ازدهرت الدراسات الإيرانية في العقود الأخيرة وباتت تشكل إحدى أهم القضايا المعاصرة، التي تُثير أقلام الباحثين والخبراء الاستراتيجيين ومراكز صناعة الأفكار في الغرب والعالم العربي؛ وتزايد هذا الاهتمام بعد 1979؛ وهو العام الذي شهد انقلاباً هائلاً في تاريخ إيران المعاصر، فسجل أول «ثورة» في القرن العشرين تسير عكس الثورات عبر تكريس نظام ديني قائم على ولاية الفقيه. ومما زاد من حجم الأبحاث والإصدارات المعنية بالشأن الإيراني، سعي طهران لتوسيع نفوذها الإقليمي وتدخلها المفرط في الشؤون الداخلية لدول عربية عدة.
يتناول كتاب المسبار «إيران من الداخل: السياسات والإخفاقات» (الكتاب التاسع والثلاثون بعد المئة، يوليو (تموز) 2018) مجموعة من الملفات الحيوية التي ترصد الأوضاع السياسية والاقتصادية في إيران، لا سيما بعد الحراك الاحتجاجي الذي شهدته العديد من المدن الإيرانية أواخر عام 2017، إلى جانب تداعيات خروج واشنطن من «اتفاق لوزان النووي» الذي وقعت عليه «الجمهورية الإسلامية» والدول الست (الصين، روسيا، أمريكا، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا) في 2 أبريل (نيسان) 2015. خصص مركز المسبار عدداً من منشوراته السابقة حول إيران، ويأتي هذا الكتاب -الذي يليه جزء ثانٍ- ليتابع درس الشؤون الإيرانية الداخلية، بحيث تفرعت الدراسات حول السياسي والاقتصادي والديني.
إن الأحداث التي عرفتها إيران بعد «الثورة الخضراء» أدت إلى تنامي الاتجاهات الفكرية والسياسية الساعية لتغيير النظام. تفجرت من داخل التيار الإصلاحي المناوئ للمحافظين التقليديين اعتراضات جديدة من بينها «تيار نادمون الإصلاحي» الذي ظهر عام 2017، تعبيراً عن الندم لتأييد الرئيس حسن روحاني، وكانت أولى إرهاصاته السياسية على منصات العالم الافتراضي، وتوسع لاحقاً مع تنامي التضييق الاقتصادي على المواطن الإيراني، فاندلعت تظاهرات احتجاجية على الوضع الاقتصادي المتأزم والمرشح لمزيد من التأزم، بعد مواجهة معضلة العقوبات الأمريكية الجديدة التي سيتم تشديدها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
لا توفر السلطات الأمنية الإيرانية أي وسيلة لصد المعارضين، وقد قويت قبضتها في تكميم أفواه رموز المعارضة من الإصلاحيين بعد عام 2009، الذي عرف احتجاجاً شعبياً واسع النطاق على نتائج الانتخابات الرئاسية، التي أوصلت محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في ولاية ثانية، بعدما أُسقط المرشحان الإصلاحيان: مير حسين موسوي، ومهدي كروبي. هذا الاحتجاج الشعبي ويضاف إليه احتجاج 2017 شكلا علامة فارقة في المشهد السياسي الإيراني، بما يحملانه من أبعاد يمكن أن تؤدي إلى زعزعة أركان النظام، بموازاة أوضاع اقتصادية هشة مرشحة لمزيد من الانحدار، مع فقدان العملة الإيرانية لقدرتها الشرائية وتراجعها أمام الدولار الأمريكي؛ وهذا يعني أن الشارع قابل للانفجار مع احتمال حدوث موجات احتجاجية أخرى.
عرض الكتاب للمؤسسات العسكرية في إيران مبرزاً نقاط الضعف فيها؛ انطلقت إحدى دراساته من فرضية مفادها أن السياسة الخارجية التوسعية لإيران، وردائها الأيديولوجي الثوري، القائم على أسس عقائدية، تفرض وتحدد شكل وسقف القدرات العسكرية الإيرانية ضمن جملة مؤثرات سياسية واقتصادية داخلية وخارجية مُرَكّبَة. وهذا يحتم النظر إلى هذه القدرات ضمن سياقات التنافس على الدولة المركز في الإقليم، وتبعاتها من المواجهات العسكرية الخاطفة والحروب الجارية، والصراعات المحتملة بالأطراف الإقليمية. لقد أسست إيران أجهزة أمنية عدة رديفة للجيش النظامي، ويعتبر الحرس الثوري الإيراني من المؤسسات الأمنية القابضة، ليس بسبب حضوره الأمني والاستخباراتي والقمعي فحسب، بل أيضاً نتيجة تغلغله السياسي والاقتصادي في العديد من المؤسسات، مما يدفع إلى القول بأنه بمثابة «الدولة الموازية».
تمر إيران بأوضاع اقتصادية صعبة، ولم يفلح الرئيس حسن روحاني، الذي أطلق الكثير من الوعود، منذ وصوله إلى سدة الرئاسة عام 2013، في معالجة العديد من تعقيداتها. تعاني قطاعات الاقتصاد الإيراني من عدد من المشكلات، تمثل أهمها في تهاوي العملة، ومعدلات نمو سلبية، وتضخم تجاوز (35%). اهتم الكتاب بأزمة الاقتصاد الإيراني مركزاً على خلفيتها وأسبابها ونتائجها، مع قراءة تحليلية للبعد الاقتصادي للحراك الاحتجاجي الأخير، وما تركه قرار انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من الاتفاق النووي من مؤثرات سلبية قابلة للتفاقم في الشهور المقبلة.
أولى الكتاب أهمية لموقف النظام الإيراني من الأقليات الدينية والإثنية، آخذاً بالاعتبار السياسات الإيرانية المتبعة منذ عام 1979 إلى الآن، طارحاً سيناريوهات عدة حول مستقبل التجاذب السياسي والديني تجاه الأقليات الإيرانية التي تعد من صلب المشكلات الكبرى. ومن ضمن المهددات التي تحاصر إيران خلافة علي خامنئي، ويتوقع بعض الخبراء أن النظام الإيراني بعد وفاة «مرشده» من الممكن أن يفقد الكثير من سلطته ونفوذه الداخلي والخارجي، مما سيسمح بالحد من الطموحات الإقليمية الإيرانية. إضافة إلى ذلك تطرقت الدراسات إلى موضوعات أخرى على علاقة بالكثير من الإخفاقات التي وقعت فيها طهران في السنوات الأخيرة، إثر تآكل هيبة نظامها من قبل العديد من الفئات الاجتماعية، مع ما يرافق ذلك من مواجهات سياسية مع أكثر من طرف إقليمي؛ بسبب الاستراتيجية التوسعية في مجالها الحيوي.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل محمد محسن أبو النور الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
هيئة التحرير
يوليو (تموز) 2018