثم أحيتها المواجهة مع داعش، بعد احتلال الموصل (يونيو/ حزيران 2014)، لتكون روافد للحشد الشعبي، وارتفعت باسم الجهاد ضد داعش، والآن جرى التحايل لدخولها في الانتخابات العراقية، المزمع عقدها في مايو(أيار) 2018. إنها حَيرة مع تسمية “حزب الله” أو كل جماعة أو اسم ينتسب إلى الله، وعلى وجه الخصوص في العمل السِّياسي.