د.ريتا فرج، باحثة وعضو هيئة تحرير مركز المسبار للدراسات والبحوث
باتت قضية المهاجرين إلى أوروبا من بين أبزر القضايا التي تُقلق الاتحاد الأوروبي وتهدد بتصدعه؛ ولا ريب أن أزمة الهجرة واللجوء اتخذت طابعاً عالمياً في السنوات الأخيرة، وتفاقمت مع الأزمات السياسية والاقتصادية والنزاعات الأهلية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط ودول أفريقية عدة.
أتت المعالجات الأوروبية المتعلقة باستقبال المهاجرين الهاربين من جحيم الحروب والعوز الاقتصادي دون المأمول، ودخلت في إرباكات رافقها تنامٍ ملحوظٍ لتيارات اليمين المتطرف في أوروبا التي تتبنى خطاباً راديكالياً معادياً “للغريب”، فازداد التوجس من “الآخر المهاجر” إذا كان مسلماً، وأصبح الرهاب اليميني ثنائي الطابع: جغرافياً ودينياً.
قدم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (Jacques Derrida) (1930-2004) تنظيراً هاماً حول الهجرة واللجوء في بعدهما الأخلاقي؛ رأى “أن الضيافة قرار ينتج عن شكلين: الأول: الضيافة غير المشروطة (أو المطلقة)” ليصف الحاجة إلى المحافظة على بيت المرء وحمايته لاستقبال الضيف، وجعل إقامته فاعلة سياسياً واقتصادياً. والضيافة غير المشروطة عنده هي ما يشكّل القانون المطلق للضيافة. فيملي قانون الضيافة أن يرحّب المضيف بالضيف دون أن يطرح عليه أي سؤال، بما في ذلك اسمه أو أصله، وأن يطلب منه شيئاً في المقابل مهما كانت الظروف. وهو على نحو الغفران يمنح دون شروط، ولأن الضيافة معيار يقدّم التوجيه بشأن كيفية التعامل مع الآخر، فإنها الأخلاق. وكل أخلاق عند دريدا ضيافة أولاً. وتمكّن الضيافة، باعتبارها إيماءة مقدّسة، من بروز مجتمع جديد، وتذكّرنا في الوقت نفسه بجوهر البشر المنفوي. فالمضيف اليوم ربما يصبح ضيفاً في الغد. غير أن الشرط المنفوي للبشر -كما يرى دريدا -غالباً ما تهبط مرتبته إلى المهاجر الموسوم بالآخر، والغريب الذي نقابله بالدولة القومية واستقرار الهوية”. أما “الضيافة المشروطة” فتخضع لقوانين الضيافة، وتؤدّي قوانين الضيافة في شكلها المتطرّف إلى السيطرة على الضيف ومراقبته، وإغلاق بيت المضيف في نهاية المطاف؛ وبموجب هذا النوع من الضيافة، يكون الضيف “طفيلياً” يمكن أن ينتهك القواعد المحلية، ويؤدّي إلى تدمير البيت من الداخل. (راجع: Derrida & Dufourmantelle, Of Hospitality, 2000؛ حمزة صفوان، الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي والعلاقة مع الآخر الأجنبي، المسلمون في أوروبا: إشكاليات الاندماج وتحديات الإرهاب، كتاب المسبار (112)، أبريل/ نيسان، 2016).
قد يكون الشرط الأخلاقي الأول للجوء والهجرة -وفق خلاصة دريدا- شديد الطوباوية، إذا ما قورن بالواقع المؤلم للمهاجرين في الدول الأوروبية وكيفية التعامل معهم كغرباء يهددون الانسجام العام. لقد شهدت أوروبا في العقود الثلاثة الأخيرة حالة من “النكوص” الديمقراطي، وتراجعاً عن الأفكار الليبرالية الداعية إلى التسامح واحتضان الغريب/ المهاجر/ اللاجئ، الذي يبقى مداناً ومُهدداً للهوية، إلى أن يثبت العكس.
إن موجات الهجرة “غير الشرعية” الأخيرة العابرة للبحار تكشف عن وقائع صعبة في الدول الطاردة وتبرهن على خوف الأكثريات الأوروبية من الأجانب “مهددو طرائق حياتنا”. من المفيد القول: إن الاتحاد الأوروبي سعى عبر الاجتماعات والقمم المصغرة، من بينها “قمة بروكسيل” يونيو (حزيران) 2018، إلى حل هذه الأزمة بالحد من تداعياتها عليه، دون تأمين السبل الأفضل لمعالجات جادة وهذا يحتاج إلى شراكات عالمية تسير في الاتجاه الصحيح، فتعالج المشاكل في أصلها عبر إرساء السلام في المجتمعات الخارجة من الحروب والاستثمار في الإنسان والاقتصاد.
ونظراً لأهمية أزمة المهاجرين في الاتحاد الأوروبي وانعكاساتها، ينشر مركز المسبار للدراسات والبحوث ملفاً يضم مقالين: الأول للبروفيسور محمد الحدّاد، الأكاديمي التونسي، وأستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة، والثاني لفهد الشقيران، الكاتب والباحث السعودي، بالإضافة إلى دراسة للباحث المغربي المتخصص في قضايا الهجرة حمزة صفوان تحت عنوان “الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي والعلاقة مع الآخر الغريب”.