تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإرهاب والذكاء الاصطناعي: الأدوات والمواجهات والمستقبل» (الكتاب الثالث عشر بعد المئتين، سبتمبر (أيلول) 2024) الطرق التي توظّف فيها التنظيمات الإرهابية الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) في حملاتها الأيديولوجية والفكرية وتجنيد الأتباع، فيحدد آليات هذا التوظيف ومخاطره الراهنة والمستقبلية على أمن الدول واستقرار المجتمعات التي أصبحت التكنولوجيا الرقمية دعامة أساسية في مواكبتها للعصر، ويطرح طرق مكافحة هذا التوظيف من الجهات الحكومية والرسمية والمجتمع المدني.
فاتحة دراسات الكتاب قدمها الباحث المصري محمود الطباخ، بحثت التوظيف المزدوج للذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي أتاح للإرهابيين آليات جديدة لتعظيم تأثيرهم، مستفيدين من تقنياتهم التقليدية في التشفير والتخفي، فقد أظهرت تحليلات مبادرة «التكنولوجيا ضد الإرهاب (Tech Against Terrorism)» أن التنظيمات المتطرفة استخدمت أدوات الذكاء الاصطناعي لإنتاج أكثر من (5000) مادة دعائية، تنوعت بين صور ورسوم متحركة وأناشيد تحريضية. إلى جانب ذلك، استُخدم الذكاء الاصطناعي في شن هجمات إلكترونية أكثر تعقيدًا، كان أبرزها حملة «مدفع الخلافة»، التي نفذ داعش عبرها هجمات حجب الخدمة الموزعة (DDoS) لاستهداف بنى تحتية حيوية. ومع تطور التعلم الآلي، أصبح من الممكن أتمتة هذه الهجمات، مما يرفع مستوى التهديدات السيبرانية. وبالتوازي، استغلت الجماعات الإرهابية المركبات ذاتية القيادة (Autonomous Vehicles) كأداة محتملة في الهجمات، خصوصًا بعد النجاحات التي حققتها باستخدام السيارات المفخخة التقليدية، كما في اعتداء برلين عام 2016 وبرشلونة عام 2017، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تطورًا مع انتشار المركبات الذكية.
أنشأ الإرهابيون منصات إخبارية زائفة، حيث أطلقت «ولاية خراسان» حملة تضليل إعلامي عبر التزييف العميق (Deepfake)، وأنشأت داعش أناشيد جهادوية؛ عبر الذكاء الاصطناعي تستهدف تجنيد عناصر جديدة، وتظهر في تطبيقات حاشدة بالمراهقين. فأصبح بالإمكان توليد صور ورسوم متحركة عالية الجودة بلمح البصر، دون الحاجة إلى مصممين محترفين أو وقت طويل للمعالجة.
استُهدف التجنيد بآلياتٍ متطورة، حيث نشرت مجموعات تابعة للقاعدة في فبراير (شباط) 2024 كتابًا إلكترونيًا بعنوان «طرق مذهلة لاستخدام روبوتات الدردشة القائمة على الذكاء الاصطناعي»، كدليلٍ عملي لاستغلال هذه التقنية في التأثير على المتعاطفين واستقطابهم. وتمكن متطرفون من اختراق نموذج «لاما» (LLaMa) الخاص بشركة ميتا، ما سمح لهم بتطوير روبوتات دردشة متخصصة في نشر الأفكار المتطرفة، حيث ظهرت شخصيات ذكاء اصطناعي مثل «ترينيتي» (Trinity)، التي روجت لخطابات الكراهية والتمييز العنصري بأساليب متقنة.
لا يزال السباق بين الجماعات الإرهابية والجهات الأمنية في مجال الذكاء الاصطناعي مفتوحًا، حيث تستفيد التنظيمات المتطرفة من كل تطور تقني، وتحاول باستمرار التكيف مع آليات المكافحة. يكمن التحدي الرئيس يكمن في القدرة على استباق استراتيجيات الإرهاب الرقمي، ومنع التنظيمات من استغلال التقنيات الحديثة لصالحها. في هذا السياق، لا يمكن الاكتفاء بالحلول التقليدية؛ إذ بات لزامًا على الجهات المعنية تعزيز قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وتطوير أدوات أكثر تطورًا لكشف وردع النشاطات المتطرفة قبل أن تتحول إلى تهديدات فعلية.
حدّد الباحثون في «المعهد الأميركي لمكافحة الإرهاب والقدرة على مواجهته» (American Counterterrorism Targeting and Resilience Institute) أرديان شايكوفسي (Ardian Shajkovci) ومايكل فانديلون (Michael Vandelune) وأليسون ماكدويل سميث (Allison McDowell-Smith) السُّبل والشبكات الخاصة الافتراضية التي اعتمد عليها داعش- وتنظيمات إرهابية أخرى- للتهرّب من المراقبة وإخفاء أنشطتها على الإنترنت، ولاحظوا تزايد استخدامهم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأكثر تقدّمًا في الدعاية والتخطيط للعمليات والتجنيد، فقد تمكنت هذه التنظيمات من تطوير استراتيجيات استهداف متقدّمة، وتحليل كميات ضخمة من البيانات في زمن وقوع الأحداث، وأتمتة (Automate) بعض المهام.
أما أستاذ القانون ومكافحة الإرهاب في جامعة سوانسي (Swansea University) في المملكة المتحدة، ستيوارت ماكدونالد (Stuart Macdonald) فقد ركز على الذكاء الاصطناعي ومراقبة المحتوى الإرهابي على الإنترنت، فقدم في دراسته لمحة عامّة عن مختلف أنواع أدوات مراقبة المحتوى الآلية المستخدمة في رصد المحتوى الإرهابي في العالم الافتراضي، خصوصًا المستخدم بتقنية الذكاء الاصطناعي.
اعتمد الباحث على نهجين: الأول قائم على المطابقة، والثاني على التصنيف، قبل الانتقال إلى الكشف القائم على السلوك. ملاحظًا أن هذه الأنواع من الأدوات لا يستبعد بعضها بعضًا، ويمكن استخدامها -غالبًا- معًا في نهج متعدّد الطبقات. وخلص إلى محورية التدخّل البشري؛ إذ تقتضي النهُج القائمة على المطابقة جهدًا مستمرًا لتحديد بنود المحتوى الإرهابي، وإضافتها إلى قاعدة بيانات البصمات. أما النهُج القائمة على التصنيف، فإنها في حاجة إلى جمع مجموعة كبيرة من البيانات وتنظيفها ووسمها؛ لتدريب خوارزميات التعلّم الآلي. كما أن معظم أدوات التصنيف تستخدم للإشارة إلى البنود ليراجعها البشر؛ لأن المراقبين البشر أقدر على إصدار أحكام سياقية وتقييم الاختلافات الدقيقة والنيّات، والنظر في العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية. كما أن عمليات الاستئناف مطلوبة -كما عندما تحدّد الأدوات الآلية نتائج إيجابية كاذبة- وثمة حاجة إلى مراقبين بشر للنظر في هذه الاستئنافات. وخلص إلى أن الذكاء الاصطناعي ضرورة، ولكنه غير كافٍ في السعي لمكافحة المحتوى الإرهابي على الإنترنت.
وتطرقت الباحثة المصريَّة سلمى صقر إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي من قبل التنظيمات الإرهابية واليمين المتطرف، والسبل الأساسية في مكافحتهما. ومع تأكيدها حجم التهديدات الأمنية غير التقليدية المرتبطة بالتطورات التكنولوجية المتسارعة، واستغلالها من قبل الإرهابيين الإسلامويين والمتطرفين اليمينيين، خصوصًا في مجال التمويل؛ حيث تم رقمنة التبرعات؛ ورقمنة أنشطة جمع التبرعات؛ التي غدت تجمع أضعاف ما كانت تجمعه التبرعات التقليدية، إذ يستخدم المؤثرون المتطرفون منصات مختلفة عبر الإنترنت؛ لطلب المشتريات والتبرعات من متابعيهم. وتُعد العملات المشفرة نظام دفع مثاليًّا لهم، إضافة إلى منصات التجارة الإلكترونية.
واستكمالاً للدراسات المختصة في مكافحة الإرهاب والتطرف الإلكتروني، حدد الباحث والأكاديمي حكيم غريب أهم التقنيات والأدوار التي يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها للحد من العمليات الإرهابية، من بينها: مكافحة الأفكار المتطرفة، وتوقع الهجمات الإرهابية المحتملة، والمساهمة في التعرف على وجه الإرهابيّين، وبــصمة المــخ؛ أو تقنية مـسح الموجـات الدماغية، واستـــــشعار تحليلي لمراقبـــــة وتحليـــــل الحـــــشود.
كشف الكتاب استغلال التنظيمات الإسلاموية النصوص الدينية في بناء الأيديولوجية الإرهابية من خلال تطبيقات ومنصات رقمية مختلفة. ولمواجهة هذا الإرهاب الرقمي وسبل صناعته، سعى الباحث مصطفى قطب إلى معرفة كيفية استثمار الخوارزميات في خدمة العلوم الشرعية، بالتركيز على المحاور الآتية: معالجة اللغة الطبيعية في النصوص الإسلامية؛ الفتوى وتعلم الآلة؛ استثمار الخوارزميات في خدمة التفسير؛ الترجمة الآلية والنصوص الإسلامية؛ وضوابط تطبيق الخوارزميات على الدراسات الإسلامية.
أما الباحثة لياندرا روبير، والباحث عماد نعيم، فقد درسا دور الذكاء الاصطناعي في الفن والأدب وسُبل الإفادة من تقنياته لمواجهة الإرهاب، وبناء سرديات مضادة للعنف.
مثلًا، أحدث برنامج «ديب دريم» (DeepDream)، الذي يحوّل الصور إلى أشكال سريالية، ثورةً، في الرسم بينما استخدم ريفيك أنادول (Refik Anadol) البيانات الضخمة في منحوتات رقمية، وطوّرت صوفيا كريسبو (Sofia Crespo) مشروع «نيرال زو» (Neural Zoo)، الذي يولّد كائنات هجينة من بيانات الطبيعة. عربيًا، ظهرت مشاريع مثل «Araby.ai»، التي تدمج الفن الرقمي بالثقافة العربية، وبرامج إعادة إحياء الخط العربي.
بدأ الذكاء الاصطناعي تأثيره على الأدب حينما طوّر فريق ياباني عام 2016 رواية «اليوم الذي يكتب فيه الكمبيوتر رواية»، التي بلغت التصفيات النهائية في مسابقةٍ أدبية! في المسار العربي ألف محمد أحمد فؤاد رواية «حيوات الكائن الأخير» بمساعدة الذكاء الاصطناعي في أقل من (23) ساعة، مما أثار جدلًا واسعًا حول مستقبل الكتابة. وفي السينما، كُتِب سيناريو فيلم «صن سبرينغ» (Sunspring) عام 2016 بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، لكن الذكاء الاصطناعي ظل أداة مساعدة لا بديلًا عن الإبداع البشري في توجيه الممثلين وصياغة الرؤية السينمائية.
أثار الذكاء الاصطناعي تحديات قانونية، حيث رفضت محكمة أميركية تسجيل حقوق الطبع والنشر لعمل فني أنجزه نظام ذكاء اصطناعي، مؤكدة أن الإبداع البشري شرط أساسي للحماية القانونية. يظل التساؤل مفتوحًا حول من يملك الحقوق الفكرية: مبرمج النظام أم المستخدم أم الشركة المطوّرة؟
وفي سبيل إثراء المحور درس الباحث المصري علاء الحمد استخدام الأدب المصنوع بتقنيات الذكاء الاصطناعي في مكافحة الإرهاب، ملاحظًا أن التنظيمات الإرهابية تستغل الرواية والأدب في هذا الحقل الافتراضي لنقل أفكارها المتطرفة، وفي المقابل يمكن للروائيين فعل العكس، من خلال تضمين أعمالهم أفكارًا مناهضة للإرهاب.
أما الأكاديمي والباحث، أحمد عبدالمجيد فتناول مستقبل الصحافة في ظل التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي، فأبرز أهم وجهات النظر من قبل الخبراء في علوم الحاسوب والتقنيات الرقمية حول الاتجاهات التي سوف تتخذها الصحافة؛ لمواكبة هذا التطور بين اتجاه متفائل وآخر متشائم، وعرض السيناريوهات المستقبلية لــ«صحافة الذكاء الاصطناعي» (Artificial Intelligence Journalism) حيث حددها بثلاثة: سيناريو الإبداع؛ وسيناريو الثبات؛ والسيناريو التشاؤمي.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ونأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
سبتمبر (أيلول) 2024