يكتسب الحديث عن الإسلام التقليدي في الزمن الراهن أهمية مزدوجة، ترتبط الأولى بحال التأزم الذي يعيشه المسلمون بسبب صدامات الحداثة؛ والثانية بتفجر الأصوليات الإسلامية، السياسية والجهادية، بشكل غير مسبوق وما نتج عنه من صدام حول الهوية الدينية والمجال السياسي، أدى إلى استيلاء «الإسلامويين» المتطرفين على فئات مجتمعية متنوعة. وعلى الرغم من استتباب مؤسسات التقليد منذ قرون كالأزهر الشريف في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، لكنها تعاني منذ عقود من تراجع لأدوارها بسبب تفاقم العنف الديني الذي ترتكبه جماعات متطرفة تحاول الاستيلاء على المقدس، والتضييق عليها من قبل الأنظمة العربية التي عملت على مصادرة دورها من أجل مراقبة الفضاء الديني.
يهدف كتاب المسبار «الإسلام التقليدي: التشكُّل التاريخي والتحديات الراهنة» (الكتاب السابع والثلاثون بعد المئة، مايو (أيار) 2018) إلى دراسة دوائر التقليد الديني في الإسلام السُنِّي، متتبعاً مسارات التأسيس والتطور العقائدي والفقهي والمؤسساتي، ومبرزاً أهم المخاطر التي يواجهها من قبل الإسلامويين. إن القراءة الموضوعية والمحايدة للتاريخ الإسلامي وصراع التأويلات على فهم الدين، نتج عنهما مدارس فقهية وعقائدية حددت قواعد الفرق والمذاهب، وما تفرع عنها لاحقاً من تمازج بين الديني والسياسي، مما فتح النظر على إسلام متعدد يستند إلى منظومة اجتماعية توارثها المسلمون ورعتها الدولة.
تناول الكتاب ظهور التقليد في تاريخ الإسلام، وكيفية استقرار المذاهب وتشكُّلها وتطورها. دعت إحدى الدراسات إلى ضرورة تقديم فهم لهذه المنظومات الكبرى، فالمطلوب «ليس الإحياء ولا حتى التجديد، بل الفهم الدقيق باتجاه التطور، والمضي نحو سرديةٍ جديدة؛ فمأزق التقليد هائل، وكذلك مأزق الأصوليات والانشقاقات». والإحاطة به لازمة لتحقيق هذا التطور.
شهد الإسلام التاريخي حراكاً عقائدياً ودينياً بدفع من تحولات الاجتماع السياسي. لا ريب أن بنية أي ديانة تتأثر بمحيطها الاجتماعي قبل أن تبدأ بتحديد مدارسها المذهبية والطائفية. لقد اشتغل الكتاب «على المدونة الرسمية السُنيَّة في إطارها العام؛ كيف تشكّلت كبنية متكاملة في سياقات التحول الاجتماعي السياسي التي شهدتها مرحلة التدوين، قبل أن تتحول إلى سلطة مهيمنة داخل الثقافة بدءاً من مرحلة التجميد؟». إن الغاية من مصطلح «المدونة الرسمية» فتح دائرة النقاش على غرضين؛ الأول: رصده «كواقعة» متكررة في تاريخ التدين الكتابي، تشرح عملية التأسيس الثاني للديانة. والثاني: تسكينه «كمفهوم» كاشف عن الطبيعة التاريخية للديانة.
عرف التكوين التاريخي والتأسيس الفقهي لأهل السُنَّة والجماعة سجالات فقهية طويلة قبل أن يستقر، وليس المقصود به غلبة جماعة على أخرى في الدين والاعتقاد والسياسة، وإنما مناقشة سبل تطوره العقائدي والإحاطة بحجم التأثير السياسي فيه. إن «أهل السُنَّة والجماعة هم من اجتمعوا على المنهج النبوي، فمفهوم السُنَّة في الأصل هو المنهج، وأهل السُنَّة والجماعة ليسوا علماً على جماعة بعينها يمتدون على مدار تاريخ الأمة منذ بداية البعثة وإلى يومنا، ولا تحيطهم جغرافيا، بل هم كل مسلم التزم المنهج والطريقة النبوية في الفهم والتلقي والتأسي والاقتداء (الجانب العلمي) والاتباع والاجتماع على ذلك مع غيره من المسلمين (الجانب العملي)».
أصدرت المؤسسة الدينية في الإسلام، ماضياً وحاضراً، الفتاوى فكان الإفتاء تحت رقابتها، علماً أن صدور الفتوى عن غير المفتين الذين يملكون المؤهلات الدينية اللازمة، ظاهرة عرفها المسلمون فلم تكن طارئة عليهم، إلاّ أن الفوضى التي تعتري المشهد الديني الإسلامي في الزمن المعاصر نتيجة تعدد «مشارب المفتين»، تستدعي العودة إلى مؤسسات الإسلام التقليدي، لا سيما في ظل تعميم فتاوى القتل والتكفير التي تتساوى بخطورتها مع الإسلام السياسي لجهة تهديد مرتكزات الإسلام التقليدي المضبوط «إفتائياً» بشروط وأعلميّة المفتي.
إن العلاقة التاريخية بين الفرق والمذاهب في الإسلام التقليدي، لم تنهض كلها على الخطاب والممارسة الإقصائية، وعلى الرغم مما شابها من توتر عقائدي ظلت محكومة بالصراع السياسي الذي كان له الإسهام الأكبر في مراحل نشوئها. وعليه تنطلق إحدى دراسات الكتاب من الفرضية الآتية: «إن التقليد الإسلامي كما جسدته تاريخياً الفرق والمذاهب كانت العلاقة بين مكوِّناته في مجملها علاقة متسامحة، تجسد الوعي بالجوهر التعددي للإسلام، ولدينا أمثلة ونماذج كثيرة من تاريخ الإسلام، دالة على هذا التسامح، وإن التعصب والإقصاء الديني الذي مارسه البعض وعانت منه بعض المذاهب، لم تكن أسبابه مذهبية صرفة، بل يرجع بالأساس لأسباب سياسية استُعمِل فيها الدين والمذهب لتصفية الخصوم أو التضييق عليهم، وقليلة هي الحالات التي مورس فيها التعصب المذهبي الصافي».
اهتم الكتاب بالمؤسسات التقليدية في الإسلام: الأزهر الشريف والزيتونة والقرويين، ساعياً إلى قراءة أدوارها التاريخية والمخاطر التي تواجهها، خصوصاً منافسة الجماعات المناوئة لها على إدارة الشأن الديني، بعدما تهاوت مشروعات الإصلاح الديني منذ خمسينيات القرن المنصرم. استعاد بعض هذه المؤسسات دوره إثر «الحركات الاحتجاجية» التي عرفها العالم العربي عام 2011، وكان الأزهر قد أطلق مجموعة من الوثائق، أشار في إحداها إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني. ولعل الخطر الأبرز الذي يواجه الإسلام التقليدي ذلك المُتأتّي من الإسلام السياسي، ولأهمية هذه القضية تمت معالجتها في دراستين ألقيتا الضوء على إشكاليته الأساسية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
رئيس التحرير
مايو (أيار) 2018