تعتبر مؤسسة الوقف من أهم المؤسسات الخيرية والحضارية والتمويلية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية؛ كونها تعد قاعدة لبناء مؤسسات المجتمع المدني، وتحقيق التكافل الاجتماعي في المجالات كافة: الصحية، والتعليمية، والخدمية. كما ساهمت بدور كبير في تنمية شعور الفرد بالمسؤولية الجماعية، والانتقال به من مستوى الاهتمام الخاص إلى مستوى الاهتمام العام نحو المجتمع. حيث أسهم الواقفون من الجنسين في مساندة المسيرة العلمية، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص للطلبة الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل نفقات طلب العلم. فكانت المدارس الوقفية والأربطة تستقبلهم وتؤويهم، فالإمام ابن كثير –مثلاً- يقول في حديثه عن المدرسة النجيبية: «وبها إقامتنا، جعلها الله داراً تعقبها دار القرار في الفوز العظيم»[2].
من المهم البحث عن أوقاف النساء في مجال العلم وتسليط الضوء على حجم مساهمتهن؛ في إحداث نهضة علمية من خلال تخصيص أوقافهن على المدارس والمكتبات العلمية وحلقات التعليم في المساجد والزوايا، وعلى العاملين بها وعلى العلماء والمتعلمين.
ستعتمد هذه الدراسة على المدخل الثقافي للتعرف على مكانة المرأة في المجتمعات المسلمة، انطلاقاً من فكرة أن الإسلام واحد، ولكن المجتمعات الإسلامية متنوعة نتيجة لاجتهاد المسلمين، وأن مكانة المرأة متأرجحة حيث تبرز في بعضها في مجالات مختلفة، وتختفي في بعضها الآخر نتيجة للثقافة المجتمعية الموجودة وليس للعقيدة الواحدة، وذلك من خلال الاعتماد على ملمح مهم وهو «أوقاف المرأة في التاريخ الإسلامي»، باعتباره مؤشراً على ثقافة البيئات المسلمة فيما يتعلق بالمرأة، ويعكس وضعها ومدى فاعليتها المباشرة كحاضرة في الفضاء الاجتماعي، وليست متوارية في الظل، وذلك من خلال امتلاكها للثروة والمكانة ومساهمتها في تشكيل الوضع الاجتماعي والعلمي.
علماً أن الدراسة لن تتعمق في استعراض التشويه الثقافي الذي تعرض له تاريخ المرأة المسلمة، والمتمثل في مؤثرين رئيسين قلّ ما يسلم منهما كثير من الباحثين في هذا الموضوع الأول: ما كرّس له بعض الأدباء حين همشوا حضورها في كثير من المجالات؛ ولولا ما حفلت به كتب التراجم التي لم تغيبهن أسوة بكتب الأدب لشككنا في وجودهن التاريخي، والثاني: اختزال حياتها في حريم أنتجته المخيلة الاستشراقية، وهو تشويه يعود في جزء كبير منه إلى دواوين التراث الأدبي الإسلامي.
تحاول الدراسة الإجابة عن الأسئلة التالية: ما الوقف النسائي؟ من هن أصناف الواقفات؟ لماذا كثرت أوقافهن؟ ما التأصيل الشرعي لمشروعية وقف المرأة؟ ما آثاره ومجالاته على النهضة العلمية في التاريخ الإسلامي؟ هل انعدم الوقف النسائي في زماننا؟
وقف النساء: البعد الاجتماعي والثقافي
أولاً: المفاهيم الأساسية
1- الوقف لغةً يراد به الحبس، وهو مصدر مشتق من وقف، أي حبس. يُقال: وقف الأرض على المساكين؛ أي حبسها وجعلها في باب البر والإحسان[3]، ومن أدلة الوقف في القرآن والسنة قوله تعالى: }لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ{[4] وقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ… إلخ الآية{[5]، ومن السنة ما ورد في حديث أبي هريرة يقول النبي: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[6] فسر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: صدقة جارية يعني بعد الموت تبقى له هذه الصدقة، يحبس أرضًا تؤجر وتصرف أجرتها في الفقراء والمساكين، في الجهاد، في تعمير المساجد، إلى غير هذا.
أما معنى الوقف اصطلاحاً، فله تعاريف عدة تختلف باختلاف فقهاء المذاهب السنية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- عند الحنابلة: تحبيس العين وتسبيل المنفعة[7].
2– عند الشافعية: حبس مال، يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود[8].
3– عند المالكية: جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق مدة ما يراه المحبس مندوباً[9].
4– عند أبي حنيفة: حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدق بالمنفعة على وجه البر[10].
ثانياً: البعد الاجتماعي والثقافي لوقف النساء
اجتماعياً: نجد أن من ينظر إلى أحوال المرأة في كثير من المجتمعات الإسلامية نظرة الفاحص الواقعي؛ لا يسمح لنفسه أن يأخذه الزهو الذي يشعر به عند مراجعة تاريخها في عصر النبوة وعبر مراحل تاريخية مختلفة من تاريخ الحضارة الإسلامية، وفي ضوء هذا الواقع المأزوم يصبح من المشروع منهجياً وعلمياً التساؤل عن أسباب حدوث هذا الخلل؛ وعليه ستقوم هذه الدراسة بتلمس مساحات من هذا الواقع من خلال تناول موضوع «أوقاف النساء» بنظرة تحليلية من زاوية اجتماعية ثقافية؛ لا سيما وأنه مرتبط في الأصل بالنظام الديني؛ ليقفز أمام المهتمين تساؤل مهم وهو: هل للفكر الديني أو للدين علاقةً بهذا الخلل؟
إن التتبع التاريخي لأوقاف النساء يدفع نحو استبعاد تحميل مسؤولية واقع المرأة المأزوم للدين، باعتبار أن الدين يعد المحرك الأساسي لوجدان الأمة الإسلامية والدافع الحقيقي لانتشار ظاهرة الأوقاف بشكل عام، و«أوقاف النساء» بشكل خاص في المجتمعات الإسلامية كافة، رغبة ًفي الحصول على الأجر وتخليد الذكر إلى ما بعد الممات، حيث يساوي الإسلام في ذلك بين الذكر والأنثى.
وعليه فرب عرف أو عادة كانت أكثر تأثيراً من الأحكام الشرعية في سلوك المسلمين مع النساء، فأدت إلى تردي واقع المرأة في كثير من المجتمعات الإسلامية، وهذا يقودنا نحو البعد الثقافي.
ثقافياً، إذا ما تمت المقارنة بين الدولة الأموية التي دامت من (40–132هـ/ 662–750م)[11]، والدولة العباسية التي استمرت من (132–656هـ/ 750–1258م)[12]. نجد أن هناك العديد من المتغيرات الاجتماعية/ الثقافية التي ظهرت في العصر العباسي وأدت إلى إحداث تغيرات أساسية في واقع المجتمعات الإسلامية التابعة لها، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- أن الدولة الأموية لم تعمر طويلاً مقارنة بالدولة العباسية، لذلك لم تظهر على مجتمعاتها بوضوح آثار اختلاط الثقافات المختلفة للدول التابعة لها.
- ظهور الجواري في قصور العباسيين من مختلف البلدان، الأمر الذي أدى إلى دخول ثقافات متعددة على الثقافة العربية نتيجة اختلاط العادات والتقاليد التي حملتها الجواري من بلدانهن.
- توجه الخلفاء العباسيين للزواج من الجواري، وترشيح أبنائهم لمنصب الخلافة خلافاً لما جرى عليه العرف عند الأمويين الذين كانوا يحرمون أبناء الجواري من الخلافة.
- تزايد إسهام المرأة في الوقف بشكل ملحوظ في رأس الهرم العباسي متمثلاً في أمهات وزوجات الخلفاء من الجواري وغيرهن أمثال «أروى الحميرية القيروانية» زوجة الخليفة «أبي جعفر المنصور» وأم الخليفة «المهدي» اشتهرت بوقفها ضيعة لها للخير العام تسمى (الرحبة)[13].
- مزاولة نساء الدولة العباسية من الجواري للسياسة والولاية بشكل مباشر وليس من وراء حجاب؛ أمثال «الخيزران» زوجة الخليفة «المهدي»، وكانت أم ولد اشتراها الخليفة «المنصور» لابنه الخليفة «المهدي» فحظيت عنده بمكانة عالية حتى أصبحت أولى سيدات قصره[14]، والسيدة «شغب» زوجة الخليفة «المعتضد بالله المتوكل» التي يعتبرها المؤرخون الحاكمة الفعلية للبلاد في عهد ابنها الخليفة «جعفر المقتدر بالله»[15].
المرأة والأوقاف العلمية: الدوافع الاجتماعية
يعرف علماء الاجتماع العوامل الاجتماعية بأنها مجموعة من الظروف التي تتعلق بتكوين الجماعة الاجتماعية وأنظمتها، وتساهم بشكل كبير في تكوين الفرد وتربيته، ويكون لها تأثير واضح في سلوك الفرد والمجتمع.
إذا ما أسقطنا هذا التعريف على واقع المجتمع الإسلامي في بداية تكوينه سنجد أن تعاليم الدين المنزلة على الرسول محمد من خلال الخطاب القرآني تُمثّل الظروف المتعلقة بتكوين الجماعة الاجتماعية وأنظمتها المرتبطة بالجوانب الحياتية كافة بشقيها الديني والدنيوي؛ الأمر الذي ساهم في أمرين، الأول: تربية الفرد ذكراً أو أنثى وتوجيه سلوكه نحو ما هو مطلوب منه باعتباره خليفة الله في الأرض، لقوله تعالى في سورة النور: }وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا{[16]. والثاني: التأثير في المجتمع لاستيعاب سلوك الفرد ذكراً أو أنثى.
وما تجربة الوقف التاريخية بشكل عام، ووقف النساء بشكل خاص إلا أنموذج يفسر أمرين: أولهما: كونه انعكاساً لتأثير الخطاب القرآني في واقع المجتمع بشكل ملحوظ في بداية الدولة الإسلامية في المدينة المنورة في عهد النبي، حيث قرن العمل الصالح بالإيمان ووجه الخطاب للرجل والمرأة -على حد سواء- دون أن يميز بينهما؛ كما ورد في سورة النحل: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[17]، الأمر الذي أشعر المرأة بالمسؤولية الفردية في التكليف، والحقوق الإنسانية، والموالاة وممارسة الإصلاح؛ والإسهام في أنواع الخير كافة مثلها مثل الرجل. وثانيهما: توضيح العلاقة بين امتلاك المرأة للثروة وماله من دلالات مجتمعية، ووجود ثقافة مساعدة تقدّر مكانة المرأة في المجتمع وتفسح لها المجال في الظهور.
وعليه، يمكننا القول بأن تلك التجربة التاريخية –تجربة الوقف بشكل عام ووقف النساء بشكل خاص– قد امتدت للواقع الاجتماعي للعديد من المجتمعات الإسلامية في حقب تاريخية مختلفة؛ وأظهرت الدور المهم للدين في حركة الحياة الاجتماعية، لا سيما وأن المجتمع الإسلامي قد انفرد منذ بداية تكوين مؤسساته وتنظيماته بنظام الوقف، ولم يسبقه في ذلك أحد؛ حتى إنه روي عن الإمام الشافعي قوله: «لم يكن أهل الجاهلية يوقفون» وقوله أيضاً: «إن الوقف من خصائص هذه الأمة، وما علمت جاهلياً حبس داراً على ولد ولا في سبيل ولا على مساكين»[18].
فالتجربة التاريخية توضح أن تزايد إسهام المرأة في الوقف قد يختلف باختلاف البيئات بين دولة وأخرى لاعتبارات ثقافية، إلا أن العامل المشترك بينها هو المحرك الديني، حينما اعتبر الإسلام المرأة إنساناً يتمتع بثلاث خصائص إنسانية مهمة: الاختيار وتحمل المسؤولية والرشد الذي يمنحها القدرة على الترقي والنجاح، مثلها مثل الرجل تماماً كما جاء في سورة الأحزاب: }إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{[19].
والأمثلة على ذلك كثيرة ابتداءً من أمهات المؤمنين، كعائشة بنت الصديق عندما اشترت داراً وكتبت في شرائها «إني اشتريت داراً، وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن لفلان ولعقبه ما بقي بعده إنسان، ومسكن لفلان، وليس فيه ولعقبه ثم يرد ذلك إلى آل أبي بكر»، كما وقفت أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب حُلياً ابتاعتها بعشرين ألفاً فحبستها على نساء آل الخطاب للبسه وإعارته[20]، ومروراً بما لاحظه المؤرخون من تزايد في إسهامات النساء في الوقف في المجتمعات الإسلامية؛ مع وجود اختلاف في كثرته من بيئة لأخرى أرجعوه لاعتبارات ثقافية لا علاقة لها بالدين[21]؛ وهو أمر مردود عليه تفسره المصادر التاريخية التي ذكرت أن السيدة «نور بانو» كبيرة زوجات السلطان «سليم الثاني» وهي من أصول يهودية قامت بعد إسلامها ببناء كلية في «اسكودار» تعرف باسم «والدة عتيق» أوقفتها لأعمال الخير، وتضم جامعاً، ومدرسةً للصبيان، ومستشفى، وعمارة، وحمامات طلباً للأجر والمثوبة[22].
كما أن ثقافة المغرب والأندلس التي ساهمت في نظرهم بشكل واضح في دخول النساء عالم الأوقاف بشكل عام والوقف العلمي بشكل خاص؛ كان المحرك لها السعي وراء الأجر والمثوبة كوعد من الله في الخطاب القرآني، وما «جامع القرويين» في «مدينة فاس» الذي أوقفته السيدة «فاطمة الفهرية» عام 245هـ/ 859م[23] في عهد دولة الأدارسة سعياً للأجر والمثوبة وتخليداً للعمل الصالح؛ إلا مثالٌ من أمثلة عديدة سنأتي على ذكرها بالتفصيل.
المؤكد حسب النماذج التي ذكرتها المصادر أن الأمر الذي انعكس على زيادة إسهام المرأة في الوقف، هو الحرية التي منحها لها الدين في التصرف بما تملك، والتي استوعبتها ثقافة المجتمع؛ لتجعلها أهلاً لتحمل التزامات إدارة شؤونها المالية.
الوقف النسائي وأهميته في تعزيز النهضة في الحضارة الإسلامية
إن الباحث في مسألة وقف النساء في التاريخ الإسلامي سيلاحظ أن وقف المرأة في صدر الإسلام كان محدوداً، لا يتعدى السكن أو مجموعة حلي أو عقاراً صغيراً، وهذا أمر طبيعي، لأن الإسلام كان في بداياته، والمجتمع لم تترسخ فيه مثل هذه المفاهيم، بينما وصل ذروته في الدولة العباسية الأولى والثانية وفي الدولة العثمانية، والواقفات إما أن يكن أمهات الخلفاء وزوجاتهم، أو من الجواري –وهن كثيرات– أو من العامة ممن يملكن الثروة.
أشار المؤرخون إلى أن الدولة العباسية الثانية شهدت ظهوراً بارزاً للمرأة في عالم الوقف على صعيدين: إما كونها زوجة لأحد الخلفاء ومن ثم أماً للعديد منهم؛ أو زوجة وأماً لأحد الخلفاء ومدبرة لشؤون الدولة؛ وذلك مع اتساع الحدود وازدياد الثروة واختلاط الأجناس والأعراق الذي تمثل في وصول جوارٍ من أصول تركية وأرمنية ورومية إلى قلوب الخلفاء.
على الصعيد الأول: نذكر منهن -على سبيل المثال لا الحصر- أشهر الواقفات «زبيدة زوجة هارون الرشيد ووالدة الخليفة الأمين» بنت البرك والآبار وأشهرها بئر زبيدة، إضافةً إلى الأربطة التي أوقفتها لتقديم خدمات مجانية للمسافرين، يبلغ ريع ما هو قائم منها اليوم حسب تقدير المؤرخين، (1,621,320) ريالاً سنوياً، يصرف منها على صيانة وتشغيل عين زبيدة وملحقاتها[24] و«صفية خاتون» و«زمرد خاتون» و«أرجوان الأرمنية» وغيرهن كثيرات ممن ساهم دخولهن إلى عالم الوقف في تأكيد العلاقة الثلاثية بين (الثراء والمكانة والوقف)[25].
على الصعيد الثاني: لا يغفل التاريخ السيدة «شغب» زوجة الخليفة المتوكل «المعتضد بالله» في العصر العباسي الثاني؛ وأم الخليفة «جعفر» المقتدر بالله الذي تولى الخلافة وهو صبي في الـ(13) من عمره، فكانت الحاكمة الفعلية للبلاد تقوم بتدبير شؤون الدولة؛ وتمارس عزل المسؤولين والوزراء، حتى أطلق المؤرخون على الدولة العباسية في عهد ابنها الطويل «دولة النساء»، حيث وصل الأمر بالسيدة «شغب» أن تأمر ثمل القهرمانة بأن تجلس يوماً في كل أسبوع للنظر في المظالم التي ترفع إليها بحضور القضاة والفقهاء[26]؛ كما حرصت على تدعيم مكانتها في المجتمع المحلي والخارجي بإنشاء الكثير من الأوقاف لتقديم الخدمات للمحتاجين، ومن أشهر أوقافها «بيمارستان السيدة» في بغداد[27].
امتدت مساهمة النساء في حقب تاريخية مختلفة إلى الدول التي انبثقت عن الدولة العباسية، كالدولة السلجوقية والزنكية والأيوبية، نتيجة ظهور المرأة في رأس الدولة من زوجات سلاطين وأميرات الأسرة الحاكمة؛ وما المدرسة الشامية الجوانية والشامية البرانية والعذراوية، التي أنشأتها أميرات الأسرة الأيوبية ولا يزال بعضها قائماً في دمشق وحلب، إلا دليلٌ على منافسة هؤلاء الأميرات للأمراء على تخليد ذكراهن[28].
أدركت المرأة بما تتميز به من حصافة أهمية الوقف في الحضارة الإسلامية وما له من دور إيجابي في المجتمع، واتخذت منه سبيلاً لصدقتها وإحسانها، فالعلاقة بين الوقف والمرأة علاقة تبادلية؛ كما تقول السيدة «إيمان الحميدان» (نائب الأمين العامّ للإدارة والخدمات المساندة بالأمانة العامّة للأوقاف بالكويت، ومؤلفة كتاب «المرأة والوقف») أي إن كلاً منهما يخدم الآخر، باعتباره وسيلة اقتصادية وصيغة تنموية فاعلة لعبت على مر التاريخ دوراً كبيراً في تمكين المرأة في المجالات الحياتية كافة[29].
النساء في الحضارة الإسلامية والوقف العلمي
يقول ابن حزم: «إن العرب لم تعرف في جاهليتها الحبس»[30] دلالةً على أن الوقف -كما أسلفنا- من خصائص التشريع الإسلامي، وقد تنوع المسلمون الأوائل في الأوقاف بحسب حاجة زمانهم، إلا أن الوقف العلمي حاز على النصيب الأكبر من اهتمامهم بعد دور العبادة حسب المصادر التاريخية، فكان يشمل المساجد ثم المدارس ودور العلم، وبعدها يأتي الوقف الخيري في المجال الاجتماعي والاقتصادي والصحي، وذلك لأن العلم عند المسلمين يحظى بأهمية كبيرة بعد التوحيد في الخطاب القرآني وفي السنة النبوية الشريفة.
لعب الوقف دوراً فاعلاً في النهضة العلمية، والتقدم المعرفي في مناحي الحياة المختلفة عبر التاريخ الإسلامي، يتحدث في ذلك ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عما شهده من تطور علمي وحضاري في الحواضر الإسلامية، ومرده في رأيه إلى الأموال الموقوفة من أراضٍ زراعية ومبانٍ وبيوت وحوانيت، تم حبسها على المؤسسات التعليمية التي صار يفد إليها طلبة العلم والعلماء من مشرق ومغرب البلاد الإسلامية من أجل تحصيل العلم بالمجان، فنما بذلك العلم وازدهر في الفروع والتخصصات كافة[31].
ذكرت دراسة علمية؛ أن الوقف ازدهر في القرن السابع الهجري حتى بلغ عدد المؤسسات الوقفية (410) مؤسسات علمية؛ تخرج فيها علماء لا تزال مؤلفاتهم حاضرة، حتى يومنا هذا، كالنووي، وابن تيمية، والعز بن عبدالسلام، وابن النفيس وغيرهم[32].
لم تشذ النساء المسلمات عن هذه القاعدة، وإن اعترضتهن في بعض الحقب التاريخية صعوبات وتحديات، تعود في كثير من الأحيان إلى طبيعة البيئة الاجتماعية والعرفية المحيطة بوضع المرأة ودورها في مجتمعها، بينما نشطت مساهمتهن في حقب تاريخية أخرى في مجالات الوقف كافة؛ وإن شحت التراجم في هذا المجال؛ إلا أن وقف العلم هو الأكثر انتشاراً منذ مراحل تاريخية مبكرة في الحضارة الإسلامية، إذ يقول ابن جبير في رحلته: «ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة، وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف»[33]. حتى بلغت في العصر العثماني -حسب المصادر- (2309) وقفيات من نصيب النساء، توجد في أرشيف المديرية العامة للأوقاف في إسطنبول[34].
وقف المساجد والجوامع
كانت أوقاف المساجد والجوامع الأكثر انتشاراً في المجتمعات الإسلامية؛ لما لها من دور ريادي في النهضة العلمية في تاريخ المسلمين، وهي أول ما يتم بناؤه، أسوةً بنبي الهدى (صلى الله عليه وسلم) حينما كان أول عمل قام به عندما حل بالمدينة المنورة هو بناء المسجد، واعتبره مؤسسة دينية علمية ثقافية حضارية، دفعت المسلمين للتنافس رجالاً ونساءً على وقفها وتأسيسها على مر العصور، حتى تلازم الوقف مع بناء المساجد تاريخياً؛ بل تُعد المساجد أول وقف في الإسلام؛ لأن جميع المساجد هي أوقاف لله تعالى، ولا يكون المسجد إلا وقفاً[35].
ونخص منها بالذكر ما أوقفته النساء على سبيل المثال لا الحصر:
1– جامع القرويين: يعتبر هذا الجامع، الذي أصبح فيما بعد جامعة من أقدم أوقاف النساء في الغرب الإسلامي، أوقفته السيدة «فاطمة بنت عبدالله الفهري» الملقبة بأم البنين[36]. فهو يُعد الجامعة الأولى في العالم قال فيه المستشرق الفرنسي جورج دلفان (Georges Delphin) في كتابه «حول فاس وجامعتها»: «إن فاس هي دار العلم، والقرويين هو أول مدرسة في الدنيا»[37].
2– جامع الأندلس: أوقفته السيدة «مريم بنت عبدالله الفهري» شقيقة السيدة «فاطمة» وهو مقابل لجامع القرويين ويعتبر ملحقة من ملحقات جامعته بعد أن أصبح قبلة للوفود من جميع أقطار العالم لطلب العلم[38].
3– جامع السيدة: وهو مسجد بالجزائر العاصمة أنشأته سيدة محسنة، وكان أعظم جامع في الجزائر في القرن (10هـ/ 16م)[39].
4– مسجد ورباط وزاوية لالة فاطمة نسومر: ذكره المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله (ت2013) في موسوعته تاريخ الجزائر الثقافي، أنشأته امرأة مناضلة زاهدة في القرن الـ(18)؛ كان بالمسجد رباط وزاوية لتحفيظ القرآن الكريم[40].
5– جامع القرافة: أنشأته السيدة «تغريد» زوجة الخليفة «المعز» ووالدة «العزيز بالله»، ويُعد الجامع الثاني بعد الجامع الأزهر في العهد الفاطمي[41].
6– مسجد ست غزال: وهو يحمل اسم السيدة التي شيدته، والتي يُذكر عنها أنه كان لها منصب كتابي في قصر الخليفة[42].
7– مسجد الخفافين في بغداد: أنشأته السيدة «زمرد خاتون» زوجة الخليفة العباسي «المستضيء» في بغداد[43].
8– جامع كوسم ماه بيكر سلطان: زوجة السلطان «أحمد الأول» ووالدة السلطانين «مراد الرابع وإبراهيم»، وهي ابنة قسيس قُدمت هدية إلى السلطان «أحمد الأول» فتزوجها، أنشأت بعد إسلامها جامعاً في أسكودار، اشتهر باسم «الجامع ذو الخزف» يعد تحفة فنية، أوقفت للإنفاق عليه خاناً كبيراً معروفاً باسم «خان الوالدة»[44].
9– مساجد السيدة «علم الآمرية» زوجة الخليفة «الآمر بأحكام الله»، منها مسجد السيدة «رقية»، ومسجد «النارنج» وأطلق عليه هذا الاسم لأن نارنجه لا ينقطع أبداً، وقد أخرجت له أموالاً كثيرة[45].
11– مسجد باب دكالة: شيدته السيدة «مسعودة الوزكيدية» والدة الخليفة «أحمد المنصور الذهبي» وجهزته بخزانة للكتب، كما خصصت أحباساً للكراسي العلمية[46].
اللافت للنظر من خلال هذا العرض السريع لأبرز ما أوقفته النساء أمران: الأول: أن أبرز الواقفات هن من طبقة الحكام والأمراء، وهذا لا يعني أن نساء الطبقة العامة ليس لهن وقف، ولكن الأمر يعود للمؤرخين الذين أسهبوا في نقل إنجازات الحكام والأمراء ونسائهم متجاهلين ما قامت به نساء العامة، والثاني: أن أوقاف النساء تركزت في المدن، وهذا مطلب طبيعي حيث الهدف وصول المنفعة إلى أكبر عدد من الناس.
تذكر المصادر التاريخية أن الوقف على المساجد والجوامع والزوايا يشمل أرضها وبناءها وفرشها، كما يشمل ملحقاتها من كتاتيب قرآنية وخزانات وأماكن للوضوء، وأحياناً سكن الإمام، ويشمل أيضاً أوقافاً يخصص ريعها لتسيير أمور المكان وصيانته وأجور القائمين عليه؛ كالمؤذن والإمام والخطيب.
وقف المدارس والمكتبات
تذكر المصادر التاريخية أن النساء عبر مراحل التاريخ الإسلامي كنّ يتسابقن على إنشاء المدارس والوقف لها، اتباعاً لقول الرسول: «أو علم ينتفع به»، حتى انتشرت في الحواضر الإسلامية الكثير من المدارس التي شيدتها النساء نذكر منهن:
1– «باب بشير» زوجة الخليفة العباسي «المستعصم» أنشأت في بغداد، المدرسة البشيرية، عام (649هـ/ 1251م)، على غرار المدرسة «المستنصرية»، من حيث كونها وقفاً على المذاهب الأربعة، وخصصت لها أوقافاً كثيرة[47].
2- «عذراء بنت شاهنشاه بن أيوب بن شادي الخاتون»، أنشأت المدرسة العذراوية، عام (580هـ/ 1184م)، في دمشق؛ وصفها ابن شداد بأنها من أكبر المدارس[48].
3– فاطمة خاتون بنت نجم الدين أبي الشكر الملقبة بـــ «ست الشام» أخت «صلاح الدين الأيوبي»، أنشأت المدرسة الشامية البرانية والمدرسة الشامية الجوانية في دمشق[49].
4– الجارية «بنفشا» التي كانت تتمتع بحظوة عند الخليفة حسن المستضيء بأمر الله أنشأت المدرسة الشاطئية في بغداد، عام (571هـ/ 1176م)، وأوكل فيها التدريس للإمام «ابن الجوزي» عالم بغداد الشهير[50].
5– «خاتون بنت معين الدين» زوجة «صلاح الدين الأيوبي»، أنشأت المدرسة الخاتونية الجوانية في دمشق، عام (570هـ/ 1174م)، وقد بنيت للحنفية، وأوقفت عليها الكثير[51].
6– «بابه خاتون» بنت «أسد الدين شيركوه»، أنشأت المدرسة العادلية الصغرى التي كانت داراً لـ«زهرة خاتون بنت الملك العادل» في دمشق[52].
7– «الدار الشمسي» ابنة السلطان «المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول» أسست المدرستين الشمسية، إحداهما في منطقة ذي عدينة في مدينة تعز، والأخرى في مدينة زبيد[53].
8– «مريم بنت شمس الدين بن العفيف» زوجة «السلطان المظفر» من ملوك الدولة الرسولية في اليمن، أسست المدرسة السابقية، وكانت من أحسن المدارس وضعاً حسب المصادر التاريخية[54].
9- «نبيلة» ابنة الملك «شمس الدين يوسف بن عمر بن عبد رسول» أسست المدرسة الأشرفية، في مدينة زبيد[55].
10– «خُرم خاصكي سلطان» زوجة السلطان «سليمان القانوني»، أنشأت أوقافاً كثيرة في إسطنبول منها مدرسة ومستشفى، كما ابتنت مؤسستين خيريتين في مكة المكرمة والمدينة المنورة لخدمة طلاب العلم في الحرمين الشريفين، وأوقفت عليهما أوقافاً كثيرة[56].
11– «نور بانو سلطانة»، إحدى زوجات السلطان «سليم الثاني»، كانت يهودية وأسلمت، شيدت كلية في أسكودار تضم مدرسة وجامعا ومستشفى[57].
12– ترخان خديجة سلطان، زوجة السلطان العثماني إبراهيم الأول، بنت مدرسة «دار الحديث»[58].
13– مهر شاه سلطان زوجة السلطان «مصطفى الثالث»، ابتنت مدرسة وعدداً من المساجد في أحياء متفرقة من إسطنبول، أوقفت عليها أوقافاً كثيرة، وتكفلت برواتب معلم المدرسة وشيخ المقرئين وحارس المدرسة، إضافةً إلى صرف رواتب للطلبة وما يلزمهم من الملابس[59].
جميع ما سبق ما هو إلا نماذج محدودة لأوقاف النساء في مجتمعات تختلف في ثقافتها وأعرافها وتتفق في عقيدتها، لتصبح «أم هولاكو» قائد المغول الذي أحرق المكتبات والكتب والمدارس، من اللواتي أوقفن للعلم لأن اعتناقها للإسلام تجاوز ثقافتها المدمرة فأوقفت الأموال على تأسيس المدارس، فأنشأت في بخارى مدرستين، أوقفت على كل منهما مكتبة غنية بالكتب التي جلبتها مما تبقى في ديار الإسلام التي وقعت تحت سيطرة المغول[60].
وقف المستشفيات التعليمية
لم تكن المستشفيات عبر التاريخ الإسلامي مجرد أماكن للعلاج، بل كانت أيضاً مراكز للعلم والبحث في الشؤون الطبية والصيدلة، بل إن أموال الوقف امتدت إلى تأسيس مستشفيات علمية متخصصة، فعلى سبيل المثال أُلحقت مدرسة للطب بالمدرسة المستنصرية، واشترطت الوقفية التي أنشأتها أن يتردد الأطباء الأساتذة مع طلبتهم على مرضى المدرسة كل صباح، كما اشترطت وجود أقسام داخلية للطلبة مع صرف مخصصات شهرية تدفع لدارسي الطب، زيادة عن المواد العينية[61]. لم تكن المرأة المسلمة غائبة عن هذا النوع من الوقف، بل برزت فيه كما برزت في أنواع الوقف الأخرى، فعرفت وقف المستشفيات التعليمية، ومنهن على سبيل المثال لا الحصر:
1– «شغب» أم الخليفة «المقتدر» التي افتتحت مستشفى في منطقة سوق يحيى على نهر دجلة في بغداد وأوقفته. وقد دخل التاريخ باعتباره أول بيمارستان تبنيه امرأة[62].
2– «خرّم خاصكي سلطان» زوجة السلطان «سليمان القانوني» أوقفت مستشفى مع العديد من المحلات التجارية للإنفاق عليه، وقد تضمن مدرسة للطب ألحقتها بالمستشفى[63].
3– «بزم عالم سلطان» الزوجة الثانية للسلطان «محمود الثاني»، أنشأت في إسطنبول مستشفى للفقراء تقدم فيه العلاج مجاناً للمرضى، أوقفت عليها وقفية تناولت فيها كل ما يتعلق بالمستشفى[64].
4– «كولنوش سلطان» زوجة السلطان «محمد الرابع»، كان لها أوقاف عظيمة في مصر وإسطنبول، منها وقفية احتوت حجتها على دار للشفاء بمكة المكرمة[65].
5– «برتفنيال سلطان» زوجة السلطان «محمود الثاني»، قامت بعمل إصلاحات وتوسعات في مستشفى فقراء المسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ووفرت لها الخدمات كافة، ووظفت فيها أطباء وقابلة وصيدلانياً وجراحاً[66].
الملاحظ من النماذج التي ذكرناها تطور فكرة الوقف على المستشفيات التعليمية عبر التاريخ الإسلامي، حتى زادت في العصر العثماني بشكل ملحوظ، لاهتمامهم بالطب والعلم وحرصهم على تخريج أطباء يجمعون بين الدراسات النظرية والدراسات السريرية.
لم تشذ المرأة العثمانية عن ذلك الأمر؛ حيث أوقفت الكثير منهن أوقافاً لا حصر لها على إنشاء مستشفيات جديدة، أو الإنفاق على كليات الطب والخدمات الطبية بمستشفيات قائمة، حتى أصبح ذلك تقليداً متبعاً كما في حالة وقفية السيدة «برتفنيال سلطان « زوجة السلطان «محمود الثاني» التي أشرنا لها[67].
واستمرت النساء إلى العصور المتأخرة من عهد الدولة العثمانية، في تخصيص أوقاف كثيرة للاعتناء بالمرضى وتقديم الخدمات الطبية لهم، منهن على سبيل المثال السيدة «حنيفة السلحدار» التي خصصت جزءاً من وقفيتها لعلاج فقراء المسلمين في مستشفى «القصر العيني» بمدينة القاهرة[68].
وقف الكتب والمكتبات والمصاحف والأموال العامة لخدمة العلم
تذكر المصادر التاريخية أن وقف الكتب وإنشاء المكتبات ارتبط تاريخياً بإنشاء ووقف المدارس، ولم يعرف التاريخ أمة اهتمت باقتناء الكتب كما فعل المسلمون في عصور نهضتهم، حتى إن التاريخ لا ينسى حملة التتار وحرق الكتب في الديار الإسلامية.
لم تستطع المصادر أن تغفل بعض النماذج لإسهام المرأة في وقف مالها على الكتب والمكتبات وعلى العلم وطلابه، بدافع الأجر والمثوبة، ومنهن على سبيل المثال لا الحصر:
1– الجارية القيروانية «فضل» مولاة «أبي أيوب» التي خطت المصحف بيدها وأوقفته على القراء عام (295هـ/ 907م)[69].
2– «فاطمة الحاضنة»، أوقفت مجموعة من المؤلفات النفيسة على جامع «عقبة بن نافع» بالقيروان، في القرن الخامس الهجري[70]
3– «فاطمة بنت محمد الفضيلي»، كانت مهتمة بجمع الكتب في شتى الفنون، أوقفت جميع كتبها على طلبة العلم من الحنابلة[71].
4– «أم الناصر لدين الله العباسي» أوقفت مكتبة لعبت دوراً مهماً في نشر الثقافة بين جميع طبقات المجتمع، حتى بلغت من الأهمية أن الإمام أبا الفرج عبدالرحمن البغدادي المتوفى عام (609هـ 1212م)، أجاز بوابها لما أصبح عالم المكتبة[72].
5– «سارة بنت الشيخ علي بن محمد بن عبدالوهاب»، من نساء القرن الثالث عشر الهجري، أوقفت نسخة مزخرفة من الجزء الثالث من شرح صحيح مسلم «لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي»[73].
6– «نورة بنت الإمام فيصل بن تركي»، أوقفت عام (1283هـ/ 1866م)، نسخة من كتاب «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» لابن قيم الجوزية[74].
وهناك الواقفات للأملاك المختلفة، بوقف ريعها للإنفاق على المدارس وطلبة العلم، طلباً للأجر والمثوبة، ومنهن على سبيل المثال لا الحصر:
1– «جهان قادين» زوجة إسماعيل باشا في مصر أوقفت أراضي ومزارع خصصت ريعها لعلماء الأزهر وطلبته عام 1902م[75].
2– «جميلة بنت ناصر الدولة الحسن بن عبدالله الحمداني»، كانت من أشهر نساء القرن الرابع الهجري، أوقفت أموالاً طائلة على جامع النبي «يونس»[76].
3- «زينب بنت محمد علي باشا»، أوقفت على الأزهر أوقافاً عظيمة، ورتبت أجوراً لمدرسي الفقه على المذاهب الأربعة، كما أوقفت أوقافاً على (14) مسجداً، منها المسجد الحسيني في مصر، ومسجد السيدة نفيسة والسيدة زينب[77].
4– «فاطمة بنت إسماعيل بن محمد بن علي» خديوي مصر، أوقفت على الجامعة المصرية عام 1909 (674) فداناً، كما وهبت للجامعة قطعة أرض مساحتها (6) أفدنة، ومجوهرات تقدر بـ(18,000) جنيه[78].
جميع ما سبق يؤكد أن المرأة المسلمة استطاعت من خلال نظام الوقف، أن تنفق أموالها في سبيل الإسهام في تنشيط الحركة العلمية، وتعزيز التقدم المعرفي.
الخاتمة
إن الباحث في نظام الوقف والمتأمل لنماذجه التطبيقية في ضوء دلالاته التشريعية، لا يمكنه تجاهل العلاقة بين الوقف ومفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى الفرد المسلم ذكراً كان أو أنثى. إلا أن المرأة بطبيعتها التي تغلب عليها الرحمة والمحبة؛ كانت لها إسهامات بارزة في مجال الوقف عبر التاريخ الإسلامي، وإن كان ما أوقفته في صدر الإسلام يُعد محدوداً لا يتعدى السكن أو مجموعة الحلي، إلا أنه تطور كثيراً عبر الزمن، في مؤشر واضح على تنامي مكانتها في المجتمعات الإسلامية المختلفة، وما النماذج التي استعرضناها إلا دليلٌ على ما قدمته المرأة من دعم للطبقة الأضعف في المجتمع، لتتيح لهم مجانية التعليم والعلاج من خلال نظام الوقف الإسلامي.
[1] باحثة وأكاديمية سعودية.
[2] ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية، ط3، تحقيق: صدقي محمد العطار، دار الفكر، بيروت، 1419، جزء9، ص128.
[3] لسان العرب، ابن منظور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 4، ص106.
[4] سورة آل عمران، آية: 92.
[5] سورة البقرة، آية: 267.
[6] أخرجه الترمذي، الجامع، دار الكتاب العربي، لبنان، كتاب الأحكام، باب الوقف، رقم (1376).
[7] ابن قدامة، المغني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1983، ج 6، ص185.
[8] شمس الدين، محمد الشربيني الخطيب، المغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1985، ج2، ص378.
[9] أحمد، بن محمد الدردير، أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، مكتبة الرحاب، الجزائر، 1087، ص165.
[10] عبدالغني، الغنيمي اللباب في شرح الكتاب، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، مكتبة محمد صبيح وأولاده، مصر، 1961، ج2، ص130.
[11] الدولة الأموية من الميلاد إلى السقوط، محمد قباني، دار الفاتح، دار وحي القلم، 2006، ص56.
[12] التاريخ الإسلامي العام: الجاهلية، الدولة العربية، الدولة العباسية، علي إبراهيم حسن، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1963، ص327.
[13] الجاحظ، المحاسن والأضداد، بيروت، دار الهلال، 1991، ص213.
[14] محمد، الأرناؤوط، وقف المرأة في عالم الإسلام: مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع، بيروت، دار جداول، 2014، ص20.
[15] السيوطي، تاريخ الخلفاء، تحقيق: قاسم الرفاعي، بيروت، دار القلم، 1986، ص431.
[16] سورة النور، آية: 55.
[17] سورة النحل، آية: 97.
[18] ابن الخوجة، محمد الحبيب، لمحة عن الوقف في التنمية في الماضي والحاضر، عمان، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، 1996، ص5.
[19] سورة الأحزاب: آية: 35.
[20] إيمان، الحميدان، المرأة والوقف، الأمانة العامة للأوقاف الكويتية، 2006، ص10.
[21] محمد م. الأرناؤوط، وقف المرأة في عالم الإسلام: مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع، مرجع سابق، ص12.
[22] أماني، جعفر الغازي، الملامح التاريخية للحريم العثماني، 2014، ص123.
[23] عبدالهادي، التازي، القرويين: جامعاً وجامعة، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1972، ج 1، ص113.
[24] تقي الدين، محمد بن أحمد الحسني القاسمي المكي، العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تحقيق: محمد حامد الفاسي، ج 1، ص121.
[25] مرجع سابق، ص121.
[26] ابن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دمشق، دار ابن كثير، 1986، ج 2، ص247.
[27] عكرمة، سعيد صبري، الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق، عمان، دار النفائس، 2008، ص432.
[28] عبدالقادر، بن محمد التميمي الدمشقي، الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق: جعفر الحسيني، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، 1988، ج1، ص277–302.
[29] إيمان، الحميدان، المرأة والوقف، مرجع سابق، ص10.
[30] ابن حزم الأندلسي، المحلي، لجنة إحياء التراث العربي، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ج9، ص275.
[31] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، القاهرة، مكتبة نهضة مصر، ج 1، ص88.
[32] سعيد، منصور القحطاني، إسهام الوقف في دعم الحركة العلمية في القرن السابع الهجري، رسالة ماجستير منشورة، 1430-1431هـ، جامعة أم القرى، قسم التربية الإسلامية المقارنة، المملكة العربية السعودية، ص88.
[33] ابن جبير، رحلة ابن جبير، الشركة العالمية للكتاب، ج 1، ص104.
[34] أماني، جعفر الغازي، مرجع سابق، ص121.
[35] رقية، بالمقدم، أوقاف مكناس في عهد مولاي إسماعيل، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، 1993، ص42.
[36] رقية بالمقدم، مرجع سابق، ص82.
[37] عقيلة، حسين، دور أوقاف النساء في النهضة العلمية في المجتمع المسلم مشرقاً ومغرباً، بحث منشور، جامعة الجزائر، كلية العلوم الإسلامية، قسم الشريعة، ص15.
[38] رقية بالمقدم، مرجع سابق، ص82.
[39] عقيلة، حسين، مرجع سابق، ص16.
[40] أبو القاسم، سعدالله، تاريخ الجزائر الثقافي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1980، ج5، ص13–14.
[41] عقيلة، حسين، مرجع سابق، ص17.
[42] نفسه، ص18.
[43] الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص423.
[44] نفسه، ص125.
[45] عفاف، عبدالغفور حميد، مساهمات المرأة في الوقف الإسلامي عبر التاريخ، بحث منشور، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الشارقة، 2010، ص11.
[46] رقية بالمقدم، أوقاف مكناس، مرجع سابق، ص82.
[47] محمد، الأرناؤوط، وقف المرأة في عالم الإسلام: مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع، مرجع سابق، ص40.
[48] عبدالقادر، النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق: جعفر الحسيني، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، 1988، ج1، ص502.
[49] المرجع السابق، ص79.
[50] محمد، الأرناؤوط، وقف المرأة في عالم الإسلام: مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع، مرجع سابق، ص35.
[51] عبدالقادر النعيمي، مرجع سابق، ص507.
[52] عبدالقادر النعيمي، مرجع سابق، ص368.
[53] محمد بن الحسن الخزرجي، العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، تحقيق: محمد بسيوني عسل، القاهرة، مطبعة الهلال، 1911، ج1، ص293.
[54] محمد بن الحسن الخزرجي، مرجع سابق، ص408.
[55] نفسه، ص429.
[56] ماجدة مخلوف، أوقاف نساء السلاطين العثمانيين: وقفية زوجة السلطان سليمان القانوني على الحرمين الشريفين، القاهرة، دار الآفاق العربية، 2006، ص13.
[57] ماجدة مخلوف، الحريم في القصر العثماني، القاهرة، دار الآفاق العربية، 1998، ص52.
[58] المرجع السابق، ص46.
[59] ماجدة مخلوف، الحريم في القصر العثماني، مرجع سابق، ص51.
[60] عفاف، عبدالغفور حميد، مساهمات المرأة في الوقف الإسلامي عبر التاريخ، مرجع سابق، ص18.
[61] عبدالفتاح، قاسم ناصر، أوقاف المراكز العلمية في العصر السلجوقي: دورها في النهضة العلمية الإسلامية، 2011، ص20.
[62] محمد، الأرناؤوط، وقف المرأة في عالم الإسلام: مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمع، مرجع سابق، ص30.
[63] ماجدة، مخلوف، أوقاف نساء السلاطين العثمانيين: وقفية زوجة السلطان سليمان القانوني على الحرمين الشريفين، مرجع سابق، ص13.
[64] أماني، غازي، مرجع سابق، ص128.
[65] أميرة، المداح، الأوقاف العثمانية بمكة المكرمة ودور المرأة فيها: وقفية كولنوش والده سلطان، 1403هـ، ص43.
[66] ماجدة، مخلوف، الحريم في القصر العثماني، مرجع سابق، ص43.
[67] نفسه، ص43.
[68] ريهام، أحمد خفاجي، أوقاف النساء: نماذج لمشاركة المرأة في النهضة الحضارية، دراسة للحالة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، مجلة الأوقاف، العدد (2)، 2003، ص34.
[69] عقيلة، حسين، دور أوقاف النساء في النهضة العلمية في المجتمع المسلم مشرقاً ومغرباً، مرجع سابق، ص24.
[70] رضا، عمر كحالة، أعلام النساء، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1404هـ، ج4، ص136.
[71] عقيلة حسين، دور أوقاف النساء في النهضة العلمية في المجتمع المسلم مشرقاً ومغرباً، مرجع سابق، ص25.
[72] عفاف، عبدالغفور حميد، مساهمات المرأة في الوقف الإسلامي عبر التاريخ، مرجع سابق، ص20.
[73] دلال، مخلد الحربي، نساء شهيرات من نجد، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، 1998، ص84.
[74] المرجع السابق، ص164.
[75] عفاف، عبدالغفور حميد، مساهمات المرأة في الوقف الإسلامي عبر التاريخ، مرجع سابق، ص21.
[76] عقيلة حسين، دور أوقاف النساء في النهضة العلمية في المجتمع المسلم مشرقاً ومغرباً، مرجع سابق، ص26.
[77] رضا، عمر كحالة، أعلام النساء، مرجع سابق، ج2، ص112.
[78] المصدر نفسه، ج4، ص351.