يرتبط التدين الشعبي بالعادات والتقاليد ويختلف باختلاف المجتمعات، والإسلام كبقية الأديان التوحيدية عرف مع تكونه وانتشاره أنماطاً من الممارسات الدينية والشعائر والطقوس أُخذت من البيئات الحاضنة لها.
تترك الثقافة والاجتماع والموروث الشعبي بصماتها على الإيمان الجمعي، فلا يمكن الحديث عن دين خالص/ صارم، نقي طقوسياً وعقائدياً خارج المؤثرات الاجتماعية والترسبات الدينية السابقة على التوحيد الديني، وهذا ينطبق على اليهودية والمسيحية والإسلام. قد يكون من المفيد التفريق بين «الإسلام الشعبي» و«الإسلام التقليدي» أو كما يطلق عليه البعض «الإسلام العالِم»، فهذا يفرض علينا أساليب ومناهج مناسبة لدراسة أشكال التعاطي الفردي والجماعي والمؤسساتي مع الدين الذي يتأثر ويؤثر في الدعائم والمرتكزات والرموز والمتخيل والعقائد والفروض المكوِّنة له.
يتطرق مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإسلام الشعبي: الإيمان- الطقوس- النماذج» (الكتاب الثامن والثلاثون بعد المئة، يونيو (حزيران) 2018) إلى أنماط التدين في الإسلام المعاصر، والتي تعبر عن نفسها بأشكال وقوالب إيمانية وطقوسية عدة في نظرتها إلى المقدس، آخذاً بالاعتبار تبدلها وتفجرها جراء التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية التي لا شك أنها تحكم الأطر العامة التي تنهض عليها.
يقدَّم «الإسلام الشعبي» مشروعاً موازياً للإسلام التقليدي ذي الطبيعة الصارمة، فيأتي ليكمل المرجعيات التقليدية كالأزهر الشريف وجامع الزيتونة بمرجعيات روحية مثل الأولياء والصالحين والدراويش والأساطير، مركزاً على الممارسات الدينية الشعبية بدل التركيز على المؤسسات الدينية التقليدية في الإسلام، فيعيد تأويل النصوص لصالح الممارسة.
يختزن «الإسلام الشعبي» مجموع التصورات الدينية والطقوسية والشعائرية مثل الموالد والطهور والحفلات وزيارة الأولياء والتصوف الشعبي وصنوف الاعتقاد، وهو ممارسة تلقائية وعفوية للشعائر بعيدة عن الرقابة الرسمية والمؤسساتية، وهذا النمط من التدين الإسلامي مفتوح على العالم والثقافات وغير صدامي. سعى الكتاب إلى التمييز بين الدين والتدين من أجل فهم أفضل لأنماط التدين الشعبي في الإسلام ومن ضمنها «التصوف السلوكي» الذي جذب العدد الأكبر من المسلمين، إذ استجاب للطلب الروحي «دون أن يغرقهم في ركام من الميتافيزيقا المعقدة». إن اتساع حضور هذا النمط من التدين يؤثر في المؤسسات الدينية الإسلامية إذ ينافسها على إدارة فضاء المقدس وهو أشد قوة في جذب المؤمنين إليه بسبب انتشاره لدى جماعات بعيدة عن التدين العقلاني أو ذاك التدين البعيد عن الشريعة.
تناول الكتاب التدين الشعبي في نمطه الشيعي، فدرس مراسم عاشوراء في العراق بعد الحملة الإيمانية في تسعينيات القرن المنصرم، واضعاً القارئ أمام تمهيد تاريخي يبين تكريسها كاحتفال رسمي في العهد البويهي، إلا أن هذا التَّدين الشَّعبي الذي جعله البويهيون رسمياً، قمعته جماعات متشددة على المستوى الشَّعبي، وبهذا بين إباحته ومنعه دخل أهل العراق بنزاع طائفي بين الشِّيعة والسُّنة. لقد اتخذت مراسم عاشوراء في العراق أبعاداً طقوسية مبالغاً فيها، ومن أجل الحد من الغلو الطقوسي، ظهرت حركات إصلاحية تبناها «مجتهدون» مثل السيد محسن الأمين (1867-1952)، لتشذيب ما دخلها في الحِقبة الصفوية وما بعدها.
عرض الكتاب لملامح التدين الشعبي في مصر وكان التصوف أحد أبرز أشكاله، فعمل على إبراز صلته بالأسس المعيارية للتدين الظاهري، كاشفاً عن انفتاحه على الأنساق الثقافية للأديان الأخرى، طقوسياً وعقائدياً. تشكل الوليات الصالحات في جنوب المغرب جزءاً أصيلاً من التدين الشعبي الإسلامي، فكانت الإضاءة على سيرتهن مع التركيز على بعض النماذج المهمة. يمكن ملاحظة «تراجع كبير للطرقية في المواسم الدينية»، وذلك بعد تاريخ طويل كان «الأولياء» بالنسبة للكثيرين محوراً للدين والحياة اليومية، حيث كانت ترتبط زيارتهم وأنفاسهم بمواقف حياتية ملموسة.
خصّص الكتاب دراستين عن باكستان، الأولى: حاولت الكشف عن تلازم الدين والسلطة وانعكاسه على نمط التدين الشعبي، والثانية: عرفت بالحركات والجماعات الإسلامية الشعبية في باكستان، إذ تشكّل سياسة استخدام العنف والهوية الإسلامية امتداداً للتقاليد الطائفية والمدارس الدينية في هذا البلد. أما في تركيا فتم رصد التدين الشعبي المعاصر بدراسة محورين أساسيين: الأول: المناسبات الدينية والتفاعل الاجتماعي التركي (عاشوراء، المولد النبوي الشريف، ليلة الإسراء والمعراج، ليلة النصف من شعبان، شهر رمضان، عيد الأضحى، والختان) والثاني: الأضرحة والمقابر بين الجنائزية والتوسل والتبرك. كما أولى الكتاب اهتماماً بسياقات توظيف البعد العقائدي للدين في إيران والتدين الشعبي، واختتم بـ«دراسة عدد» عن «شمس التبريزي وتأويلاته العرفانية للقرآن والسُنّة».
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لجميع الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل عمر البشير الترابي الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
هيئة التحرير
يونيو (حزيران) 2018