تقديم
يضم كتاب المسبار «التبشير في المشرق وأفريقيا: مراجعة نقدية ورؤية متعددة الأبعاد» (الكتاب الخامس والتسعون، نوفمبر/ تشرين الثاني، 2014 ) مجموعة من الأبحاث التي تؤرخ لظاهرة التبشير المسيحي بأبعاده المختلفة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
يستعرض الكتاب علاقة التبشير بالمشروعات الاستعمارية للدول الغربية، وتأثره في المنافسة السياسية بين تلك الدول، والصراع الديني بين كل من البروتستانتية والكاثوليكية، إضافة إلى آثار التبشير على المجتمعات التي ظهر فيها. يحاول الكتاب رصد بعض التحوّلات التي طرأت على المجتمعات التي تأثرت دينياً في التبشير، ويشير إلى ظاهرة انقلاب المبشَّر على المبشِّر، وسعي الأول للاستقلال عن الثاني. ويبين لنا أن التبشير لم يكن ظاهرة موجهة للمسلمين فقط، بل الكثير من المبشرين كان يستهدف المسيحيين بغرض هدايتهم من جديد، كما نرى في كثير من التبشير في إيران ولبنان وسوريا. تتناول الدراسات دور بعض المسيحيين المعاصرين في التبشير من خلال الإعلام، خصوصاً من خلال القنوات الفضائية. ولا تكتمل مثل هذه الدراسة إلا باستعراض التشريعات الدولية الخاصة بالحريات الدينية.
تأتي أهمية الكتاب في كونه يتقاطع مع مرحلة ضعفت فيها نزعة التعددية وتناقصت روح قبول الآخر في المنطقة. ولكن ما يدعو للتفاؤل ارتفاع الأصوات الداعية إلى تغيير هذا الواقع، بزرع وترسيخ ثقافة التعايش مع المختلف ورفدها بوضع تشريعات تكافح إشاعة الكراهية والتحريض ضد الآخرين بسبب مذهبهم أو دينهم. ونظن أنَّ هذا الكتاب سيكون مفيداً لدعاة التسامح.
قد يبدو للوهلة الأولى أن الأبحاث التي تستدعي تاريخ التبشير وما رافقه من سلبيات ينافي الدعوة للتعددية، خصوصاً أن بعض الباحثين المشاركين يميل، على المستوى الفكري، إلى أنَّ التبشير انطلق من الصراع الحضاري بين الإسلام والمسيحية. ولكّن الأمر ليس كذلك. نحن نستعرض ظاهرة التبشير لأغراض تهدف إلى تعزيز التعددية في ثلاث نواحٍ:
أولاً: نحن في حاجة إلى مادة موضوعية عن ظاهرة التبشير، لتكون بديلاً للكتابات الكثيرة المتحيزة ضد المسيحيين، ورافداً للكتابات الموضوعية التي تناولت الظاهرة كحدثٍ تاريخي مهم، ولكن من الماضي.
ثانياً: إننا ندرك أنه لا يمكن ترسيخ التعددية إلاَّ بعد تناول الذاكرة التاريخية عن التبشير بإيجابياتها وسلبياتها. لا يمكن لنا الحديث عن التعايش بين الأديان والطوائف إلا بعد أن نتصالح مع الماضي -الذي كان يرفض التصالح– ثم نصر على ألا يتكرر ذلك الماضي من جديد.
ثالثاً: يتصور كثيرون أن من تحوّل إلى المسيحية صار –تلقائياً- موالياً للسياسات الاستعمارية أو للكنائس الغربية التي انتمى لها. ولكن دراسات الكتاب أظهرت أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك. إنَّ الذين تنصَّروا لم يكونوا غافلين عن الأهداف الاستعمارية للدول الغربية. وفي الوقت الذي تنصّروا فيه، فإنهم أيضاً عملوا على الاستقلال عن الكنائس الغربية، بل قاموا بأدوار أساسية في مقاومة الاستعمار. إنَّ نجاح التبشير لم يكن يعني بالضرورة نجاح الاستعمار.
إن أبحاث الكتاب تُظهر أمراً دقيقاً ومهماً لأجل معالجة ذاكرتنا التاريخية عن التبشير والاستعمار. إنه يؤرخ للصراع الذي حصل بين المسيحيين الجدد والمسلمين من حولهم، واستقواء بعض المسيحيين الجدد بالقوى الاستعمارية، ولكنه يُظهر لنا أن هذا التحالف المسيحي/ الاستعماري لم يكن لأجل إبقاء الاستعمار، وإنما كان بسبب الصراعات السياسية بين مختلف القوى في مجتمع ما. الكتاب يقول لنا: إن تحالف المسيحيين الجدد مع الاستعمار ضد بعض المسلمين، يشبه تحالف بعض المسلمين مع الاستعمار ضد بعض المسلمين. وإن الكل -المسيحيين الجدد والمسلمين- كانوا ضد الاستعمار من حيث المبدأ. الالتفات إلى هذه القضية في غاية الأهمية؛ لأن بعضنا يعتبر أن تحالف المسيحيين الجدد مع المستعمرين كان يعني –حتماً- الرضا بوجودهم في المنطقة. وهذا خطأ. ونحن غير غافلين عن النتائج السلبية التي حصلت بسبب التبشير، ولكن ندعو لفهم الأبعاد المعقدة للظاهرة، وتجنب اختزالها في كونها جزءاً من صراعٍ حضاري بين الشرق والغرب.
في الختام يتقدم مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسّقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدها وفريق العمل.
رئيس المركز
شاهد فهرس الكتاب