حوار :جمانة مناصرة*
تصاعدت الاحتجاجات الإيرانية في نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الفائت، وانطلقت من مدينة مشهد لتشمل مدناً ومناطق إيرانية عدة. انطلقت الاحتجاجات بدايةً نتيجة المظالم الاقتصادية التي يعيشها الشعب، والتي أثارها قيام الحكومة الإيرانية برفع أسعار المواد الأساسية من خلال فرضها المزيد من الضرائب. وقد تنامى هذا الغضب لاحقاً، بعد قيام الحكومة بنشر تفاصيل موازنة الدولة لعام 2018.
استمرت موجة الاحتجاجات مدة شهر تقريباً، وشاركت فيها أصوات رفعت شعارات عدة، نادى بعضها بتغيير النظام، وطالبت أخرى بالحد من التدخلات الإيرانية في الإقليم وتحسين حقوق المرأة. إلا أن السلطات الإيرانية نجحت في قمعها كما فعلت في الثورة الخضراء عام 2009.
ومن أجل إلقاء المزيد من الضوء على الاحتجاجات الإيرانية، أجرى مركز المسبار للدراسات والبحوث مقابلةً مع الباحث الإيراني المتخصص في الشؤون الإيرانيَة أمير توماج.
يعمل توماج محللاً للبحوث في “مؤسَّسة الدفاع عن الديمقراطيَّات” غير الحزبية والمعنية بشؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية.
وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
- ما هو الفارق بين هذه التحرّكات وبين الاحتجاجات الإيرانيّة السابقة؟
لقد بدَأَتْ من مناطق خارج طهران، وانتشرت بسرعة فائقة، وفاجأتْ الجميع بمن فيهم الحكومة التي استثمرتْ في أمن طهران. كانت الاحتجاجات الأشد كثافة في مناطق الطبقة العاملة التي تواجه قضايا عميقة كالبطالة وقلّة المياة. وإذ قادتها الطبقة العاملة إلى حدّ بعيد، إلا أنّها لم تقطع مع الطبقة الوسطى التي أسهمت فيها بأعداد كبيرة خارج طهران. ومثلاً، شهدت طهران حشوداً أقلّ من عام 2009. كان هناك مزاعم وافتراضات بأن أعضاءً في “جبهة الصمود”، وهي فصيل ثوري متشدّد، حرّضوا على الاحتجاجات في مشهد ضد (الرئيس الإيراني حسن روحاني)، ثم انتشرت بعد ذلك. أيّاً كانت الطريقة، كانت إيران صندوقاً جاهزاً للاشتعال بسبب الإحباط والغضب حيال حكم رجال الدين.
ثمة ميل أيضاً لدى عناصر “الباسيج” في “الحرس الثوري”، لإحراق بطاقات عضويتهم والتدوين على مواقع التواصل الاجتماعي، مما أبرز انشقاقاً في صفوفهم. إذ شاهد كثيرون منهم إخوتهم في الطبقة العاملة يحتجون ويُواجهون بقمع حكومي. بات أمراً أشد صعوبة اللعب على الفوارق الطبقيّة كما كان الأمر سابقاً حين نزل كثيرون من أهالي طهران إلى الشوارع. وفي هذه المرّة، بدا أكثر وضوحاً من ذي قَبْل اعتراف “الحرس الثوري” بأن بعض أفراده رفضوا إطلاق النار.
كان هنالك وثائق يفترض أنها مسرَّبَة تُظهِر أنّ “الحرس الثوري” طلب لاحقاً معرفة أفراد “الباسيج” (وهم متطوّعون) الذين لم يلتحقوا بقواعدهم عندما طُلِبَ منهم ذلك.
ثمة شخص “عراقي-إيراني” عضو في منظّمة “بدر” العراقيّة، وضع شريط فيديو على الإنترنت أخيراً، يظهره أثناء حرقه بطاقة عضويته، بعد قوله بأنّ “الحرس الثوري” أخبر الميليشيات العراقيّة بأنها ستنال الإقامة في إيران، إن هي “ساعدت” قوّاته. إذا صحَّ الأمر، فإنّه يبرهن على أن “جمهورية إيران الإسلاميّة” تستند إلى فصائل وميليشيات أجنبيّة، وكذلك أنّه يتوقع انتشار احتجاجات واسعة مع اقتراب الذكرى السنويّة لثورة 11 فبراير (شباط).
سأتناول أيضاً الأزمة في الحركة الإصلاحيّة. ثمة رموز بارزة تناقش مسألة وجود مسافة متناميّة تُباعِدهم عن المجتمع. إنّهم يطلقون إنذاراً. حذَّر المنظّر سعيد حجّاريان من أنّ “الانتصار على روحاني” يعني “الانتصار على الجمهوريّة الإسلاميّة”. بالمناسبة، روحاني هو براغماتي ورمز من اليمين الوسط، يحظى بتأييد الإصلاحيّين.
على مدار (20) سنة، وعدوا بالتغيير عن طريق صناديق الاقتراع (باختصار شديد ومن دون الدخول إلى التفاصيل، بما في ذلك فترة [الرئيس السابق] أحمدي نجاد). عملت رموز قويّة في “جمهورية إيران الإسلاميّة” على تقويضهم، وبعدها أنحى الإصلاحيّون باللائمة على المسؤولين “المتشددين”، بأنهم لم يحققوا وعود حملاتهم الانتخابية. هناك سخط من الوعود المحبَطَة.
وعلى مدار سنوات، اختمرت الإحباطات والميول التي تُغذي الاحتجاجات في إيران.
أفرط روحاني أيضاً في إطلاق الوعود بشأن “خطة العمل الشاملة المشتركة”. حاولت إدارة (الرئيس باراك) أوباما زيادة الاستثمار الأجنبي في إيران، لكن الولايات المتحدة لم ترفع عقوبات رئيسة بسبب عدم تغيير السلوكيات التي فرضتها على غرار دعم مجموعات إرهابية معروفة، والتموّل بطرُق غير شرعيّة. لم تدخل بنوك كبرى إلى الأسواق الإيرانية بسبب تلك السلوكيات، وفق رأي ستيوارت ليفي وهو كبير حقوقيي بنك “إتش إس بي سي” HSBC.
- كيف سيؤثّر عدم الاستقرار على سياسات إيران الإقليميّة؟
من وجهة نظر استراتيجيّة، لن تؤثّر. إلى حدّ كبير، تنظر طهران إلى نفسها بوصفها منتصرة في العراق وسوريا، وأنها أحبطت المملكة العربية السعودية في اليمن.
منذ الاحتجاجات، حاول “الحرس الثوري” وروحاني تبرير تورطهم في العراق وسوريا باعتباره ضرورياً للأمن القومي، مشيرين إلى التزامهم بالسياسات القائمة، على الرغم من أنها محمّلة بمخاطر التورط في صراعات غير ضروريّة كالحرب مع إسرائيل.
يصف (المرشد الأعلى آية الله) خامنئي وقيادات “الحرس الثوري” أنفسهم بأنهم منخرطون في حرب شاملة مع الغرب والخصوم، يجري بعضها على جبهات في العراق وسوريا، وبعضها الآخر داخل إيران. ولطالما زعمت تلك الأطراف نفسها أنّ الولايات المتحدة تشن “حرباً ناعمة” عبر الإنترنت والأقمار الاصطناعيّة بهدف الإطاحة بالجمهورية الإسلاميّة من الداخل، مشيرين إلى أن ذلك المسعى تصاعد عقب “هزائم” في المنطقة خلال العقد المنصرم. لكن ذلك ليس سوى محاولة لإفقاد التغيّرات في المجتمع الإيراني مصداقيتها، لأنّها تخرج عن القيم التي تنشرها الجمهورية الإسلاميّة. وكذلك حاولت الأطراف عينها، احتواء الاحتجاجات الأخيرة ضمن تلك البروباغندا. إذ يؤمنون بأنّ التراجع في جبهة ما سيظهرهم كضعفاء، لذا يعتزمون الصمود إلى أن يرغموا تماماً على التراجع. في سنوات تكوينهم، رأى خامنئي وقيادات “الحرس الثوري”، أن الشاه (محمد رضا بهلوي) بدا متردّداً في مرّات كثيرة، مما جعله يبدو ضعيفاً.
- ماذا يحدث تالياً؟ هل ترى موجة مقبلة من الاحتجاجات وفق ما يتوقع البعض؟ كم ستكون قوّتها؟
نعم، أتوقّع استمرار ذلك. باستمرار، حدثت احتجاجات ضد الحكومة من بينها التظاهرات ضد المؤسّسات المالية المفلسة، وكذلك إضرابات عن العمل، وفي الأيام الأخيرة، اكتسبت الاحتجاجات ضد إلزامية الحجاب قوة دفع كبيرة. ثمة لحظات تُغذي فيها صراعات كتلك، امتعاضاً أوسع ضد الحكومة. هنالك دعوات على مواقع الـ”سوشيال ميديا” للنزول إلى الشوارع في ذكرى ثورة 11 فبراير (شباط). أتوقّع حضوراً أمنيّاً ثقيلاً. وطالما أن الحكومة لا تخاطب القضايا العميقة -وأنا أشك أنها ستفعل ذلك لأسباب كالفساد العميق الذي يطاول خامنئي، البيروقراطية الضعفية… إلخ– فستستمر الميول العميقة التي أشعلت الاحتجاجات. حتى الآن، يتحدث مسؤولون حكوميون عن ضرورة القيام بأمر ما، لكن أحداً لم يقدّم حلولاً ملموسة.
أورد ميثاق برزا في كتاب “الديمقراطية في إيران” أنّ الدول والمجتمعات تجد الحل تاريخيّاً لصراعاتها، عبر الثورة أو الإصلاح. ورفضت العناصر الأقوى في الجمهوريّة الإسلاميّة، من بينهم المرشد الأعلى و”الحرس الثوري”، الإصلاح. فشلت الجمهورية الإسلاميّة في التعامل بكفاءة مع قضايا تشمل مستوى المعيشة، الاقتصاد والبيئة؛ مما جعلها تسير نحو الأسوأ. يشكل سوء إدارة الجمهورية الإسلاميّة عنصراً مهماً في أزمة المياه الحادة في إيران، وتواجه إيران انهيار المجتمع والحضارة إذا استمر ذلك.
كذلك يجدر تذكّر أن إيرانيين كثيرين يريدون الديمقراطية والتغيير، بلا ثورة، إذ يخشون أن تلاقي إيران مصير العراق وسوريا –وذلك همّ قومي تلعب عليه الحكومة تماماً-، مع كون إيران من أسباب الأزمة السورية. لكن التاريخ أظهر لحد الآن، وجود الطريقين اللذين أشرت إليهما سابقاً.
*باحثة فلسطينية