المُقَدِّمَة
بدأ العمل في هذا الكتاب، كموسوعة للأديان والمذاهب بالعراق، منذ (1998)، وكان القلق دافعاً مهماً في تصنيفه، على التعايش الدِّيني والمذهبي والوجود العراقي المختلط؛ بسبب تسارع حركة الهجرة والتهجير إلى الخارج، حتى بدا العِراق طارداً لأهله بمختلف انتماءاتهم، ومِن العادة أن الهجرة تبدو واضحة وملحوضة على الأقل عدداً، وهي الجماعات القديمة التي عاشت فوق هذه الأرض، حتى يكاد ينتهي وجودها انتهاء يهوده مِن قبل.
منذ ذلك العام وحتى تاريخ الانتهاء من الكتاب (يوليو/ تموز 2015)، بشكل تام، والعمل فيه ظل مستمراً بلا انقطاع، شمل القديم والحديث قدر المستطاع. فالخارطة واسعة والتَّاريخ عريق، والظُّروف لا تسمح بالاكتمال. لذا ما إن أكملتُ شيئاً منه حتى أصدرته تحت عنوان «الأديان والمذاهب بالعراق» (جزء واحد)، فبعد الحوادث الجسام والهزات التي أصابت المجتمع العراقي، كان القلق على التَّعدد الدِّيني والمذهبي أن يصبح خبراً مِن الأخبار، هذا أبرز الأسباب التي جعلتني أُصدر الكتاب قبل اكتماله، وظل العمل متواصلاً، إضافة إلى ما صعب إلحاقه من المكونات الدِّينية، في تلك الطبعة ، فصدر بعد أربعة أعوام جزءاً واحداً أيضاً، واستمر البحث ليصدر، في طبعته الكاملة هذه، بثلاثة أجزاء، وذلك بعد الإحاطة بما نقص من الأديان والمذاهب، وما لم يُلحق به.
مع عدم إغفال ما صدر مِن طبعات للكتاب مزورة بلغت ثلاث طبعات؛ مِن غير التي سمعت عنها ولم أعثر عليها، وبأسماء ناشرين لم ألتق بهم يوماً مِن الأيام، حتى تبرعوا وأشاروا لما زوروا بأرقام طبعات (الثَّانية والثَّالثة)، وما هي إلا الطَّبعة الأولى، التي صدرت (2002) عن «منشورت الجمل». وجدتُ أن احتواء الكتاب على الصلات التاريخية بين الجماعات الدِّينية والمذهبية، وتاريخ هذه الديانة أو تلك الطَّائفة، ما يجب الإشارة إليه في عنوان الكتاب بحلته الجديدة ليكون موسوعة كاملة في «الأديان والمذاهب بالعراق ماضيها وحاضرها».
كان انطلاق الكتاب مِن العلاقة بين الأديان والإسلام، على اعتبار أنه غطى الفترة التي بدأت بالخلافة الإسلامية، مع بحث أُصول الدِّيانات، لذا حوى الكتاب مادة تراثية غزيرة تعكس الحياة بين الجماعات العراقية، فقد غطت فترة الخلافة الإسلامية أكثر مِن سبعة قرون (14- 656 هـ)، عاشت فيها الأديان والمذاهب الفرج والشِّدة، لكن ذلك الزَّمن لا يسمح بالإزاحة الكاملة، في أوقات الشَّدائد، مثلما توجد وسائل الهجرة والاحتواء الخارجي اليوم، وعلى وجه الخصوص الهجرة للبحث عن حياة أفضل بالأمريكتين وأوروبا، فكيف إذا تعرض أتباع الدِّيانات والمذاهب إلى نوبات إرهاب شديدة، وتفاقم الكراهية ضدهم؟
لم يجر توزيع وترتيب فصول الكتاب على أساس الدِّين أو المذهب إنما على أساس ما نعتقده في الأقدمية؛ وهذا ليس مبتوتاً به بل مجرد وجهة نظر تحمل الخطأ والصَّواب، فمثلاً وجود الإمامية الشَّيخية في الجزء الثَّالث لا يعني إخراجهم مِن حوزة الإسلام أو التَّشيع الإمامي إنما لوجودهم المتأخر، وكذلك الحال مع بقية المِلل والنِّحل العِراقية، مثل حركة حه قه، والمشيخة البارزانية، والشَّبك، فإضافتهم إلى الجزء الثَّالث لا يعني إخراجهم أيضاً مِن ربقة الإسلام، التي حواها الجزء الثَّاني مِن الكتاب.
نسبق القارئ اللَّبيب إلى ذلك كي لا يحكم مِن خلال مطالعة المحتوى على تسلسل الفصول بأنها جاءت على أساس الإسلام وخارج الإسلام؛ لهذا نلفت النَّظر في هذه الموسوعة الكاملة إلى فصول جديدة واستدراكات لم تحوها طبعة الكتاب بجزء واحد.
إنه تصنيف أو ترتيب تقريبي لا أكثر، لأن الحوادث شائكة ويصعب التحديد بين الأقدم والأحدث، وعلى الخصوص بالنِّسبة لبعض الأديان السابقة على الإسلام. لذا يبدأ الكتاب بالصَّابئة المندائيين، و ذلك لصلتهم بتقاليد الدِّيانة السُّومرية والبابلية بوجه مِن الوجوه، واعتقادهم أن كتابهم نزل على آدم، وأن البشرية بدأت مندائية وتنتهي مندائية، ثم الأيزيدية لصلتها بالديانات القديمة كالمثرائية، يضاف إلى ذلك أنهما الدِّيانتان ذات الأصل العِراقي -على ما نتصور- أكثر مِن غيرهما. أما بالنسبة لمذاهب المسلمين فنعتقد: لم يكن النَّاس شيعة وسُنَّة، والبداية كانت بالتمذهب سياسياً، لذلك يبرز الشِّيعة قبل غيرهم في هذا المضمار.
إن موضوعاً متشعباً ومتداخلاً مثل موضوع الأديان والمذاهب بالعراق يصعب الإلمام بكلِّ جوانبه؛ فهو تاريخ وعقائد وعلاقات اجتماعية وسياسية متشابكة، خضع كل دين ومذهب منها لدراسات متناقضة في المعلومات، ومنها ما قُدم بمواقف مسبَّقة، بعيدة عن الحياد. لذا وجدت مِن الصُّعوبة بمكان العثور على الدِّراسة أو الرِّواية الموضوعية غير المشوهة من قبل الآخر.
بفعل هذا التَّعقيد والتَّشعب جاءت إضافات وتصويبات عمَّا نشرناه سابقاً مِن كتابنا هذا، وبعد تطور الدراسة وجدناه موسوعة لا كتاباً، مِن تصحيح إخفاق في تحقيق رواية، أو تشذيب معلومة، أو إضافة ما تجب إضافته على ما ورد في تاريخ أو عقيدة هذا الدِّين أو ذاك المذهب، وما استجد في اكتشاف المصادر.
غير أن الأهم من ذلك كله هو ملاحظة التَّغيير الكبير الذي حدث بالعراق في التاسع من أبريل (نيسان) 2003؛ وكنا أصدرنا كتابنا «مائة عام مِن الإسلام السِّياسي بالعِراق» مستوعباً تلك التَّطورات في المشهد السِّياسي الدِّيني. فبسقوط النَّظام العراقي السَّابق برزت مستجدات هائلة في الوضع الدِّيني والمذهبي، فكان فراغ السُّلطة، على مدى شهور، اختباراً حقيقياً لآصرة المواطنة بين أديان ومذاهب العراق، بعد ظهور توقعات متشائمة كانفجار حرب أهلية بين سُنَّة وشيعة مثلاً، وتوقعات أُخر أنذرت بهجرة المسيحيين والصَّابئة المندائيين والأيزيديين حالاً مِن البلاد، وكل مَن لا يرغـب بـه المتشـددون الإسلاميون.
ما حدث خالف مجمل تلك التَّوقعات، قياساً بعدد سكان العراق، وما خلفه النِّظام السَّابق مِن مآسٍ وكوارثَ اجتماعية وبيئية، لم تحصل حرب طائفية شاملة، بعد أن سعى إليها مَنْ سعى وبقوة، لكن قيام السِّياسة العِراقية على المحاصصة والتَّصريح بالحس الطَّائفي، أنسى القوم وجود تلك الكيانات الضَّاربة الجذور في أرض العِراق، وصارت الهجرة مِن جديد ضالة العِراقيين، مِن مختلف أطيافهم، إلا أن ذلك يكون واضحاً بين الطَّوائف ذات العدد المحدود، كالصَّابئة المندائيين والمسيحيين، مع ما وقع عليهم مِن ضيم مِن قبل الجماعات الإرهابية، ونفرةً من الأجواء الدينية المفروضة، فهؤلاء ما زالوا متمسكين بالأرض فالعراق لن يبقى إذا غرب هؤلاء عنه.
إن تظاهرات (13 تموز/ يوليو 2015)، ونحن نضع اللمسات الأخيرة على الكتاب، فاجأت الجميع برفض الطائفية والمحاصصة، وظهر الحس الطائفي مجرد أجندة سياسية، لا تعني الجمهور العراقي، وإن تأثر بحسها، تكرس ذلك في الشّعارات والهتافات المنددة بالطَّائفية، وكان المتظاهرون يشكلون فئة الشباب العراقي. كان الشعار الرئيس مِن أجل دولة مدنية تضمن المساواة والعدالة للجميع، بغض النظر عن الدين والمذهب، فعلى الرغم مِن هيمنة الإعلام الطائفي والنِّزاع على أساس الطائفية بين القوى السياسية إلا أن ذلك لم يكن جوهر الصراع في القضية العراقية.
مِن دون النَّظر في الجزئيات، ظهر العراقيون على مختلف أديانهم ومذاهبهم أكثر تمسكاً بالمواطنة التي جمعتهم منذ زمن بعيد؛ وما حصل مِن قتال كان بين ميليشيات وأمراء حرب وليس بين النَّاس (الشَّعب). وبالجملة فإن ما حصل مِن تجاوزات ضد الأديان الأُخر كان بسبب الجماعات المتشددة المسلحة، ومَن في قلبه طمع بدار ومال غير منقول سيتركه أولئك النَّازحون تحت الحراب، مثلما حصل في الأربعينيات والخمسينيات، مِن القرن الماضي، مع يهود العراق.
تلك الجماعات التي وزعت إيذاءها على الجميع، وما سببه العائدون توّا مِن إيران، مِن الحاملين عقلية الإعلام الدِّيني المتشدد مِن ضغوط على بقية أهل الأَديان له خطورته، لكنه سينحسر مع تقادم الأيام والتَّمرس على الدِّيمقراطية، إن كانت هناك نية صادقة لدى الكيانات السِّياسية العراقية من إقامتها سليمةً لا مترديةً. بيد أن صعود متدينين بالمحافظات الجنوبية، محسوبين على القوى الدِّينية المتشددة أدى إلى التَّضييق على الصَّابئة، إلى حد قطع الماء عن بيت عبادتهم كلُّ يوم أحد، جرى ذلك بوضوح بالبصرة([1]).
أشارت التَّقارير إلى ضخامة وجود الجماعات التكفيرية بكثافة بالفلوجة والأنبار وتكريت وأجزاء مِن بعقوبة والموصل. أي بما عُرف في الإعلام، بنية مبيتة، بـ«المثلث السّنَّي»، وما عرف بـ«مثلث الموت»، ومركزه اللَّطيفية جنوب بغداد، وتنسيق هؤلاء مع الجماعات المسلحة الأُخر مِن المتضررين مِن الممارسات الجديدة، مثل قانون الاجتثاث السيئ، كونه قانوناً ثأرياً.
سعت تلك الجماعات إلى تحريك فتنة دينية ومذهبية لم يألفها العراقيون من قبل. أومأت رسائلهم إلى العمل على تغذية حرب أهلية بين الشِّيعة والسُّنَّة، عبر تفجير مساجد شيعية وسُنَّية، على حدٍّ سواء، لكي تتهم الطائفتان إحدهما الأُخرى فتنشب حرب لا يعلم إلا الله مدى خطورتها على آصرة المواطنة العراقية. وقيل إن هناك يداً تمتد بالخفاء لفعل تلك الشَّنائع وهي تمد المسلحين مِن الطائفتين. فمثلاً ما زال مقتل السيد محمد باقر الحكيم (أغسطس/ آب 2003) بعيداً عن فعل القاعدة، والسَّبب أن التفجيرات لُغمت بهيكل سيارته التي كانت محمية، وأن القاعدة آنذاك لم تكن على هذا المستوى مِن الفعل.
إلا أن تحرك العقلاء مِن الطَّائفتين، واكتشاف هول هذا المخطط مبكراً، أفشل تنفيذه في بداية الأمر، وتمكن مِن السيطرة عليه إلى حدّ لجم الصِّدام بين المدن والعشائر، فمثلاً حلت المسائل المتعلقة بقتل الشَّباب الشِّيعة بالفلوجة أوتفجير المساجد بروية وعقل. كذلك كان لظهور جيش المهدي تأثيره السَّلبي في وحدة النسيج الشِّيعي، مما جعل شيعة كثيرين وبالنَّجف ذاتها لا يحبذون وجوده، وما كنا نحذر مِن شخصيات فاعلة فيه، وقد أعلن في ما بعد التَّيار الصَّدري نفسه البراءة منهم، ودعا إيران إلى عدم الاستمرار في استضافتهم، وإقراره بما ارتكبوا مِن الجرائم([2]).
على نطاق السُّنَّة تأسست الصَّحوات مِن عشائر الأنبار وغيرها، وأسهمت بفاعلية في إخلاء البلد مِن تلك الجماعات. فما حصل مِن مواجهات بين أطراف شيعية لها حضورها وتاريخها السَّياسي مع «جيش المهدي» أكد أن النَّسيج الشِّيعي فيه أكثر من لون، على الرَّغم مِن أواصر المذهب الجعفري التي تجمعهم، والحال بين أهل السُّنَّة نفسه.
في الوقت الذي أشارت فيه أصابع الاتهام إلى دورٍ لعمائم محسوبة على الصَّدريين في قتل السَّيد عبد المجيد الخوئي؛ في العاشر مِن أبريل (نيسان) 2003، وهو نجل المرجع الأعلى أبي القاسم الخوئي (ت 1992)، وكان مشهداً مؤلماً لما فيه من وحشية وتجرد من الإنسانية، التف حول الصَّدر المئات ثم الآلاف مِن الشَّباب ورجال الدِّين ممَن درسوا في حوزة والده الدِّينية بالنَّجف، يتظاهرون باستنكار العمل مع الأميركان والبريطانيين. بينما نسقت بقية الأحزاب الشِّيعية، شأنها شأن أحزاب المعارضة الأُخر، الدِّينية والعلمانية العربية منها والكردية والتركمانية والآشورية، مع قوات التَّحالف لإعادة بناء الدَّولة على أنقاض الحرب، التي هدت صباح الأربعاء، التاسع من أبريل (نيسان) 2003، مؤسسات الدَّولة بكاملها. لكن ما حصل كان خلاف إدعاءات الأحزاب والمنظمات التي تصدرت المشهد السياسي، وهيمنت على مفاصل الدَّولة.
لقد حدثت تطورات عديدة في مسار العلاقة بين الأديان والمذاهب العراقية، فبعد تغييب صوت تلك المكونات، في الفترة السَّابقة، أخذت تطالب بوجود مناسب لها في الوزارات ومجالس البلديات وفي رأس السُّلطة، وبوجود فاعل حقيقي يعكس مثولها على الأرض.
هناك إشارات إلى تزايد عدد أديان العِراق الرَّسمية مِن خمسة أديان إلى سبعة بعد إعلان البهائية وما يفهم مِن كا كه يي (أهل الحق) كديانتين، وربَّما ثمانية إذا حسبنا وجوداً للزَّرادشتية فيه. وسعياً إلى تأكيد الوجود أعلن جماعة مِن الصَّابئة المندائيين عن تأسيس حزب أو تجمع سياسي، خارج رغبة رجال الدِّين أو مجلس الطَّائفة الرُّوحاني الأعلى بالعراق. لأن ليس مِن تقاليد هذه الدِّيانة أن تهتم بالشَّأن السِّياسي المباشر.
لكنَّ هناك حقيقة أخرى، وهي أن الأديان والمذاهب ذات الكثافة السكانية الأقل، قياساً بالسُّنَّة العرب والشِّيعة العرب أيضاً، كانت ممثلة أساساً عبر تكويناتها القومية أو الإثنية. فالصَّابئة حُسبوا على نسبة العرب، وعلى وجود أبنائهم داخل الأحزاب السِّياسية العراقية غير الإسلامية بطبيعة الحال، كالحزب الشِّيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي. كذلك حُسب المسيحيون على نسبة الكلدو آشوريين. بينما حُسب الأيزيديون على النِّسبة الكردية، مع تأسيس جماعة منهم لحزب سياسي لكنه لم يكن حزباً دينياً. ربما توزع الكرد الفيليون بين الكرد والشِّيعة عموماً، مع وجودهم ضمن كيان خاص اجتماعي وسياسي.
لهذا لم يتم تمثيل أهل الأَديان غير الإسلامية، وأقصد بالتَّحديد المذاهب المسيحية المتعددة على أساس ديني أو مذهبي، بل تم التَّعامل معهم على أساس إثني. فكلُّ مسيحي هو كلداني أو آشوري، وكل أيزيدي كردي، وكل صابئي عربي، على الرغم من أن الأصل آرامي، حيث أجبرهم التَّعايش الطَّويل بين العرب وبأقلية على حصر لغتهم الآرامية في طقوسهم الدِّينية، ولا تجد ممَن يجيدها غير رجال الدِّين، وبضعة كلمات يحفظها المندائي عند الصِّباغة أو المعمودية، وما عرف بالملواشة (الاسم الدِّيني) لكلِّ مولودٍ صابئي، وهم خلاف المندائيين الأَهوازيين في الحرص على تعليم أبنائهم لغتهم الأولى منذ الصِّغر.
في أجواء الحرية، وهيمنة مقومات المجتمع المدني المتحضر، تعلن الطقوس ويفرج عن مقالات، ووثائق ظلت مطوية لقرون، ويحدث إتصال مباشر بين شيوخ ووجهاء الأَديان كافة، مِن دون أن يكون للسُّلطة شأن في الأَمر. ومِن المحاولات الجادة مِن أجل تنقية أَجواء التَّجاور الدِّيني والمذهبي تشكلت، بعد سقوط النِّظام السَّابق، هيأة عليا للتَّضامن الرُّوحي بين الأَّديان المصطلح عليها بالسَّماوية داخل العراق، وكانت قد عقدت مؤتمرها الأول ببغداد في 21 أغسطس (آب) 2004([3]).
لقد بدأت الدَّولة العراقية خطوة صحيحة في العشرينيات، مِن القرن الماضي، عندما جعلت معلمين من الطَّوائف الدِّينية لتعليم الأولاد الصَّلاة بمعتقدهم، في درس خاص حسب أديانهم، مثلما يتعلم أولاد المسلمين أمور وتاريخ ديانتهم([4]).
جاء في مذكرات مدير التعليم العام ساطع الحصري أن مدارس العراق الرَّسمية العام الدِّراسي (1921 1922) ضمت (4288) مسيحياً، و(571) يهودياً، و(165) صابئياً، وأربعة أيزيديين فقط. والطائفة الأخيرة كانت بعيدة عن التَّعليم والدَّولة بشكل عام. مقابل (7101) طالبا مسلما سُنَّيا، و(3146) طالباً مسلماً شيعياً. ثم تزايد العدد في العام 1922 – 1923 ليصبح عدد الطلبة المسيحيين (4313)، واليهود (740)، والصَّابئة (194)، والأيزيديين (16)، مقابل (8166) مسلماً سُنَّياً، و(3802) مسلما شيعياً([5]).
إن أي نقص في التَّركيبة الدِّينية والمذهبية، القائمة بالعراق، سيؤدي حتماً إلى تغيير وجه العراق نحو الأسوأ. لذا أجد مِن الحكمة أن يحرص العراقيون ونظامهم، الذي يريدون له أن يكون ديمقراطياً مدنياً، على توفير الشُّروط القانونية والحقوقية لطمأنة أهل الأديان الأُخر، وإشعارهم أنهم الأقدم في هذه الأرض، وهذه هي الحقيقة بعينها؛ وأن يحرم التَّكفير والإقصاء تحريماً قاطعاً على أرض الواقع مثلما هو محرم في الدُّستور.
أجد مِن الحق أن يُضمن حق العودة لكلِّ مهجر عن أرضه، وألا يستثنى يهود العراق بحجة مقارعة إسرائيل والصهيونية، وأعني الرَّاغبين منهم ومِن أبنائهم. فمقارعة الصُّهيونية كانت ذريعة لارتكاب جريمة الفرهود في يونيو (حزيران) 1941 ضدهم، وتهجيرهم بإصدار قانون إسقاط الجنسية. فلهــؤلاء حقـوق المواطنة وأملاك وعقـارات هـي جهـد سواعــد آبائــهم وأجــدادهم، أمـلاك ما زالـت معلقة تحـت عنـوان «الأمـوال المجمدة».
يأتي كتاب ماضي وحاضر أديان ومذاهب العراق في مجمله رصداً تاريخياً واجتماعياً، لا يخلو -بطبيعة الحال- مِن إيضاحات لأهم مقالات الأديان والمذاهب الفكرية والفقهية، وكشف المشترك بينها، وغالباً ما كان البحث وفقاً لتسلسل الأحداث الزَّمني. وبما أن الكتاب لم يختص بدين أو مذهب واحد، لذا جرت محاولة الإلمام بأهم الأحداث، مع إبراز التَّعايش بين الدِّيانات والمذاهب العراقية أثناء فترات الفرج والشِّدة منها. ومعلوم أن التَّعرض لمثل هذه الأحداث قد يغضب الكثيرين ويُرضي الكثيرين في الوقت نفسه.
تم الاعتماد أولاً، في مصادر الكتاب، على ما حصلنا عليه مِن مؤلفات أهل الدِّيانات، على إفتراض أن أهل مكة أدرى بشعابها. ثم ما كتبه الآخرون مِن مؤرخين وجغرافيين، مِن غير المناوئين. ولم نواجه صعوبة في جمع المصادر، وخصوصاً عند البحث في المذاهب الإسلامية، ولا سيما أن المصادر الأكثر كانت التَّاريخية القديمة منها، مع الإبتعاد قدر الإمكان عن إجابات موسوعات المِلل والنِّحل المختصرة في تعريف هذا الدِّين أو ذلك المذهب. وما كنا بحاجته مِن تلك المصادر هو الرِّواية التَّاريخية وتأكيد إسنادها. فمن كتب التَّاريخ والتُّراث الإسلامي حصلنا على مادة كافية لحياة غير المسلمين داخل المحيط الإسلامي؛ منذ أن أصبحت بغداد عاصمةً للدَّولة الإسلامية.
عكست روايات هذه المصادر تبايناً في سياسة الدَّولة، على مختلف مراحلها، تجاه مواطنيها الذِّميين، ومدى مشاركتهم في الحياة العامة، ومواقف الفقهاء المتباينة تجاههم بين متشدد ومتسامح. قاد هذا الأمر إلى التَّداخل بين فصول الكتاب للوقوف على وضع هذا المذهب أو ذاك مِن أهل الذِّمة. كما وردت خلال البحث ترجمات عديدة لأهم الشَّخصيات الدِّينية والفقهية المؤثرة في أديانها أو مذاهبها.
تحدثت المصادر الإسلامية -كتب المِلل والنِّحل مثلاً- عن مقالات وطقوس الأديان الأُخر، لكن ما أوردته هذه المصادر لا يصلح مادة تاريخية إلا في ما ندر، ذلك لعدم حيادها وميلها للتشويه. استدعى ذلك البحث حول حقيقة العديد مِن المفاهيم، مثل الأَقانيم عند المسيحيين، وما قيل في تزوير الكتابين: التَّوراة والإِنجيل، وما يتعلق بعلاقة الصَّابئة المندائيين بالكواكب والماء، وما تحدث به مؤرخو السُّنَّة حول مقالات الشِّيعة وبالعكس.
ليس لنا الدُّخول في ماهية اعتقادات الأَديان والمذاهب بالتَّفصيل، بقدر ما وردت إشارات وافية لطقوس العبادة. ويأتي التَّوسع حسب حاجة البحث، مع الالتزام بالتَّسلسل التَّاريخي لوجود الدِّين أو المذهب، وهو يعيش تارة التَّقارب وأخرى التَّباعد مع الآخرين. غير أن التَّنوع الدِّيني والمذهبي على الأَرض العراقية ظل سمة مميزة للمجتمع العراقي منذ القِدم، ولم يُنَفِّر في أحلك الظروف طرفاً ما نفوراً تاماً إلى حد الهجرة الجماعية.
فما حدث لليهود العراقيين (1950 – 1951) كان مشروعاً أشترك فيه مسؤولون كبار في الدَّولة العراقية، واستغلت فيه العاطفة الدِّينية والقومية، وقبل ذلك مورس ضدهم الفرهود (1941)، الذي أسهمت فيه فلول مِن الجيش قبل اللُّصوص، وشجع عليه مواطنون عرب بسذاجة تحت مشاعر العداء للصُّهيونية ومناصرة النَّازية، وفي مقدمتهم الشخصية الفلسطينية المعروفة مفتي القدس أمين الحسيني (ت 1974) يوم كان مقيماً ببغداد، مع أن ما حدث حقق لأول رئيس وزراء إسرائيلي: بن غوريون (ت 1973) حلمه.
تجدر الإشارة إلى قوانين أصدرتها الحكومات العراقية لحفظ الأديان الأُخر؛ مِن جور قد يمارسه المتزمتون والجهلاء ضدهم مقيداً مِن حريتهم الدِّينية. فما قاله عبد الحميد عبادة (ت 1930) حول ما سماه بأذان الصَّابئة بأنهم «لا يؤذنون في محل عال مرتفع مثلنا (يقصد المسلمين)، وإنما يؤذنون بينهم بصوت خفي»([6]) ليس مِن الدِّين، وإنما خشية مِن المحيط، مع علمنا أنهم لايؤذنون ولا يضربون ناقوساً ولا ينفخون في بوق، لكنَّ تأدية شعائرهم بسرية لا تُفسر إلا بتلك الخشية، وإلا لماذا أخذوا يُعمدون أبناءهم على شواطئ أنهر بلاد الغرب بعلنية. فهم مِن دون أن يؤذنوا بصوت عال يلاقون الأذى، فكيف إذا رفعوا صوتهم وبكلمات غريبة؟!
من تلك القوانين: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات كلُّ:
1- مَنْ اعتدى بإحدى طرق العلانية على معتقد لإحدى الطوائف الدينية أو حقر شعائرها.
2- مَن تعمد التَّشويش على إقامة شعائر طائفة دينية، أو على حفل أو اجتماع ديني، أو تعمد منع أو تعطيل إقامة شيء من ذلك.
3- مَن خرب أو أتلف أو شوه أو دنس بناءً معداً لإقامة شعائر طائفة دينية، أو رمزاً أو شيئاً آخر له حرمة دينية.
4- مَن طبع أو نشر كتاباً مقدساً عند طائفة دينية، إذا حرف نصه عمداً تحريفاً يغير من معناه، أو إذا استخف بحكم مـن أحكامـه، أو شـيء مِـن تعاليمه.
5- مَـن أهـان علنـاً رمـزاً أو شخصـاً هو موضـع تقديـس، أو تمجيـد أو احترام لـدى طـائـفة دينية؛ ومَن قلد علناً نسكاً أو حفلاً دينيـاً بقصـد السُّخرية([7]).
في حال تطبيق هذه القوانين، فعلاً لا قولاً فقط، يتساوى العراقيون على مختلف أديانهم ومذاهبهم، وتحفظ مشاعر أتباع شيـــخ الأَيزيدية آدي الرَّاقد في وادي لالش، وشيخ المندائيين دخيل بن الشيخ عيــدان الراقد في باحة داره الكائنة بالدورة من جنوب بغداد ثم تحولت رفاته إلى مقبرتهم بأبو غْرَيب، ومراقد جثالقة المسيحيين ورؤساء جالوت اليهود، وأن ينظر إلى تلك الأمكنة مثلما ينظر إلى عتبات المسلمين المقدسة.
ما زالت خارطة العراق الدِّينية والمذهبية غنية بالتَّنوع، وفي هذا الكتاب نُعنى بالأديان الحيّة فقط. ولا نأخذ عدد الأتباع بنظر الاعتبار، فمِن الإجحاف التَّعامل بمصطلح الأَقلية والأكثرية. ذلك لما في مصطلح الأَقلية مِن حرمان وإلغاء للحقوق التَّاريخية والشَّراكة المتوازنة في الوطن الواحد، إضافة إلى ما يولده هذا المصطلح مِن شعور بالضَّعف والاغتراب. وبالتَّالي يصبح الوطن وطن الأكثرية، والأقلية تعيش على هامشه. فالمواطنة، قبل كلِّ شيء، حقوق لا تخضع لكثرة الوجود أو قلته، مع علم الجميع أن زيادة التَّناسل التي تأتي بالأكثرية، بسبب الزَّواج المبكر وتعدد الزَّوجات، أصبحت معوقاً مِن معوقات التَّنمية، وتنم عن جهل حضاري وقصور فـي التَّربية والإعـداد السَّليم، والشَّواهد علــى هذا كثيرة.
ارتأينا تقسيم الكتاب، في طبعته الكاملة إلى ثلاثة أجزاء، تضمنت أربعة عشر فصلاً: لم يُقصد في التَّوزيع بالنِّسبة للجزء الثَّاني والثَّالث مِن الكتاب إخراج هذا المذهب مِن الإسلام أو إدخاله فيه، إنما حجم الكتاب حتم على مؤلفه أن يكون بهذا الشَّكل، فالأول جاء مختصاً بالأديان الأقدم، والثَّاني والثَّالث ضما مذاهب المسلمين المعتمدة وعلى الأقدم مثلما أوضحنا ذلك في مستهل المقدمة، أما الشَّبك فجعلتهم آخر الفصول لغرض سيأتي توضيحه.
من وجهة نظري، وهي تحتمل الخطأ والصَّواب، أن الدِّين الصَّابئي المندائي، بالنِّسبة للعراق لا سواها مِن البلدان، هو الدِّين الأقدم بين الدِّيانات الحيَّة، لذا تقدمت دراسته في الفصل الأول من الكتاب. فالتَّسمية (الصَّابئة) كانت مهيمنة على الدِّيانات العالمية بداية من بابل ومصر إلى الرُّومان والهند، ودخل تحت هذا الاسم كل مَن جعل التَّماثيل والرُّسوم وسيلة للتَّعبد، هذا ما أيده المؤرخون المسلمون كافة، وصابئة العراق مختلفون بطبيعة الحال، فالاسم عندهم لا يتعلق بصبأ العربية أي الانحراف عن الدِّين، بل هي متعلقة بصبأ التعميد أو الصِّباغة في الماء الحي.
ليس هناك أهل دين ادعوا نزول كتابهم على آدم أبي البشر غير الصَّابئين المندائيين وهو كتاب «الگنـزا رَّبا»؛ مع تحفظنا على هذا الادعاء، لكن للأسطورة دورها في الأديان كافة، وكم مِن الأساطير وغير المعقولات ما زالت تأخذ مكانها في هذا الدِّين أو ذاك. كذلك ما يشير إلى قدم هذا الدِّين، بين أديان أهل العراق أيضاً، صلته الوثيقة بالدِّيانة البابلية، والمندائية هي الدِّيانة التي ينطق معتنقوها اللغة الآرامية، بلهجتها الشَّرقية، والمعروفة نسبة لهم بالمندائية.
سمعت من شيوخهم أنه دين الفطرة الأولى، به بدأ الدِّين وبه سيختتم، وما الأديان الأُخر إلا خارجة عن الدِّين الأول، وسيظهر المسيح وسيملك العالم، وفي آخر المطاف سيعود النَّاس مندائيين مثلما بدؤوا. ولعلَّ ورود اسم مرياي، التي يذكرها كتابهم الدِّيني الآخر، بعد «الگنـزا ربا»، «دراشة إد يهيا» بابنة ملك بابل([8])، على أنها اعتنقت الدِّيانة المندائية يُشجع على صلتهم ببابل، وما يعنيه ذلك مِن قِدم في تاريخ العِراق الدِّيني.
لكلِّ هذا اجتهدنا في أن يكون الدِّين المندائي أول الفصول. وإذا كان ظننا بأنه الدِّين الأقدم بالعراق، فإن أهل الدِّيانة أنفسهم يعتبرونه الأًقدم على الإطلاق. قال سالم الجحيلي وهو رجل متعمق في الدِّيانة، مِن أهل الأهواز، عقيدةً وتاريخاً: «تعتبر الدِّيانة الصَّابئية المندائية مِن أقدم الدِّيانات على وجه الكرة الأرضية، ولها أهمية كبيرة بالنِّسبة لسائر الأَديان الإلهية والعرفانية وحسب معتقدات الصَّابئة أن دينهم قد بدأ مع هبوط سيدنا آدم على وجه الأرض»([9]).
أما الدِّيانة الأَيزيدية، التي تشغل الفصل الثَّاني مِن الكتاب، فهي امتداد لأديان ضاربة بالقدم منها الزرادشتية والميثرائية، التي كان يعتنقها الكُرد، مع وجود اليهودية والمسيحية بينهم. إنها الدِّيانة التي يصل توحيدها إلى نبذ فكرة وجود إبليس خالق الشُّرور والذُّنوب. ورد تأكيد تسميتها بالأيزيدية صلة باسم الله القديم لديها يزدان أو أيزيد، ولإبعادها مما شاب تاريخها مِن روايات نسبتها إلى يزيد بن معاوية (ت 64هـ)، فهي أَيزيدية وليست يزيدية، وقيل لهذه التَّسمية صلة ما بكلمة سومرية، مع تحفظنا على ذلك.
حاولنا في الفصل الثَّالث، الخاص باليَهودية، تقصي عاطفة يهود العراق تجاه ضفاف دجلة والفرات، عبر كتاباتهم واحتفاظهم بعاداتهم وتقاليدهم، بعد مرور أكثر مِن نصف قرن على تهجيرهم إلى إسرائيل، وهجرة عدد منهم مِن هناك إلى دول أوروبية وأميركية. غير أن الخمسين سنةً في المهجر لا تعني شيئاً قياساً بجذورهم الممتدة بالعراق إلى نحو (2500) عام.
شغلت المسيحية، التي دخلت العراق عبر حدياب (مركزها قديماً أَربيل)، الفصل الرَّابع مِن الجزء الأَول، وكانت دراستها محاولة لرصد انعطافها إلى النَّسطورية، وتعامل الملوك السَّاسانيين معهم وفقاً لحالة السِّلم أو الحرب مع الرُّوم البيزنطينيين؛ ثم انتشارها مِن العراق إلى الهند والخليج العربي، حيث كنائس بيث قطرايي (قطر حالياً). كانت دراسة الملَّتين اليهودية والمسيحية، عبر قراءة في اللَّوائح الإسلامية وما يخص التَّعامل مع أهل الذِّمة؛ بداية مِن عهد النبي محمَّد (ت 11هـ)، وعهود الخلفاء الرَّاشدين إلى قرارات جعفر المتوكل (ت 247هـ) ضدهم، وما ظل يلاحقهم باللائحة المشهورة بالعهدة أو الشروط العمرية. يتبين مِن هذه القراءة مدى تحكم مزاجية الخلفاء والولاة في تفسير أو تأويل النُّصوص القرآنية والأحاديث النَّبوية بشأن أهل الكتاب.
مع أن هؤلاء تطلعوا إلى معاملة أفضل مِن معاملة العهد السَّاساني؛ فوجدوا في الإسلام ما يكفل لهم حريتهم الدِّينية، وشاركوا في الدَّولة عبر الاهتمام بالعلوم وفي مقدمتها الطِّب، الذي يحتاجه الخليفة ويبذل لطبيبه ما يشاء، فالأَمر يتعلق في حياته. لذا جلبت مهنة الطِّب، الكثير مِن المنافع لأَهل الذِّمة، حتى شعر بعض الفقهاء والمحتسبين المسلمين بأهمية هذه العلوم، التي حمت أهل الذِّمة مِن هيمنتهم الفقهية، فنصحوا المسلمين بتعلمها.
بعدها يأتي الخوض، الفصل الخامس والأخير مِن الجزء الأول، في الدِّيانة البابية والبهائية، وهي ديانة أعَقبت الإسلام، وإن ظهرت مِن تحت عباءته إلا أنها انشطرت بعقائد خاصة، ولها كتاب مقدس، وقصتها طويلة بالعِراق، حيث أُعلنت ديانة ببغداد، وبعدها توسعت شرقاً وغرباً. تعتقد أنها أتت للتَّجديد وما يُلائم روح العصر.
بعد أن شغلت كتاباً خاصاً بها هو كتاب «حروف حي» نشرناه مِن قبل، ونحن نعتبر هذه الدِّيانة مِن ديانات العراق، مع قلة عددها، لأن مبدأ الأكثرية والأقلية لا يعني شيئاً في دراستنا، فقد اعتمدنا الأُصول والجذور داخل العراق سواء قلَّ أهل تلك الدِّيانة أو كثروا.
أُعلنت البهائية ببغداد في القرن التَّاسع عشر كديانة، وتركت كعبة لها بمحلة شيخ بشار بالكرخ، ذلك المكان الذي وصلت قضية التَّنازع عليه إلى عصبة الأمم عن طريق بهائيي العالم. لقد تعرض البهائيون لاضطهاد منظم، من قبل، فكان يحكم على البابي أو البهائي بالإعدام، وحرم وجودهم بقوانين معلنة، وأُسقطت عنهم الجنسية العراقية. لكنهم نشطوا مِن جديد بالعراق قُبيل سقوط النِّظام وانشغاله في أمنه الخاص، ولهم أتباع عديدون يتزايدون بشكل ملحوظ. هذا، وقد لا تتوقف الإضافات والتعديلات في موضوع متشعب مثل موضوع الأديان والمذاهب.
أما الجزء الثَّاني من الكتاب فشمل فصله الأول الشِّيعة، وما تقديم دراسة الشِّيعة على بقية المذاهب الإسلامية إلا مِن النَّاحية الزَّمنية؛ لا لأمر آخر. فهو المذهب الذي بدأ يتبلور سياسياً إثر مؤتمر سقيفة بني ساعدة (11هـ)، ثم في معركة الجمل (36 هـ) فصفين (37هـ)، كموقف أو اصطفاف سياسي لا فقهي وعقائدي، ولا يؤخذ بجدية ما ذهب إليه إخباريو ومؤرخو التَّشيع من أن النَّبي محمَّداً كان المؤسس الأول للشِّيعة، وهذا ما يدعيه معظم المذاهب الفقهية والفكرية أيضاً. فالحنفيون أتوا بأحاديث نبوية لتصديق رواية تنبُّؤ النَّبي بظهور الإمام أبي حنيفة النُّعمان (ت 150هـ)، وكذلك فعل الشَّافعيون والمعتزلة مع أئمتهم ورؤسائهم، بل تطرف الحنابلة حين جعلوا الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) مِن السَّلالة النَّبوية، وأنه بايع الله تعالى بمكة.
لا أجد في أمر تأسيس المذهب الشِّيعي غير تأييد القول: إن التَّشيع سبق المذاهب الأُخر بعد تبلوره مذهباً سياسياً حول مسألة الإمامة، وظل في المعارضة زمن الخلافتين الأُموية والعباسية، واستقل في القرن الثالث الهجري بمقالاته الفقهية، ورواياته التَّاريخية المنسوبة دائماً إلى الأئمة، وعلى وجه الخصوص الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ)، لذا عرفت الإمامية بالجعفرية أيضاً في ما بعد. وقصدنا من تثبيت عنوان الفصل تحت عنوان الشِّيعة، لا المذهب الشِّيعي، لأن الشِّيعة حركة سياسية واجتماعية ومذهب فقهي معاً، ومصطلح الحركة يستغرق المذهب.
ضم الجزء الثَّاني أيضاً ثلاثة مذاهب سُنَّية: الفصل الثَّاني: المذهب الحنفي، والثَّالث: المذهب الشَّافعي، أما الحنابلة فاختص فيها الفصل الرَّابع، ومن النَّاحية التَّاريخية لم يعترف بهذه الجماعة، في البدايات، كمذهب فقهي، بقدر ما بدؤوا كحركة تصدت لمقالتي «خلق القرآن» و«نفي الصِّفات» عن الذَّات الإلهية. وكان انتشارها بين العامة ببغداد لتعلقها المباشر بالنُّصوص التي –عادة- لها تأثيرها المباشر في عقول البسطاء، وهي أقرب إلى السِّياسة مِن الفقه، فاعتمدها الخلفاء، مثل جعفر المتوكل، لمواجهة الخصوم، ولم تستمر بعد تبلورها إلى مذهب فقهي بالعراق إلا بحدود ضيقة، مع كثرة صخبها ببغداد العباسية.
أما الفصل الخامس من الجزء الثَّاني فاختص بالسلفية بالعراق، فهي عالم آخر، تشابكت داخلها المذاهب السُّنَّية، ونجد لها اختلافها عن السلفية، ومنها ظهر الحراك السياسي الديني السلفي، وقد أتينا على أبرز رموزها مِن العلماء في بداية القرن العشرين. شمل الفصل فقرة مهمة خاصة بالحملة الإيمانية الكبرى، التي طبقها النِّظام العراقي السَّابق، بإعلان حالة التدين العامة على الدولة، وذلك لامتصاص المد الدِّيني السِّياسي من جهة، ومن جهة أخرى للتأثير على المجتمع، وقد انتفعت التَّنظيمات الإسلامية كافة منها، فالعمل صار مكشوفاً تحت ستار الدِّين.
لم يتصدَ الكتاب لدراسة المذهب المالكي نسبة للإمام مالك بن أَنس (ت 179هـ)؛ لأن هذا المذهب لم يكن مذهب العراقيين بقدر ما كان مذهباً للوافدين مِن العلماء، ولم يستقر كمذهب بين العراقيين([10])، وردوا بغداد للدراسة أو التَّدريس في مدارسها الفقهية. ومع ذلك كان للمالكية كرسي خاص في المدرسة المستنصرية، أسوة بالمذاهب السُّنِّية الثَّلاثة الأُخر، وسنتعرض بالإشارة إلى وجود نسبة قليلة جداً مِن المتعبدين بالمذهب المالكي كآل السَّعدون، النازحين مِن الجزيرة العربية إلى جنوب العِراق، في القرن الثَّامن عشر.
إن تدريس المذهب المذكور، على الرغم من عدم وجود أتباع له، يتعلق بدولية بغداد آنذاك، فهي عاصمة إمبراطورية شاسعة، تتسع لشمال أفريقيا المالكية أيضاً. وكان معظم الدَّارسين على هذا المذهب مِن المصريين والمغاربة. تاريخياً نشأ المذهب المالكي بالحجاز نقيضاً لمذهب الرَّأي بالعراق. أما لماذا للمذهب الشَّافعي مكانة كبيرة، وخصوصاً في غرب وشمال العراق وقد نشأ في مكان آخر؟ فلعلَّ الأمر يتعلق بتوسطه بين الرَّأي والحديث، مِن جهة، ومِن جهة أخرى وجود تلامذة للشَّافعي ببغداد، ثم تبنيه رسمياً مِن قبل السَّلاجقة، والأتابكة.
لقد منعت الدَّولة العباسية، أو تمنعت الطَّائفة نفسها، أن يكون للمذهب الجعفري كرسي في المستنصرية، على الرَّغم مِن أن أتباعه لا يقلون عدداً عن المذاهب الثَّلاثة من غير المذهب المالكي، والإشكال الأول هو اعتماده الإمامة أصلاً من الأُصول، وهو ما يتعارض كلية مع عقيدة الدولة العباسية في هذا الأمر.
فإذا قيل: إن لهذا المذهب مدارسه الخاصة واختلافه الكلي عن المذاهب الأربعة؛ فللمذهبين الحنفي والشَّافعي، كلٌّ على حدة، مدارسهما الخاصة والمغلقة لأتباعهما ببغداد وواسط والموصل وبقية المدن، وأن الاختلاف بين الحنفية مِن جهة والشَّافعية والمالكية مِن جهة أخرى ليس بالقليل، حتى إن أحد القضاة الحنفيين تمنى أن تؤخذ الجزية من الشَّافعيين، و صفحات التَّاريخ ملأى بأخبار المعارك بين المذهبين. لكن هذا بطبيعة الحال اختلاف في الفروع لا الأُصول، مثلما هو الحال بين الشِّيعة من جهة، ومذاهب السُّنَّة من جهة أخرى.
عنى الجزء الثَّالث، الفصل الأول مِن الكتاب، بدراسة مذهب الإمامية- الشَّيخية الأحسائية، أو جماعة الشَّيخية، مثلما شاعت عنها التَّسمية، وهي أحد انشطارات الشِّيعة الإمامية، لها حضورها الحالي بالعِراق والكويت ومناطق أُخر، وليس لنا قراءتها مع قراءة الشِّيعة الإمامية، فعلى الرَّغم من أنها إمامية لكن تفردت بمقالات، وتعتبر نفسها ذاتاً مستقلة مِن ناحية مرجعيتها الدِّينية وحوزتها العلمية، وإن إدراجها في الثَّالث جاء على أساس زمني لا أكثر.
كذلك عنى الجزء الثَّالث في فصله الثاني بكا كه يي، ويصعب بمكان إخراج هذه الجماعة عن التأثير الإسلامي المباشر، وبتقديس شخصيات مسلمة، مثل الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)، مع أنها سائرة نحو التَّمايز الواضح لتكون ديناً خاصاً، لكنَّ سرية الجماعة وانغلاقها على نفسها جعلت الأقاويل تكثر حولها، ومع ذلك تمكنا بمساعدة دراسات جامعية حولها واللقاء بأحد أهم مثقفيها ومثقفي العراق؛ أن نسلط الضوء على تاريخها وعقائدها.
في الفصل الثَّالث مِن الجزء الثَّالث نقدم قراءة في فرقة أو مذهب أهل حه قه، وهم غير كا كه يي، الذين يعرفون في بعض المناطق بأهل الحق أيضاً، ثم لحقناه بالفصل الرَّابع المختص بالمشيخة البارزانية ومِن الطريقة النَّقشبندية تحديداً، وتشابها بالأهداف والنزعات واختلفا بالأساليب، ولعدم وجود المصادر المكتبية عن حه قه، قمنا بزيارتهم والمكوث بينهم لبعض الوقت، وتعرفنا عليهم عن قرب، وتمكنا مِن اللقاء ببعض مثقفيهم العارفين بأمرهم. لهذه الجماعة تقاليدها الخاصة، التي بدأت تتضح ما بعد 1920 بتقاليد اجتماعية تخص العدالة والموقف الإيجابي مِن النِّساء، وممارسة الاحتجاج السِّلمي في مطالبة السُّلطات، واعتبار العبادة شأناً خاصاً فالأهم هو الإيمان والعدالة. أما المشيخة البارزانية فقد واجهتنا نزرة في المصادر التي اهتمت بعقائدها، لأن تاريخها السياسي شغل حيزاً كبيراً مِن تاريخ الكُرد وكردستان وتاريخ العراق أيضاً.
مع الإقرار بأن الشَّبك لا دين ولا فرقة، لا على أنماط إلهية ولا صوفية مثلاً، وإنما مثل غيرها مِن القبائل العراقية أو الجماعات المسلمة، توزع أهلها على مذهبي الشِّيعة والسُّنَّة، إلا أنها حظيت بالفصل الخامس وهو الأخير مِن الجزء الثَّالث، ذلك لمناقشة ما جرى تداوله مِن معلومات خاطئة حولها. منها ما كتبه أحمد حامد الصراف (ت 1985) في كتابه «الشَّبك»، والأب أنستاس الكرملي (ت 1947)، الذي عدَّهم في الإحصاء الحكومي جمعاً مع الأيزيديين، وإن اختلاق فرقة أو مذهب ديني باسم الشَّبك يذكر كثيراً باختلاق تاريخ مقالات لفرقتي السَّبائية والكيسانية على يد الإخباريين، مستوحاة بالنِّسبة للأخيرة مِن قصائد الشَّاعرين كثير عزة والسيَّد الحميري. ومَن يسمع مِن الشَّبكيين أنفسهم سيجد شيعيتهم شيعية العراقيين الآخرين وسنَّيتهم شافعية ضمن المحيط الكردي العراقي.
استثنى الكتاب الطُّرق والتكايا الصُّوفية، ما عدا المرور السَّريع على طرق التَّصوف بالسُّليمانية، وما خصصنا مِن فصلين لحركة «حه قه» والمشيخة «البارزانية»، عبر لقاءات مباشرة وسريعة ببعض شيوخ الطَّريقتين الرئيسيتين (النَّقشبندية والقادرية الكزنزانية). تمت أثناء زيارة المنطقة (أكتوبر/تشرين الأول 2000). والسَّبب أن التَّصوف لم يشكل ديانةً أو مذهباً قائماً بذاته، وإنما الطَّريقة الصُّوفية ببغداد أو السُّليمانية، أو في أي بقعة أخرى مِن العراق، تتبع المذهب السَّائد فيها. لم يبق التَّصوف محصوراً في المذهب الشَّافعي، فللشِّيعة صوفيتهم أيضاً، مثالها الحروفية والقزلباشية والقلم حاجية المنتشرة بمندلي سابقاً، وبالتَّالي فالطَّريقة الصُّوفية ممارسة طقسية ليس لها كيان المذهب.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن التَّصوف كظاهرة اجتماعية وفكرية ودينية متشعبة ومتداخلة في الحياة العامة، غير محصورة في الإسلام، تدخل فيها حياة الرُّهبان، وعزلة الأديرة المسيحية، وحياة شيوخ الصَّابئة المندائيين، وزهاد اليهود المعروفين بالقبالة، فلا يكفي البحـث فـي تاريخـها وطبيعتها فصـل مـِن فصـول الكتاب بقدر مـا تحتاج إلـى كتـاب خاص بها.
لعلَّ سائلاً يسأل: ماذا عن الدِّيانة الزَّرادشتية، لمَ لا تُعد مع الدِّيانات العراقية؟ وقد وجدَ أتباعها بإقليم كردستان، حتى تقدموا بطلب إلى وزارة الأوقاف والشُّؤون الدِّينية لتسجيل ديانتهم ضمن ديانات المنطقة، والحصول على إجازة رسمية تتيح لهم الوجود والنَّشاط الدِّيني كي يضمنوا الحقوق، ويعترف لهم بالوجود بشكل مشروع، وصار لهم مجلس يدعى «مجلس الزَّرادشتيين بكردستان- العِراق»، وكان قد تأسس لهم مجلس عام خارج العراق (2006)، انبثقت منه منظمة «زند» الزَّرادشتية، وهاهم يعلنون عن مجلسهم الأعلى داخل الإقليم (19 أبريل/ نيسان 2015) ([11]).
وعذرنا في عدم ضم هذه الدِّيانة إلى الكتاب، أن ليس لدينا معلومات عن الانتشار وأماكن العبادة، وما يخص العدد، وتاريخ الوجود الجديد، فما نعلمه أن هذه الدِّيانة قد انحسرت كلياً مِن الأراضي العراقية، ولم يبق مَن يعلن صراحة نفسه زرادشتياً وذلك بعد دخول الإسلام وانتشاره، وليس بأيدينا غير تصريحات إعلامية، لا تكفي أن يُنشأ فصل لها في الكتاب. وأتذكر أنني التقيت بعض الزَّرادشتيين بأربيل (العام 2007)، وكانوا مِن المتحولين الجدد، على أنها ديانة المنطقة قديماً.
من دون إغفال ذكرهم في الدَّليل العراقي الملكي والجمهوري بالاسم، فقد جاء في الدَّليل الرَّسمي العراقي لعام 1936 الآتي: «وفي العراق مسلمون ومسيحيون وإسرائيليون ويزيديون وصابئة وعدد قليل مِن البهائية والمجوس (يقصد زرادشتيين) والحرية الدِّينية مكفولة بالدّستور العراقي، ومضمونة بالعقد الاجتماعي الذي احترمه العراقيون من أقدم الأزمنة إلى اليوم، فيقوم الجامع إلى جانب الكنيسة والمعبد ويمتزج صوت المؤذن بالنَّاقوس والتسبيح والترتيل، وشعارهم الدِّين لله والوطن للجميع…»([12]).
كذلك ورد في الدِّليل العراقي لسنة 1960: «وفي العراق مسلمون وهم ذوو الأكثرية الغالبة، الذين تدين حكومة الجمهورية رسمياً بدينهم، ونصارى (مسيحيون/ التوضيح في الأصل) ويهود ويزيديون وصابئون، وأعداد قليلة مِن البابيين (البهائية/ التوضيح في الأصل) ومجوس زرادشتيون، وشبكيون، وصارليون، وكاكائيون، ونصيريون، والحرية الدِّينية مضمونة بدستور الجمهورية العراقية المؤقت، ومكفول لها بالتَّوالف والعرف الاجتماعي الذي احترمه العراقيون منذ أقدم الأزمنة»([13]).
إلا أننا نعتقد أن ما جاء في التقرير (توزيع العراقيين حسب أديانهم ووفق إحصاء 1977) الملحق بالجزء الثَّالث مِن الكتاب عبّر عن الزَّرادشتية أو المجوس وعن الكاكائية، وربَّما الشَّبك أيضاً، بعبارة «غير المبين» و»أخرى» مثلما سنرى في جداول التقرير، لأن هذه الجماعات لم يذكروا بالأسماء في الخانات المخصصة لاسم الدِّيانة.
وجدنا مِن الفائدة إلحاق تقرير مديرية الأمن العامة بالموسوعة، الذي صدر بنسخ محدودة التَّوزيع، الذي اعتمد إحصاء 1977 وهو آخر إحصاء عراقي شامل، على إحصاءات لمختلف الأديان وفي جميع المحافظات، موزعة على القوميات العراقية، مع الإشارة إلى تطور النمو بين أهل الأديان العراقية من الإحصاء الأساس (1947) عبر إحصاءات: (1957)، (1965) و(1977). ولا يتضمن التقرير إشارة إلى المذاهب الإسلامية منها والمسيحية. وربما كان العذر الظَّاهر هو عدم تشجيع الطَّائفية.
لكن وجود المذاهب بين المسلمين والمسيحيين واقع لا يمكن نفيه، والإحصاءات العلمية، بما يفيد البحث وتسجيل التاريخ، لا تعني الطَّائفية بمكان. وكم تبدو هذه الحجة ضعيفة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مثل هذه الإحصاءات غائبة منذ الإحصاء الرسمي الأساس (1947) والطَّائفية تمارس بشكل ملحوظ، وكل مذهب ظل محتفظاً بما لديه من أتباع وعقائد. إلا أن هناك مَنْ يشير إلى حذر رسمي، في مختلف عهود الدولة العراقية، من قيد الإحصاء المذهبي لأن النتيجة قد لا تسر الحاكمين، كذلك اعتمدنا في إحصاءات المسيحيين الإحصاء الكنسي.
واللافت للنظر، في هذا التقرير، أنه اعتبر معظم الأيزيديين عرباً، وكذلك الصَّابئة المندائيين، وربما كان هذا خلاف الواقع، فلغة الأيزيديين الكردية القديمة، ولغة الصَّابئة المندائيين الدينية هي الآرامية، وهي تجمع بين الإثنية والدِّيانة. كذلك أشار إلى ظاهرة التَّداخل الدِّيني والقومي، كوجود مسلمين مِن السِّريان والأَرمن، وصابئة مِن السِّريان، ويهود ومسيحيين مِن الأكراد، ومسيحيين مِن الأكراد الفيلية، وأيزيديين من السِّريان، ومسيحيين تركمان. فمن العجائب أن هناك صابئة وأيزيدية تركمان.
لم يتسع كتابنا هذا للأديان والمذاهب القديمة، سومرية وبابلية وآشورية ومانوية، من التي لم يبق لها أثر غير متعلقاتها في أديان أُخر، مثل المندائية والأَيزيدية، مع تأثيرها التَّاريخي على أديان العراق كافة. ذلك أن تلك الأَديان قد بحثت كثيراً وصدرت فيها مؤلفات عديدة، ولا أجد لديّ ما يُضاف إلى دراسات علماء وباحثين عراقيين وأجانب، وما ظهر مِن دراسات جديدة قد لا تتعدى جهود طه باقر (ت 1984)، وصموئيل نوح كريمر، وفوزي رشيد (ت 2011) وفاضل عبد الواحد وسواهم. كذلك ما تحتاج إليه تلك الدِّراسات مِن اختصاص آثاري ومعرفة في اللُّغات القديمة، وهذا ما لا ندعيه.
في الختام وجب الشّكر والتَّقدير لمَن زودني بمعلومة أو أوصلني إلى رواية أو سهل وصولي إلى جماعة دينية، وهم التالية أسماؤهم حسب الحروف الأبجدية:
المطران أندراوس أبونا (ت 2010)، زودني مشكوراً بما يخص القوانين العثمانية تجاه المسيحيين واليهود بالعراق، برهم صالح رئيس وزراء إقليم كردستان- العراق السابق سهل لي مشكوراً الوصول إلى قرى الحه قه، حيث اعتزل بهاء الله بسركلو، الأب ألبير أبونا أفادني بإجابات عن استفساراتي وأهداني مؤلفاته الخاصة بالأديرة وتاريخ المسيحية، الإعلامي والكاتب تركي الدِّخيل الذي سهل طبع الكتاب وأعطى الأولوية لصدوره بهذه السرعة وبالمواصفات التي طلبتها، وكذلك فعل مع بقية كتبي، الشبكي حاتم عبد الله زبير الذي زودني بمعلومات قيمة عن قومه واختلاف المذاهب بينهم، الصحافي والكاتب حسن العلوي (عملت معه 2000-2004) وترك لي حرية الالتزام بالعمل مِن أجل إتمام البحث، الكاتب والسياسي حسقيل قوجمان أفادني بشهادة حية عن اليهود والحزب الشيوعي العراقي، الشيخ حسين المطوع أجابني عن استفساراتي وزودني بمؤلفات الأحيائية الشيخية بالكويت، الناشط البهائي حسين قاسم حداد أجاب عن استفساراتي وزودني بصور طبق الأصل عن القوانين العراقية التي خصت ديانته البهائية.
الكاكائي رجب عاصي كريم، فحص معي ما ورد عن بعض المسائل لدى قومه، الباحث سعود السَّرحان زودني وسهل لي استخدام مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدِّراسات الإسلامية بالرياض، الأديب سلطان العميمي السباق إلى توفير ما يصعب عليَّ من مصادر عبر الإنترنيت. الشَّيخ ريش أمة المندائيين عبد الله نجم زهرون (ت 2010) ساعدني في فهم تقاليد المندائيين الدِّينية ووضح ما غمض عليّ مِن كتابهم المقدس «كنزا ربا»، الكاتب والسِّياسي عبد الرَّزاق الصَّافي زودني بأعداد «اتحاد الشعب» (1960) وأجاب عن استفساراتي بخصوص ما يتعلق بين المرجعية والشيوعيين، الشخصية البهائية عبد الرَّزاق العبايجي زودني بتفاصيل مراجعات البهائيين بعد 2003 وبالكتب الرسمية الخاصة بالكعبة البهائية، المحامي عدي تقي القزويني لإعانته في الحصول على مصدر مهم جداً للكتاب. الشَّيخ عيسى الخاقاني استفسرته عن الصلات بين المرجعية والشَّيخية وكيف ينظر إليها بعين إمامية حاضرة، الإعلامي والسياسي فخري كريم سهل لي الوصول إلى الأيزيديين قبل سقوط النِّظام السابق بسنوات فزرت معبد لالش ومركزهم بدهوك، وعلى مشاهدتي بنيت الفصل الخاص بالأيزيديين، الأديب فلك الدِّين كاكائي (ت 2013) نورني بشرح دقيق عن تاريخ الكاكائية بما يختلف عن النَّظرة النمطية.
الصحافي الشَّاب كرزان حميد وفرَّ لي ما صعب الحصول عليه مِن مصادر بإقليم كردستان العراق، النَّاشطة في شأن المرأة مارغريت جورج (كاترين) لتزويدها إياي بنسخة تقرير دائرة الأمن العراقي الخاص بإحصاء الديانات، الشَّبكي محمد إبراهيم علي الذي نورني بالتعايش الديني والمذهبي بين قومه والأقوام المحيطين، الكاتب محمد يوسف حريري ساعدني بترجمات النصوص الكردية شفاهية وتحريراً، الشّيخ مصطفى العسكري سليل مشايخ حه قه زودني بما ينقصني عن هذه الجماعة، وزير العدل الأسبق هاشم الشِّبلي فتح لي باب التعرف على قضية البهائيين وما حصل لهم بعد 2003. صاحب مؤسسة «العرب» وموقع ميدليس أون لاين هيثم الزُّبيدي الذي أعمل معه منذ (2012) ترك لي حرية الالتزام بالعمل من أجل البحث، هذا وأعتذر لمن فاتني ذكر فضله.
[1] شكوى رجال دين مندائيين أذاعها راديو سوا، راجع الرابط، 17 أغسطس (آب) 2011:
http://hannani42.yoo7.com/t31311-topic
[2] انظر تصريح السيد مقتدى الصَّدر للسومرية نيوز بتاريخ: 22 سبتمبر (أيلول) 2011 على الرابط:
http://www.alsumaria.tv/ar/Iraq-News/1-68762-.html
[3] مجلة آفاق مندائية، بغداد، العدد 26 السنة 2004.
[4] الحصري، مذكراتي في العراق1 ص342.
[5] المصدر نفسه1 ص343.
[6] عبادة، كتاب مندائي أو الصَّابئة الأقدمين، ص46.
[7] عادل دشر، الصَّابئة اليوم، آفاق مندائية، بغداد السنة الخامسة، مايو (أيار) 2000، عن الجريدة الرَّسمية العراقية.
[8] كتاب دراشة إد يهيا، ص96.
[9] برنجي، الصَّابئة المندائيون، ص23، مِن كلمة بقلم سالم الجحيلي، وكنت التقيته في أحد طقوس التعميد المندائي، وسمعتُ منه.
[10] فهد، تاريخ العراق في العصر العباسي الأخير، ص 433.
[11] تقرير نُشر في محتلف وسائل الإعلام، ووثقناه عن صحيفة الصَّباح الجديد البغدادية، العدد (3128) والمؤرخ في الخامس مِن مايو (أيار) 2015 الصفحة الخامسة.
[12] الدليل الرَّسمي العِراقي، لسنة 1936 وزارة الدَّاخلية، فصل: الطَّوائف العراقية، ص722.
[13] دليل الجمهورية العِراقية لسنة 1960، أنثروبولوجية سكان العراق، وزارة الإرشاد، ص421.