في كتابه (التحدي الديمقراطي في الولاية الأخيرة لزين العابدين بن علي) ذكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة اكستر ببريطانيا العربي الصديقي أن « ما سيكون مهماً في تونس، بين العامين 2009 و2014 ليس كيف جاء ابن علي إلى السلطة قبل اثنين وعشرين عاماً، ولا كيف فاز في انتخابات العام 2009، بل ما إذا كانت سنواته الخمس الأخيرة مكنت من تحقيق مصالحة وطنية،
وأفضت إلى عملية تحول ديموقراطي، وما إذا كان قادراً على الالتزام بخروج مشرف وديموقراطي في العام 2014، إذ إن مثل هذا الخروج سيضمن له مكاناً مهماً في تاريخ تونس السياسي». ويبدو أن تطور الأحداث لاحقاً كانت فوق المتوقع، فقد أسقط الشعب التونسي حكم زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير الجاري، واليوم يتهيأ الإسلاميون التونسيون للمشاركة في حكومة ائتلاف تضم شتى التوجهات من القوى الوطنية. تنطلق دراسة الباحث التونسي العجمي الوريمي بعنوان ـ”الإسلاميون والسلطة في تونس: النهضة نموذجاً” من مسلّمة أنّ العلاقة بين الطرفين تشكّل عقدة الحياة السياسية، ويرتبط بطريقة تسويتها نمط التطوّر في تونس. ويرى الباحث في دراسته التي نشرت في كتاب المسبار الثامن والعشرين (الإسلامية التونسية) أن وجود التيار الإسلامي في تونس أمرٌ مسلمٌ به من طرف الدولة، والحزب الحاكم، وبقية أطراف المعارضة، غير أن الإقرار بهذا الوجود الواقعي لا توافقه إرادة سياسية تقرّ بشرعيته وتقنينه. والتيار الإسلامي لا تنفرد بتمثيله حركة سياسية واحدةٌ وإن كانت حركة النهضة تعد الطرف الأكثر تمثيلاً له، ويرجع الباحث انطلاق الجماعة الإسلامية في تونس إلى بداية السبعينيات كجماعةٍ دعويةٍ تمارس التبشير بالفكرة الإسلامية. وذكرت الدراسة أن الجماعة الإسلامية تحولت إلى حركةٍ سياسيةٍ إثر عددٍ من الأحداث منها: 1-أحداث «الخميس الأسود» 26/1/1978، المتمثلة في مواجهات دامية بين الجماهير وأجهزة الأمن، التي أطلقت الرصاص على المتظاهرين العزل، فسقط منهم العشرات، وقد جرت الأحداث إثر إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل عن الإضراب العام، بعد أزمة اندلعت بين المركزية النقابية بزعامة الحبيب عاشور، وحكومة الوزير الأول الليبرالي الهادي نويرة، وذلك على خلفية حرب مفتوحة، من أجل خلافة الرئيس بورقيبة، بين أجنحة في السلطة، وكتل داخل الحزب الدستوري الحاكم. 2-عملية قفصة، المتمثلة في دخول مجموعة معارضة مسلحة، ذات توجه قومي عربي من الحدود الليبية التونسية، بدعم قيل –آنذاك- إنه من قبل النظامين الليبي والجزائري، وذلك بغية الإطاحة بالنظام التونسي الموالي للغرب، والحليف للولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وقد مثلت تلك العملية تحدياً أمنيّاً لم تعرفه الدولة التونسية مِنْ قَبْلُ. 3-أحداث فبراير/شباط 1981 التلمذية والطلابية، والتي كان للإسلاميين دور بارز فيها، وقد أبانت الأحداث عن حدود تجربة الانفتاح السياسي، وكشفت حاجة التونسيين للتنفيس، ورغبتهم في التعبير. 4-حصول انكشاف أمني، تأكد لدى السلطة من خلاله وجود تنظيم إسلامي مهيكل، له مؤسسات قيادية مركزية وجهوية، وتحكمه لوائح وقوانين، وقد كانت تلك التطورات في بنية الجماعة وأسلوب عملها، ثمرة الصدمة التي تعرضت لها عندما تفطنت أنها كانت غائبة تماماً، وغافلة عما يجري حولها، وعن الأحداث التي عصفت بالبلاد في يناير/كانون الثاني 1978، وأيقنت أنه لا أحد من الأطراف القائمة والمتصارعة يمثلها سياسيّاً، وذكر الوريمي أن الاحتجاج الاجتماعي بلغ أَوْجَه، بما عرف بأحداث الخبز في 3/1/1984، حيث دخلت حرب الخلافة بين شقوق السلطة ومراكز النفوذ، أحد منعرجاتها الحاسمة، وكشفت الأحداث أن التيار الإسلامي لم يتقهقر، وكما لم تنجح النخبة الحاكمة، والمجتمع المدني الناشئ، والمعارضة المرتبكة، في إحداث مصالحة وطنية، لم تتوفق إلى إيجاد الآليات القانونية والسياسية الملائمة لتأمين انتقال السلطة بطريقة حضارية، تضمن تطور الدولة، من دولة الحزب الواحد إلى دولة قانون ومؤسسات، كما لم تنجح الدولة، والمجتمع المدني، وقوى المعارضة العلمانية والإسلامية، في تحقيق وفاق سياسي حضاري حول نمط الحكم ونمط المجتمع. وبين المواجهة والتهدئة والمراجعة يرى الباحث أنّ مرحلة التسعينيات، هي المرحلة الأشد أثراً في حياة حركة النهضة التونسية؛ إذ وضعت للمرة الأولى وجودها وأمنها وبقاءها محل امتحان غير مسبوق، ووضعت خياراتها محل تمحيص ومراجعة؛ فبعد أن شارفت على الانتقال بنجاح من السرية إلى العلنية، ومن غير الشرعية إلى الشرعية القانونية، وجدت نفسها تعود إلى المربع الأول في علاقة القطيعة والتأزم، مع نظام اعتقدت أنها يمكن أن تتعايش معه، من دون أن تتخلى عن ثوابتها الفكرية، واعتقد النظام أنه باعتماد سياسة سحب البساط، والتشريك الجزئي، وتأخير الاستجابة لطلبها الملح للتأشيرة القانونية، يمكن أن يضعفها، أو يقسمها، ويضيق هامش فعلها ومجال تأثيرها. ورأى الباحث أنّ صعود الإسلاميين قد غذى صراعاً على المجال الديني، الذي لم تعرف السلطة منافساً لها عليه قبل ظهور الحركة الإسلامية الحديثة، فالنخب العلمانية داخل السلطة وخارجها كانت حازمة في تهميش بُعْدِ الهوية العربية الإسلامية، وقد قطعت في ذلك شوطاً بعيداً، صارت تشعر معه أنها مطلقة اليدين في صياغة مجتمع هجين غير واضح الانتماء، تستنكف أن تبنى شخصيته على القيم العربية الإسلامية، ظنّاً منها أنه كلما تجذرت القطيعة مع الماضي خيره وشره، كلما اقتربت من ركب الحضارة، وقلصت الفجوة مع الدول المتقدمة.
المصدر: المسبار 16يناير2011