تُعد الكاتبة والأكاديمية التونسية ألفة يوسف من أهم المشتغلات على قضايا الإسلام والمرأة. تناولت في مؤلفاتها موضوعات إشكالية حول الحجاب والميراث والزواج والطلاق والمثلية الجنسية، وقد درست الآيات القرآنية دراسة مغايرة، إيماناً منها بأن “القرآن وإن يكن كلاماً إلهياً فإنه قول لغوي وهو شأن أيّ قول لغوي قابل لتفاسير شتى”.
تدرك أستاذة اللغة واللسانيات أن معركة تأويل النصوص الدينية في الإسلام، لا سيما ما يتعلق منها بالنساء، تواجه عقبات كثيرة ليس بسبب “استعصاء القراءة” والفهم، وإنما لأن الثقافة السائدة و”الجهل الديني” عميق الجذور عندنا، يحولان دون الانتشار الواسع للقراءات الحديثة، التي تبقى أسيرة الإنتلجنسيا العربية، فلا تتمكن من تغيير ذهنية الجمهور، مما يفسر -إلى حد ما- ردة الفعل العامة على الكتب التي تطرح المسائل الإشكالية في الدين والاجتماع والسياسة.
عملت يوسف على إخراج المرأة من “لعنة النقص” التي صنعها بعض “الإسلام الفقهي” مقابل “الذكورة” الكاملة والفاعلة، وتمكنت عبر كتبها بدءاً من “ناقصات عقل ودين: فصول في حديث الرسول” مروراً بـــ”حيرة مسلمة” وصولاً إلى “وليس الذكر كالأنثى في الهوية الجنسية” من مقارعة اليقينات الإطلاقية بهدف الخروج بتفاسير حداثية قادرة على تخطي صلابة الموروث الديني.
النساء والمعرفة الدينية في الإسلام، المساواة بين المرأة والرجل في القرآن، العلاقة بين المقدس والأنثوي، المسلمات والحداثة، هذه العناوين وغيرها طُرحت على ألفة يوسف في حوار أجرته مع مركز المسبار، في ما يلي تفاصيله:
* شهدت السنوات الأخيرة تطوراً ملحوظاً لدخول النساء في العالمين العربي والإسلامي مضمار المعرفة الدينية، بحثاً وتأويلاً ونقداً، وظهرت خلاصات جريئة تطالب أحياناً بتجاوز أو تعطيل الآيات القرآنية إذا وقفت حائلاً دون المساواة بين الجنسين، وهذا ما دعت إليه آمنة ودود المنضوية في تيار النسوية الإسلامية. ما رأيك بمفهوم تجاوز الآيات القرآنية لإحقاق المساواة؟ وهل الإشكالية المعرفية -في رأيك- تكمن في النص القرآني أم الفقه؟
– لا تكمن الإشكالية المعرفية في النص القرآني أو الفقه وإنما في تعامل المسلمين مع الدين. حتى القرن الثامن للهجرة كان التعاطي يتم عبر ربط القراءة الدينية بالاجتهاد ووضع الآيات في سياقها التاريخي، وكان هناك نقاشات طويلة بين الفقهاء وعلماء الدين دون أي إشكال. في أوائل القرن الثامن أُغلق باب الاجتهاد وأصبحنا نكتفي بما قاله القدماء، ونعبد الفقهاء، ونعبد المترجمين، ولا نتعاطى مباشرة مع النص القرآني الذي يحمل في جوهره المساواة بين الرجل والمرأة.
إن الإسلام وأي دين من الأديان الهدف منه ليس تأويل نص أو قراءة نص أو تطبيق النص فحسب، وإنما الوصول إلى خلق قيم أخلاقية عامة تضبط حركة البشر للتعايش معاً في جماعة، وقد جاء في كلام الرسول (عليه السلام) “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. النص القرآني نص مرن والفقه يرتبط بحركية الواقع وشروطه. فقهياً، إذا كانت امرأة ثرية ومتزوجة من شخص ليس له مال أو له مال قليل من حقها أن تطلقه شرعاً، وهذا ما يدعو إليه الشرع، فالمطلوب أن يتحمل الزوجان أعباء الحياة وهذا هو جوهر الأخلاق التي ابتعدنا عنها وأصبحنا نتعامل شكلياً مع الدين. هذه هي الإشكالية الأساسية، وهي لا ترتبط بالنص القرآني ولا بالفقه. مشكلتنا نحن المسلمين كقصة الحكيم والقمر، عندما يشير الحكيم إلى القمر، ينظر الأحمق إلى إصبعه، فما المستفاد من هذه الحكمة؟ الأديان تشير إلى الله، أما نحن فنهتم بالأمور السطحية في علاقة مع الله، لذا بقينا في تخلفنا فلم ننتج المعرفة ولا الفكر ولم نؤثر حتى في الاقتصاد.
وفي ما يتعلق بالنسوية الإسلامية، أنا لا أحبذ أسس التمييز والتقسيم بين تيارات واتجاهات على أساس النوع في مجال المعرفة الدينية. وعلى مستوى القراءة التاريخية، فمن الجيد جداً أن تنهض النساء بأعباء تفسير النص القرآني من أجل فهم أفضل لحركة التاريخ ومتطلباته، وهذه المحاولات تعطي أبعاداً أخرى وتأويلات أخرى في إطار هذا الزخم المعرفي الذي تعيشه المجتمعات العربية.
* من يعُد إلى تاريخ الإسلام يجد أن ثمة حراكاً نسائياً على مستوى المعرفة الدينية، فهناك الفقيهات والمحدثاث والمتصوفات، لكن هذا الحراك ظل مهمشاً في الوعي الجمعي وحتى في وعي النخبة، كما أن المدونات التراثية على الرغم من إقرارها به تعاملت معه بحذر على مستوى التدوين. ما رأيك في ذلك؟ وكيف تفسرين الاهتمام البحثي والأكاديمي الراهن بدور النساء في المعرفة الدينية في تاريخ الإسلام؟
– دور المرأة في المعرفة الدينية في التاريخ الإسلامي ليس دوراً جديداً وهذا الدور لا ينحصر بالمجتمعات العربية والإسلامية، فهو موجود لدى الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية، ففي أوروبا هناك اللاهوت النسوي وتتعاطى المرأة مع النصوص الدينية تفسيراً وتأويلاً، وفي الإسلام يأتي هذا الحراك النسوي في العالم العربي انطلاقاً من تطور الوعي من جهة، ومن تقدم المرأة في المجتمع من جهة أخرى. طبعاً ثمة خط تاريخي لعبت فيه النساء أدواراً هامة في الفقه والحديث والتصوف. يمكن لنا أن ندلل على رابعة العدوية التي تركت بصمة مؤثرة في تاريخ التصوف.
إن حركة الحداثة في الغرب أعطت النساء قوة دفع في مقاربة النصوص الدينية فأنتجن قراءات جديدة، ولكن ذلك ظهر في زمن متأخر، وقد ترافق مع تطور المجتمعات وتوسع الديمقراطية، وكل هذه العوامل وغيرها أسست لفاعلية أكبر للحراك النسوي. أما نحن في العالم العربي، فقد أخذنا من الحداثة قوالبها المادية دون أن يترافق ذلك مع ثورة على مستوى الوعي، فبقيت مجتمعاتنا متأخرة وغير قادرة على مواكبة الثورات المعرفية والمجتمعية التي عرفها ويعرفها الغرب. وعلى الرغم من تأخرنا وسيطرة الثقافة الذكورية تجاوزت النساء العربيات العديد من الصعوبات، وأخذن موقعهن في المجتمع والتعليم والمعرفة الدينية؛ المرأة في العالم العربي تتطور في المجالات كافة ومن ضمنها المجال الديني، ولكن أحياناً تأتي معوقات تعرقل ذلك وتؤدي إلى تأخير مسيرة التطور، دون أن نغفل عن القلق الذكوري إزاء هذا التطور. عموماً هناك نوع من أنواع الثورة في علاقة الرجل مع المرأة في العالم، هذه الثورة بدأت وأخذت تتطور في حرب المساواة، وما زالت هناك حقوق أخرى لم تحصل عليها النساء.
* ترى بعض التفسيرات أن العلاقة بين المقدس والأنثوي علاقة متوترة، وأن هذا التوتر يتجلى بأشكاله الدينية والتاريخية في الديانات التوحيدية. كيف يمكن مقاربة هذا التوتر في الدين الإسلامي؟
– ليس هناك توتر. المرحلة التي نشأت فيها الأديان تاريخياً كانت فيها المرأة مهمشة لم يُنظر إليها كإنسان كامل، وكان من الطبيعي أن تظهر بعض الشرائع التي ترى المرأة شخصية اجتماعية من الدرجة الثانية، ولكن في مقابل هذا البعد التاريخي، جوهر الأديان -أو القيم الأساسية للأديان- يقوم على المساواة، فإن علاقتنا بالله تعالى واحدة، يكفي أن منطق الحساب هو واحد بالنسبة إلى النساء والرجال، والقرآن تحدث في مرات كثيرة عن المؤمنين والمؤمنات؛ فالجوهر في الأساس القرآني هو العدل، ومن يقر بعدم المساواة بين الرجل والمرأة يتعدَّ على العدالة الإلهية في الكون، والآيات الأساسية في القرآن ليس فيها تمييز أو احتقار لشخص على حساب شخص، فنحن جميعاً سواسية أمام الله تعالى.
* أنت من الرائدات في قراءة موقع المرأة في الإسلام على مستوى النص القرآني والفقهي، وأثار كتابك “حيرة مسلمة في الميراث والزواج والجنسية المثلية” ردود فعل بين مؤيد ومعارض. وقد يكون تناولك لموضوع الجنسية المثلية الأكثر جرأة نظراً لحساسية هذا الموضوع في مجتمعاتنا التي ترفض وجود المثليين. بناء على ذلك أريد أن أطرح عليك السؤال الذي شكل أحد عناوين فصول الكتاب: لماذا سكت القرآن عن السحاق؟
– ما حاولت أن أبيِّنه في كتاب “حيرة مسلمة”، أن القرآن سكت عن المثلية الجنسية، وتحدث عن اللواط ليس كمثلية جنسية، وليس بالمعنى الذي نعرفه اليوم من علاقة اختيارية طوعية بين رجل ورجل، وإنما اللواط كاغتصاب، وقد أوضحتها بناء على ما تقدمت به النصوص القديمة. القرآن لم يشر إلى السحاق. لماذا؟ لأنه يدخل في إطار الحرية الفردية وليس مسألة خارقة للعادة جاءت اليوم، فهو موجود منذ أول التاريخ. والمجتمعات عندنا تتعامل مع المثليين بسلبية كبيرة برفضهم وإقصائهم، وهذا لن يؤدي إلا لأمر واحد هو بقاء المثلية الجنسية، ومع ذلك حتى إذا قُتلوا -وهذا معمول به في بعض البلدان- فستبقى المثلية. لنتحدث –مثلاً- عن المتصوفة الذين قتلوا عبر التاريخ الإسلامي، وهذا أيضاً من أسباب تخلفنا الفكري والثقافي. يقول التصوف: إن كل ما يوجد في الكون هو من إرادة الله تعالى، والمثليون أيضاً هم من إرادة الله تعالى، وليس في تعاملهم الخاص والحميمي أي إلحاق للأذى بالآخر، كما أن التاريخ العربي يزخر بالأدبيات التي تتحدث عن العلاقات المثلية دون أي حرج ودون أي إشكال. لم يعرف القرآن هذه المسألة أصلاً، نحن من أسقطنا قراءات تأتي من اليهودية والمسيحية ومن تراثات شتى على الإسلام، وتالياً فإن عدم قبول المثليين لن يؤدي إلا للعنف؛ وليس هناك حل ثانٍ بحيث لا يمكن تحويل المثلي، مثلما لا يمكن تحويل غيره إلى مثلي.
* كيف تفسرين انتشار الحجاب في المجتمعات العربية بدءاً من ستينيات القرن المنصرم؟ وإلى أي حد بإمكاننا الحديث عن ترابط سببي بين التدهور والتأخر وانتشار الحجاب؟
– أعتقد أن الحجاب أو الميني جوب لا يمكن أن يكونا مظهراً دالاً على التقدم أو التأخر، المشكلة هي أن هناك أشخاصاً وتيارات عملوا كثيراً ودفعوا أموالاً طائلة عبر القنوات الفضائية لإبعاد المرأة عن الفكر، ولكن هذا لم يغير شيئاً في الواقع. سأعطي مثالاً بسيطاً: في الستينيات والسبعينيات لم يكن هناك عدد كبير من النساء اللواتي يرتدين الحجاب، ومع ذلك لم يكن هناك انتشار لظاهرة التحرش الجنسي في الشارع، أما اليوم فإن عدد المحجبات ارتفع كثيراً ولكن التحرش الجنسي ارتفع أيضاً. وعليه فإن الفكرة التي تقول بأن ارتداء الحجاب يمنع من التحرش لا معنى لها، فهي مجرد محاولة من قبل تيارات سياسية معينة لتثبت للآخرين عدد المنخرطين فيها، ولكي تؤثر في المجتمعات العربية التي تظنها جاهلة. مسألة الحجاب تبقى مسألة فردية. لقد اشتغلت التيارات السياسية على الخوف وحاولت إخافة النساء عبر القول: “إن من لا ترتدي الحجاب تخرج على الدين”. هذه التيارات نجحت في مرحلة معينة ولكنها لم تؤثر في بنية المجتمع بشكل إيجابي. ما نلاحظه اليوم هو تنامي الصراع بين الجنسين، كما أن تحرك المرأة في الفضاءات العامة في بعض الدول العربية أصبح أقل رحابة، وهذا يعني أن العمل على المظاهر الشكلية ليس هو من يغير المجتمع، وإنما يجب العمل على ثقافة الانفتاح وقبول الآخر في الإعلام والمجتمع، ويجب العودة إلى الأخلاق في الدين. هذا ما أعتقده حلاً للعديد من المشاكل التي نواجهها.
* ما مشاريعك القادمة على مستوى التأليف؟
– سأحاول أن أعمل على قراءة للدين من خلال جوهره بعيداً عن كل هذه الشكليات الفقهية، حيث سأركز على الروحانيات التي تجيب الإنسان عن تساؤلات جوهرية: من أين أتيت؟ ماذا أفعل في هذه الحياة؟ كيف علي أن أتصرف؟
* يبدو أنك قد ابتعدت عن الهم المعرفي الذي اشتغلت عليه في قضايا المرأة واتجهت إلى العالم الداخلي للإنسان. لماذا؟
– قضايا المرأة ستبقى موجودة طبعاً وأراها في المجمل مع قضايا البشر. وأعتقد أن الرجل الذي يهين المرأة أو يعتدي عليها هو نفسه في حاجة إلى مساعدة، هو نفسه لديه مشاكل نفسية، هذا ما لاحظته خلال اقترابي من هؤلاء الذكور.
في الحقيقة المجتمعات العربية هي مجتمعات مريضة، وأريد في الكتاب القادم أن أبيِّن خطر لا جدوى الحروب الفقهية حول المعنى، حيث إننا نبقى في نهاية الأمر نتخاصم ونبتعد عن الجوهر الأساسي الذي أصبحت أشتغل عليه، وهو ما يجمعنا نحن -رجالاً ونساء- من أجل مجتمع يستند إلى القيم، ليس بالمعنى الأخلاقي فقط، بل القيم التي نجد لها أثراً كبيراً في المجالين الصوفي والروحاني، وهذا ما يمكن أن يكون جامعاً بيننا، علنا نتجاوز هذه الصراعات الممتدة منذ (14) قرناً.
* بناء على ما قلته هل يساعد التصوف على إنقاذ الإسلام المعاصر من العنف؟
– أعتقد ذلك. الصوفية لها مستويات، وهي تجسد القيم الأخلاقية وتقوم على المحبة وعلى التسامح، وتشير إلى الله تعالى مباشرة دون الحاجة إلى الخلافات الفقهية. وأكرر هنا أن الفقهاء قتلوا التصوف في تاريخ المسلمين، ولم يقتصر القتل على القتل الجسدي كما حدث مع الحلاج، وإنما سعوا إلى قتله معرفياً.