في حوار ينشر لأول مرة أحمد البغدادي:
-الحركات الإسلامية تتحكم في مفاصل الدولة الحديثة وتتغلغل في المجتمعات عبر الشبكة الرعائية
-توجهات المعتزلة لم تجد قبولاً داخل المجتمع الإسلامي لانتشار الأمية وغياب الجمهور عن الثقافية
ريتا فرج _ من بيروت
خاص بالمسبار
مع رحيل الدكتور أحمد البغدادي، خسرت الكويت، أهم روادها الليبراليين، بعد أن خاض معاركه الفكرية على أكثر من جبهة، وقبل الوفاة المفاجئة أجرت الزميلة ريتا فرج معه حواراً حول أهم اشكاليات الإسلام المعاصر، بدءاً من تصاعد العنف مروراً باستبداد الأنظمة السياسية, وصولاً الى الدور الذي يمارسه الغرب تجاه قضايا العالم العربي, وقبل أن يجيبنا البغدادي عن هذه التساؤلات، قدم لنا تصوره حول أسباب الحكم الصادر بحقه عام 2005، والذي فجره مقال كتبه تحت عنوان “أما لهذا التخلف أن ينتهي”.
وفي ما يأتي نص الحوار
1- لنبدأ أولاً بالحكم الصادر بحقك عام 2005 على خلفية مقال كتبته تحت عنوان” أما لهذا التخلف أن ينتهي” انتقدت فيه إلغاء حصص الموسيقى في المدارس لصالح التعليم الديني. ما هي الأسباب التي اعتمد عليها التيار الإسلامي في ذلك الوقت لإدانتك؟ وكيف تفسر تنامي ظاهرة الارهاب الفكري أو التكفير في الإسلام التاريخي والمعاصر؟
– بدأت القضية عام 2004 فقد اشتكى أحد الاشخاص ضدي مستنداً إلى قانون المطبوعات والنشر الذي يعاقب من يتعرض للدين, وانتهت القضية بصدور حكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ. إن الإشكالية الأساسية في ما يتعلق بمسألة المساس بالدين تكمن في اتساع التأويل, بمعنى أن القانون ذاته الذي يتضمن هذه الزاوية يترك الباب مفتوحاً أمام شتى الاجتهادات والتأويلات؛ فكل شخص باستطاعته الادعاء على أي شخص آخر في حال وجد أنه يمس بالدين الإسلامي أو بالذات الإلهية، وعليه لا بد من وضع ضوابط لهذه المسألة. لا ريب أن العنف الموجود اليوم من الناحية الدينية يختلف عن العنف البشري كونه ظاهرة فطرية تاريخية, فالجريمة جزء من حياة الانسان المعاصر والمجتمعات مهما كانت فاضلة ترتفع فيها معدلات الإجرام خاصة إذا ما قاربنا هذه الظاهرة من الدائرة الغربية. في المجال الإسلامي تتحدد مشكلة العنف في الفهم الخاطئ للكثير من الآيات القرآنية المتعلقة بالقتال والجهاد, والتي كانت شرعية بكل المقاييس في أزمنة الدعوة ونشر الدين, وهنا لا بد من التركيز على أهمية أسباب النزول خصوصاً إذا علمنا بأنها _أي آيات الجهاد _ نتاج البيئة التي نشأت فيها؛ إسبارطة مثلاً في القرن الخامس قبل الميلاد تأسست على مبدأ القوة والعنف, بالمقابل الاستعمار يُنتج العنف فأميركا مارست العنف ضد الهنود الحمر, أما مشكلتنا نحن فهي في التفسير الحرفي للنص الديني لذلك نجد أن اشتداد ظاهرة النحر في العراق انطلقت منها الجماعات الإرهابية بناءً على تأويلاتها الخاصة, مع العلم بأن قتل الإنسان فيالإسلام يكون في ثلاثة أمور: كفر بعد إيمان, وزنا بعد إحصان, وقتل نفس بنفس.
يعود ارتفاع منسوب العنف في المجتمعات العربية والإسلامية الى عدة أسباب أهمها استشراء المد الأصولي المتطرف, والعجز الحضاري الذي تعاني منه أمتنا, بالإضافة إلى التحدي الذي يمثله الغرب الذي وصل إلى ذروته مع الغزو الاميركي لأفغانستان ومن ثم العراق, مع الإشارة الى أن الفكر الاميركي نفسه عمل على تأصيل الصراع. وفي هذا السياق تمثل خلاصات صموئيل هنتغتون دليلاً على ذلك، فبعد انهيار المنظومة الشيوعية لم يبق من الأيديولوجيات التي يواجهها الغرب سوى الإسلام, وبما أن الإسلام عصيٌ على الذوبان والاندماج في أطر القيم الغربية فهو بالتالي مرشح للدخول في هذا الدور الصدامي.
عندما يعيش الانسان في حالة من التراجع الحضاري يلجأ الى الدين والتاريخ, فالتاريخ محصن بالماضوية في حين أن الدين محصن بالقداسة, وفي ظل عدم وجود اتجاه نقدي لقراءة النص الديني والتاريخي في العالم العربي, فالأمر يشكل بالضرورة ملاذاً آمناً للإنسان العاجز عن تقديم البديل الحضاري لعجزه, وعليه يمكننا فهم تنامي العنف وتصاعد التكفير والارهاب الفكري والسياسي.
لا بد من التأكيد على أن انتشار العنف الأصولي في مجتمعاتنا يعود إلى الإحساس بالذل والمهانة نتيجة الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط وعلى وجه التحديد في منطقة الخليج, ولذلك يريد الأصوليون الانتقام. المقاربة الجديدة التي يمكن إلقاء الضوء عليها هي أن عنف الجماعات الإرهابية لم تتم دراسته من الناحية السوسيولوجية ولا من ناحية علم النفس بغية الكشف عن نفسية هؤلاء, مع الإشارة الى أن سعد الدين إبراهيم قام بهذه المسألة حين درس محاضر التحقيق مع الإخوان المسلمين من زاوية علم الاجتماع. التكفير والإرهاب محصلة عوامل مختلفة داخلية وخارجية، ولعل أهمها الغزو الأميركي للعراق والفكر الأصولي نفسه الذي لا إمكانية لمحاربته إلاَّ عبر نشر العلم.
2- خلصت في مقالك ” الحل الوحيد لأزمتنا” المنشور في 24 أكتوبر 2006 الى أن الإسلام لم يُنشر ولم يثبت إلاَّ بحد السيف”, لو كانت هذه الفرضية صحيحة من الناحية التاريخية, برأيك: هل العنف الذي مارسه الإسلام يندرج في إطار العنف المشروع لحفظ الجماعة من الفتنة والتشرذم؟ وبالتالي لو لم يلجأ الإسلام الى العنف ألم نكن اليوم نتحدث عن جماعة إسلامية بائدة؟
_ لم أقل إن الإسلام نُشر بالعنف إنما الذي قلته إن العنف شكل جزءاً من الدعوة, ففتوح البلدان للبلاذري مثلاً تكشف عن صوابية رأيي, فهي تؤرخ للقتال, ولإخضاع الطرف الآخر عن طريق قوة السيف, وفرض للحكم الإسلامي بالقوة وبالتالي هناك جزء من العنف موجود. هناك مجتمعات خضعت عن طريق الاستسلام غير المشروط ومنهم من دخل الإسلام عن طريق التجارة مثل أندونيسيا وماليزيا. في فترة من الفترات كان العنف أمراً لازماً نظراً لطبيعة البيئة والثقافة السائدة, أما بالنسبة الى الجماعات الإسلامية, فالمشكلة عندهم تتمثل في عدم فهمهم لتاريخية النص القرآني, ولذلك يأخذون بقاعدة عموم اللفظ لا بخصوص السبب, فالقراءة المطلقة أساءت الى الإسلام. إن التأويل الصحيح للآيات القرآنية قد يؤدي إلى تخفيف العنف عند الإسلام الأصولي, فالكثير من الجماعات الإسلامية تجري المراجعات لا سيما في مصر, وهنا لا بد من الإشارة الى أن العنف الداخلي الذي ررتكزت عليه يعود إلى الفتوى الصادرة عن ابن تيمية ضد التتار والقائلة بضرورة قتال الداخل أولاً ومن ثم الانتقال الى الخارج, وذلك على خلفية الصراع بين السنَّة والشيعة ونشر التتار لديانتهم الوثنية في بلاد المسلمين.
بعد ابن تيمية جاء سيد قطب وللأسف طبق هذه الفتوى ودخل هو وجماعته إلى السجون, وعندما خرجوا الى المجتمع بدأت حلقة العنف والعنف المضاد بينهم وبين الدولة, فهم لم ينتبهوا الى أن أي جماعة لا يمكنها الوقوف بوجه السلطة, ونظراً لفشلها في إقامة الدولة الإسلامية اندفعت لإجراء العديد من المراجعات خاصة ما يتعلق بالجهاد, على سبيل المثال يوجه أحد قيادي القاعدة خطابه الى بن لادن داعياً إياه الى تغيير المفاهيم, لأن العنف برأيه استأصلهم, فالدولة تكون عنيفة في حال تعرضها لتهديد كيانها. هذه المراجعات وغيرها وتراجع القاعدة إثر الضربات المتتالية التي تعرضت لها في العراق وخارجه, يعطي مجالاً واسعاً لإيقاف عجلة العنف, باستثناء العنف المجتمعي طبعاً المتجذر في كل المجتمعات المتقدمة منها والمتأخرة. خلاصة القول إن المراجعة التي تجريها بعض الحركات الإسلامية لا يعني إقامة أو بناء الدولة الليبرالية, فهؤلاء يتغلغلون في مفاصل المجتمع عبر الشبكة الرعائية, وبالتالي بدلاً من إقامة جمهورية إسلامية بدأت هذه الحركات التحكم بمفاصل الدولة الحديثة
3- هل المعضلة الأساسية التي يعاني منها الإسلام التاريخي تكمن في محاربة العقل النقدي ممثلاً بالمعتزلة؟ وما هو دور الإمام الغزالي في هذا المجال؟ وبالتالي ما هي مؤثرات ذلك على واقع المسلمين في الوقت الراهن؟
إن العقل النقدي غير ممنوع في الإسلام بدليل أن الله سبحانه وتعالى تحاور مع إبليس, على المستوى التاريخي لم تدم تجربة النقد طويلاً في الحضارة الإسلامية كونها ليست نتاج الداخل, فما كان للمعتزلة ولا غيرهم من الفلاسفة أن يستخدموا العقل النقدي في قراءتهم للنصوص الدينية لولا مؤثرات الحضارة اليونانية والفارسية, بالاضافة الى أن توجهات المعتزلة لم تجد لها قبولاً داخل المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت لأسباب مختلفة, أهمها انتشار الأمية وغياب الجمهور عن الثقافة كـ أداة لها مؤثراتها في صناعة القرار على مستوى السياسي والثقافي؛ فالثقافة المنتشرة في ذلك الوقت هي ثقافة البلاط, والمعتزلة لولا حماية المأمون لهم ما كانوا ليظهروا في التاريخ الإسلامي. لم يمارس العقل النقدي دوره كظاهرة عامة والظروف التي أدت إلى سيادة الاتجاه المحافظ تعود الى العوامل التي عايشتها المجتمعات الإسلامية في ذلك الوقت. أعتقد أن دراسة النص الديني من زاوية نقدية قد تمهد لتدميره كما حدث مع المسيحية, فمن السهل إثارة الشكوك حوله, فنظرية داروين حول مسألة الخلق تناقض التوجه الديني.
4- هل يمر الإسلام اليوم بالتجربة التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطى؟
من حيث الجوهر نعم. فالتيار الليبرالي يُتهم بالزندقة ويمارس ضده التعذيب أو القتل أو التهديد بحرق الكتب, والمشكلة أن رجل الدين يراقب الحياة المدنية, في الكويت مثلاً هناك رقابة على معارض الكتاب فأغلبية الكتب اللبنانية لا تدخل الأراضي الكويتية, ولكن المسألة تضاءلت اليوم فمن الممكن أن يُغرَّم ولا تصل العقوبة إلى القتل الجسدي, لكن الخوف في ما لو استلم هؤلاء السلطة في مكان ما. في الكويت فشلت الحركة الإسلامية في الاستيلاء على الحكم ولذلك عمدت الى تغيير إستراتيجيتها, فبدلاً من الوصول الى الحكم عمدوا الى وضع خطة لصناعة القرار, فسيطروا على البرلمان والجمعيات التعاونية والنقابات والجامعات, والمفارقة أن لجانهم الخيرية منتشرة بصورة غير قانونية, والحكومة الكويتية تغض النظر عن مخالفاتهم من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. الخوف الكبير أن يتغلغلوا في مفاصل الدولة هم اليوم يهيمنون على المؤسسات خاصة المالية والعسكرية وهنا يكمن الخطر القادم.
5- تشهد المجتمعات العربية والإسلامية تنامياً متصاعداً للحركات الإسلاموية. ما هو تفسيرك لهذه الظاهرة؟ وهل يمكن إدراجها في فشل المشروع القومي ومن ثم اليساري؟
يعود تصاعد الحركات الإسلاموية لأسباب مختلفة أهمها فشل التنمية والتجربة الديمقراطية وتغييب أسس الدولة المدنية خاصة بعد مرحلة الاستقلال, وقد ترافق ذلك مع سيادة الأنظمة السياسية الاستبدادية التي وطدت بدورها المسار التراجعي لمجتمعاتها. عندما حلت كارثة 1967 بدأ تراجع الأيديولوجية القومية, ومع وفاة عبد الناصر اشتدت الأزمة, هناك أنظمة تكره وتحارب الفكر القومي كـ السعودية على سبيل المثال. في موازاة ذلك أسست تجربة الحكم الساداتي الى توسيع تمدد الحركات الإسلامية, إضافة إلى أن انتشار الأمية والجهل والفقر شكل بيئة مساعدة لنموها.
6- هل تتحمل الأنظمة العربية المسؤولية عن ارتفاع معدلات العنف في مجتمعاتها, بمعنى أن غياب مشروعات التنمية ومحاربة الديمقراطية والتعددية السياسية تشكل بيئة مساعدة على تنامي العنف وبالتالي اللجوء الى الدين للإجابة عن القلق المجتمعي؟
في الحقيقة تساعد الأنظمة العربية على تفعيل وتيرة العنف الداخلي, وهي لا تجد مانعاً في الاستبداد ما دامت تقيم شعائر الإسلام, من جهة ثانية دخلت الجماعات الإسلامية في حلقة من العنف ضد السلطة السياسية نفسها باعتبارها دولة كافرة لأنها تساند أميركا وتقف مع الغرب ضد مصلحة شعوبها, وخوفاً من زعزعة الاستقرار المدني تتساهل الدولة مع هؤلاء كما هو الحال في الكويت, التي أنفقت 9 ملايين دينار لمصلحة جماعات غوانتنامو, وأرسلت طائرة خاصة لإحضارهم؛ في السعودية سيتم تأسيس قناة فضائية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعليه فالأنظمة نفسها تساهم في إيصال الجماعات الإسلامية الى الحكم من خلال التسرب التدريجي في المجتمع عبر مؤسساته التعليمية والرعائية. ليس من السهل خنق المؤسسات الدينية فهي غير مكشوفة كالمؤسسات الليبرالية كونها تتغلغل في أنفاق المجتمع.
خاص بالمسبار