-1-
تطرح جمعية “نهضة العلماء” وحركة “الإسلام للإنسانية” نمط التدين الشعبي السائد في إقليم نوسانتارا بطابعه الروحي السلمي كنموذج صالح لتمثيل الإسلام، بدلًا من النموذج الأصولي العنيف السائد في الشرق الأوسط، والمنحدر من تراث المدونة الفقهية. ويلخص هذا الطرح خصائص المشروع التجديدي الإندونيسي الذي يقوم على شقين؛ الأول: هو القطع الصريح مع ثقافة المدونة التراثية بطابعها الفقهي الشكلاني، ومع نسق التدين الحصري الخشن الذي أفرزته في الشرق الأوسط، وهو ما يشير إلى موقف إصلاحي جذري. والثاني: هو اعتماد نمط محلي من أنماط التدين الشعبي الدارجة ليحل محل النمط المدرسي النظري الموروث من عصر التدوين، وهو ما يشير إلى نقلة نوعية مميزة في منهجية التجديد الديني والإسلامي.
أولًا: موقف إصلاحي جذري
بحسب تقرير نشرته مؤسسة “بيت الرحمة” التي تمثل نهضة العلماء في أميركا والغرب، تسعى الجمعية بقيادة رئيسها الجديد يحيى ثقوف إلى “حشد مجموعة متجانسة من القوى المسلمة السنية في مشروع واسع ومركز واضح للتجديد اللاهوتي (أي الإصلاح) لأول مرة منذ العصور الوسطى”. ويهدف المشروع إلى “إصلاح المبادئ البالية في الأرثوذكسية الإسلامية التي تحض على الكراهية الدينية، والاستعلاء والعنف عبر إعادة الرحمة (الحب الكوني) لمكانها المستحق بوصفها الرسالة الأساسية للإسلام”. ولتحقيق هذا الهدف يطرح المشروع “الحكمة الحضارية والسلطة الروحية لإسلام نوسانتارا على الساحة العالمية، حيث هيمن فهم غليظ وقمعي ويغلب عليه العنف لعقود”.
يشير التقرير إلى هدف طموح يدور حول إصلاح “لاهوتي” غير مسبوق منذ العصور الوسطى، أي منذ مرحلة التأسيس. الحديث عن إصلاح لاهوتي يعني الحديث عن تطوير جوهري على مستوى المفاهيم الأولية، أي عن عملية تغيير فوق فقهية. فالمشكل التجديدي لم يعد مجرد مشكل جزئي يتعلق بالفروع التفصيلية ذات الطابع التشريعي التي يعالجها الفقه، بل هو مشكل كليّ يتعلق بفهم الدين في ذاته كجوهر روحي أخلاقي. ما يعني العودة بالنقاش إلى نقاط بدء سابقة على تشكل المدونة الإسلامية بأضلاعها الثلاثة (الكلام/ الفقه/ أصول الفقه) التي أنتجتها سياقات تاريخية خاصة في عصر التدوين. وهو نوع النقاش المحظور كليًا في أي سياق ديني تقليدي، وخصوصًا في السياق الإسلامي الراهن، المشحون أصوليًا، والخاضع لحراسة قوى ومؤسسات راسخة.
في مراحل سابقة ظلت الجمعية تنفي عن نفسها “تهمة” القطيعة مع نظام المدونة المدرسية، وتعلن حرصها على التوفيق بينه وبين توجهاتها التجديدية الواضحة. لكن هذه التوجهات صارت تكشف عن طبيعتها الجذرية بشكل أوضح مع انتقال رئاسة الجمعية إلى الشيخ يحيى ثقوف، المعروف بمواقفه الحداثية الأكثر انفتاحًا على الثقافات المختلفة، وخصوصًا الثقافة الغربية، حيث يتوافر على شبكة علاقات واسعة، وكثير من التقدير والاحتفاء بمشروعه الإصلاحي. وفي هذا السياق يمكن رصد نوع من التلاقح الثقافي المباشر بين المشروع والفكر الغربي. وهذه واحدة من خصائصه المضمرة.
ثانيًا: نمط التدين الشعبي
بعيدًا عن تخصيص المشروع لنموذج نوسانتارا الشعبي -الذي يتميز بالفعل بسمات وسطية روحية صوفانية أوضح بالقياس إلى مثيلاتها في الشرق الأوسط- تشير فكرة “طرح نمط تدين شعبي لتمثيل الإسلام” في حد ذاتها، إلى منهج تجديدي مختلف يفكر من خارج النسق، وهي أوضح مظاهر القطيعة مع المنظومة التقليدية. يتوجس الفكر الرسوخي إجمالًا من ثقافات التدين الدارجة بوصفها بدعًا. ومن جانبها تبدي الحركات الأصولية نفورها من هذه الثقافات التي تنظر إليها كبقايا متسربة من تراث الديانات الوثنية المحلية السابقة على الإسلام.
واقعيًا، يمثل التدين الشعبي صيغة “خاصة” من صيغ الديانة، مقابل الصيغة المدرسية والصيغة الأصولية. وهو يتوافر -في جميع السياقات الاجتماعية- على خصائص طبيعية مشتركة، تضعه على مسافة دائمة من الصيغتين: يستطيع التدين الشعبي احتواء المدونة الرسمية وتكييفها مع مخزون الثقافة المحلية الموروث. وتضمن له خصائصه توافر حد أدنى من الوسطية بحكم قدرته على استيعاب واقعتي “التعدد” و”التطور” داخل الاجتماع، لأنه -خلافًا للمدونة- يصدر غريزيًا عن “الواقع” المتعدد والمتطور بالطبيعة، وليس عن النموذج الأحادي المثبت بفعل التنظير الفقهي. ومن هذه الزاوية يمكن الاعتماد على التدين الشعبي كحائط صد أخير في مواجهة التطرف الأصولي، الذي يبدأ دائمًا من نقطة نقد لحالة التدين القائمة، ويسعى لاستدعاء النموذج المثالي المثبت كي يحل محلها وفقًا لتصوره التأملي الخاص.
هذه الخصائص المشتركة تسري على نمط التدين الشعبي في نوسانتارا مثلما تسري على نمط التدين الشعبي في الشرق الأوسط. ومن الخطأ افتراض أن هذا النمط الأخير يتماهى تمامًا مع صيغة الدين الرسوخي المدرسية التي يحاول التيار الأصولي فرضها وتعميمها على المجتمع.
ومع ذلك تظل هناك فوراق نسبية -لكن واضحة- بين النمطين، بحكم اختلاف البيئة الاجتماعية، وظروف التشكل والتطور التاريخي بما في ذلك الثقافات السابقة على حضور الإسلام، والصيغة التي حضر بها (طرح روحي أخلاقي أم طرح سياسي مختلط بالدولة) وطريقة حضوره (من خلال تسرب سلمي بطيء أو من خلال الفتح العسكري)، وتفاعله مع هذه الثقافات بخلفياتها الدينية والسياسية عبر مراحل التطور اللاحقة. هذه الفوارق تشير إلى نوع من الهدوء والسلام النسبي في إيقاع التدين الإسلامي في الشرق الأقصى مقارنة بمثيله في الشرق الأوسط، ويمكن من خلالها تفسير واقعة الظهور المتكرر للأصوليات السياسية العنيفة في هذه المنطقة (سأعود إلى هذه المقارنة لاحقًا في سياق النقاش حول جدارة نموذج محلي بعينه لتمثيل الإسلام).
-2-
يصدر أي مشروع تجديدي عن مشاغل آنية حاضرة في الواقع. وفي هذا الإطار يمكن البحث عن المحركات النظرية للمشروع الإندونيسي في سياقات الواقع الإسلامي “المأزوم” سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا على المستويين المحلي والعالمي، حيث تنتشر ممارسات الصدام والعنف الأصولي على خارطة العالم، وتلقي بظلالها على الجدل الداخلي بين القوى والتيارات المختلفة في إندونيسيا. عبر هذه الممارسات يبدو الإسلام ديانة حصرية قديمة، معادية لقيم السلام والتعايش الإنساني، ومناقضة للحداثة وفكرة الدولة المدنية.
أخذ المشروع يظهر بصيغته النهائية في أدبيات “نهضة العلماء” وحركة “الإسلام للإنسانية” بدءًا من 2015، على وقع العنف الأصولي المتصاعد في الشرق الأوسط على يد تنظيمي القاعدة وداعش، والذي تمدد بوحشة إلى الغرب ومناطق متعددة من العالم. ومن هذه الزاوية يمكن قراءته كرد فعل دفاعي يهدف إلى إعادة الاعتبار لسمعة الإسلام الذي صار يعاني بالفعل من أزمة ثقة مع العالم الحديث، لكن المشروع كان يتشكل في الواقع، عبر تراكم تاريخي طويل داخل السياق الإندونيسي، على وقع الجدل مع القوى الثقافية والسياسية المحلية، والتيارات “الإسلاموية” المتعددة ذات التوجه الأصولي، التي طرأت على المجتمع من الخارج، بما في ذلك التيار الإخواني (المصري) والتيار الرسوخي والذي صار ينظر إليها بوصفها تيارات “دخيلة” على نمط التدين الشعبي السائد والمعروف بالوسطية والتسامح وقبول التعددية، والتناغم مع الطابع المدني للدولة الوطنية وهو النمط الذي عبرت عنه “جمعيات إسلامية” كبرى، يرجع تاريخها إلى بدايات القرن الماضي، مثل “الجمعية المحمدية” وجمعية “نهضة العلماء” التي يقدر عدد أعضائها بعشرات الملايين.
نشأت “الجمعيات” الإندونيسية كمؤسسات مجتمع مدني عادية، ولم تعرف -وهذا فارق لافت- فكرة الحشد الحركي أو التنظيم السري المناهض للدولة والمفارق لنمط التدين الشعبي ذاته، كما فعلت جماعة الإخوان المسلمين وجماعات العنف الأصولي التي تولدت عنها. لقد اشتغلت هذه الجمعيات كحركات إحياء شعبية، تستدعي ثقافة التدين المحلية الدارجة بثرائها الروحي السلمي الذي ينبذ التطرف والعنف، وبتراثها المدني الموصول بقيم الدولة الوطنية.
-3-
يعمل المشروع التجديدي الإندونيسي على تطوير هذه الرؤية الإحيائية، ويعبر عن شواغلها في ظل المواجهة الإشكالية الراهنة بين الإسلام والعالم الحديث. في صلب المشروع تظهر شواغل ثلاثة توجه طرحه الموضوعي وترسم ملامحه الرئيسة:
1- شاغل السلام (مواجهة مشكل العنف): وينعكس بوضوح في إبراز مفهوم “الرحمة” وتصعيده إلى موقع “الرسالة الأساسية للإسلام. وهو تصعيد يمكن فهمه من قبل الوعي الروحي الحاضر في نوسانتارا بطابعه الصوفي، ويمكن تأسيسه نظريًا على “جوهر الدين” بما هو معنى روحاني وأخلاقي مطلق، لكن لا يمكن تمريره عبر آليات المدونة الفقهية التي تتكلم عن “جهاد الطلب” كحكم تكليفي مؤبد يُلزم بقتال الناس ابتداءً لنشر كلمة الدين. في عبارة أخرى، لا يمكن تأسيسه على نسخة الإسلام التاريخي السائدة التي صنعها الفقه في عصر التدوين. المشكل الذي يواجه المشروع هنا يتعلق بصعوبة التحول عن هذه النسخة الفقهية التاريخية لصالح النسخة الكلية المطلقة التي تستند إلى جوهر الدين (ضمن أدبياتها التأسيسية تدرج “نهضة العلماء” نصًا لقائدها السابق عبدالرحمن وحيد بعنوان “الله ليس بحاجة إلى دفاع من أحد”- بيان نوسانتارا 11.3:2018).
2- شاغل التواصل الإنساني (مواجهة مشكل التعصب والاستعلاء): وينعكس في تأكيد التعددية الطبيعية، ومشروعية وجود الآخر الديني، واحترام الثقافات المختلفة، وبعبارة ثقوف التي صرح بها في القدس “نحتاج أن نجد تأويلًا جديدًا أخلاقيًا للدين من شأنه قيادة الناس من مختلف الاعتقادات لامتلاك علاقات أكثر انسجامًا”. وهو -بدوره- تأويل يمكن إيجاده بالاستناد إلى جوهر الدين الذي يحض على المحبة والتواصل، وليس بالاستناد إلى المدونة الفقهية التي تكرس الفصل بين البشر على أساس الدين.
3- شاغل التكيف مع الدولة المدنية (نفي الإسلام السياسي): وينعكس في تأكيد فصل الدين عن سلطة الحكم وليس عن المجتمع، وإبراز المعنى الروحي للدين على حساب المعنى اللائحي التشريعي الذي كرسه الفقه، والإقرار الصريح بمشروعية الدولة القومية ونفي التعارض بين الدين والوطنية، وإنكار الاستخدام المغرض للدين من قبل تيارات الإسلام السياسي. وفي هذا السياق يمنع المشروع من استخدام مصطلح “كافر” لوصف المواطنين شركاء الوطن، ويعلن صراحة عن عدم وجود هذا المصطلح داخل الدولة القومية الحديثة وهذه –بدورها- منطقة حساسة من مناطق الصدام مع النظام الفقهي التقليدي بشقيه:
(الشق الرسمي الأشعري لا يستطيع إلغاء المصطلح بوصفه تصنيفًا “شرعيًا” مدعمًا بالنصوص. ويناور أحيانًا بتأويلات مصطنعة لتسكينه داخل مفهوم الدولة القومية. أما الشق الأصولي فينكر أصلًا مشروعية الدولة القومية. ويعمل على هدمها لإنشاء دولة على أساس التمييز بين المؤمنين والكافرين).
يبتع