تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإعلام والإرهاب: السياقات – التوظيف – التجارب» (الكتاب الثامن والستون بعد المئة، ديسمبر (كانون الأول) 2020) دور وسائل الإعلام في التعاطي مع الظاهرة الإرهابية، واختار نماذج لفضائيات إخبارية عربية، متباينة في درجة مسؤولية تعاملها مع العنف والتطرف، دارساً المحتوى الإعلامي الذي يركِّز على رصد الحركات الإسلاموية والظواهر المرتبطة بها، من منطلقات: التجييش، أو العلاج، أو النقد.
ظلّت وسائل الإعلام هدفاً للجماعات الإرهابية، وبقدر اهتمام هذه التنظيمات بأدواتها الإعلامية الخاصة، إلا أنّها غرست أنيابها في محطات الإعلام المجتمعي؛ ووسائل إعلام بعض الدول، إلى أن نجحت أحياناً في تحويل قنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية «مستقلة شكليًا»؛ إلى أداةٍ تخدم الأهداف الإرهابية، بوعي أو بدونه، فتحوّلت المنصات التي يفترض أن تكون محايدةً -إن لم تكن مهاجمة- إلى وسيلة نشرٍ للتطرف أو الترهيب أو التضليل.
قصدت العمليات الإرهابية التقليدية في أساسها جذب الإعلام، وإرغامه على تسليط الضوء على موضوعٍ أعد له الإرهابيون العدَّة؛ تماماً كما أعدوا لعملياتهم، وانتقوا ضحاياهم من الأبرياء. وعلى إثر ذلك تنوّعت مدارس التعامل مع الإرهاب إعلاميًا، بين مدارس تعتمد التجاهل التام له، وأخرى تبنّت الانخراط السياسي فيه بتسليط الضوء على قضاياه المزعومة، إلى حدٍ قد يقترب من التعاطف مع المُنَفِّذِين. اتخذت مدارس أخرى من الآلة الإعلامية وسيلةً لمكافحته، وصناعة خطاب الوعي بالحياة وجودتها؛ وقيم الاستدامة ومسارات الأمل في المستقبل.
ولكنّ هذا لا يعني أنّ كل القنوات المُكافِحة تتعامل بمسؤولية مطلقة مع ملف تفكيك الإرهاب، وتمكين المستمعين من حق الوصول إلى المعلومات الشفافة، بحياد. إذ يتم أحياناً وفي خِضم مكافحة الإرهاب، تسييس القضايا الإعلامية في إطار الصناعة السياسية، كما يظهر في التعامل مع وثائق أسامة بن لادن، التي اختارت الجهات الأميركية المسؤولة عنها، حجب معلوماتها التي لا تخدم أجندتها السياسية المرحلية، خصوصاً ما يتصل بعلاقة تنظيم القاعدة بإيران، سواء إبّان التفاوض على الاتفاق النووي في عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، أو حتى حين تمّ الإفراج عنها في عهد الإدارة التالية له على سبيل المثال. وتأتي آلية فهم المسؤولية تجاه القضايا الأساسية، والتضليل، مناطةً بصنّاع الاستراتيجيات الإعلامية، وهو ما تكشفه حقيقة مسؤولية الإعلام في الحفاظ على السياق أو تدميره. عبر تركيزها على زوايا أقلّ أهميّة، ومن خلال تحويلها للأجزاء الهامشية إلى متن!
كان للصحافة الاستقصائية دور بارز بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية، من ناحية التحشيد. إذ برزت أسماء عربية غطت أحداثها؛ وغدا لها برامج مشهورة ومشهودة، قام الكتاب بدراستها وبتحليل محتواها. وعادت دراسة أخرى لتقصّي جذورها، الكامنة في فترة الحرب الروسية الأفغانية، وناقشت فرضية أن يكون نجوم مجلات تغطية الحرب الأفغانية في الثمانينيات الدموية، هم أنفسهم نجوم الشاشة في تغطية حروب القاعدة: مُضِيفين، ومستضافين!
لمعت أسماء صحفيين منسوبين للإسلاموية السياسيّة بتياراتها، أثناء الحرب وبعدها بسنين طويلة، من خلال تقصي ما جرى فيها؛ والسعي خلف شخصيات إرهابية لعبت أدواراً ميدانية مهمة في حشد الشباب للقتال عبر التجنيد المباشر، أو عن طريق الدعاية الممهدة في تجربتي تنظيم «القاعدة» بفروعها وداعش بولاياتها المزعومة وتشققاتها المدّعاة.
يدرس الكتاب برنامج «سري للغاية» ويُقيِّم تعاطيه مع الوقائع والحقائق، لاستقصاء تفاصيل الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة، فركّز على عناصر الخطاب ومنطلقاته، إلى جانب مضمون البرنامج بجزأيه الأول والثاني، وتحديداً تقنيات السرد وبناء المشهدية وأدوات التشويق، ولفت الانتباه لخبايا وحيثيات تصنِّف من باب الكشف، خصوصاً في برامج تستهدف في غالبيتها جمهوراً عريضًا من المتدينين. تناولت دراسة أخرى نماذجَ لأعمالٍ تلفزيونية تتصل ببرامج وثائقية قائمة على لقاءات مع أبي محمد المقدسي، وأبي مصعب الزرقاوي، وأخرى مع قائد قوات جبهة النصرة الإرهابية!
في المقابل، سعت دول عربية عدة إلى التصدي للمحتوى الإعلامي الذي يروِّج للإرهاب والعنف وخطاب الكراهية، بمسؤولية إعلامية وقانونية، فوضعت القوانين وراقبت البرامج؛ وحاولت مكافحة التطرف الذي يُروَّج له في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت.
قامت المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة؛ بدورٍ بارز في التصدي للتطرف، تناولت أولى دراستين محللةً التجربتين المصرية والإماراتية في مكافحة خطاب التطرف والكراهية على المستوى الإعلامي؛ التقليدي منه والجديد، فغطت في الحالة المصرية مراحل تطور خطاب التطرف في الفضاء الافتراضي، وآليات محاربته قانونياً وإعلامياً من قبل الجهات المعنية. وفي الحالة الإماراتية رُصِدت القوانين الداعمة للجهود الإعلامية، ودور المؤتمرات والمؤسسات البحثية والثقافية والدينية في هذا الجانب، ورصدت الدراسة الأدوات والاستراتيجيات التي تم تبنيها من قبل المؤسسات الحكومية والمدنية ذات الصلة.
بينما تطرقت الدراسة الثانية إلى الدور السعودي المهم في التصدي للمحتوى الإعلامي الإرهابي، خصوصاً بعد عام 2003 الذي شهد أول عملية إرهابية، إذ عملت الجهات المختصة في المملكة على جبهات عدة، من ضمنها سن القوانين وتأسيس القنوات الفضائية وبرامج المناصحة ومراقبة الإنترنت للحد من خطاب التطرف. ومبادرات إعلاميةٍ وبحثية مميزة في القطاع الخاص، والأجهزة الرسمية.
لا يقتصر الإرهاب ودراسته على الإعلام الرسمي وشاشة الأخبار؛ إذ دخلت صناعة السينما في تقصّي المحتوى وتوجيهه، عربيًا وغربيًا، فاختار الكتاب دراسة انعكاس الدراما والإنتاج الفيلمي على المجتمع، من خلال أبعاد تمثيل الإرهاب في السينما الألمانية، لتحديد كيفية استقبال الجمهور له وأثره. قدمت الدراسة عرضاً عاماً حول تصوير الإرهاب في التجربة الألمانية ودراسة الأدبيات التقنية السردية، محللةً مختلف الأفلام الروائية و(الوثائقية) للمقارنة.
ناقشت دراستان التعامل الإعلامي الأميركي والعربي مع وثائق أبوت آباد التي عُثر عليها في مخبأ زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في باكستان، بعدما تحوّلت إلى مادّة إعلاميّة دسمة للخبراء والمحلّلين والمتابعين لشؤون تنظيم القاعدة الإرهابي. وركزت على أهداف الإفراج الممرحل عنها، مناقشةً فرضية توظيف الإدارات الأميركية لها، فيما يخص تورط إيران بدعم التنظيم حسبما كشفته الوثائق.
من جهة أخرى تركت التسريبات الإعلامية الممنهجة حول القيادات السياسية والزعماء، تأثيراً في الرأي العام. لاحظت الدراسة التي غطت هذا المحور «تقبلاً كبيراً لها لدى أوسع جمهور ممكن وطنياً وعالمياً؛ حتى من قبل أولئك غير المعنيين أو المتضررين مباشرة منها». وهي ظاهرة نفسية حللها في الكتاب عالِم النفس اللبناني البروفيسور مصطفى حجازي، في دراسةٍ خاصة انتهت إلى عبثية هذا المنهج الإعلامي التضليلي الذي يستهدف الدول، ويتلاعب بالحقيقة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة جمانة مناصرة التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
هيئة التحرير
ديسمبر (كانون الأول) 2020