تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإسلام في كوريا الجنوبية: الشهادات والتحديات والإرهاب» (الكتاب التاسع بعد المئتين، مايو (أيار) 2024) تاريخ الإسلام في كوريا الجنوبية، وتفاعله الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي مع المجتمع. فغطى: بروز الإسلام في الجزيرة الكورية منذ القرن الثامن الميلادي، مركزًا على قضايا عدة مرتبطة بالتاريخ القديم، قبل عصر مملكة جوسون؛ حتى وقتنا الراهن، وحضور المسلمين في السجلات والمصادر الكورية، والتأثيرات الحضارية المتبادلة بين العرب والكوريين وتمثلاتها المعاصرة.
يتقصّى الكتاب جذور العلاقات الثقافيّة والتجاريّة العربيّة -الكوريّة، وصولًا إلى شهادات راهنة من العاملين في حقل المعرفة، أو الأكاديميين في المدارس والجامعات الكورية، التي انتعشت دراسة اللغة العربية فيها، بعد تنامي الأثر الكوري الصناعي في النصف الثاني من القرن الماضي من جهة، واطراد العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج العربي، التي وظّفت الخبرات الكورية حينها وتفيد من التجربة الكورية الجنوبية الملهمة.
ميّز الكتاب بين الجمعيات التي تخدم المهاجرين واللاجئين إلى كوريا من المسلمين، وتلك التي استهدفت خدمة المسلمين الكوريين الأصيلين، الذين عاد انتظامهم الجماعي في الخمسينيات بشكل واضح، ثم تنامى إثر دخول هجرات من آسيا والشرق الأوسط، مترافقًا مع تضاعف عدد المهاجرين الجدد بعد الاضطرابات في دول مثل اليمن وسوريا وغيرهما. وانفجرت الأعداد في العشرية الأخيرة. فتناول الكتاب ثغرات قوانين الهجرة، وتحديات أسئلة الهوية والإرهاب، الذي تفجّر إثر الحديث عن انضمام كوريين جنوبيين لمنظمات إرهابية في الشرق الأوسط.
فاتحة الدراسات قدمها الأستاذ الفخري في جامعة جوسون (Chosun University) في كوريا الجنوبية، بيونغ هوانج ها (Byung HWANG–Ha)، وتناولت الدراسات جوانب عن تاريخ الإسلام وكوريا قبل عصر مملكة جوسون التي بدأت في 1392، واستمرت لخمسة قرون.
يشير الباحثون إلى معركة طلاس (Battle of Talas – 751 AD)، حيث اشتبكت القوات العباسية بقيادة زياد بن صالح مع قوات سلالة تانغ (Tang Dynasty) الصينية، على أنّها أوّل مشاهد صِلة الكوريين المشاركين في صفوف الجيش الصيني بالإسلام. وكانت سلالة تانغ قد دعّمت مملكة شيلا (Silla Kingdom) التي وحّدت شبه الجزيرة الكورية سنة 668. ولكنّ التواصل التجاري كان أسبق؛ إذ تأثّرت المملكة بالتواصل مع المسلمين الذين تنامى نفوذهم في الصين، حتى بلغ أشدّه في القرن الثامن الميلادي، وازدادت الحاجة إليهم بعد تأثيرهم في الملاحة البحرية والممرات التجارية ببراعة، لا سيّما بعد أن تشكّلت مجتمعات تجارية عربية ومسلمة في غوانغتشو (Guangzhou) بالصين، وكانت مملكة شيلا تفيد من هذه التجارات البحرية، التي كانت تمر عبر الموانئ الصينية.
تمرّ الدراسات على ما وثّقه الراهب الكوري هيشو (Hyecho) في رحلته المشهورة إلى الهند وآسيا الوسطى، الموسومة بـ«مذكرات رحلة إلى الممالك الخمس في الهند»، والتي تمّت في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي. وعلى الرغم من عنوان الكتاب، فإنّه مرّ على أجزاء كبيرة من الدولة العباسية، ووثّق مشاهداته وربما ما سمعه عن ملوك العرب وآداب التعامل معهم.
وفي نهاية القرن الثامن الميلادي، لمّا بدأت التجارة بين العرب والصين تتوسع، وصلت بعض المنتجات الإسلامية إلى كوريا بشكل غير مباشر عبر طرق التجارة البحرية. وزادت وتيرة الهجرات إثر تمرّد هوانغ تشاو (874-884) في الصين، الذي أدّى إلى تعطيل الطرق التجارية وتعريض المدن التجارية مثل يانغتشو للفوضى، مما دفع بعض التجار العرب إلى نقل تجاراتهم إلى كوريا. ولم يلبثوا طويلًا حتى بدأت سلالة كوريو (918-1392)(Goryeo Dynasty) في التوسع في التعامل التجاري معهم. ولمّا جاء الغزو المغولي لكوريو في 1231، واستسلمت له كوريو مقابل الحفاظ على هويتها وأسرها الحاكمة، نمت التأثيرات المسلمة، خصوصًا إثر اعتماد المغول على الإداريين المسلمين، المعروف بعضهم باسم الهوي هوي (Hui Hui)، الذين ساهموا في إدارة الإمبراطورية المغولية بسبب خبرتهم الكبيرة.
ترافق ذلك مع هجرة بعض المسلمين من أصول فارسية وتركية وآسيا الوسطى إلى كوريا. وآخرين زاروا كوريو بانتظام، حاملين بضائع مثل الزئبق والبخور، وأُذِن لهم إقامة مساجد في العاصمة كايغيونغ (Kaesong).
بدأت مملكة كوريو في استعادة استقلالها السياسي بعد انهيار سلالة يوان (حكم المغول) في الصين سنة 1368. وقاد ملكها غونغمن (King Gongmin) سلسلة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي هدفت إلى إعادة بناء الهوية والسيادة الكورية، وتقليل أثر النفوذ المغولي. وبرغم أن حكومته بدأت تميل نحو الكونفوشيوسية كقاعدة أخلاقية وسياسية، فإن الملك غونغمن لجأ في فترات معينة إلى البوذية. ولكنه كان حاسمًا في إبعاد النخب المغولية، وإعادة الأراضي الزراعية إلى الفلاحين، مما عزز الهوية الكورية المستقلة.
استمرّت مملكة جوسون اللاحقة في سياسات تعزيز الهوية الكورية المستقلة. وفي عهد الملك سيجونغ العظيم (King Sejong the Great)، الذي حكم بين 1418 و1450، سعت كوريا إلى تقليص التأثيرات الأجنبية، وفي 1427 تم حظر ممارسات الهوي هوي الدينية والثقافية؛ كجزء من جهود تعزيز الهوية الكونفوشيوسية في البلاد.
ولإثبات وجود المسلمين في مملكة شيلا والتاريخ الكوري المبكّر، وعلى منهج البحث عن أنسنة الأساطير على مستوى الشخصيات المسلمة الإشكالية المؤثرة في شبه الجزيرة الكورية، تحقق الباحث الكوري جن هان جيونغ (Jin Han Jeong) من الدور المحتمل لتشيويونغ (Cheoyong) الذي يُزعم أنه أول زائر مسلم لكوريا يرد ذكره في السجلات التاريخية الكورية، بوصفه طبيبًا ساهم في تخفيف مرض الجدري واحتوائه زمن مملكة شيلا!
وكان تشيويونغ قد دخل إلى كوريا سنة 879، متزامنًا مع هروب المسلمين ومن معهم من الصين إلى كوريا في 878 و879 إثرَ تمرد هوانغ تشاو المذكور آنقًا (878-879). حاولت الدراسة إضفاء صبغة إسلامية على شخصية تشيويونغ، وركّزت على الطابع الصوفي له، محتفيةً بطقوسه ورقصاته من جهة، ومنتبهةً لمفهوم يشبه مصطلح البركة من جهة أخرى؛ إذ يُعتقد أن سكان سيلا كانوا يعلقون صوره على الأبواب لطرد الأرواح الشريرة، وأُنشئ معبد في محل بيان كرامته!
وعلى الرغم من غياب الأدلة التاريخية الملموسة التي تؤكد أن تشيويونغ كان طبيبًا، يستند الباحث إلى الاجتهادات الطبية التي كانت سائدة في الدولة العباسية آنذاك، خصوصًا أن السفن التجارية التي كانت تجوب بين الصين والجزيرة العربية، كانت تحمل على متنها أطباء معالجين للأمراض المعدية. وبناءً على هذه المراجعات، خلص الباحث إلى أن تشيويونغ قد يكون مرتبطًا بالدولة العباسية، أو على الأقل أنه شخصية تجسد تأثيرًا إسلاميًا وصل إلى كوريا في تلك الفترة.
إلى ذلك، قدم أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة بوسان للدراسات الأجنبية، يون يونغ سو (Yoon Yong Su)، رؤية حول تاريخ العلاقات بين شبه الجزيرة الكورية والعرب والمسلمين عبر فترات متعددة. ركّز الباحث على التبادلات الثقافية والتجارية التي جرت خلال فترة أسرة كوريو (918-1392) وأسرة جوسون (1392-1897)، وصولًا إلى التاريخ الكوري الحديث. أشار يون يونغ سو إلى انتقال بعض العادات والتقنيات الثقافية من العالم العربي إلى كوريا، ومن بينها تقنية صناعة مشروب «العرق»، التي يُعتقد أنها وصلت إلى كوريا عبر المغول خلال فترة حكمهم. تطوّرت هذه التقنية فيما بعد لتصبح الأساس لصناعة مشروب «السوجو (Soju)»، المشروب الكوري التقليدي الذي يُصنع تقليديًا من الحبوب أو حتى الأرز. انتشرت تقنية التقطير في مناطق مثل غيومغيونغ وأندونغ، واستمر تأثير هذه التقنية حتى العصر الحديث، مما قد يعكس جزءًا من استمرار الثقافات التي جاءت مع المغول، بما فيها التأثير العربي غير المباشر على الثقافة الكورية. اجتهد الباحث لإثبات بعض التأثيرات الموسيقية عبر التبادلات الثقافية مع العرب، خصوصًا خلال فترة حكم المغول. فذكر الآلات الموسيقية الهوائية، مثل المزمار، والتي صار لها نظير في الثقافة الكورية مثل آلة «تايي بيونغ سو» (Taepyeongso).
أما من ناحية الخرائط الجغرافية المُبكِّرة، فقد وصف الرحالة العرب شبه الجزيرة الكورية بدقة. وظهر ذلك في كتابات ابن خرداذبة (ت 912) في القرن التاسع الميلادي، حيث أشار إلى موقع كوريا الجغرافي وتأثيرها التجاري، كما قدم الإدريسي (ت 1165) وصفًا تفصيليًا لكوريا في القرن الثاني عشر، مما ساعد في رسم خرائط دقيقة عن المنطقة. وقدم المسعودي (ت 956) والفارسي إشارات إلى وجود التبادل التجاري بين كوريا والعالم العربي، مشيرين إلى أهمية الموانئ الصينية والكورية في الربط بين الشرق الأوسط وشرق آسيا. بالمقابل، كان أول من رسم خريطة للجزيرة العربية من كوريا هو كيم ساهيونغ (1407) في خريطة جانجيدو (Jiangnido Map).
وفي مقالة مطولة بمثابة الشهادة، عرض الأكاديمي والمترجم الكوري الجنوبي، أستاذ الدراسات العربية الفخري في جامعة ميونغجي (Myongji University)، تشوي يونغ كيل (حامد) (Choi Yeong–Gil) للعلاقات الثقافية الكورية -الإسلامية كما ذكرتها المصادر العربية وعدد من المراجع الحديثة، مركزًا على الأبعاد الثقافية ومراحل تطورها. بدأ الشاهد المؤرخ ببدايات الاتصال بين الكوريين والأتراك، لا سيما منذ سنة 1955 وتأثيراتها اللاحقة في انتشار الإسلام. ولكن الأهم في هذه الشهادة تطور حركة ترجمة العديد من المصادر والمراجع من العربية إلى الكورية، والذي كان لصاحبها دور ريادي فيها.
واقتصاديًا، تناول الباحث في «المعهد الكوري للسياسة الاقتصادية الدولية» كوان هيونغ لي (Kwon Hyung LEE) العلاقات الاقتصادية بين كوريا الجنوبية ودول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما في العقود الأخيرة.
تناولت الباحثة والأستاذة المساعدة في قسم اللغة العربية في جامعة بوسان للدراسات الأجنبية (Busan University of Foreign Studies) منى فاروق أحمد، واقع ودور الجمعيات الإسلامية في كوريا الجنوبية، فركّزت على مؤسسات «اتحاد مسلمي كوريا» التي تضم «المعهد الكوري للثقافة الإسلامية» و«جمعية المرأة المسلمة في كوريا» و«جمعية الطلاب المسلمين الكوريين» (KMSA). أما فرح شيخ (Farrah Sheikh) أستاذة الأبحاث في جامعة كونكوك بسيول، فقد حللت في دراستها الإثنوغرافية تشكيل الخطاب والهويات الإسلامية عبر فيسبوك لدى الشباب المسلم الكوري، فاستكشفت الطرق واستراتيجيات الحوار التي يستخدمونها لبناء الثقة والقبول، وتطبيع الاندماج في المجتمع بوصفهم مسلمين كوريين.
اجتماعيًّا، تناولت المحاضرة في مركز (Torch Trinity) للدراسات الإسلامية في سيول جيون كوون (Jeeyun Kwon) وضع المرأة المسلمة في كوريا الجنوبية.
وفي دراسة مشتركة قدمت الباحثة الصينية لينغ يون ما (Ling yun Ma) والباحث والأكاديمي الصيني وانغ جيان بينغ (Wang Jian ping) للسجالات حول بناء المساجد في كوريا الجنوبية، فركّزت الدراسة على حيثياتها والنزاع حول بنائها، خصوصًا في العاصمة سيول.
على مستوى الجامعات، عرضت الأستاذة في قسم الدراسات العربية في جامعة ميونغ جي (ji University Myong) نَجْوَى خضيري، لتدريس الإسلام واللغة العربية في أقسامها. بالموازاة قدمت الباحثة والأكاديمية هالة ثابت، تحليلًا للقضايا والمقالات حول الإسلام والمسلمين التي نشرتها «مجلة الأديان الكورية» (Journal of Korean Religions) منذ صدورها سنة 2010. تعد المجلة الأكاديمية الوحيدة المخصصة لدراسة الأديان، وتصدر باللغة الإنجليزية في كوريا الجنوبية كمجلة محكمة مرتين في العام.
على مستوى دراسات الإرهاب الإسلاموي وتحدياته، تطرق روهان غوناراتنا (Rohan Gunaratna) وشين شايي (Shin Chaeyi) في دراستهما المشتركة إلى مؤشرات التحول إلى الراديكالية الإسلاموية في كوريا الجنوبية، فركّزا على الجماعات المتسلفنة والإخوان المسلمين، وأبرزا كيف تمكّنت الجماعة عبر تدفق المهاجرين وطالبي اللجوء، لا سيما من مصر، في تقوية حضورها في البلاد، بدءًا من سنة 1994، وتأسيسها خطابًا متطرفًا يخالف الإسلام المحلي التقليدي.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت هذا الكتاب.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مايو (أيار) 2024