تقديم
يدرس كتاب مركز المسبار للدراسات والبحوث «أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي: حصاد التطرفات» (الكتاب الثامن والسبعون بعد المئة، أكتوبر (تشرين الأول) 2021) الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي نتج عنه: تمدد حركة طالبان ودخولها إلى العاصمة الأفغانية كابل، ويعالج ثوران الأسئلة حول جدوى الحرب على الإرهاب، وقيمها، ويقيّد محاولات تقييم الاستراتيجية الأميركية في مكافحته، فيرصد محاولة المتفائلين المنافحة عنها بتفهّم إعادة ترتيب سُلّم الأخطار؛ والتهوين من الإرهاب فيه، بينما تواطأ المتشائمون على اتهامها بالفشل الفكري، وتأكيد أنّ المفاهيم الخاطئة، والأسئلة المضللة، أدت إلى الأفعال الناقصة والاستراتيجية الغامضة التي أورثت المنطقة حصادًا مرًا، وساهمت في نشوء تطرفات متعددة الاستخدامات.
وصمت أولى دراسات الكتاب الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان بالفشل، وشخّصت مكافحة الإرهاب على أنه «خلل بُني على خلل»، معتمدة على أخطاء في فهم ماهية الإرهاب، واصفةً الاستراتيجية بأنها «خفيفة الوزن»، وأنّ أهدافها مسيَّسة تتبدل بتبدل الإدارات الأميركية لا الواقع. تجاوزت الدراسة نجاحات تحييد أسامة بن لادن، وحصار القاعدة وشبكة تمويلها، إلى السلبيات التي يختصرها سؤال: هل زاد عدد التنظيمات الإرهابية أم تناقص؟ وحاولت أن تخلص من التجربة لفشل التغيير الاجتماعي القسري، قبل أن تؤكد حقيقة أن الرهان على التزام طالبان بالتعهدات؛ لا يعدو أن يكون محاولة لتبرير الانسحاب المتعجل.
حللت الدراسة الثانية، الاستراتيجية الأميركية في مواجهة طالبان خلال عشرين عاماً، وفصّلت في الضلع الثالث منها، فكرة احتواء طالبان، مؤكدةً –للمتفاجئين- أنها ليست جديدة، وبدأت بعد عام 2010 إثر اندحار القاعدة، فتحولت الاستراتيجية إلى استقطاب قادة طالبان، وصولاً إلى التفاوض مع طالبان. مؤكدةً أنّ الانسحاب جاء بعد تعهد من طالبان بعدم تهديد أمن الولايات المتحدة. أما الاستقرار في أفغانستان أو جوارها، فلا يستند الحديث عن ضمانه إلى شيء ملموس. ولم تشر القراءة إذا كان هذا الاحتواء المثير للجدل يقتصر على طالبان، أم إنه قد يتكرر!
كان التلقي الأميركي الداخلي، لما تلا الانسحاب غريبًا من حيث المحتوى، مألوفاً من حيث المناسبة، إذ تزامن مع ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية؛ التي أثقلت على صانع القرار الأميركي، وقيدت حججه في ترك أفغانستان في 2021 كما جاءها في 2001. ومن بين التبريرات أنّ طالبان تغيّرت، من جماعة حاكمة إلى جماعة متطرفة إلى تمرد وأخيرًا؛ إلى حركة وطنية تخلت عن التطرف، واعترفت بالعالم ليعترف بها! فانبرت نخبة من الباحثين في دوريّات مرموقة؛ أبرزها فورين أفيرز (Foreign Affairs)، لقراءة هذا الانسحاب؛ أو قُل تبريره. فطال التبرير واستطال ليصل إلى التنكّر للحرب على الإرهاب بكليّتها. وثقت مادة رصدية هذا الاتجاه وقد ضمّت ثلاث مقالات منتقاة لمتخصصين في الحرب الأميركية على الإرهاب في أفغانستان، اتخذ مسارين: الأول يزعم بأن الحرب على الإرهاب استوفت دورها وشروطها وفقًا لتبدل الأوليات، فلا بد من التوجه إلى الحد من نفوذ الصين، والثاني: تعلم التعايش مع الإرهاب. وللاستزادة في المسار الثاني ظهرت التنظيرات التي تقارن ضحايا الإرهاب بعدد ضحايا مرض السُّكري! فوضع مفهوم التعايش مع الإرهاب وحركاته، على أنه تعايش مع أمراض ملازمة للتعددية. الأمر الذي يعكس خللاً في فهم الإسلاموية ومخاطرها، خصوصاً وأنّ كثيرين زعموا أنّ حركة طالبان؛ كانت بمنأى عن التأثير القطبي، وهو ما نفته قراءة لاحقة في آخر هذا الكتاب، إذ شرحت الترجمات الأفغانية المبكرة لسيد قطب، وأثرها في ولادة تيار إسلاموي، تحوّل قادته إلى نافذين في صناعة المشهد العنفي في أفغانستان وباكستان.
في حصاد التطرفات، يبرز سؤال المرأة الأفغانية بشكل ملح، هنا نتذكر ما قالته السيدة لورا بوش حين ألقت خطاباً إذاعياً في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، جاء فيه: «إن الحرب على الإرهاب هي أيضاً حرب من أجل حقوق المرأة وكرامتها»، فقام باحث أفغاني بمقاربة كاشفة للتحول الفكري في طالبان، تجاه المرأة ليكشف حدود التحولات في فكر طالبان تجاه النساء، مناقشاً التناقض بين الفقه الحنفي وتفسيرات طالبان. تشير الوقائع إلى أن النساء الأفغانيات لا سيما في العاصمة كابُل دفعن ثمناً باهظاً من حقوقهن المكتسبة طوال عشرين عاماً من النضال، وأنه تم الرمي بهن في براثن حركة إسلاموية متطرفة.
استطاعت طالبان البقاء والتكيّف بسبب تشابكات سياسية واقتصادية خلال سنوات طويلة؛ ولكنّ التقاطعات الأيديولوجية والقبائلية كانت أقوى، يرتبط بعضها بالعلاقة مع حركة طالبان الباكستانية. حاولت دراسة رصد مسار العلاقات هذا على أنه ارتداد السحر على الساحر، مؤكدةً أنّ العلاقة بين الطرفين في ازدياد يقلق الدولة الباكستانية؛ خصوصاً وأنّ طالبان الأفغانية دشنت تقدمها بالإفراج عن كل الطالبانيين الباكستانيين من سجونها، وقادت مبادرة دبلوماسية للوساطة بين الحكومة الباكستانية وطالبانها. هذه المتغيرات في ظل منطقة معقدة التفاصيل والخصومات، لطالما كانت الحدود الممتدة رئةً لحركات التهريب وشبكات التمويل التي، يخيفها انقطاع «اقتصاد التمرد أو الإرهاب»، ولا يهمها اسمه!
عرضت دراسة لتاريخ شبكة حقاني في أفغانستان، مستندةً إلى مصادر عدة من بينها عمل ميداني صدر في يوليو (تموز) 2012، للباحثة غريتشن بيترز (Gretchen Peters) وتمّ تحديث أبرز معلوماتها لشرح النفوذ الممتد للشبكة، وتأثيرها في العلاقات الأميركية- الأفغانية الراهنة. أثبتت الدراسة أن العلاقة بين طالبان وشبكة حقاني، علاقة تحالف متينة، وراهنت على أنّ التحالف بين الطرفين لن ينهار، بعد الانسحاب الأميركي، بعدما أصبحت الشبكة على قدم المساواة بعلاقاتها مع الحركة، وشريكاً لأول مرة معها في الحكم.
أدت عودة طالبان إلى الحكم إلى تحفيز الإرهابيين والمتشددين في الدول المجاورة لأفغانستان، فأبدت الهند مخاوفها من ذلك؛ وكانت نيودلهي قد تمتعت بعلاقات وثيقة مع كابُل لما يقرب من عشرين عاماً، لكن التعامل مع «إمارة إسلاموية» قد يمثل تحدياً كبيراً لها. ومن أجل قراءة الأرضية المشتركة التي تقف عليها حركات العنف الإسلاموي والديني، تطرقت دراسة إلى تأثر التدين العام، بالحروب المستثارة بشكلٍ ديني، للدفاع عن المقدسات، الأمر الذي يُبقي العاطفة الدينية في أوج استنفارها، ويمكِّن السياسيين من تحويلها إلى عاطفة عنفية. حماسة الباحث لإدانة «طائفة بعينها» لم تُضِع فضيلة الكشف عن تأثر التدين العام بمحفّزات التشدد، مما يستدعي التفكير بدقة في قوانين تمنع المتصيدين من الاستثمار في السخط!
أما قراءة الكتاب فكانت لــ«صيف أفغانستان الطويل من الجهاد إلى الإمارة» لمؤلفه أحمد زيدان، جاء في سبعة فصول: «الحركة الإسلامية من الميلاد إلى انقلاب داود»، و«الحركة الإسلامية والرد على الانقلابات»، و«الغزو السوفيتي.. سنوات الجمر»، و«من الانسحاب السوفيتي إلى سقوط كابُل»، و«كابُل والحرب العبثية»، و«طالبان والزحف السريع»، و«النسر الأميركي بالقفص الطالباني». وركزت القراءة على نقل تأثر الحركات الأفغانية والمزاج الديني بكتب المودودي وسيد قطب.
خصصت دراسة العدد لــ«التنظيمات الإرهابية في موزمبيق» تحديداً حركة الشباب، فَدُرِسَت من حيث النشأة والمسارات والتحديات التي تواجه الدولة والتشابك بين الاقتصادي والإرهابي. جاءت لمناسبة أمرين؛ الأول: لكون صعود حركة طالبان ونجاحها في أن تحكم أفغانستان للمرة الثانية وتدشين إمارتها الإسلاموية، سينعكس بقدر كبير على التنظيمات الإرهابية كافة، خصوصاً في خاصرة أفريقيا، بعد أن أضحت أنموذجًا ملهمًا، مما أثار احتمال تحقيق الإمارة الإسلاموية في شمال موزمبيق. والثاني: لأنّ فكرة انسحاب القوات الحكومية سواء الأميركية أو غيرها؛ سيناريو متكرر ينتهي إما بانتشار قوات إرهابية أو قوات تابعة لشركات أمنية؛ وهو أمر يستحق مزيدًا من الدراسة.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
أكتوبر (تشرين الأول) 2021