تقديم
يمكن النظر إلى ظاهرة التشيّع في دول المغرب من زاويتين: ثقافية/ دينية، وسياسية، تدرس الزاوية الأولى الحالة ضمن محاولات فهم أسباب التحولات في الانتماءات الدينية أو المذهبية، وبذلك تدخل في اختصاص علم الاجتماع الديني. وتعالج الزاوية الثانية أنماط الاستغلال السياسي للانتماءات الدينية أو المذهبية، فتكون الدراسة ضمن إطار العلوم السياسية، وتحديداً دراسات تسييس الدين وتأثير الدين في السياسة، وقد تصل إلى دهاليز العلاقات الدولية؛ خصوصاً بعد تحوّل الإسلام السياسي الشيعي إلى تنظيمٍ عالمي عابر لحدود الدّول. وإن كانت هذه التخصصات العلمية تهدف إلى الوصول لرصد شامل للظواهر التي يتم من خلالها تحويل الدين من طابعه الروحي والأخلاقي في الحياة الشخصية أو الجماعية، إلى طابع سياسي في مجال الصراعات على النفوذ والهيمنة، وتحاول الوقوف على تأثير ذلك في سياسات تدبير التنوع، وفصل الحقوقي عن السياسي حيناً، ودمجهما حيناً آخر.
تتجلى أفكار كتاب (إيران ودول المغرب: المسألة الشيعية) (الكتاب الخامس عشر بعد المئة، يوليو/ تموز 2016) من خلال ثلاثة محاور رئيسة: الأول: مقاربة ظاهرة التشيّع في المغرب وتونس والجزائر، لاختبار حالات التوظيف السياسي للديني. والثاني: فحص بعض حالات التشيّع التي تبدو وكأنها اتخذته نمطاً دينياً اختيارياً لا ينطوي على أية خلفية سياسية، وهنا يسلّط الضوء على الأدوات التقليدية والحديثة، التي أسهمت في إتاحة هذا الشكل من التأثير ، فيتم التركيز على القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي والفضاءات العامة. والثالث: تبيان كيفية تأثير ظاهرة التشيّع في العلاقات السياسية بين دول المنطقة، وفي الخطاب المذهبي والاستقطابات الإقليمية، فضلاً عن تأثيره في إدارة الأقليات ودور الأقطاب الدولية المعنية بهذا الملف.
يراهن من يسعى لاعتراف تاريخي بأولية التشيّع في المغرب إلى تعريف التشيّع كظاهرة سياسية ودينية منذ قيام دولة الأدارسة على أساس الولاء لآل البيت، وحصر الخلافة في ذريتهم، واعتبار أي خلافة قائمة في بلاد المسلمين اغتصاباً لهذا الحق. ويؤسس لذلك بسياق تاريخي لهجرة المولى إدريس (ت 177هـ- 793م) إلى المغرب، يستخدم فيه علاقة الإدريسي مع الخلافة العباسية. حيث جاء حكمه بعد إرهاصات وصراعات تعرض لها في الشرق. وهو من نسب عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، ولد بالمدينة المنورة عام (127هـ/ 743م) في مرحلة كانت تتسم بصراع وخلاف كبيرين حول الخلافة. يرد آخرون ذلك باعتبار أن التاريخ لم يكتمل فيه الشكل التام لما يجوز أن يطلق عليه تشيّع كامل، ويتعللون بالعلاقة بين الإمام مالك والأدارسة، ويميزون بين الموالاة والتشيّع.
أيًا يكن الأمر، فقد استمرت الظاهرة بأشكال مختلفة إلى حين بروز الدولة الفاطمية، وتوجهها العقدي معروف، وقد تراجع أثرها في المغرب، بعدما جعل الفاطميّون القاهرة مركزهم السياسي. هذه التفسيرات كلها تمهد لتفسير ظهور طور واضح وجلي من التشيّع الإمامي في المغرب في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979. وإن كان الباحثون المتعاطفون مع الظاهرة يبحثون عن دوافع دينية أو اجتماعية، فإن المؤكد أنَّ أغلبها كان بتأثير الخطاب الثوري الإيراني، بحيث كان التشيّع تعبيراً غير مباشر عن تبني شعارات الثورة السياسية المتمثلة في معارضة الحكومات المحلية، ومناهضة الوجود الأمريكي. فإن أغلب تمثلات التشيّع في المغرب وتونس ارتبط بالولاء لـ«الولي الفقيه»، مما يجعل دراستها وفهمها في الكثير من المفاصل خارج علم الاجتماع الديني وداخل الدراسات السياسية، وخصوصاً الإسلام السياسي بوجهه الشيعي.
منذ البداية عملت «إيران ولاية الفقيه» على تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، من خلال مسارين: الأول: تأسيس تحالفات مع الحركات الإسلامية المختلفة، بدعوى أنها تتفق معها في الرؤية السياسية وبعض القضايا التاريخية، علماً أن طبيعة العلاقات القائمة بين طهران والإسلام السياسي السُّني في العالم العربي، تستند إلى شبكة معقدة من المصالح المتبادلة والمنافع السياسية والمادية. أما المسار الثاني: فيتمثل بالتوسع في العالم الإسلامي من خلال نشر التشيّع الديني على مستوى الأفراد أو الجماعات الصغرى، وقد تمّ الاعتماد على تعاطف بعض المسلمين و«المقاومات الإسلامية» مع «الثورة الإسلامية»، وربما ساعد تضعضع المجتمعات السنية في بعض الدول العربية، ونمو السلفية الراديكالية، لا سيما في جانبها الجهادي المسلح، على انتشار مسوغات ظاهرة التشيّع السياسي أكثر من التشيّع الديني.
لا بد من التمييز بين الشيعة الأصليين والسُنّة المتشيّعين في علاقة الطرفين مع إيران. فالشيعة الأصليون، مثل الشيعة العرب، لهم جذور عريقة وروابط مع الدولة والمجتمع على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإن اتسمت في بعض المحطات التاريخية بالاضطراب، ولهم حقوق دينية ومدنية مكفولة، لجهة الحق في ممارسة الطقوس الدينية والحضور الاجتماعي؛ ولا يمكن تخصيص دراسة علاقتهم بإيران «الثورية» فقط من المنطلق الشيعي. أما السُنّة الذين تشيّعوا في حالة طارئة، مما يجعل عملهم لأجل نيل الحقوق أمراً معزولاً عن أي أصل اجتماعي أو تاريخي، ولذا يتجهون نحو إيران. ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء المتشيّعون حلفاء للنظام الإيراني، ولكن الاحتمالات مفتوحة مما يجعل نقاش ظاهرة التشيّع مسألة ملحة. فقد تبدو كمحاولة ثورية أكثر من حالة بناء ديني يخضع للحريّة الدينية فقط. وهنا يستند باحثون في هذا الكتاب إلى نماذج متحوّلة، أغلبها مرّ عبر التيارات الحركية من الإسلاميين السنة.
احتوى الكتاب على دراسة لحالات جماعية وفردية، وحاول تشكيل لبنة أساسية لدراسات أكثر تعمقاً في الظاهرة، وكيف يمكن للمثقف أن يتعاطى معها، بين الحفر في التاريخ لإيجاد مبررات لها، أو فهم الممارسات الشعبية وربطها بالسياق الجديد، كما يلفت الكتاب إلى خيارات الدولة بين المحافظة على وحدة الدين والابتعاد عن الفتنة المجتمعية التي قد تُنتج، وبين التزامها بالحريات الدينية، فالموضوع برمته يحتاج إلى تركيز علمي أكثر، ودراسات موسعة متوزعة بين كل هذه المجالات، لفهم طاقة التغيّر والتثبيت والتعاطي معها بما يقلل من النزعات الانقسامية ويحقق الاستقرار.
لا يهدف الكتاب إلى اتخاذ موقف أيديولوجي تجاه ظاهرة التشيّع الديني والسياسي في المغرب وتونس والجزائر، بل يحيل إلى مؤشرات دينية سياسية تستحق الدرس والتحليل. وقد تناولت الدراسات المدرجة تحولات الموقف المغربي الرسمي من التشيّع، والجذور ومظاهر التشيّع في المغرب، والمظاهر التنظيمية للتشيّع في المغرب، والأداء التنظيمي والإعلامي للتشيّع ومسارات النخب، ومستقبل الشيعة في المغرب في ظل صعود السلفية، والوجود الشيعي في تونس، وتحولات الموقف التونسي من التشيّع، والتشيّع في الجزائر.
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخصّ بالذكر الزميل عبدالحكيم أبو اللوز الذي نسّق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهوده وفريق العمل.
رئيس التحرير
يوليو (تموز) 2016