عملت إيران على التغلغل في دول عربية وأفريقية عدة، تقوّض فيها مؤسسات الدولة؛ وتوظف البعد الديني والمذهبي لإرساء «حالة اعتراضية» تظهر بأشكال مختلفة، تشتد مع «القوة المُعطلة» التي تصل إلى «الانقلابات الصامتة» ضد القوى السياسية والأحزاب خصوصاً في العراق ولبنان واليمن؛ وربما تنخفض مع السعي لتنفيذ خطط لتغيير ناعم في الديموغرافيا، تمهيداً لحقبةٍ تالية من الانشقاقات المدعومة، والدعم المباشر للأقليات «المصنوعة». غير أن «المد الإيراني» يؤدي إلى دفع تكاليف كثيرة انعكست على الداخل في ظل أزمات سياسية اقتصادية واجتماعية متعددة الوجوه، وانتكاسات إقليمية في السنوات الأخيرة. ولما اقتصرت أكثر الدراسات على تتبع السياسة الخارجية الإيرانية واستراتيجياتها؛ يهدف هذا الكتاب إلى استكشاف الأزمات والتحديات الداخلية في إيران التي من بينها الهجرات الداخلية، وأزمة المياه، وملف حقوق الإنسان وغيرها من القضايا الشائكة.
يتناول كتاب المسبار «أزمات إيران: المياه، الهجرة، العقوبات» (الكتاب الحادي والأربعون بعد المئة، سبتمبر (أيلول) 2018 ) الأزمات الداخلية التي تعاني منها إيران، والتحديات الخارجية سواء تلك المرتبطة بمشروع طهران التوسعي، أو بموجة العقوبات المتوقعة خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، بعد اتجاه واشنطن لتحديد وجهة مدبرة عن الاتفاق النووي.
إن القضايا الأساسية التي ركزت عليها الدراسات تسعى إلى تحديد خط التصدعات الإيرانية على مستويات عدة، بدءاً من أزمة المياه والتحولات الديموغرافية، وانفجار الاحتجاجات المطلبية أواخر عام 2017، مروراً بأوضاع السجون المزرية المخالفة لأبسط شروط حقوق الإنسان، وصولاً إلى الأثمان الباهظة التي يدفعها الإيرانيون لتثبيت أقدامهم على جبهات إقليمية عدة.
أنتج النظام الإيراني أزمة مياه خطيرة، ولكنه ليس وحده المسؤول عنها إذ ترتبط بالعديد من الأسباب، منها ما هو طبيعي وطبوغرافي، ومنها ما هو سياسي على علاقة بمشروعات النظام المائية وبإدارة الموارد المائية في الداخل أو المشترك منها مع الجيران، ومنها ما هو اجتماعي/ ديموغرافي مرتبط بتطور حالة السكان وسلوكهم وحركة هجرتهم؛ فجميع هذه العوامل –كما تبرهن الدراسة الأولى من الكتاب- تشابكت في ظل واحدة من السمات الرئيسة لإيران، وهي تفاوت حصة الأقاليم المختلفة من المياه الطبيعية؛ مما أدى في النهاية إلى ظهور الأزمة كواحدة من المهددات الرئيسة للأمن المائي والقومي الإيراني معاً. هذا الوضع أدى إلى بروز احتجاجات شعبية متعلقة بمشكلات المياه، تفاقمت خلال هذا العام وكان لها رواسبها في الأعوام السابقة، لا سيما عام 2016 الذي شهد انتفاضات على استجابة النظام لمواجهة هذا التحدي.
مرت إيران بتحولات ديموغرافية في العقود الأخيرة، وتكتسب هذه التحولات أهمية وزخماً، وتتمثل في الترابط التاريخي بينها وبين التطورات السياسية، فعلى سبيل المثال، كان للهجرة من المحافظات الأخرى والمناطق الريفية إلى العاصمة طهران تأثير واضح في التحولات السياسية التي شهدتها البلاد، حيث قادت الطبقة الوسطى التي تقطن شمال العاصمة معظم الاحتجاجات المؤثرة، وعلى رأسها «الحركة الخضراء»، فالفئات التي دشنتها تجمعهم الطبقة الوسطى، وهي الطبقة صانعة التغيير في المجتمعات. لقد قدم الكتاب دراستين، الأولى: دراسة مقارنة بين احتجاجات عام 2009 والاحتجاجات المتفجرة منذ نهاية عام 2017، محدداً شعاراتها وقارئاً الأرضية التي انطلقت منها، والثانية: قراءة الحراك الاحتجاجي الأخير بعيون أهوازية.
يشكل ملف انتهاكات حقوق الإنسان أحد الملفات الضاغطة على القيادة الإيرانية منظوراً إليه من زوايا متشابكة، من ضمنها منظومة الحريات والإعدامات، حيث تسجل إيران النسبة الأعلى بين دول الشرق الأوسط في تنفيذ أحكام الإعدام، في ضوء تطبيق قانون العقوبات الإسلامي المعمول به منذ عام 1979، والذي ما زال إلى الآن يلقى اعتراضات قوية من الحقوقيين الإيرانيين والمنظمات الدولية والأهلية، على الرغم من التعديلات التي أُدرجت فيه عام 2013. ولعل أبرز ما يثير الردود الدولية والداخلية عقوبة الإعدام ضد الأحداث والقصر، فقد أعدمت السلطات في يناير (كانون الثاني) 2018 ثلاثة أحداث بعد بلوغهم السن القانونية، علماً أن ثمة أصوات كثيرة من الداخل والخارج تطالب بتعديل قانون العقوبات لفرض حظر مُطلق على عقوبة إعدام الأحداث، حسب مقتضيات القانون الدولي. خصص الكتاب دراسة حول أوضاع السجون في إيران، ساعياً إلى تحليل قانون الجزاء الإيراني ومواده الفضفاضة وأطره التمييزية تجاه النساء والأقليات، مع رصد لأحوال السجون التي لا تطبق أبسط المعايير الدولية.
إن إيران بمشروعها الإقليمي جعلت من سوريا بعد عام 2011 «الحديقة الخلفية» لها، وهذا يرتبط بحسابات جيوسياسية وتجارب تاريخية وعلاقات وظيفية متبادلة. يحاول الكتاب شرح الثوابت والمتغيّرات الإيرانية في المنطقة، محدداً «المُسلّمات الجيوسياسية الإيرانية، الأمر الذي قد يُظهر ويشرح فعلاً أسباب السلوك الإيراني الحالي ليس فقط في سوريا، بل في كل مساحة «الهلال الخصيب»، وحتى في أماكن بعيدة عن هذا الهلال، اليمن على سبيل المثال لا الحصر. “
أفرد الكتاب تقريرين خاصين بالمشتركين، يتناولان استراتيجية القوة الناعمة الإيرانية ودورها في تنفيذ أهداف السياسة الخارجية لنظام ولاية الفقيه في أوروبا والولايات المتحدة وذلك من خلال ثلاثة محاور: أولاً: الأنماط أو المنظمات والشخصيات التي يمكن أن تعد ممثلة لمصالح طهران في بعض الدول الأوروبية؛ ثانياً: وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية؛ ثالثاً: المجلس الوطني الإيراني– الأمريكي.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل إبراهيم أمين نمر الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
هيئة التحرير
سبتمبر (أيلول) 2018