-1-
تناقش هذه المقالة رد الفعل الإندونيسي حيال متغيرين معاصرين؛ الأول: هو حركة “الأسلمة السياسية” التي انطلقت من الشرق الأوسط قبل منتصف القرن الماضي، وتمددت بتداعياتها العنيفة إلى مناطق متعددة من العالم. والثاني: هو حركة “التحول الديمقراطي” التي انطلقت من الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، وتحولت إلى صرعة سياسية وثقافية واسعة الانتشار. كيف جرى التفاعل بين الحركتين في إندونيسيا مقارنة بالشرق الأوسط الإسلامي: ما حجم الإسلام السياسي “الذي انتقل إلى إندونيسيا بأشكاله الأصولية ذات النفس العربي (“جماعات” إخوانية، وجهادية)، وكيف دار الجدل بينه وبين “الإسلام اللاسياسي الذي تمثله “جمعيات” كبرى ذات حضور شعبي واسع مثل “نهضة العلماء” و”المحمدية” و”رابطة الطلاب الإسلامية”، وبينه وبين “الدولة” التي ظلت تحافظ منذ الاستقلال في 1945 على طابعها المدني العلماني، سواء في ظل الحكم الشمولي، أو بعد التحول الديمقراطي في 1998؟ لماذا لم تسفر “التجربة” الديمقراطية “في إندونيسيا عن وصول الأحزاب والتيارات الإسلامية إلى السلطة؟ وكيف يمكن تقييم هذه التجربة مقارنة بالتجارب المشابهة التي جلبت الإسلاميين إلى الحكم في مصر وتونس وتركيا؟
-2-
أخذت التيارات الأصولية ذات النفس العربي تظهر في إندونيسيا بشكل واضح منذ العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي. ضمت هذه التيارات جماعات تنتمي إلى كل ألوان الطيف الأصولي الحركية، والجهادية، والتكفيرية المتطرفة. وبرزت من بينها بوجه خاص جماعة الإخوان المسلمين، بخطابها الأممي البراجماتي، وأطرها التنظيمية الغامضة. دشنت الجماعة حضورها من خلال “حركة التربية” التي اشتغلت كالعادة على التجمعات الطلابية داخل الجامعة، ومارست نشاطًا دعويًا منظمًا استخدمت فيه أدبيات الجماعة التقليدية التي تُرجمت بإيقاعها المصري إلى اللغة المحلية. وكالعادة أيضًا، استغلت الجماعة هامش الانفتاح النسبي في أواخر عهد سوهارتو، وصعدت نشاطها إلى العمل السياسي المباشر بتأسيس “حزب العدالة” الذي سيتغير اسمه لاحقًا إلى “حزب العدالة والرفاه” في نوع من المحاكاة لنموذج أربكان التركي.
بعث حضور الأصوليات العربية وخصوصًا الإخوان، نغمة إسلامية أعلى إيقاعًا، وسبب نوعًا من التوتر داخل المجال الديني السياسي الإندونيسي. ومع ذلك ظل حضورها محدودًا من حيث الحجم قياسًا إلى التشكيلات الإسلامية المحلية، وجرى التعامل معها بوصفها تيارات دخيلة تمثل أجندات سياسية أجنبية، ولا تعبر عن روح التدين الشعبي الإندونيسي، أو “إسلام نوسانتارا” المعتدل والأكثر تصالحًا مع الحداثة وفكرة الدولة المدنية.
-3-
حضور الأصوليات العربية لم يخلق الإسلام السياسي في إندونيسيا لكنه جلب إليها النسخة الأكثر تطرفًا منه. تملك الساحة الإندونيسية نسختها الخاصة من الإسلام السياسي، الأمر الذي ظهر مبكرًا في أعقاب الاستقلال، حيث عبرت الأحزاب والتكتلات الإسلامية عن وجودها السياسي من خلال التجمع في حزب شعبي كبير هو “حزب ماشومي” -مجلس شورى مسلمي إندونيسيا. طرح الاستقلال مسألة “الهوية” الخاصة بالمجتمع والدولة، وثار النقاش حول القومية والديمقراطية، وأفكار مثل الاشتراكية والشيوعية، وعلاقتها بالإسلام دين الغالبية العظمى من السكان، وأسفر النقاش عن استقطاب سياسي ثقافي ثنائي: تيار إسلامي، مقابل للتيار المدني العلماني.
منذ البداية كشفت الدولة عن توجهها المدني، دون أن تقطع نظريًا مع الأرضية الدينية للمجتمع. وتجلى ذلك في مبادئ البانشسلا الخمسة التي تم تضمينها في الدستور كأساس ثابت للدولة، والتي تجمع في تعميم توفيقي بين الإيمان الديني، والبعد الإنساني، والديمقراطية الوطنية. وفي هذا السياق انحازت الجمعيات الإسلامية الشعبية (الأقدم تأسيسًا) مثل “نهضة العلماء” إلى الرؤية المدنية، وتبنت المبادئ الخمسة بوصفها قيمًا كلية موافقة لروح الإسلام، خلافًا للتيار الحزبي الإسلامي الذي اعتبرها خطرًا يهدد الدين. في واقع الأمر ظلت الجمعيات الإسلامية، التي تقبل بمدنية الدولة، تمارس أدوارًا سياسية مضمرة أو علنية من خلال تشكيلاتها وتحالفاتها الحزبية.
لكن الفارق يبقى واضحًا بين هذه النسخة المحلية من الإسلام السياسي (التي تمارسها الأحزاب والجمعيات) والنسخة الأصولية الوافدة؛ فحتى الأحزاب الإسلامية الإندونيسية، وبرغم تبنيها الصريح لفكرة الشريعة، نشأت من داخل الإطار العلماني المعلن للدولة، واشتغلت بآلياته كأحزاب مدنية، ولم تتخذ صيغة “الجماعة” الحركية المخاصمة للدولة والمجتمع، بأطرها التنظيمية ذات الطابع السري.
وعلى المستوى الموضوعي، تبنت هذه الأحزاب طرحًا فقهيًا أقل تطرفًا، أو أقل نزوعًا للصدام مع الأفكار المدنية، ونمط التدين الشعبي المعروف بالوسطية والاعتدال. ويبدو هذا الفارق أكثر وضوحًا بالنسبة إلى الجمعيات الشعبية خصوصًا “نهضة العلماء”، التي تبنت نهجًا إصلاحيًا أكثر جذرية، وظلت تصعِّد أهدافها التجديدية نحو مزيد من التوافق مع قيم التسامح والمحبة الإنسانية، ومبادئ الدولة المدنية الحديثة. وفي هذا السياق يظهر طرحها لمفهوم “إسلام نوسانتارا” كموقف “نقيض” للموقف الأصولي الوافد من الشرق الأوسط بحمولته المشبعة بالتكفير والعنف. في واقع الأمر نشأ الموقف الإندونيسي كرد فعل عكسي للموقف الأصولي المتطرف بالذات.
-4-
مع ذلك، وبحكم التناقض الضروري بين الفكر الديني المدرسي وأغراض الدولة المدنية، كان الصدام حتميًا بين هذه الأحزاب وتوجهات السلطة. (ناقشت سابقًا كيف أن الدين التاريخي ينطوي على حد أدنى من الأصولية بفعل نزوعه الحصري، وكيف أن الدولة -أي دولة- هي كائن علماني بتكوينها الطبيعي الذي يشتغل على ضرورات الواقع، ويكره شراكة السلطة). كان حزب ماشومي قد حصل على المرتبة الثانية بـ(57) مقعدًا في الانتخابات النيابية عام 1955، لكن سرعان ما دخل في مواجهة تحولت إلى صدام عنيف مع حكومة سوكارنو، بعد إعلان دعمه للتمرد العسكري الواسع الذي تزعمته قيادات من الجيش ضد التوجهات الشيوعية للحكومة. اعتبر الإسلاميون أن الشيوعية تمثل خطرًا على هوية الشعب الإندونيسي المسلم، وانضمت بعض قيادات ماشومي إلى حركة التمرد التي اتخذت طابعًا إسلاميًا “جهاديًا”. ونتيجة لذلك تم حظر الحزب عام 1960، لكنه كان قد نجح في حشد القوى والتيارات الإسلامية ضد التهديد الشيوعي، مما ساعد على تفاقم الاضطرابات التي انتهت -بعد تدخل نهضة العلماء والمحمدية- إلى إطاحة سوكارنو عام 1966.
لاحقًا، مع تراجع المشكل الشيوعي، وبامتداد فترة حكم سوهارتو الطويلة (1967-1998)، كرست الدولة طابعها المدني العلماني على حساب التوجهات الإسلامية التي تعاظمت تحت شعار التمرد في أواخر عهد سوكارنو. وبشكل متواصل تم تضييق الخناق على حركة الإسلام السياسي، الأمر الذي أسهم في تحبيط هذه الحركة، وتحجيم شعبيتها التي كانت مرشحة للتصاعد. طوال هذه الفترة فشلت محاولات قادة ماشومي لإعادة تشكيل الحزب، وفيما يشبه “الصفقة” الحكومية، انتقلت كوادره إلى العمل الدعوي من خلال بناء المساجد، قبل أن تتحول إلى الجامعات حيث سيتخلق تكوين “تنظيمي” جديد، أكثر أصولية من تكوين ماشومي الحزبي.
وفر التكوين الجديد بيئة مناسبة لاستقبال الإشعاعات الأصولية الوافدة من الشرق الأوسط. ومع ارتخاء القبضة الأمنية في أواخر عهد سوهارتو، ستظهر “حركة التربية” التي تمثلت منهج الإخوان في البناء السري المتدرج، ومهدت الطريق لحضورها السياسي داخل إندونيسيا، خصوصًا بعد التحول إلى الديمقراطية.
يتبع