يعتبر المكوِّن الإيزيدي أحد المكوِّنات الدينية العريقة، التي توجد في كردستان، مثل غيرهم من المكونات الدينية التي تتشابه معها في الكثير من الخصوصيات الدينية وأبرزهم الكاكائية، تعرضوا إلى حملات الإبادة والترحيل والتهجير وفرض الهويات، ضمن خطط استهدفت وجودهم منذ قرون عديدة، متمثلة بالفرمانات والحملات والهجمات ضدهم إلى حد أنهم اختفوا في الكثير من المناطق التاريخية التي كانوا يشكلون الأغلبية فيها، وصولاً إلى الهجمة الكبيرة التي قام بها تنظيم داعش عليهم في سنجار جنوب كردستان إلى الغرب من الموصل (120) كم في صيف 2014.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تعريف بهذا المكوِّن، وبعض المحطات التاريخية المهمة التي مرت عليه، والتوزيع الجغرافي له في الوقت الحاضر في كردستان، مع الإضاءة على أبرز عاداته وتقاليده، والأسس التي اتبعها حتى استطاع الحفاظ على وجوده وسط التحديات الكثيرة التي رافقت تاريخه، وصولاً إلى واقعه الحالي بعد تعرضه للهجمة الكبيرة من قبل تنظيم داعش والتي وصفت بالإبادة من قبل المؤسسات الدولية.
استندت الدراسة إلى مجموعة مصادر قديمة وأخرى حديثة، كما أنها استندت إلى بعض المقالات الجديدة التي نشرت عن الديانة، والتي فيها رؤى علمية ومعلومات مهمة، إلى جانب التركيز في تقديم هذه الديانة للقارئ العربي بطريقة واضحة ومفهومة وفقاً للوقائع التاريخية.
مثل غيرها من الدراسات فإن الكتابة عن الإيزيدية دائماً تعطي للكاتب الحرية في تناولها في اتجاهات عدة، لذلك اخترنا بعضاً من السرد التاريخي إلى جانب الوقائع التي مرت وأثرت كثيراً على هذا المكون وهويته وتاريخه المليء بالمآسي كما تذكر العديد من المصادر.
الإيزيدية: مكانتهم في مسارات التاريخ
تعتبر العديد من المصادر أن الديانة الإيزيدية واحدة من أقدم الديانات التي ما تزال تحتفظ بخصوصيتها وتراثها العريق في كردستان، والتي تتقاسم مع العديد من الأديان الطقوس والتقاليد والعادات والأساطير[2]. وُجِدوا في وسط كردستان قديماً وما يزالون، حيث توجد معابدهم ومزاراتهم التي تشير إلى العمق التاريخي والتي ترتبط بالمعتقدات الهندو جيرمانية للديانة الكردية القديمة، والتي جاءت من الهند إلى كردستان الحالية[3]، لكن هناك رأي آخر حول جذور هذه الديانة يشير بأنها امتداد للديانة الميثرائية والمانوية، واحتموا وحافظوا على كيانهم بإضفاء صبغة إسلامية عليهم لكي يتجنبوا الاضطهادات، التي واجهوها من المسلمين، وبقيت تلك الصبغة موجودة فيما بينهم إلى الآن لتصبح جزءاً من واقع حالهم[4]، في حين يشير خليل جندي (وهو من أبرز الباحثين المتخصصين بالشؤون التاريخية والدينية للإيزيدية) إلى أن الإيزيدية من الديانات القديمة وتعد واحدة من الديانات الكردية القديمة[5]، وباحث آخر يعتبرها من أقدم الديانات الكردية القديمة.
لكنْ كاتبٌ إيزيدي آخر قدم مجموعة معرفية مهمة عن الجانب الفلسفي والمعرفي للإيزيدية يقول: «إن النص الديني الإيزيدي (ئافريندنا دنيايى – خليقة الكون) يفند ما يذهب إليه البعض حول أصول الإيزيدية كعلم أو دين، ويحاول ربطها بالمثرائية أو غيرها، فمن يؤمن بالنصوص المقدسة ويفهمها، سيفهم تمام الفهم أن أول مركز إشعاع حضاري على وجه البسيطة كان لالش النوراني، وبالتالي يناقض هؤلاء أنفسهم بالقول: إن الإيزيدية بقايا لأديان أخرى!»[6].
إن هذا الثراء التاريخي والتعددية في الآراء بخصوص أصول هذه الديانة يشيران بوضوح إلى امتلاكها للجذور التاريخية العريقة، وقدرتها على البقاء على الرغم من التغيرات الكبيرة والمستمرة التي طرأت على المنطقة التي تعيش فيها، والتي أعطتها طابعاً مختلفاً لكل مرحلة من المراحل التي أصبحت بمواجهة التحديات التي استهدفت مكانتها وأسسها، ويتمثل ذلك الأمر بوضوح في العديد من الحملات التي شنتها الدولة العثمانية ضدهم على مدى أربعة قرون، غيرت من خارطة توزيعهم الجغرافي[7].
لذلك يمكن القول وفقاً للآراء أعلاه: إنها ديانة كردية قديمة شأنها شأن الديانة الياريسانية – الكاكائية وهي امتداد لديانة الشمانية – اليزدانية التي كانت موجودة في فترة الدولة الساسانية، احتفظت بخصوصيتها وتغيرت وفقاً للأحداث التاريخية التي مرت بها والتحديات التي واجهتها في سبيل الحفاظ على خصوصيتها.
نشأة الإيزيدية
وفقاً للميثولوجيا الإيزيدية فإن الإيزيدية تطورت بتطور الزمان واحتكاكهم مع الأديان السماوية، على الرغم من أنه ذكر اسم ديانتهم في فترة الدولة الساسانية بـ(يزدان ويزدانية) كما ورد ذكر يزدان التي اشتق لاحقاً منها كلمة يزد أو يازد (Yazd) بمعنى الله وجمعه يزدان ومعناه مستحق العبادة في كتاب الإفيستا لزرادشت، وفقاً لما يشير إليه ممو فرحان، الذي يوضح مسألة ربط الإيزيدية بالقول: «لا تعتقد الإيزيدية، كالمسيحية والإسلام، أن طاؤوس ملك أو (Devil Stam) هو سيد الشر، بل تعتقد أنه رئيس الملائكة، وهو الذي يأخذ الأرواح مع الملك جبرائيل، أما الشر فيكمن في قلب الإنسان وليس مصدره، وفي ضوئه تختلف قصة الخليقة لدى الإيزيدية»[8]. ولأنه لم توجد لدى الإيزيدية طرق التبشير والدعوة والكتب المدونة، فإنهم لم يسلموا بإضفاء تسميات وصفات أخرى عليهم من قبل الآخرين، مثل نسبتها إلى فرق من الخوارج أو العدوية، أو فرقة بدعوية أو تأليه يزيد بن معاوية أو عبدة إبليس بسبب اختلاف رؤية الإيزيدية لقصة الخليقة ودور طاؤوس ملك في خلق البشرية، وليس طرد آدم من الجنة كما تروي قصص الخليقة في الأديان الإبراهيمية[9]، وهذه الادعاءات قد أجاب عنها زهير كاظم عبود، وكاظم حبيب في إشارتهما إلى أن الإيزيدية تمتد جذورها إلى يزد الإيرانية كمكان انتشارها، وهي جزء من الموروث الإيزيدي المتأصل في التسمية التي يتداولون القول بأن الإيزيدية من إزدايم -أي من خلقني– أو خودايى – خودا بمعنى الله، ويوضح المعنى أن هذه هي التسمية الصحيحة لله وفقاً لنص ديني للإيزيدية اطلع عليه الكاتب باللغة الكردية يقول (ئةوى أز داييم – من خلقني، خؤ دايى – خلق نفسه، ئةوو بخؤ خودايى -هو الله) ولكن لم تصل دراسة محددة إلى الآن إلى تاريخ معين لنشأة الإيزيدية؛ لأنها تطورت مع تطور الأديان وممارسات العبادة لأتباعها الذين يعتبرون أنهم أول الشعوب التي تؤمن بالوحدانية وفق النص الديني أعلاه، وهو ما أكده أيضاً فواز فرحان من أن الديانة الإيزيدية تختص بالمجال الروحي في تحديد العلاقة بالخالق وتقسيماته وأسرار الوجود أكثر منها مسألة علاقة جدلية، لأن الإيزيدية في نصوصها الدينية التي تسمى وفقاً للأعراف الدينية الإيزيدية بالسبقات المقدسة، تكشف هذه العلاقة ودور الإنسان في سبر أغوار الكون وعلاقته بالخالق[10]. إذن يمكن القول: إن التوحيد والعلاقة مع الخالق في الديانة الإيزيدية لها خصوصية قائمة بحالها، لا تشبه ما هو في الأديان الإبراهيمية، ولا في تلك التي تتناول العلاقة بالرب حسب التطور الطبيعي للخلق، لأن الإيزيدية تركز في خصوصيتها على العلاقة الروحية مع البعد الفلسفي للأمر.
انتشار وتوزيع الإيزيدية في العالم
ينتشر الإيزيدية في الأجزاء الأربعة من كردستان التاريخية: العراق – تركيا – سوريا – وإيران، ولكن الجزء الأكبر الذي بقي منهم الآن يوجد في إقليم كردستان– العراق وهناك مجموعات صغيرة بقيت منهم في تركيا في منطقة ويران شهر ومديات وهازخ وديار بكر، ويوجد الإيزيدية في سوريا بمنطقة عفرين والحسكة في الجزيرة، إلا أن غالبيتهم قد هاجر بسبب الأعمال الإرهابية التي استهدفتهم مع اندلاع الصراع في سوريا 2011، ومن بقي منهم الآن ينتشرون في قرى عدة في عفرين، فيما الأخبار والوقائع عن وجودهم في إيران قد اختفت منذ حوالى خمسين عاماً.
تنتشر النسبة الأكبر من الإيزيدية في إقليم كردستان في العراق، وفي منطقة سنجار وسهل نينوى شمال الموصل وبعشيقة وبحزاني وقضاء شيخان ومجمعات وبلدات في محافظة دهوك، وصل عددهم بحسب المديرية العامة لشؤون الإيزيدية في العراق إلى حوالى ستمئة ألف نسمة قبل هجوم تنظيم داعش عليهم في صيف 2014.
كما يوجد الإيزيدية في قفقاسيا وأرمينيا وجورجيا، وهم بقايا الذين هاجروا من تركيا بعد تعرضهم إلى حملات الإبادة من قبل الدولة العثمانية، إذ سجل الإيزيدية أكثر من (72) حملة إبادة تعرضوا لها في ظل الدولة العثمانية، كانت ترافقها عمليات القتل والتدمير ونهب ممتلكاتهم وسبي نسائهم[11]، فيما الدراسات الحديثة تشير إلى أن هناك حوالى مئة وعشرين ألف إيزيدي في دول المهجر وأولها ألمانيا، التي يزيد عدد الإيزيدية فيها على ثمانين ألف نسمة، بعدما كان هذا العدد قبل هجوم تنظيم داعش عليهم حوالى (50) ألفاً، وفقا لما أشار إليه ممو فرحان في الدراسة التي سبقت الإشارة إليها.
مع تأسيس المملكة العراقية 1921، كان عدد الإيزيديين آنذاك أكثر من (26000) ألف نسمة[12]، إلا أنه لم يكن لهم حضور، ومشاركة ضمن الأقليات الدينية غير المسلمة في مؤسسات المملكة العراقية، وخصوصاً مجلس النواب العراقي الذي شكل عام 1925 [13]، تعرضوا إلى الكثير من التهميش وحملات طمس الهوية خلال ثمانين عاماً، إلى أن تغير حالهم بشكل سريع بعد إنشاء إقليم كردستان في العراق عام 1970 . وتعد مكانة الإيزيدية في كردستان – العراق الأكثر تأثيراً على الأجزاء الأخرى بسبب وجود المرجع الديني للإيزيدية في شيخان، ومقر أمير الإيزيدية ومعبد لالش الذي يقع إلى الشرق من دهوك بـ(45) كم وسط كردستان.
تعرض الإيزيدية إلى الكثير من المآسي في تركيا كما العراق، واستمرت معاناتهم مع أنظمة الحكم، وكانت الفترة الأصعب، لا بل الأكثر استهدافاً ضدهم، هي الممتدة بين عامي 1974–1991 في العراق، وفقاً لما يقوله عيدو بابا شيخ، عندما بدأت المحاولات الرسمية لنظام حزب البعث في تعريب الإيزيدية، وذلك بفتح (المكتب الأموي) في بغداد 1969 الذي أصبح مسؤولاً عن نشر الدعوة التي تشير إلى أن الإيزيدية أصولهم عربية، وكانت تحظى بدعم حكومي استمرت في عملها إلى 1981 [14]. هذه السياسات التي استهدفت الإيزيدية في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وكانت سبباً في تغيير واقعهم الاجتماعي، والاقتصادي والحياتي بشكل عام، والتي توجت بحملات التعريب التي استهدفت الإيزيدية، والتي بدأت منذ عام 1974، حيث يقول باحث في شؤون التعريب بأن الحكومة العراقية قامت بوضع خطة ممنهجة لتعريب القرى والمناطق الإيزيدية، ومن أجل ذلك منحت أراضي الإيزيدية للعشائر العربية التي تم استقدامها للمنطقة، وذلك بعد أن قامت السلطات العراقية بترحيل أهالي (121) قرية للإيزيدية في سنجار وإسكانهم في (12) مجمع قسري وترحيل أهالي (62) قرية للإيزيدية في أقضية شيخان وتلكيف وزاخو للفترة 1974–1987. وإسكان العشائر العربية في مناطقهم وخصوصاً عشائر اللهيب، والجبور والمتيويت والحديدية[15]. وضمن خطة ممنهجة لتجريدهم من هويتهم القومية الكردية سجلوا عرباً في الإحصاء – التعداد السكاني الرسمي عام 1977 رغماً عنهم والتي أدت إلى تقوقع الإيزيدية في مناطق سكناهم، وأصبح كل همهم الحفاظ على خصوصيتهم الدينية، وتراجعت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية فيما بينهم[16]. ولم تكتف السلطات بعمليات الترحيل والتعريب بل «أصدر مجلس قيادة الثورة، قرارا برقم (358) في 6 مارس (آذار) 1987 يقضي بمصادرة جميع الأراضي العائدة للإيزيديين بعد أن رحلوا عنها عنوة أيضا في منطقة الشيخان، وتوزيعها على العرب فيها»[17].
إن التشريعات التي كانت الحكومة تتعامل بها مع الإيزيدية لم تتعدَّ سوى بعض القرارات الخاصة بالطوائف غير المسلمة، مثل تطبيق قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959 المعدل عليهم، وكانت أحكام هذا القانون سارية لغاية صدور نظام رعاية الطوائف الدينية رقم (22) لسنة 1981 الذي أصبح نافذا من 18/ 1/ 1982، والذي بموجبه استثنى الإيزيدية من اختصاص محاكم الأحوال الشخصية، وأصبح النظر في دعاوى الأحوال الشخصية الخاصة بالإيزيدية من اختصاص محاكم المواد الشخصية[18]).
اشتدت ممارسات الحكومة العراقية ضدهم، واستمرت محاولات تغيير الواقع الديموغرافي والتغيرات الإدارية، والتي سببت تقوقعاً للإيزيدية، وتأثرت الأعراف والعادات كثيراً بتقاليد المجتمعات المجاورة، على الرغم من أن الديانة الإيزيدية تحترم الأديان كافة التي ظهرت قبلها وبعدها؛ إذ توجد نصوص دينية للإيزيدية في مدح المسيح (عليه السلام) والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) كما هو الأمر بخصوص موسى ويوسف ويونان، ولذلك تجد أن الإيزيدية تشترك مع الشعوب المجاورة لها في تقاسم العبادات والعادات مثل الختان والتعميد، فعلى سبيل المثال، هناك مكانة خاصة للنبي خضر إلياس – خدرلياس لدى الإيزيدية إذ يصوم الأغلبية منهم ثلاثة أيام ومن ثم يصبح عيداً في منتصف شهر فبراير (شباط)، ويوجد العديد من المزارات والمقامات للنبي خضر كان أقدمها مزار خدر إلياس في تلعفر الذي هدمه تنظيم داعش في 19 يونيو (حزيران) 2014، وكان المسلمون والتركمان والمسيحيون أيضاً لهم احترام وزيارة هذا المزار، إذ يوجد أكثر من مقام لخضر إلياس في أنحاء متفرقة من العراق. (متابعة من قبل الكاتب) هذه مع غيرها من الأسس التي تعتز بها الديانة الإيزيدية، تجد لها مشتركات مع بقية الأديان.
عبادات وتقاليد الإيزيدية
تحتفظ الديانة الإيزيدية بعبادات وتقاليد دينية راسخة تمتد جذورها إلى آلاف السنين، إذ تتمثل تلك العبادات بجذورها الممتدة للديانة المثرائية، أو تشابهها مع الديانة الزرادشتية أو توافقها مع ديانة الكاكائية – اليارسان اللذين يعدان مع الإيزيدية أقدم الأديان الكردية التي ما تزال مستمرة ببقائها.
مرت الديانة الإيزيدية بمراحل تاريخية مهمة منذ تكوينها كديانة قائمة بذاتها، وتغيرت بعض تلك العبادات والتقاليد مع مجيء الشيخ عدي بن مسافر الهكاري إلى لالش في القرن الحادي عشر، الذي يعتبره الإيزيدية مجدد الديانة الإيزيدية.
ونتيجة لامتلاكها هذا الإرث في العادات والتقاليد، وبعدما أصبحت في مواجهة الأديان التبشيرية، كانت تمتلك العديد من العوامل التي ساعدت على بقائها والحفاظ على خصوصيتها، سواء من خلال نصوصها الدينية التي تعلو فيها القضايا الروحية، فالإيزيدي فخور بديانته وانتمائه الديني، يؤدي واجباته بكل عزة، وهذا الأمر مستمد من جذور هذه الديانة والصلات ذات الأبعاد الروحية، التي تجددت بقدوم الشيخ عدي – عادي إلى معبد لالش، ووضعه أسساً دينية تتوافق مع متغيرات المرحلة؛ إذا كانت مدارس الصوفية منتشرة في كردستان، ووجدت لدى الإيزيدية الإقبال واحتضان أفكارها باعتبارها قريبة من أسانيد الإيزيدية، ففي الاعتقاد الإيزيدي الإنسان لا يحتاج إلى وسيط كي يعرف الله، بل الظاهرة موجودة في نفسية الفرد، من أنه يملك موقفاً إلهياً بذاته، ويعتبر الإنسان هو نفسه نقطة الارتكاز والوحيد المسؤول عن أعماله، لذا عليه أن يوازن بين عواطفه وعقله وروحه[19]، ولأنه ليس من السهولة متابعة والتحقق من نشأة الدين الإيزيدي وكيفية تطوره عبر القرون، فمن الصعوبة أيضاً التحقق من ماهية الأسس التي في ضوئها وضعت تلك العبادات، إلا أن الإطار الأساسي له في علاقته وتشابهه مع الصوفية يبين الكثير من الحقائق على الرغم من وجود اختلافات بين الإيزيدية والطرق الصوفية في العبادة[20]. ويعتبر سامي سعيد الأحمد أن اعتقاد الإيزيدية بتناسخ الأرواح هو عقيدة هندوسية توارثها الإيزيدية، وهي جزء من عقيدتهم وإيمانهم بأن الأرواح تنتقل كما يفسرها الدكتور ممو عثمان في المصدر الذي سبقت الإشارة إليه، من أن الإيزيدية يؤمنون بتناسخ الأرواح، ويصومون ثلاثة أيام في منتصف ديسمبر (كانون الأول) وهي تقديس وقربان للشمس، ويعتقد الإيزيدية أن الله وحده يهب الأرواح، وله الحق بأخذها[21]. ويقدم خليل جندي في صفحات من الأدب الديني الإيزيدي تأكيداً بأن العوامل التي ساعدت الإيزيدية على البقاء والاستمرارية هي التراث الروحي والأسس الميثولوجية العرقية، والتي تتمثل في الأعياد والمناسبات الدينية مثل عيد رأس السنة، الذي يصادف ثاني أربعاء من شهر أبريل (نيسان) بحسب التقويم الشرقي، وعيد (جه ما) الذي يصادف السادس من أكتوبر (تشرين الأول) إضافة إلى النظام الطبقي المتمثل بالشيخ (البير) المريد، وهي الطبقات التي يعتبرها الإيزيدية قد استحدثت من قبل الشيخ عدي مسافر الذي يعده الإيزيدية مجدد الديانة الإيزيدية[22].
إن النظام الطبقي الذي تشتهر به الديانة الإيزيدية يتعزز في الممارسات الحياتية اليومية؛ إذ لا يجوز الزواج بين الطبقات، كما أن لكل واحدة من طبقة الشيوخ والـ«بير» مهام ومسؤوليات تجاه بعضهم البعض وتجاه العامة، فيما طبقة المريدين هي العامة من الناس، لديهم أيضاً واجبات تجاه الشيوخ والـ»بيرة»، ويعتقد البعض أن أصول هذه الطبقية هي واحدة من مؤشرات العراقة والقِدَم للديانة الإيزيدية وامتداداتها للأديان الهندو-إيرانية[23]. لذلك تعتبر العادات والتقاليد الإيزيدية مكملة للكرد المسلمين، في اللباس والمأكل وحتى في بعض المناسبات، كما أن تلك العادات جزء من تراثها وأسسها في التعامل مع غيرها من الأديان، لذلك بقيت التعاليم الدينية هي الأخرى جزءاً من التراث الديني، خصوصاً أن الأدب الديني لم يدون إلا أخيراً، بل تناقله الآباء عن الأجداد شفاهياً من خلال ما سمي بـ«علم الصدر»، وبالتالي سيطرت الثقافة الشفاهية على أصول الفلسفة الدينية للإيزيدية[24]، إلا أن محاولات جديدة أسهمت في توثيق الأدب الديني سواء من خلال إصدارات أو جمعها وتدوينها رسمياً من قبل لجنة مؤلفة من أكاديميين من جامعة دهوك –الكاتب عضو فيها وذلك منذ 2011 والعمل في تبويبها وتنظيمها مستمر.
يصوم الإيزيدية ثلاثة أيام في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) كما أشرنا، وهو صيام من شروق الشمس لغروبها، ويمتنعون عن الطعام والشراب، ويعتبرونها قرباناً للشمس باعتبارها سر الكون، كما لديهم الكثير من الأعياد الرئيسة، فإضافة لعيد الصوم هناك عيد (بيلندا) الذي يصادف الخامس من يناير (كانون الثاني) ومن ثم عيد رأس السنة ويسمى بـ(سةرى سال) حيث تقام مراسيمه في معبد لالش في ثاني أربعاء من شهر أبريل (نيسان) ويتم إيقاد القناديل لإنارة المعبد بعدد أيام السنة، تيمنا باستقبال السنة الجديدة بالنور والضياء، والعيد الخامس الرئيس يسمى عيد (جةما) والذي تُجرى مراسيمه في معبد لالش بتقديم الثور كقربان وسط مراسيم وتراتيل دينية خاصة، إلى جانب تجديد أغطية الأضرحة والمزارات الدينية في المعبد، وتستمر فعاليات هذا العيد لستة أيام، من (6) إلى (12) أكتوبر (تشرين الأول) إذ لكل يوم مراسيم خاصة به، تشير إلى الأصول القديمة للديانة مع تجددها عبر الزمان، يضاف إلى ذلك بعض الأعياد الموسمية التي لها علاقة بفصول السنة والطبيعة وأعياد لإحياء مكانة الأولياء الصالحين، تقام في ساحات المزارات في مدن وبلدات الإيزيدية تسمى بـ«ئوغلم» (طواف)، ثم يأتي عيدا أربعينة الصيف والشتاء التي تنتهي بقيام النساك والمتصوفين والزهاد وأعضاء المجلس الروحاني بالصيام لأربعين يوماً، يأتي بعده العيد، وتقام مراسيم هذين العيدين أيضاً في معبد لالش[25]. ويشارك الإيزيدية مع المسلمين في الاحتفال بعيد الأضحى متأخراً عنهم بيوم واحد، ويعتبره الإيزيدية رمز الوحدانية التي يؤمنون بها، وأن هذا العيد ليس إسلامياً فحسب، بل لكل الأديان التي لدى النبي إبراهيم الخليل مكانة عندها، وهذا الأمر واضح بشدة في هوية الإيزيدية التي تعتبر أن النبي إبراهيم الخليل هو أول وأكبر الأنبياء التي للإيزيدية، إذ لديه تقديس ومكانة خاصة به عندهم، وهو العيد الوحيد الذي يحتفل الإيزيدية به وفق التقويم القمري، إذ إن بقية الأعياد مثبتة وفق التقويم الشمسي الذي يتأخر عن الميلادي بـ(13) يوماً[26].
وعلى الرغم من أن هناك العديد من المؤلفات عن الإيزيدية وخصوصاً في الأربعين عاماً الأخيرة، فإن الباحثين يواجهون تحدياً كبيرا في فهم الصورة الحقيقية للقيم والتقاليد الدينية والاجتماعية للإيزيدية، بسبب مقارنتهم دوماً للعادات والتقاليد الإيزيدية مع المجتمعات الإسلامية المجاورة دون التدقيق فيها كحالة قائمة بذاتها، لها خصوصيتها المستمدة من نصوصها الدينية المدونة فقط باللغة الكردية، وإذا كان هناك الكثير من التناقضات التي تظهر من قبل هذا المؤلف أو ذاك، فهي كانت واحدة من السبل التي اتبعها رجال الدين في عدم إخبار كل الحقيقة للذين قاموا بالتدقيق والتحقيق في طبيعة المجتمع الإيزيدي؛ لخوفهم من أنهم يشوهون الحقائق، لذلك مؤخراً ظهر عدد من الدراسات التي تشير بوضوح إلى أن التراث الإيزيدي له جذور عميقة في القدم، سواء استناداً للأعياد التي تعد امتداداً للتراث الكردي القديم أو المراسيم الدينية التي تقام في مبعد لالش، وارتباط جميع المناسبات ونقطة الارتكاز الإيمانية بالشمس خاصة، وفقاً لما أشار إليه عدد غير قليل من الباحثين مثل هنري لايارد وبادجر وميجرسون[27]. كما أن الجهود التي بذلت أخيراً في إقليم كردستان منذ 1992 للاهتمام بتراث وخصوصية الديانة الإيزيدية، وجهود مركز لالش الثقافي والاجتماعي في إقليم كردستان – دهوك، فسحت المجال كثيراً للتعرف على خصوصية هذه الديانة ومعتقداتها بشكل صحيح، ومع صدور مجلة لالش الفصلية من قبل المركز أعلاه، بات هناك اهتمام أكثر، وأصبح المجال أمام من يحاول أن يبحث عن تاريخ وأعراف هذه الديانة أكثر سهولة، كما أنها سدت الباب على مقولة: إن الإيزيدية طائفة مرتدة عن الإسلام، من خلال العديد من البحوث والدراسات[28].
الإيزيدية في مواجهة التطرف الديني
يشكل موضوع التطرف الديني في الوقت الحاضر هاجساً مهما لأي فرد إيزيدي، سواء كان في كردستان أو خارجه بأوروبا، لأن للتطرف تأثيراً كبيراً في واقع الديانة الإيزيدية وانتشارها وتوزيعها وتبدلها مع مختلف المراحل التاريخية. وازداد ذلك التأثير بعد انتشار الكراهية الدينية، وازدياد ثقافة عدم قبول الآخر المختلف دينياً، وانتشار البدع التي تحرم الطعام والتعامل مع الأديان ومنها الإيزيدية من قبل الجماعات الدينية الإسلامية المتطرفة، إذ «تعرضت هويتهم لسوء فهم، جيرانهم، وللتشويه والتزوير على يد السلطات، كما على يد الباحثين والكتّاب الذين ينطلقون من أيديولوجيات قومية أو أحكام دينية معادية»[29].
كما أن مواجهة الإيزيدية للكراهية والتطرف لها جذور قديمة؛ إذ تعرضوا إلى أكثر من (73) حملة إبادة من تلك التي تم توثيقها في فترة سيطرة الدولة العثمانية على كردستان، كلها تمت وفق تحريض رجال الدين وفتاوى تدعو إلى إدخالهم في الإسلام أو قتلهم، رافقتها عمليات سلب ونهب وقتل وحرق قراهم وسبي نسائهم وأطفالهم، أثرت كثيراً في نفسية الفرد الإيزيدي، وأُلِّف الكثير من القصص والتراتيل الحزينة حولها، والتي سميت في الأدب الشفاهي الإيزيدي بـ«الفرمانات»[30]، وجرت العديد من تلك الحملات (الفرمانات) في فترات زمنية متعاقبة، أدت إلى حدوث تغيرات كبيرة على واقع المجتمع الإيزيدي منذ قرون عدة، وأكدتها العديد من الدراسات والوثائق التي دونها موظفو ورحالة الدولة العثمانية مثل أوليا الجلبي، تلك التي شنتها السلطات العثمانية في القرن السابع عشر، التي كانت تشن من قبل ولاة العثمانيين في ديار بكر أو بغداد والموصل، الأخيرة كانت تتميز بالقسوة والبطش والضخامة والضرب والغدر بدون رحمة. هذه الأعمال التي ارتكبتها السلطات العثمانية ضد الإيزيدية، كان تأثيرها كبيرا ورافقتها خسائر بشرية ومادية وموجات من الهجرة والترحال والتقوقع[31].
استمرت هذه الحملات وارتفع خطاب الكراهية واختفى أحياناً بحسب تعامل السلطات مع الإيزيدية، ولكن الممارسات الحكومية كانت الأشد دوماً، وكانت توفر الفرصة لرفع الكراهية ضدهم من قبل العامة من الناس، لا سيما أنه كان يرافقها تشويه الهوية والإساءة إلى خصوصية الإيزيدية من قبل كتاب وأجهزة السلطة، إذ قام الإيزيدية في الكثير من الأحيان برفع الدعاوى ضد هؤلاء الكتاب، والتي كانت آراؤهم مشوهة نتيجة اتباعهم مقارنات غير دقيقة، وعدم معرفتهم باللغة الكردية، وهي لغة النصوص الدينية الإيزيدية[32]. ورافق تلك الحملات إدخال مفهوم ارتباط الإيزيدية بيزيد بن معاوية، نقلاً عن جورج حبيب، الحالة التي كان لها التأثير الأبرز ولا تزال. واستمر حال الإيزيدية في هذا الاتجاه في العراق إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، كما هو الحال في سوريا وتركيا، إذ اختفى الإيزيدية من المشهد تماماً وتراجعت نفوسهم كثيراً بسبب الحملات المنظمة في الفترات الأخيرة عليهم، والتي كانت لها جذور بسبب حماية ودفاع الإيزيدية عن الأرمن في فترة مذابح الأرمن في تركيا (1914–1915)، إذ تعرض الإيزيدية إلى اضطهاد كبير نتيجة موقفهم هذا، وفقا لما ذهب إليه عدنان زيان وقادر سليم[33].
وفي الوقت الحاضر واجه الإيزيدية حملات منظمة من خطاب الكراهية، تمثلت بتلك التي اشتدت في العراق – جنوب كردستان مع ظهور الجماعات التكفيرية ونشرها بيانات ورسائل إلى أتباعها بخصوص الإيزيدية، كما فعل تنظيم داعش في صيف 2014، والتي بررت فيها عمليات سبي وخطف الأطفال وقتل الرجال، إلا أن هذه الوتيرة كان لها جذور إذ جاءت وانتشرت مع بدء الحملة الإيمانية التي قام بها صدام حسين في صيف 1993، واستمر هذا النهج، في تزايد حدة الكراهية تجاه الإيزيدية في مناطق عدة من العراق، وأصبحوا أهدافاً لعمليات إرهابية، وتكفيرهم والإساءة إليهم في وسائل الإعلام أو حتى في المؤسسات، وعلى إثر ذلك صعَّدت الجماعات الإرهابية وفقاً لهذا التوجه الهجمات ضد الإيزيدية اعتباراً من 2007، والتي غيرت من تركيبة وهوية ومكانة الإيزيدية وشكلت منعطفاً تاريخياً لهم، أسفر عن تغيير كبير في واقعهم الاجتماعي، الديني، السياسي والجغرافي، متمثلاً بالتفجيرات الكبيرة التي استهدفت بلدة كرعوزير في سنجار (120) كم غرب الموصل، وراح ضحيتها أكثر من ألف شخص بين قتيل وجريح، وتدمير حوالى ألف منزل[34]، وبحسب منظمة دولية فإنه تم استهدافهم بسبب سوء فهم دينهم من قبل المتشددين، الذين اعتبروهم هراطقة (ليس أهل كتاب)[35]. واستمر الحال إلى أن وقعت الهجمة الكبيرة أو حملة الإبادة الجماعية من قبل ما يسمى بتنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش) التي شنت حملة كبيرة على الإيزيدية باسم (غزوة سنجار) وذلك يوم الثالث من شهر أغسطس (آب) 2014، ذكّرت الإيزيدية بالعديد من الفرمانات (حملات الإبادة) التي تعرضوا لها في ظل الدولة العثمانية، لا سيما أنها أيضاً تضمنت غزوة ونهباً وقتلاً، وسبي النساء واسترقاق الأطفال، وبيع الفتيات في أسواق خصصت لهم في الموصل والرقة، وثقتها العديد من المنظمات الدولية في تقاريرها، واعتبرت ما تعرض له الإيزيدية جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية ترتقي إلى جرائم إبادة جماعية وفقاً لتقرير للأمم المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014[36]. واعتبرت منظمات دولية أن ما تعرض له الإيزيدية هو جرائم تطهير عرقي بهدف الإبادة، وأشارت منظمة العفو الدولية إلى أن «أعضاء المجموعة المسلحة التي تطلق على نفسها اسم (الدولة الإسلامية) قد شنت حملة ممنهجة من التطهير العرقي في شمال العراق، وارتكبت جرائم حرب، بما في ذلك عمليات قتل جماعية بإجراءات موجزة واختطاف، ضد الأقليات الإثنية والدينية»[37]. وأوردت المنظمة في تقريرها شهادات لأشخاص نجوا من عمليات القتل الجماعي، وكيف أن مقاتلي (الدولة الإسلامية) حملوا العشرات من الرجال والفتيان في شاحنات وقتلوهم بشكل فردي وجماعي، وخطف الآلاف من النساء والأطفال. وسبق مع بدء الحملة أن أعلن التنظيم تهديدات بأنه سيقوم بغزو الإيزيدية وسبي نسائهم وتيتيم أطفالهم[38].
أسفرت هذه الهجمة -بحسب المديرية العامة لشؤون الإيزيدية التابعة لوزارة الشؤون الدينية في إقليم كردستان في بيان لها- عن أن «عدد الإيزيديين في العراق كان يقدر بنحو (550,000–600,000) ألف نسمة، قبل احتلال داعش لمناطقهم في صيف 2014. وأسفرت غزوة داعش لمناطقهم، وخاصة سنجار وبعشيقة وبحزاني، عن نزوح حوالى (400,000) نازح. فيما كان عدد الشهداء (1293) شهيداً. وعدد الأيتام التي أفرزتها الغزوة (1103) أطفال أيتام. وفيما يخص الذين اختطفتهم داعش، تشير المديرية إلى أن «مجموع المخطوفين (6417) شخصاً غالبيتهم من النساء والفتيات الصغار، في الأيام الأولى من الهجوم الذي تعرض له الإيزيدية في سنجار[39].
المجتمع الإيزيدي أبدى تحديا كبيرا في سبيل مواجهة هذه الموجة الكبيرة للتطهير العرقي والعنف الذي تعرضوا له من قبل تنظيم داعش، وقال بيان لأمير الإيزيدية نشر بعد الحملة الكبيرة بأن داعش قامت بخطف أكثر من خمسة آلاف شخص، واحتجزتهم في معتقلات بسوريا والعراق، وارتكبت بحقهم ممارسات لا إنسانية، كالاغتصاب والتعذيب والقتل وبيعهم في أسواق النخاسة، واستخدامهم كدروع بشرية أيضا[40]. وأكدت (داعش) في مطبوعتها (دابق) «أن مقاتليها قدموا سيدات وفتيات إيزيديات مأسورات للمقاتلين كـ(سبايا حرب). وقد سعت داعش إلى تبرير العنف الجنسي بزعم أن الإسلام يبيح ممارسة الجنس مع (الإماء) غير المسلمات، بمن فيهن الفتيات، إضافة إلى أنها ارتكبت مجزرة كبيرة في قرية كوجو جنوب سنجار، وفي 15 أغسطس (آب) 2014 قام مقاتلو داعش بجمع عوائل القرية جميعهم في مدرسة القرية، وتم فصل الرجال ونقلهم في سيارات صغيرة، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيهم مباشرة بعد أن أطلق مسؤولو مجاميع القتل صيحات (الله أكبر)، وأعقب ذلك إطلاق الرصاص على المدنيين العزل الذين تم تعصيب عيونهم وتقييدأيديهم»[41]. ووفقا لشهود عيان نجوا من المجزرة، فإن داعش قتلت أكثر من أربعمئة شخص وسبت ما تبقى من النساء والأطفال من قرية كوجو الذين بلغ عددهم (832)، الذين تم نقلهم إلى سجون معتقلات أقامها التنظيم في مدن الرقة ودير الزور بسوريا وتلعفر والبعاج والموصل بالعراق[42].
أشارت العديد من النساء الناجيات في مقابلات شخصية ومقابلات نشرها عدد من المنظمات الدولية إلى تعرض الفتيات صغيرات السن إلى الاعتداءات الجنسية؛ وبيعهن كجوارٍ وإهدائهن لقادة داعش وخاصة الأجانب كغنائم حرب، من قبل جيرانهم العرب الذين غالبيتهم جاؤوا إلى مناطقهم في ظل سياسات التعريب. وأشارت غالبية النساء الناجيات إلى أن ما تعرضن له كان أزلام داعش يبررونه بأن الإيزيدية كفار وليس لديهم كتاب مقدس أو نبي، ودونت منظمة هيومن رايتس ووتش ذلك في أحد تقاريرها؛ إذ أشارت إلى أن النساء الإيزيديات تعرضن إلى «الاغتصاب والاعتداءات الجنسية والاسترقاق الجنسي والتزويج القسري المنظم من قبل داعش. وتعد تلك الأفعال جرائم حرب وقد ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية»[43]. وأشارت تقارير دولية إلى أن الإيزيدية الذين وقعوا في قبضة التنظيم أجبروا على اعتناق الإسلام، وكذلك تجنيد الأطفال وتدمير المعالم الثقافية والدينية لهم، وعمليات ممنهجة للتطهير العرقي والاغتصاب والاسترقاق الجنسي ونهب ممتلكاتهم[44].ولم تنجُ المعابد والمزارات الإيزيدية أيضا من التدمير؛ إذ أعلنت المديرية العامة لشؤون الإيزيدية في تقرير سبقت الإشارة إليه أن داعش قد دمرت (63) مزاراً دينياً في سنجار وبعشيقة وبحزاني، وهو ما اعتبرته المديرية من صنوف جرائم الحرب والإبادة ضد الإيزيدية وتدمير هويتهم.
إن التحديات الكبيرة التي واجهها الإيزيدية في سبيل البقاء والحفاظ على خصوصيتهم الدينية في مواجهة هذه الموجة من التطرف الديني، ما كانت لتحصل لولا الرؤية العميقة للفرد الإيزيدي للحياة والوجود، المستمدة من نصوصه الدينية التي تربطه بالسببية في البقاء، كما يشير إلى ذلك ممو بالقول: إنه لا ينتاب الإيزيدي الخجل لأنه إيزيدي، بل العكس يعني له الكثير؛ لأن الميثولوجيا حفرت في أعماقه الكثير على الرغم من التناقضات التي جاءت بها الديانة الإسلامية للمنطقة التي يوجد فيها الإيزيدية، ولأنه دائما يشعر بأنه جزء من المجموعة، فباستطاعته العيش والتأقلم مع الظروف التي تحيط به[45]. وفقا لهذا المنهج فإن الإيزيدية لم يتنحوا جانبا، بل زادوا قوة في تحدي الإرهابيين، وتعايشوا مع الأقوام المجاورة منذ القدم كما بعد هذه الهجمة الأخيرة والكبيرة عليهم، إذ لا يوجد في فلسفة الديانة الإيزيدية أي منهج لفرض الإرادة بالقوة أو الدعوة للقتل والانتقام، وهذا الأمر نابع من نصوصهم الدينية التي لا يوجد في أي نص ديني ما يشير إلى اللجوء للقوة لفرض الإرادة أو الثأر، وهي بهذا قريبة من الديانة المثرائية القديمة؛ باعتبار أن الإيزيدية توارثت تراث تقديم الثور كقربان، وتقديس العقرب والحية والشمس، كما يشير ممو فرحان.
إن الرؤية التي قدمها المجتمع الإيزيدي للتعايش والتسامح في مواجهة هذه الموجة من خطاب الكراهية والعنف والتطرف الديني، ثمنتها منظمات حقوق الإنسان بقيمة عالية وأخذت اهتماماً واسعاً. وستشكل في المستقبل القريب نقلة نوعية لواقع الإيزيدية، ستبنى عليها الرؤى الجديدة لهذا المجتمع، الذي كان ولا يزال ضحية الأفكار غير الصحيحة التي نقلت عنهم، ويدفعون ثمن جهل الآخرين بهم وبديانتهم وواقعهم الاجتماعي والحضاري والثقافي، من أنهم ديانة مسالمة لا تدعو للعنف والثأر، وفقا لبيانين لأمير الإيزيدية تحسين سعيد علي اللذين سبقت الإشارة إليهما، أو بيان بابا شيخ الزعيم الديني الخاص باستقبال الناجيات من قبضة داعش، والتي اعتبرت من قبل مختصين بأنها نقلة نوعية في المجتمعات الشرقية في التعامل مع النساء المعرضات للاعتداءات الجنسية، كما أنها اعتبرت جزءا من مسيرة الإصلاح التي يمضي المجتمع الإيزيدي بها بطيئا.
إن الصورة الكبيرة التي قدمها المجتمع الإيزيدي لمواجهة ما تعرضوا له تمت الإشادة بها من قبل مسؤول رفيع المستوى في الأمم المتحدة مثل (زينب بنغورا – مبعوثة بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة لقضايا العنف الجنسي) أو ما أشار إليه فرانسيسكو موتا رئيس قسم حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة إلى العراق – يونامي من أن «إعلان بابا الشيخ كان هاما جدا حيث قال: إن جميع الضحايا هم أنقياء روحيا، وطمأن النساء بأن مجتمعاتهن سترحب بهن ولن تصدهن»[46]. إضافة إلى أن البيان الذي أصدره أمير الإيزيدية بهذا الخصوص، وكذلك بابا شيخ، شكلا صورة مهمة للمجتمع الإيزيدي وتوجهاته المستقبلية من أنه يمضي لبناء مجتمع متفتح له رؤيته ووجوده ومكانته الخاصة بين مجتمعات ومكونات العراق وإقليم كردستان الأخرى، بعيدا عن الكراهية والتطرف، وتأكيدهم أن القضاء يجب أن يأخذ مجراه لتحقيق العدالة والفصل في حسم هذه الجرائم.
الخاتمة
وفقا للأحداث المأساوية التي مر بها الإيزيدية عبر تاريخهم، ووفقاً لمسيرة أتباع هذه الديانة في الحفاظ على خصوصيتهم الدينية، فإنهم باتوا فريسة للصراعات المستمرة في المنطقة منذ آلاف السنين، ومجدداً ضحية خطابات الكراهية والتطرف الديني لذلك:
بدأت الإيزيدية على الرغم من المآسي الكبيرة التي تعرضت لها على طول التاريخ أكثر وضوحاً للكثيرين، من أنها ديانة مسالمة تدعو للتعايش والتسامح في نصوصها الدينية وممارساتها.
استطاعت مواجهة موجة الإرهاب الكبيرة وعمليات سبي وخطف النساء بعقلية متفتحة كبيرة في الدعوة لتحقيق العدالة ونبذ العنف وفق السياقات القانونية.
الأحداث الكبيرة والمستمرة التي تعرضت لها الإيزيدية كديانة والمجتمع الإيزيدي أدت إلى تقوقعه وتقلصه، وتراجع نفوذه وموقعه الجغرافي بمرور الزمن، كما أنها أثرت كثيرا على نفسيته وهويته ومعتقداته التي حاول التأقلم مع الأحداث من أجل الحفاظ عليها، ففقد الكثير من الأسس المهمة للديانة.
أسفرت الأحداث الأخيرة عن حدوث موجة من الهجرة والتشتت، أثرت كثيراً على نفسية الإيزيدية وتراجعت مكانتهم في المنطقة.
ما يزال المجتمع الإيزيدي كما كان في السابق ضحية الصراعات بين الإمبراطورية العثمانية والفارسية، ليصبح الآن ضحية الصراعات بين حكومة الإقليم وبغداد بسبب موقعه الجغرافي.
المكون الإيزيدي بما يحتفط به من خصوصية، والذي شهد سنوات من الاستقرار وتنمية ثقافته وخصوصيته الدينية، في ظل مؤسسات إقليم كردستان، بحاجة إلى استمرار الدعم الدولي لكي يحافظ على هذه الخصوصية، لأن الكثير من الإيزيدية يخاف الانقراض إذا ما استمر حالهم بالهجرة وترك موطنه الأصلي.
يتطلب من الجهات الفاعلة في المؤسسات الدينية الشيعية والسنية أن تبادر إلى تبني وتقديم رؤية واضحة بخصوص الإيزيدية، من أنهم ليسوا شعباً معادياً ولهم الحق في أن يعيشوا كما يشاؤون.
[1] باحث عراقي في الإعلام وحل النزاعات وبناء السلام.
[2] خليل، جندي، الإيزيدية والامتحان الصعب، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل، 2008، ص28.
[3] ممو، فرحان عثمان، دراسات ومباحث في فلسفة وماهية الديانة الإيزيدية، مركز الأبحاث العلمية والدراسات الكردية، جامعة دهوك، 2013، ص27.
[4] صديق، الدملوجي، اليزيدية، مطبعة الاتحاد، الموصل، 1949، ص169.
[5] خليل، جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، دار رابون للنشر، السويد، 1998،ص18.
[6] فواز، فرحان، الإيزيدية حقول المعرفة المقدسة، ستوكهولم، 2016، ص475.
[7] سعيد، خديدة علو، الحملات العثمانية على الكرد الإيزيديين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، دراسة تحليلية، محاضرة قدمها في جامعة الكسلين، لبنان، 2014، اطلع عليها الكاتب.
[8] ممو، فرحان، مصدر سابق، ص43.
[9] محمد، الناصر الصديقي، تاريخ اليزيدية – النشأة – الفكر والمعتقدات – العادت والطقوس، دمشق، دار الحوار، 2015، ص12.
[10] فواز فرحان، مصدر سابق، ص113.
[11] عدنان، زيان فرحان، الكرد الإيزيديون في كردستان الجنوبية، مجلة لالش، العدد (18–19)، دهوك، 2002، ص32.
[12] زيد، عدنان ناجي، أقليات العراق في العهد الملكي، دار الرافدين، بيروت، 2015، ص30.
[13] المرجع نفسه، ص101 وما بعدها.
[14] لقاء مع عيدو بابا شيخ مستشار شؤون الإيزيدية لرئيس الجمهورية في وقته، وباحث مهتم بالشأن الإيزيدي، أربيل، يناير (كانون الثاني) 2016.
[15] عز الدين، سليم باقسري، (عربكرنا كردستانا عيراقيى – دةفةرا مووسل وةك نمونة – تعريب كردستان العراق منطقة الموصل نموذجا) مجلة لالش، العدد (18–19)، دهوك، 2002، ص15–156.
[16] كاظم، حبيب، مصدر سابق، ص113.
[17] نفسه، ص110.
[18] جمعة، سعدون الربيعي المحامي، أحكام الأحوال الشخصية للطوائف غير الإسلامية في العراق، بغداد 1995، ص239.
[19] ممو، فرحان، مصدر سابق، ص31.
[20] جون، كيست، الحياة بين الكرد – تاريخ الإيزيديين ، ترجمة: عماد جميل مزوري، دار سبيريز، دهوك، 2005، ص89.
[21] خليل، جندي، مصدر سابق، ص49.
[22] خليل، جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، مصدر سابق، ص121.
[23] سامي، سعيد الأحمد، اليزيدية: احوالهم ومعتقداتهم، الجزء الثاني، بغداد، 1971، ص141.
[24] عبدالناصر، حسو، اليزيدية وفلسفة الدائرة، التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2008، ص15.
[25] خضر، دوملي، الأعياد الدينية في العراق جسور للسلام، دهوك، 2013، ص63.
[26] عبدالناصر، حسو، مصدر سابق، ص113.
[27] إرشد، حمد محو، الإيزيديون في كتب الرحالة البريطانيين، مؤسسة موكرياني للبحوث والدراسات، أربيل، 2012، ص97.
[28] عبدالنصار، حسو، مصدر سابق، ص11.
[29] سعد، سلوم، الإيزيديون في العراق، الذاكرة – الهوية – الإبادة الجماعية، بغداد، 2016، ص14.
[30] عدنان، زيان فرحان؛ قادر، سليم شمو، مأساة الإيزيديين الفرمانات وحملات الإبادة ضد الكرد الإيزيديين عبر التاريخ، دهوك، 2009، ص28.
[31] المصدر السابق، ص42.
[32] سعد، سلوم، مصدر سابق، ص43-44.
[33] عدنان، زيان وقادر سليم شمو، مصدر سابق، ص173-174.
[34] خضر، دوملي، الناجيات الإيزيديات من قبضة داعش – صفحة جديدة للتحدي الإيزيدي لما حصل لهم من قبل التنظيمات الإرهابية، كتاب كارثة شنكال، مجموعة دراسات، دهوك، 2016، ص39.
[35] تقرير بين المطرقة والسندان، أقليات العراق منذ سقوط الموصل، إعداد معهد القانون الدولي والمجموعة الدولية لحقوق الأقليات، 2015
[36] خضر، دوملي، الإيزيدية والأقليات الدينية بعد داعش، مجلة لالش، العدد (40)، دهوك، 2015، ص102–103.
[37] تقرير لمنظمة العفو الدولية بعنوان: أدلة بشعة على التطهير العرقي في شمال العراق بينما تقوم «الدولة الإسلامية» بالقضاء على الأقليات، متاح على الرابط التالي:
https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2014/09
[38] تسجيل صوتي نشره داعش في مواقع التواصل الاجتماعي في بداية شهر أغسطس (آب) 2014 .
[39] خضر دوملي، الموت الأسود.. مآسي نساء الإيزيدية في قبضة داعش، دهوك، 2015، ص13.
[40] بيان من المجلس الروحاني الإيزيدي الأعلى، موقع باسم الأمير تحسين سعيد علي صدر في 24 أغسطس (آب) 2014 اطلع عليه الكاتب.
[41] خضر دوملي، الموت الأسود، مصدر سابق، ص30.
[42] مقابلة مع خدر حسن (17) عاما، أحد الناجين من مجزرة القتل الجماعي في قرية كوجو التي نفذتها داعش في 15 أغسطس (آب) 2014 .
[43] العراق.. الهاربات من داعش يصفن عمليات اغتصاب ممنهجة، هيومن رايتس ووتش، 15 أبريل/نيسا 2015، على الرابط التالي:
https://www.hrw.org/ar/news/2015/04/15/269611
[44] تقرير المعهد الدولي لحقوق الإنسان ومجموعة الأقليات الدولية، مصدر سبق ذكره.
[45] ممو، فرحان، مصدر سابق، ص141.
[46] لقاء مع فرانسيسكو موتا على موقع بعثة الأمم المتحدة في العراق على الرابط التالي:
ttp://www.uniraq.org/index.php?option=com