د. هيثم مزاحم*
يعاني العالم العربي والإسلامي اليوم من مشكلة الصراعات الطائفية والمذهبية التي تعيق استقرار دوله وتقدم شعوبه فضلاً عن الخسائر البشرية والاقتصادية التي تصيبها نتيجة هذه الحروب الدينية.
لكن مشكلة الصراعات الطائفية ليست مقتصرة على العالم الإسلامي، بل هي مشكلة عانى منها -كذلك – الغرب المسيحي والشرق الهندي – الصيني ولا يزال.
ولم تعرف بعض دول أوروبا والقارة الأمريكية التسامح الديني بشكل مقبول إلا في نهاية القرن العشرين.
لكن دوافع هذا التسامح لم تكن دينية وأخلاقية، بل كانت سياسية واقتصادية في المقام الأول. فعلى سبيل المثال، وقع ملك فرنسا هنري الرابع، في 13 أبريل (نيسان) 1598، مرسوماً أعطى فيه البروتستانت الفرنسيين (الهوغونت) – في أمة سادت فيها الكاثوليكية – ضماناً بأنهم لن يضطهدوا بعد ذلك التاريخ بسبب معتقداتهم الدينية المنشقة عن الكاثوليكية والمخالفة لها، عرف بمرسوم نانت ( Nantes). مثلت هذه الوثيقة خطوة مهمة نحو حرية أكبر للاعتقاد في أوروبا، لكن هذه الوثيقة لم تدم طويلاً، فبعد أقل من قرن، أي في 1685 قام الملك لويس الرابع عشر بإلغاء المرسوم، ما نتج عنه الكثير من العنف ضد البروتستانت، وأدى ذلك إلى هجرة نحو (400) ألف من البروتستانت الفرنسيين إلى أجزاء مختلفة من أوروبا ومن المستعمرات البريطانية الأمريكية.
في المقابل، كانت بريطانيا تتحرك قدماً نحو الحرية الدينية، حيث أعلن الملك وليام أورانج قانون التسامح عام 1689، وهو ما شكل خطوة مهمة نحو التطبيق التدريجي للحرية الدينية في بريطانيا العظمى. لكن أسباب هذا التسامح الديني لم تكن فكرية، بل سياسية واقتصادية. فقد كان التوسع في الانشقاق عن الكنيسة البروتستانتية إلى كنائس جديدة كالمشيخية وطائفة تجديد التعميد والكويكرز (Quakers)[1] في القرن السابع عشر، قد جعل من الاضطهاد المستمر سياسة مكلفة وغير عملية، والجهود التي بذلت للحد من حريات الكاثوليك والبروتستانت المنشقين مطلع القرن الثامن عشر قد أنتجت حرباً داخلية طويلة الأمد أعاقت – بدورها – التقدم الاقتصادي، وجعلت من توحيد الجزيرة البريطانية مهمة عسيرة.
ولم يكن قانون التسامح الديني – فقط – رداً على الصراع الديني الذي مزق النسيج الإنجليزي، بل – أيضاً – رد فعل للتسامح الديني المتنامي في دولة مجاورة منافسة اقتصادياً لبريطانيا، هي هولندا. فالبروتستانت الهولنديون الذين عانوا الاضطهاد تحت حكم الملك الإسباني، ضمنوا أن تكون أديان الأقليات محمية، بعد أن نالت هولندا استقلالها عام 1579. وأدى ذلك إلى تسهيل تجارة هولندا مع الأمم الأخرى، من جهة، وفي تحوّلها ملاذاً للفرق الدينية الهاربة من الاضطهاد في إنجلترا، من جهة أخرى، وقد خسرت بذلك بريطانيا مواطنين مبدعين كسبتهم منافستها هولندا، مما جعل ذلك دافعاً آخر لصدور قانون التسامح البريطاني.
والمفارقة أن الفرق الدينية المنشقة التي قاتلت طويلاً من أجل التسامح الديني في إنجلترا، كان بعضها متردداً في توسيع التسامح ليشمل آخرين في المستعمرات الأمريكية. لكن مع بزوغ فجر استقلال الولايات المتحدة، ضغط صعود التعددية الدينية والتسامح على الجمعيات التشريعية لترجع عن أشكال الاضطهاد الديني. وفي 1786، أدت سلسلة من الحوارات الجدالية في الجمعية التشريعية لفرجينيا، إلى تمرير لائحة توماس جيفرسون من أجل تأسيس الحرية الدينية، وهو القانون الذي كان أنموذجاً للتعديل الأول لدستور الولايات المتحدة. بل إن الكاثوليك أنفسهم شهدوا تحسُّناً في مكانتهم القانونية والاجتماعية مع أواخر القرن الثامن عشر، بعدما كانوا يوصفون بـ “أتباع المسيح الدجال”، إذ بقي الكاثوليك حتى ذلك الوقت على لائحة الطوائف الدينية التي لم تلقَ إلا أقل تسامح معها وواجهت تمييزاً مستمراً طوال القرن التاسع عشر.
لكن الكاثوليك أصابوا نجاحاً أفضل في الجنوب في المستعمرات الإسبانية، ولو كان ذلك على حساب الحريات البروتستانتية، ومنحت الكاثوليكية الرومانية موقعاً حصرياً متميزاً في أمريكا اللاتينية الاستعمارية. وكان التاج الإسباني قد ضمن أن تكون الكاثوليكية – فقط – الدين المسموح به في مستعمراته، ومنح رجال الكنيسة أراضي واسعة ومعاملة قضائية متميزة في محاكم منفصلة. لكن الظروف تغيرت كثيراً في العقود التي تلت استقلال أمريكا اللاتينية. ففي منتصف القرن التاسع عشر جرى الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية من الأراضي، وألغيت حقوق رجال الدين في إجراء مراسم الزواج والجنازة، وألغيت المحاكم الكنسية، ووضع الكهنة تحت شريعة المحاكم المدنية. ومع بداية القرن العشرين، كانت بعض حكومات أمريكا اللاتينية تسمح للبعثات التبشيرية البروتستانتية بوصول أكبر إلى أراضيها. وأدى نمو الحرية والتسامح الدينيين، طوال الفترة الممتدة من منتصف القرن العشرين إلى نهايته، إلى انتشار بروتستانتي في بعض بلدان المنطقة.
ولعل الثورة المكسيكية قد أدخلت أكبر تغيير ملحوظ في علاقات الكنيسة والدولة في التاريخ الأمريكي اللاتيني. فالدستور الثوري لعام 1917 منع الكنيسة والطوائف الدينية الأخرى من امتلاك أي أملاك، وفقد رجال الدين الحق في الترشح لمنصب أو التصويت، مما جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. وفي 1992 أجبرت الأسقفية الكاثوليكية – بمساعدة الفاتيكان – الحكومة على إلغاء أهم النصوص المقيّدة لرجال الدين في الدستور المكسيكي. هذه التعديلات أفادت – أيضاً – غير الكاثوليك في السعي للتبشير في البلاد.
مع سقوط الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي بين 1989 و1991، بدأت عملية كتابة دساتير ديمقراطية جديدة تضمنت قوانين تحكم الجماعات الدينية. لكن النظام الأولي من الحريات الدينية في روسيا عام 1997، قد حابى الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وأُغلق مجال التبشير الديني في وجه الأقليات الدينية.
في 1998 أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي قانون الحرية الدينية الدولية الذي يطلب من وزارة الخارجية الأميركية أن تقدم مسحاً سنوياً عن الحرية الدينية والاضطهاد حول العالم للنظر فيه عند صنع السياسة الخارجية.
ونحن اليوم في عام 2015، ولا تزال دول أوروبية تحاول أن تجد طرقاً كي تدمج –قانونياً- الدين الإسلامي للمهاجرين في مجتمعاتها العلمانية، بينما لا تتسامح دول كفرنسا مع مسألة الحجاب في مدارسها ومؤسساتها!
*باحث لبناني مختص بالفكر العربي والإسلامي.
المصدر: مركز المسبار للدراسات والبحوث
[1] جمعية الأصدقاء الدينيين: هي مجموعة من المسيحيين البروتستانت ظهرت في القرن السابع عشر في إنجلترا على يد جورج فوكس.