يشهد النظام الدولي حالة من المخاض بعدما اتجهت روسيا لإعادة تموضعها مرة أخرى كقطب جديد منافس للولايات المتحدة، بعد أن تراجعت مكانتها عقب انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، فالأزمة الأوكرانية تشكل تنافساً جديداً بين القوة العظمى (الولايات المتحدة الأميركية) والقوة المتطلعة كي تكون عظمى (روسيا)، وهو التنافس الذي سيكون له تبعات تؤثر على العالم ككل، لا سيما الدول الأفريقية، التي شهدت علاقاتها مع روسيا أخيرًا تطوراً كبيراً على كافة الأصعدة.
من هنا نطرح تساؤلات حول انعكاسات الأزمة على التوجه الروسي للدول الأفريقية، خاصة في ظل ارتكاز علاقات الطرفين على الجانبين الاقتصادي والعسكري، بالتزامن مع فرض الغرب عقوبات اقتصادية على موسكو.
وهل تمثل الحرب الأوكرانية- الروسية، وما أحرزته موسكو من تقدم، إنذاراً للغرب كي يعيد ترتيب أوراقه فيما يتعلق بعلاقاته مع أفريقيا، والعمل على تحجيم النفوذ الروسي عبر تطويق وحصار توسعاتها بالقارة، خاصة وأن روسيا أصبحت خلال الأعوام الأخيرة البديل الأفضل للدول الأفريقية، مقابل تراجع الدور الغربي والأميركي؟
أولا: ماذا وراء الهجمات العسكرية الروسية تجاه أوكرانيا؟
مرت الأزمة الروسية- الأوكرانية بفصول عدة على مدار السنوات الماضية، اتسمت العلاقة خلالها بين الدولتين بحالة من التوتر وتراشق للتهديدات والتصريحات، ووصل الوضع أقصاه فجر 24 فبراير (شباط) 2022 بعد أن بدأت روسيا عملية عسكرية شاملة على إقليم دونباس، لتنجح القوات الروسية في السيطرة على الإقليم، وبدأت في التوغل داخل الأراضي الأوكرانية، حيث باتت على مشارف العاصمة كييف[1].
فالمواجهات الروسية- الأوكرانية الأخيرة تشكل فصلًا جديدًا من فصول الحرب بالوكالة بين موسكو من جهة وواشنطن والغرب من جهة أخرى، فالغرب قدم وعوداً لكل من أوكرانيا وجورجيا بالانضمام لحلف الناتو على خلفية قمة بوخارست 2008، مما يمثل تهديداً لروسيا نتيجة للتوسع في العمق الاستراتيجي والحيوي لها، الأمر الذي دفع بها أواخر 2021 للتقدم بطلب ضمانات عبر مسودة تم تقديمها للناتو وأخرى لواشنطن كانت أبرز بنودها[2]:
- عدم تطويق موسكو من الناتو عبر الدول الملاصقة للحدود الروسية الشرقية، وسحب أي عناصر موجودة في الوقت الراهن.
- منع نشر أي منصات صاروخية أو أسلحة نووية للولايات المتحدة في أوروبا.
ومع ذلك كان الرد الغربي والأميركي متجاهلًا للمطالب الروسية، في حين تعمدت أوكرانيا التصعيد ضد جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المنفصلتين، وقامت بتعزيز الوجود العسكري على الحدود، الأمر الذي دفع روسيا لبدء عمليات الإنزال البري والبحري من جميع الجهات فجر يوم 24 فبراير (شباط)، حيث تحركت أطقم دبابات عبر بيلاروسيا شمالًا، وأخرى غربًا من الداخل الروسي، كما تمت عمليات الإنزال البحري عبر بحر أزوف والقرم لتسفر تلك العملية عن انهيار المنظومات الدفاعية الأوكرانية.
وبالتوازي شرعت موسكو في إطلاق صواريخ داخل عمق العاصمة لاستهداف البنى التحتية، كما أدت السيطرة الروسية البحرية بجانب استقطاب الانفصاليين في إقليم دونباس إلى منع وصول التعزيزات والمساعدة للجيش الأوكراني، مما ينذر باقتراب إنهاء تلك المعركة لصالح روسيا[3].
في المقابل بدأ الناتو تعزيز انتشاره في الدول الأعضاء تحسبًا لأي تهديد في حال صعدت موسكو هجومها، ووسعته ليشمل دولاً أوروبية أخرى تحت مظلته، ومع ذلك لم يصدر عن الغرب والبيت الأبيض أي تلويح باستخدام القوة العسكرية ضد روسيا، فجُل تصريحاتهم تضمن فقط تهديدات اقتصادية.
تحمل الهجمات العسكرية الروسية على أوكرانيا دلالة هامة، فموسكو تسعى لإعادة ثقل الاتحاد السوفيتي، وتغيير طبيعة النظام الدولي من كونه أحادي القطبية مرتكزاً على الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى منذ نهاية الحرب الباردة، وتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب أو على الأقل ثنائي القطبية، يرتكز على القوتين الروسية والأميركية.
وعزز من التطلعات الروسية للتوسع؛ النجاحات التي حققتها الخارجية الروسية في تطوير علاقاتها بالعديد من الدول المحورية، كالدول الأفريقية أثناء فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، مستغلة السياسة العبثية والعدائية التي اعتاد ترامب نهجها مع غالبية الدول، لتصبح روسيا البديل المفضل للدول الأفريقية خلفًا لأوروبا والولايات المتحدة.
وهنا نبقى أمام تساؤل وهو: أين القارة الأفريقية من تلك التطورات؟ وهل من انعكاسات للأزمة الروسية- الأوكرانية على الوضع داخل أفريقيا؟
فبمتابعة تطور العلاقات الروسية الأخيرة على مدار الخمس سنوات الأخيرة، نجد توجهاً روسياً قوياً ناحية القارة الأفريقية، سواء بشكل مباشر عبر التوقيع على الاتفاقيات المشتركة متعددة المستويات، أو بشكل غير مباشر عبر تمركز عدد من الشركات الأمنية في عدة دول أفريقية على رأسها مالي وأفريقيا الوسطى.
ويأتي التوسع الروسي على خلفية الانسحاب الغربي والأميركي بعد أن أحرز الجانبان نتائج محدودة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، مما دفع موسكو لملء هذا الفراغ واستعادة قوتها التوسعية.
وبالتزامن مع التطورات العسكرية الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، تثار عدة تساؤلات حول مستقبل الوجود الروسي في أفريقيا، وهل سيتأثر سلبًا بمجريات الأحداث شرق أوروبا؟ وهل ستدفع تلك التطورات الحالية الجانب الغربي خاصة فرنسا لإعادة ترتيب أوراقه بشأن سياسة باريس الخارجية إزاء أفريقيا، خاصة وأن تلك السياسة شهدت انحسارًا واضحًا برزت ملامحه في انسحاب القوات الفرنسية أواخر أغسطس (آب) 2021؟
ثانيا: أسباب تراجع النفوذ الغربي في أفريقيا
تتعامل أوروبا مع القارة الأفريقية منذ ما قبل مؤتمر برلين 1884 -الذي قُسمت خلاله القارة الأفريقية- باعتبارها منبع الثروات والظهير الاقتصادي لها، وعلى مدار تلك العقود عمد الغرب إلى استنزاف الموارد والثروات الطبيعية، والتدخل في شؤون دول القارة سواء بشكل مباشر أو عبر ذرائع تصنعها الدول الأوروبية.
ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تم تقنين الوجود العسكري الغربي والأميركي في أفريقيا تحت ذريعة مواجهة التنظيمات الجهادية، وكان لفرنسا النصيب الأكبر من الوجود والتغلغل في دول القارة خاصة منطقة الساحل والصحراء، وتجسد هذا الوجود بقوة عام 2013 مع قدوم قوة سرفال لمواجهة الطوارق في مالي، وفي 2014 أعيدت هيكلة تلك القوة لتضم (5) دول أخرى هي (بوركينا فاسو، وتشاد، ومالي، وموريتانيا، والنيجر) تحت لواء قوة برخان العسكرية المنوط بها التمركز بمنطقة الساحل للقضاء على التنظيمات الراديكالية.
وبعد مرور أكثر من ثماني سنوات فشلت القوة الفرنسية في تحقيق الهدف من وجودها، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سحب القوات في أغسطس (آب) 2021، بعد أن أصبح الوجود الفرنسي غير مرغوب فيه، بعد احتدام العلاقات بين السلطات الحاكمة في دول الساحل والقوات الفرنسية المتمركزة[4].
وتكبدت فرنسا خسائر اقتصادية كبرى؛ بسبب برخان العملية العسكرية الأكبر التي أطلقتها فرنسا خارج بلادها خلال التاريخ الحديث، حيث وصل عدد الجنود بتلك العملية عام 2019 لـ(4500) جندي، في حين تم نشر (600) جندي إضافي عام 2020، ليصل الإجمالي إلى (5100)[5].
وفي تقرير لصحيفة لاكسبريس الفرنسية ورد ارتفاع ميزانية العمليات العسكرية الفرنسية على الصعيدين الداخلي والخارجي خلال عام 2020 لأكثر من (60) مليون يورو مقارنة بعام 2019، بينما أفاد تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية بحجم الخسائر البشرية منذ قوة سرفال 2013 حيث قُتل أكثر من (8) آلاف شخص غالبيتهم من المدنيين و(500) جندي فرنسي، في حين وصل إجمالي النازحين لأكثر من مليون شخص[6].
وتتقاسم باريس وواشنطن أسباب الإخفاق في مواجهة الإرهاب، فقد مر التعاون الفرنسي- الأميركي داخل أفريقيا بتحديات عدة بلغت ذروتها خلال عهد الرئيس ترامب، بعد أن قرر تقليص المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى جانب سحب القوات الأميركية من الصومال، الأمر الذي أدى إلى تعقيد المشهد على القوات الفرنسية في أفريقيا، وزيادة أعباء المواجهة الأمنية، وبالتبعية زيادة التكلفة المالية اللازمة لتلك المواجهة.
في المقابل لم يكن هناك تكامل بين باريس وواشنطن، بل كانت هناك حالة من المنافسة الخفية، حيث شكلت الأسواق الأفريقية منافسة قوية بين المنتجين الأميركي والفرنسي، وقد نجحت الولايات المتحدة في إزاحة فرنسا من موقع الصدارة فيما يتعلق بالاستفادة الاقتصادية من الموارد والأسواق الأفريقية، من جهة أخرى كانت تسعى واشنطن للتمركز في المناطق الساحلية، والعمل على تأمين الممرات البحرية المتحكمة في حركة التجارة العالمية لخدمة مصالحها، لا لمساعدة القوات الفرنسية في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
لذا ساهمت عوامل عدة في فشل الدور الفرنسي وتراجع نفوذه أفريقيًا، ويمكن استعراض تلك العوامل على النحو التالي:
1ـ حالة الاستياء الشعبي: تسود في الدول الأفريقية حالة من الرفض الشعبي للعناصر الفرنسية على خلفية الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبوها بحق المدنيين، إلى جانب تفاقم الأوضاع الأمنية أكثر مما كان الوضع قبل مجيء القوات الفرنسية العسكرية، حيث وجهت العديد من الاتهامات لتلك القوات بالمساهمة في زيادة نفوذ وتمدد الجماعات الراديكالية، نتيجة لتركيز باريس على وضع آليات لكيفية استغلال ثروات الدول الأفريقية، والقيام بفرض إملاءات لها على الأنظمة الحاكمة، مما أدى لحالة من الصدام مع السلطات الأفريقية.
2ـ اعتماد القوات الفرنسية استراتيجية رد الفعل: فدائما ما تباغت الجماعات الإرهابية القوات الفرنسية، ومع الوقت أصبحت تلك الجماعات هي المتحكمة في فرض توقيت وموقع شن الهجوم، لذا يمكن تشبيه عملية برخان بعملية جز العشب، فهي لم تستطع اقتلاع جذور الإرهاب لكنها تقوم بعمليات سطحية، وسرعان ما تتمكن الجماعات من تجديد قواعدها، فدائما ما يكون هناك خليفة عندما يتم مقتل زعيم إحدى الجماعات، من جهة أخرى هناك مشكلات تتعلق بقوام الدولة الأفريقية تعزز من وضع الإرهابيين، وتمكنهم من استقطاب المزيد إلى صفوفهم، كالتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي للأقاليم البعيدة عن المركز، إلى جانب أزمة شخصنة السلطة وإهمال مؤسسات الدولة، مما أدى إلى ضعف البنية الهيكلية للمؤسسات الأمنية للدول الأفريقية، مما سهل المهمة على تلك الجماعات لاستقطاب المواطنين[7].
3ـ إهمال الجيوش الأفريقية: من خلال تجاهل الدول الأوروبية الجيوش الأفريقية، سواء عبر دعمها بالتكنولوجيا العسكرية الجديدة، أو على صعيد تقديم دورات وتدريبات عسكرية لتأهيلهم لمواجهة التنظيمات الإرهابية، فجاءت الانسحابات العسكرية الأوروبية والأميركية لتكشف هشاشة المؤسسات الأمنية غير القادرة على مواجهة التنظيمات الإرهابية، مما أفسح المجال لمزيد من التغلغل الراديكالي داخل دول القارة.
4ـ تغيرات في بنية النظام الدولي: حيث شهد النظام الدولي على مدار العقدين الماضيين صعوداً للاعبين جدد وبارزين على الساحة الدولية أبرزهم روسيا والصين وتركيا، حيث تمتلك تلك الدول تطلعات توسعية في القارة، برزت من خلال الاستثمارات وأوجه الشراكة الثنائية مع دول القارة، ومع الوقت أصبح لتلك الفواعل قبول وحالة من الرضاء الأفريقي إزاءهم.
فكل ما سبق هيأ المناخ لتصاعد الاهتمام الروسي بدول القارة، حيث أصبحت موسكو لاعباً رئيساً في دول شمال ووسط أفريقيا، وعمدت إلى تنويع مستويات تدخلها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لتتمكن خلال العقد الماضي من الاستحواذ على (49%) من الصادرات الدولية للسلاح إلى أفريقيا، كما برز الدور الروسي جليًا خلال الأزمة الليبية، وهو الأمر الذي أثار حفيظة باريس والغرب، ليثار تساؤل حول ما إذا كانت أفريقيا ستتحول إلى ساحة منافسة بين موسكو والغرب، كما هو الحال في الأراضي الأوكرانية حاليًا[8]؟
ثالثا: أدوات موسكو للتدخل في أفريقيا
تحظى القارة الأفريقية عمومًا، ومنطقة الساحل والصحراء خاصة بأهمية جيوسياسية، جعلتها محلاً لتنافس العديد من اللاعبين الدوليين وأبرزهم باريس وموسكو، ففرنسا تعتبر دول الساحل امتداداً تقليدياً، ومنطقة نفوذ لها منذ عقود عدة، واتضح ذلك جليًا من خلال التمركزات العسكرية والعلاقات السياسية مع دول القارة، كما استغلت باريس على مدار سنوات طويلة الكتلة التصويتية الأفريقية في المحافل الدولية لصالحها.
واقتصاديًا؛ تنظر فرنسا للدول الأفريقية باعتبارها السوق الأوسع لانتشار الصادرات الفرنسية، وأيضًا المصدر الرئيس للثروات الطبيعية.
في المقابل تسعى روسيا لاستعادة دورها عبر مزيد من التوسعات في المناطق الاستراتيجية الهامة في العالم، فعملت على استغلال إخفاقات الجانب الفرنسي في تنفيذ ما قدمه من وعود تتعلق بالقضاء على جذور الإرهاب من القارة، وحالة الاستياء الشعبي له، وهو ما يستدل عليه من اندلاع تظاهرات رافضة للوجود الفرنسي عام 2019 في دول عدة كمالي وبوركينافاسو وتشاد والنيجر، فبدأت استغلال الانسحابات الأميركية والغربية، واتجهت نحو ملء هذا الفراغ عبر تنويع أدواتها، على الصعيد السياسي.
فدبلوماسيًا؛ اتجهت لتعزيز علاقاتها عبر التوقيع على العديد من الاتفاقيات الثنائية والمعاهدات المشتركة مع دول القارة، واتجهت أيضا لدعم القادة الأفارقة، والفصائل السياسية المعارضة للوجود الفرنسي، كما حدث في دعمها للانقلاب الذي حدث بمالي، وأطاح بالرئيس أبي بكر كيتا الموالي للغرب، كذلك دعمها للرئيس الغيني ألفا كوندي، بعد إجرائه تعديلات دستورية تسمح له بالاستمرار في السلطة، بالرغم من التحذيرات الفرنسية الموجهة له بعدم إجراء تلك التعديلات.
في المقابل تدخلت موسكو عسكريًا بشكل غير مباشر بأفريقيا الوسطى عام 2018، عبر قوات من فاغنر لدعم حكومة الرئيس فوستان تواديرا الموالية لها، من جهة أخرى قامت بإرسال عدة مستشارين في قطاعات مختلفة للدول الأفريقية، وعمدت إلى تشكيل تحالفات مع قبائل مختلفة لضمان الحصول على الدعم الأفريقي الشامل لها[9].
فنجد -مثلاً- أن القمة الروسية الأفريقية التي تم عقدها لأول مرة في سوتشي بحضور (43) رئيس دولة أفريقية، تحمل دلالات عدة أبرزها الرغبة الأفريقية في تغيير نمط الاعتماد على الغرب والتوجه ناحية موسكو، حيث تم خلال تلك القمة التوقيع على عدة مذكرات تفاهم، بما في ذلك مذكرة تفاهم بين روسيا والاتحاد الأفريقي، وخلال تلك القمة دعا رئيس بوركينافاسو مارك كريستيان كابوري روسيا للمشاركة في قمة المنظمة الإقليمية لتجمع دول الساحل لمواجهة الإرهاب، بينما دعا الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني إلى تشكيل تكتل روسي- أفريقي لمواجهة التدخلات الخارجية.
أما على المستوى الاقتصادي؛ فبالرغم من امتلاك روسيا ثروات طائلة، فإن استيراد تلك العناصر من الخارج أقل تكلفة من استخراج ثروات البلاد، وقد كان ذلك ضمن محفزات التوجه الروسي للقارة الأفريقية، فعلى سبيل المثال، هناك مساعٍ روسية لتأسيس شراكات اقتصادية وتجارية مع دول الساحل والصحراء، فواردات الدول الأفريقية للمنتجات الروسية هي الأعلى بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضت على موسكو بعد أحداث القرم عام 2014، لتبلغ النسبة خلال عام 2018 أكثر من (20) مليار دولار[10].
وفي 2014 وقعت شركة روس أوبورن إكسبورت الروسية اتفاقيات شراكة مع عدة دول أفريقية، من بينها أنغولا ومالي ونيجيريا وغينيا الاستوائية، وتضمن عقود الشراكة بنوداً أخرى تتعلق بسبل مكافحة الإرهاب، ونشر الأمن للحفاظ على الاستثمارات الروسية[11]، من جهة أخرى دخلت مجموعة روستك الروسية في شراكة مع زيمبابوي لتطوير مشروع تعدين البلاتين، باستثمارات تبلغ قيمتها (3) مليارات دولار، وهو المشروع الاستثماري الأكبر في البلاد منذ استقلالها عام 1980.
بينما تنتشر نشاطات شركات الطاقة الروسية، كشركة غازبروم وروساتوم للاستثمار في قطاعات النفط والغاز والطاقة النووية، كما تم الاتفاق على بناء محطتين للطاقة النووية في نيجيريا[12].
أما على الصعيدين الأمني والعسكري؛ فنجد أن البعد العسكري هو المحدد الرئيس للعلاقة بين روسيا والدول الأفريقية، فعلى مدار السنوات القليلة الماضية وقعت موسكو ما يزيد على (30) اتفاقاً أمنياً وعسكرياً مع عدة دول أفريقية منها مالي، أفريقيا الوسطى، تشاد، بوركينافاسو، نيجيريا وغانا، وعزز من الدور الروسي في أفريقيا تدهور الأوضاع الأمنية، وتنامي التنظيمات الراديكالية، وتصاعد هجماتها الإرهابية[13].
ومع تضاؤل الدور الغربي أصبح هناك توجه أفريقي ناحية روسيا للحصول على خبرتها الأمنية من خلال استقدام مستشارين عسكريين، أو عبر عقد صفقات لشراء الأسلحة، فعلى سبيل المثال يعتمد الجيش التشادي في تسليحه على الصناعات العسكرية الروسية بنسبة (90%)، في حين تحتل روسيا نسبة (49%) من إجمالي صادرات السلاح لأفريقيا[14].
بالتوازي مع ذلك أبرمت شركة روس أوبورون إكسبورت خلال عام 2019 عدداً كبيراً من اتفاقيات التسلح مع دول مالي ونيجيريا وبوركينافاسو، وفي ديسمبر (كانون الأول) 2020 أبرمت موسكو مع السودان اتفاقية، بمقتضاها شرعت روسيا في تدشين قاعدة عسكرية خاصة بها، وهناك مشاريع تدرس لبناء قاعدة عسكرية روسية أيضا في أفريقيا الوسطى[15].
مما سبق نجد أن موسكو مصرة على ملء الفراغ الغربي، مستغلة حالة التوتر التي تتعرض لها فرنسا في الداخل، على ضوء الاعتراض الشعبي على تكلفة الحملات العسكرية الخارجية، إلى جانب تضاؤل المساندة الأوروبية لها، وأيضا تراجع الدور الأميركي بعد أن قلص وجوده في القارة الأفريقية، واكتفى بـ(10%) فقط من إجمالي القوات، إلى جانب حالة الغضب الأفريقي إزاء التمركزات الفرنسية التي أربكت المشهد العام، وفاقمت من التوترات الأمنية.
رابعًا: سيناريوهات الوضع الروسي في أفريقيا بعد العمليات العسكرية في أوكرانيا
لا يمكن فصل ما يحدث في أوكرانيا عما ستؤول إليه الأوضاع فيما يتعلق بالعلاقات الروسية- الأفريقية، أو الموقف الغربي والأميركي إزاء حالة الصعود التي تشهدها علاقة الطرفين، فروسيا تسعى للاستفادة من الأزمة الأوكرانية في إعادة تشكيل التوازن السياسي والعسكري مع الغرب وواشنطن، كما تسعى لإحداث تغيير في بنية النظام الدولي ليصبح متعدد الأقطاب، وقد نجحت موسكو حتى الآن في إثبات ذاتها عبر حماية الحدود الشرقية، ودحض أي أخطار يمكن أن تتشكل على الحدود كما حدث في أوكرانيا، كما نجحت أيضا في الساحة الأفريقية بعد أن أصبحت البديل لفرنسا والولايات المتحدة للدول الأفريقية.
وهنا يكمن التساؤل: فهل يستفيد الغرب مما يحدث في أوكرانيا، ويعيد ترتيب أوراقه فيما يتعلق بسياسته الخارجية إزاء الدول الأفريقية، خوفًا من أن يُقضى على نفوذهم بالقارة لصالح الوجود الروسي، خصوصًا في ظل النجاحات التي أحرزتها القيادة الروسية على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية؟ لنصبح بذلك أمام عدة سيناريوهات:
سيناريو توسع الدور الروسي: لا ننكر أن المنافسة الآن على أشدها بين موسكو وباريس، فروسيا ترغب في مزيد من التوسع داخل دول القارة الأفريقية، في المقابل تسعى فرنسا لاستعادة نفوذها، لا سيما بعد أن مُنيت محاولاتها لاسترداد أمن القارة، والقضاء على الجماعات الإرهابية بالفشل، وأصبح الوجود الفرنسي غير مرغوب فيه أفريقيًا، ومع ذلك تعكس المؤشرات الحالية صعوبة في تحقيق هذا الهدف.
فالدعم الأميركي والغربي شهد تراجعاً كبيراً، والتوترات الأمنية آخذة في التصاعد بالرغم من الضربات العسكرية التي نفذتها القوات الفرنسية ضد الجماعات الإرهابية، ووفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (سيدني) لعام 2020، تأتي الدول الأفريقية على رأس دول العالم تأثرًا بالعمليات الإرهابية، في حين صنف تنظيم “داعش” المتموضع حاليًا في شرق ووسط وغرب القارة بالتنظيم الأكثر خطورة خلال عامي 2019 و2020، مما يعني أن الوضع ازداد سوءًا في ظل الوجود الفرنسي.
في المقابل نجد أن الجانب الروسي عزز من دوره عبر تفعيل العديد من الأدوات، ووضع خطط تتناسب مع تطورات الأوضاع في أفريقيا، فقد عمد إلى تقديم الخدمات الأمنية والعسكرية، واستقطب لصفه الأنظمة المعادية للمعسكر الغربي، كما تمكن في الظل من عقد اتفاقيات بين الدول الأفريقية وشركة فاجنر الروسية لدعم بعض الأنظمة السياسية كالنظام في مالي وأفريقيا الوسطى، لذا يرجح هذا السيناريو عدم تأثر علاقات موسكو مع أفريقيا بالأزمة الأوكرانية، واستمرار العلاقات في مسيرتها التقدمية مع دول القارة.
سيناريو تأثر روسيا وتراجع دورها: يتمحور هذا السيناريو حول احتمالية تأثر روسيا بالهجمات العسكرية الحالية على أوكرانيا، نتيجة لمآلاتها على الاقتصاد الروسي، بعد أن فُرضت عقوبات اقتصادية كبيرة على روسيا، كما أن الحرب الدائرة ربما تؤثر حتى لو بنسبة بسيطة على القوة العسكرية الروسية، بما يجعلها من الصعب أن تنافس القوتين الغربية والأميركية في تقديم الدعم العسكري لأفريقيا.
وبالنظر إلى مفهوم السياسة الخارجية لروسيا الذي تم اعتماده عام 2016، نجد أنه غير محدد بشكل واضح، فنجد -مثلًا- أن موسكو تفتقد لاستراتيجية طويلة المدى ومحددة فيما يتعلق بعلاقاتها مع الدول الأفريقية، من جهة أخرى فإن القارة الأفريقية تعتمد منذ قرون طويلة على الدعم الغربي والأميركي وترتبط بقارة أوروبا بشكل وثيق، لذا ربما تعكس التحولات الحالية في توجهات الدول الأفريقية فترة مؤقتة، وعلاقات ظرفية لحين التوصل لمساومة معينة مع المعسكر الغربي، يستدل على ذلك من الاتفاق الموقع بين موسكو والسلطات السودانية عام 2020، والمعني بإنشاء قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان، فبعد عام من هذا الاتفاق وبعد رفع العقوبات الاقتصادية وعودة العلاقات مجددًا مع الغرب، أعلنت الخرطوم مراجعة الاتفاق مع روسيا مجددًا، لذا فالعلاقات القوية بين أفريقيا وموسكو ربما تكون مجرد علاقات ظرفية لحين التفاوض مع الغرب.
سيناريو المنافسة المحتدمة بين موسكو والغرب: ينصب هذا السيناريو حول تراجع الغرب وواشنطن عن حالة الإهمال التي تعاملوا بها مع الملفات الأفريقية على مدار الخمس سنوات الأخيرة، والتي أدت إلى تغلغل الوجود الروسي، والعمل على ترتيب الأوراق مجددًا لإعادة التمركز والانتشار من جديد في عموم القارة، في محاولة منهم لوقف التوسع الروسي، وخوفًا من تكرار السيناريو الأوكراني بزعم اتجاه موسكو لحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية مع الدول الأفريقية، في المقابل ستسعى روسيا إلى منافسة المعسكر الغربي بكافة الأدوات، لإثبات قوتها والحفاظ على ما حققته من إنجازات أثناء الفراغ الغربي والأميركي من أفريقيا.
مجمل القول: إن الدول الأفريقية ليست بمنأى عن تطورات الأحداث شرق أوروبا، فالتنافس الروسي الغربي هو الأقرب للتصاعد خلال السنوات المقبلة، وسيعزز من وتيرته رغبة القوى العظمى في حماية مصالحها، والحفاظ على ما حققته من نجاحات في القارة الأفريقية على مدار السنوات السابقة.
[1]– Nathan Hodge,Russia launches military attack on Ukraine with reports of explosions and troops crossing border, CNN,24/2/2022,available at: https://cutt.us/fSXLu
[2]– Steven Pifer,Russia’s draft agreements with NATO and the United States: Intended for rejection?, brookingsm21/12/2021, available at: https://cutt.us/4nhuZ
[3]– Ukraine conflict: Russian forces attack from three sides,BBC,25/2/2021,available at: https://cutt.us/wj76a
[4]– The G5 Sahel and the European Union :The challenges of security cooperation with a regional grouping, European parliament, available at: http://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/BRIE/2020/652074/EPRS_BRI(2020)652074_EN.pdf
[5]– France to send 600 more troops to Africa’s Sahel, france 24,2/2/2020,available at: https://cutt.us/K2vvs
[6]– Barkhane, Takuba, Sabre: French and European military missions in the Sahel,france24,16/2/2022, available at: https://www.france24.com/en/africa/20220216-barkhane-takuba-sabre-french-and-european-military-missions-in-the-sahel
[7]– سيدي أحمد ولد الأمير، عملية برخان العسكرية الفرنسية بالساحل: حدود النجاح وعوامل الإخفاق، مركز الجزيرة للدراسات، 16 فبراير (شباط) 2016، متاح على: https://cutt.us/9wqNx
[8]– Russian arms exports to Africa: Moscow’s long-term strategy, DW, available at: https://www.dw.com/en/russian-arms-exports-to-africa-moscows-long-term-strategy/a-53596471
[9]– د. حمدي عبدالرحمن، عودة الدب الروسي: روسيا وأفريقيا واقترابات القوة البديلة، مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، 30 أغسطس (آب) 2021، متاح على: https://cutt.us/UGXJv
[10]– المرجع السابق مباشرة.
[11]– Factbox: Russian military cooperation deals with African countries, reuters,17/10/2018, available at: https://www.reuters.com/article/uk-africa-russia-factbox-idINKCN1MR0KZ
[12]– د. حمدي عبدالرحمن، مرجع سبق ذكره.
[13]– د. حمدي عبدالرحمن، تمدد إرهابي: الساحل الأفريقي.. تعثر فرنسي وصعود روسي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 17 ديسمبر (كانون الأول) 2019، متاح على: https://cutt.us/QNaf8
[14]– المرجع السابق مباشرة.
[15]– With Base in Sudan, Russia Expands Its Military Reach in Africa,foreign policy,14/12/2020, available at: https://foreignpolicy.com/2020/12/14/russia-expands-military-reach-africa-navy-base-sudan/