ثمة أجيال جديدة من المسلمين في أوروبا المعاصرة، وصلت إلى مرحلة النضوج وتولي أمورها بنفسها. وقد اختار بعض تلك الأجيال «التصرّف والتحدث كمسلمين»[4].
تركز هذه الدراسة على النساء الأعضاء في المنظمة الوطنية «الشبيبة السويدية المسلمة» (Sweden’s Young Muslims) (اختصارًا «إس يو إم» SUM) التي يهيمن عليها المسلمون السُنّة، إضافة إلى بعض الروابط الشبابية المحلية المرتبطة معها والمنتشرة في بلدات سويدية عدّة[5]، بهدف إظهار أن الانتماء إلى تلك الروابط يزيد انخراط النساء المسلمات في المساجد ومصادر أخرى، سعيًا منهن إلى الحصول على المعرفة الإسلامية.
تتسنَّم النساء المنتميات إلى تلك الروابط مناصب قياديّة في المجتمعات المسلمة، وبالتالي يواجهن مَطالِب تنادي بأن يتولين بأنفسهن مهمة نشر المعرفة الإسلامية، ويعملن بوصفهن أستاذات لأترابهن وأطفالهن، وكموجِّهات في المساجد. وفعليّاً، يلقي المسلمون وغير المسلمين على أولئك النسوة ضغوطاً كي يتصرفن بوصفهن ممثلات للإسلام في الفضاء العام. ويؤول ذلك إلى جعل نشاطهن الإسلامي يذهب إلى أبعد من أُطُر المساجد والصفوف الدراسية، ليصل إلى سياسات الهوية التي تتبدى في المراكز المدنية وأستوديوهات التلفزة.
من خلال الإضاءة على التحديات التي تواجه وجود النساء في المساجد، وتلك التي يصطدم بها نشاطهن السياسي العام، سنتعرض للكيفية التي تدافع بها تلك النسوة عن حقهن في أن يؤدين دور السلطة الدينية، مع تأييدهن المصادر التقليدية للسلطة الإسلامية في الفضاء العام. وكذلك سأعمل على تحليل الكيفية التي عملت فيها النساء على إعادة تفسير النصوص الإسلامية، بهدف تغيير حياتهن اليومية ووضعيتهن ضمن الشريحة الاجتماعية المسلمة وعموم المجتمع السويدي.
تملك هؤلاء النسوة دافعاً يتمثل في رغبتهن بتغيير الصورة العامة عنهن بوصفهن مجرد ضحايا سلبيات. وبالأحرى، إنهن يرغبن في أن يقدمن أنفسهن بوصفهن كيانات تتمتع بالاستقلالية الذاتية[6]. في المقابل، لم يجر استيعاب مناسب لتلك الرسالة مِنْ قِبَل السويديين العاديين الذين يصعب إقناعهم بمزاعم مفادها أن أحكام الإسلام تتضمن تمكين النساء. سنناقش هذا التنافر بالنسبة إلى: (1) اعتماد النساء على سلطة إسلامية أخرى. (2) الولاء الرئيس للنساء في مجتمع مسلم يهيمن عليه الذكور، أثناء الصراعات المعلنة. وكذلك سأشدد على أنه في السياقات غير الرسمية، وفي الحياة الخاصة، تضع النساء مسألة النوع الاجتماعي (الجندر) على الأجندة، وينخرطن في مداولات فكرية، ويختبرن قيمًا وممارسات بديلة أخرى.
أولاً: مساجد وتنظيمات إسلامية في السويد
يعيش في السويد -التي بلغ عدد سكانها قرابة (9) ملايين نسمة في عام 2012 [7]-، ما يتراوح بين (350) ألفاً و(400) ألف مسلم. وينتمي ما يتراوح بين (100) ألف و(150) ألف مسلم إلى منظمات وهيئات إسلامية مسجّلة رسميًّا[8]. ولا تحوز أي مجموعة إثنية مقاليد الهيمنة. إذ تعبّر التعددية الثقافية والاجتماعية والدينية لمسلمي السويد عن نفسها في المساجد والتنظيمات، مما يؤدي إلى تعاون واسع، لكن مع بعض التوترات، في شأن التمثيل الرسمي. وقد شجّعت الدولة السويدية على تكوين تنظيمات رسمية مع ممثلين ينطقون باسم كل منها. وتستطيع التنظيمات الدينية المسجَّلة أن تتقدم بطلب منح مالية من الدولة عبر «اللجنة السويدية للدعم الحكومي للجماعات الإيمانية» (Swedish Commission for Gov- ernment Support to Faith Communities). وحاضرًا، ثمة ستة تنظيمات واسعة (واحدة للشيعة وخمسة للسنّة) تجتمع تحت مظلة «مجلس التعاون الإسلامي» (Islamic Collaboration Council) وتتعامل مع اللجنة السويدية (SST).
على غرار دول أوروبية أخرى، واجهت خطط بناء المساجد عقبات اقتصادية وتنظيمية، إضافة إلى معارضة من المجتمع المحيط بها[9]. وحتى الآن، شُيّدت خمسة مساجد في غوتنبرغ (Gothenburg) (مسجد الأحمدية) وترولهاتِن (Trollhättan) (مسجد للشيعة)، ومالمو (Malmö) وأوبسالا (Uppsala) وفيتجا (Fittja) (مسجد للسنّة). وأُنشئت مساجد أخرى بواسطة إعادة هيكلة مبانٍ موجودة سابقًا، على غرار محطة كهرباء في ستوكهولم، ومبنى كنيسة معمدانية سابقة في فاستراس. إضافة إلى ذلك، هنالك قرابة المئتين مما يُسمّى «المسجد الداخلي»، مقرها شقق سكنية ومنشآت أخرى يُصار إلى إعادة تنظيمها.
تعتبر «الشبيبة السويدية المسلمة» (Sweden’s Young Muslims) المنظمة الأبرز بين صفوف الشباب السويديين المسلمين[10]. إذ تمثّل منظمة وطنية تضم (3500) عضو، مع ما يزيد على (40) منظمة محلية منتشرة في البلد كله. وتحوز المنظمة عضوية في منظمة «مجلس المسلمين السويديين» (Council of Swedish Muslims) السنيّة التي تضم تحت مظلتها منظمات أخرى. وكذلك تملك المنظمة عضوية في «المجلس الوطني لمنظمات الشباب السويدي» (National Council of Swedish Youth Organizations)، إضافة إلى عضويتها في «منتدى منظمات الشباب والطلاب المسلمين الأوروبيين» (Forum of European Muslim Youth and Student Organizations). وعلى الرغم من سيطرة الإسلام السني عليها، فإن منظمة الشبيبة ترحب بالشباب المسلم بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية أو المذهبية. ولأن معظم أعضائها ترعرعوا في السويد، بمن في ذلك السويديون الذين تحوّلوا إلى الإسلام، من المستطاع القول: إن أولئك الشباب أكثر ميلاً من آبائهم للنظر إلى الإسلام بوصفه دينًا سويديًّا. كذلك ينحون صوب «الصحوة الإسلاموية العالمية» (Islamic Revival) ودعوتها إلى الالتزام بما يفترض أنه الرسالة الأصلية للإسلام، لكنهم في المقابل ينأون بأنفسهم عمّا يعتبرونه التقاليد الثقافية والمفاهيم الإنسانية المغلوطة.
يوصل التمييز بين الدين والثقافة إلى ثلاثة ملامح مهمة في الأجيال الشابة المنتظمة في منظمة «الشبيبة السويدية المسلمة» يتبدى الملمح الأول في أن أولئك الشباب يعملون على تركيب هوية إسلامية مشتركة تتجاوز، في حالتها المثالية، كل ما يتصل بالعرق/ الإثنية أو القبيلة أو الطبقة. ويبرز في الملمح الثاني أنهم ينظرون إلى تلك الهوية الإسلامية العالمية بوصفها غير متعارضة مع كونهم مواطنين سويديين صالحين. ويتجسّد الملمح الثالث في ميل أولئك الشباب إلى مساءلة السلطات التقليدية وتجاوزها، بما في ذلك الآباء والعلماء. مثلًا، يبدي عديد من الشبيبة المنتمية إلى المنظمة انجذابًا إلى فكرة إيجاد برنامج تعليمي لتدريب الأئمة، يكون ممولًا من الدولة. وكذلك يدعون إلى سلطات دينية تألف لغة السويد ومجتمعها، وبالتالي فإنهم يعارضون «الأئمة» المستوردين من بلدانهم الأصلية السابقة[11].
ثمة درجة مرتفعة نسبيًّا من التسامح مع الاختلاف، في صفوف روابط الشبيبة. إذ قد تضم الرابطة عينها أعضاء من خلفيات فلسطينية متأثرة بـ«الإخوان المسلمين»، يعملون جنبًا إلى جنب مع أتراب لهم آتين من خلفية صومالية ملتزمة بالتفسيرات السلفية. إنهم يتأثرون بمصادر عدة، تمتد من [الإخواني] طارق رمضان صاحب كتاب «كيف تكون مسلمًا أوروبيًّا» إلى مرجعيات معروفة مثل حمزة يوسف والإخواني يوسف القرضاوي. وبصورة نسبيّة، ثمة إدراك فاعل مِنْ قِبَلْ أعضاء تلك التنظيمات المسلمة، بشأن التسامح النسبي بين صفوف الشباب المسلم. ووفق إجابة جاءت من إحدى النساء المسلمات قالت فيها: «شخصيًّا، أنا أتّبِع غالبية المسلمين. ثم يأتي بعد ذلك السلفيون والصوفيون. نستطيع كلنا أن نتشارك المنزل نفسه. نعم، إن ذلك ممكن».
تتميّز علاقات الشباب المسلم مع المساجد بالصلابة، لكنها ليست جامدة. بالأحرى، يوجد تفكير وإعادة تقويم مستمران. ثمة مثل ذو دلالة على ذلك الأمر يتمثّل في طريقة استخدام أعضاء المنظمة مساحات «مسجد ستوكهولم الكبير» (مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان) في الصلاة والاحتفالات والتدريس والعمل المكتبي. وفي المقابل، يوجد في الوقت نفسه منشآت خاصة في قسم آخر من المدينة يختارونها في الغالب لممارسة نشاطاتهم بعيدًا عن الجيل التقليدي الأكبر سنًا.
بصورة عامة، تُفتَح مساجد السويد أمام النساء. ولعله من المنطقي القول: إن الفضاء الاجتماعي يجعل من الصعب على مساجد السويد ألا تفتح أبوابها أمام النساء. وحاضرًا، تكتظ السويد بالنقاشات والإصلاحات والتشريعات التي تروّج تَساوي الفرص أمام الناس، بغض النظر عن الإثنية والدين أو الجندر. وتوخيًّا لاستيفاء شروط الحصول على تمويل «اللجنة السويدية للدعم الحكومي للجماعات الإيمانية» يُطلَبْ من المجتمعات الدينية الحفاظ على قيم المجتمع وتعزيزها، بما في ذلك المساواة بين الرجال والنساء[12]. وفي المساجد الجديدة التي شيدت استنادًا إلى العمارة الإسلامية العالمية المعاصرة، تعطي المقصورات والمداخل المستقلة، ضمانة لوجود النساء على الرغم من انفصالهن مكانيًّا عن الرجال[13].
ما تزال التجمعات الإسلامية في السويد تحت هيمنة قيادة الرجال، وكذلك تستمر النساء في الرجوع إلى السلطات الأبوية. وبأثر من غياب النفوذ النسائي في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، تولت النساء (معظمهن ممن تحوّلن إلى الإسلام)، تأسيس منظماتهن ونشاطاتهن الخاصة بهن[14]. وتنهض عضوات تلك المنظمات في إعادة تفسير الإسلام، واختيار الرجل الذي يصلح كي يخترنه موجِّهًا لهن. إذ ينخرط كثيرون من أولئك الموجهين في نشاطات الأطفال والشباب، وبالتالي، فإنهم ينقلون تفسيراتهم الدينية إلى النساء الشابات. وبتلك الطريقة، نهضت المسلمات الأصغر بدور القدوة الذي تضطلع به النساء الأكبر سنًّا، مما أظهر أيضًا أن السعي إلى الانخراط في الشأن العام أمر ممكن، بل يستأهل بذل الجهد في الوصول إليه.
في المقابل، يتقبل المجتمع الإسلامي الواسع نشاطات النساء في مساجد السويد، طالما أنهن لا يتولين الإمامة في الصلوات ولا يؤدين الخطبة على الرجال. وثمة شرط آخر لقبول وجود النساء في المساجد وغيرها من أمكنة التجمع المركزي للمسلمين، يتمثّل في احترامهن الفضاءات المنفصلة جندريًّا.
بين صفوف روابط الشبيبة، يؤدي الفصل الجندري في الفضاءات إلى ظهور أدوار محددة بوضوح أثناء الصلوات الجماعية. واستطرادًا، تُفرِدُ قاعة الصلاة مساحة خاصة للنساء، أو أنهن يعمدن إلى الصلاة خلف الرجال. كذلك تنعقد صفوف التعليم الإسلامي في غرف مشتركة تجلس فيها النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال، أو تُجرى في غرف منفصلة فتتلقى النساء التعليم من المرشدة، أو أنهن يتابعن الدروس مع مرشد عبر شاشة متلفزة أو ميكروفون. من الناحية الاجتماعية، تبرز الاستثناءات المتعلقة بالتقوى لدى النساء، عبر الملابس والتصرف المحتشم، مع ملاحظة أن الرجال والنساء في المنظمات الشبابية يتخاطبون مع إشارة بعضهم إلى بعضٍ بأنهم «إخوة وأخوات في الإسلام».
ثانياً: توجّهات جديدة بشأن سلطة النساء الدينية
شملت هذه الدراسة عديدات ممن شاركن في مدارس تحفيط القرآن داخل مساجد محلية، إبّان ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته حين كُنَّ صغيرات. وتاليًّا، تُظهر سردياتهن وجود عدم استمرارية في حضورهن إلى تلك المساجد. ولم تُعطَ النساء مساحات خاصة بهن أثناء التجمعات في المناسبات الدينية. يعبّر ذلك عن ممارسات المؤسسة الإسلامية في السويد إبّان مراحلها المبكرة، حينما لم يوجد سوى قلَّة من المساجد الكبيرة، فيما لم تفسح المساجد الصغيرة مساحة للنساء إلا فيما نَدَرْ. وبالتالي، عَبَّرَ إقصاء المسلمات الشابات من المساجد، عن فوارق في التوقعات والتطلعات المرتبطة مع الأدوار التي يتوجّب على «رجل» أن ينهض بها، في مقابل تلك التي تتولاها «امرأة». وقد رُبِطَ بين النساء والفضاء المنزلي، ولم يكن متوقَّعًا منهن أداء دور في المراسم الدينية أو اللقاءات الاجتماعية أو المشاركة في عملية صنع القرار، ضمن منتديات عامة كالمساجد.
في ارتباط حميم مع ذلك التقسيم للعمل، فُهِمَتْ الجنسانية بوصفها قوّة مدمرة، ما لم يُعمَل على ضبطها. وكذلك جرى تعريف النساء بوصفهن مصدرًا للفتنة بسبب قدرتهن على استثارة الغواية في الرجال، مما أسهم في تبرير إقصائهن عن المجال الرسمي للسلطة الدينية[15]. وبذا، يصبح من الأفضل إبعادهن عن المساجد، تجنّبًا لأي إساءة أو تشتّت في الانتباه.
من جهة أخرى، عايَنَتْ النساء الرائدات اللواتي انتمين إلى روابط الشبيبة المسلمة ومنظمة «الشبيبة السويدية المسلمة» (تأسست عام 1991) ، انتقالًا في ثقافة المسجد من كونه «فضاء الجندر الواحد» إلى «منتدى النوعين الاجتماعيين»، إبّان حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. يكمن أحد تفسيرات ذلك الانتقال في الحاجة إلى تعبئة النساء ضمن التدين الإسلامي العالمي. وفي مقابل اعتبار النساء مصدرًا للفتنة، سيطرت نظرة أخرى تعتبر أنهن يحملن الإسلام. ووفق النظرة الأخيرة، تؤدي النساء دورًا مركزيًّا في نشر الإسلام، ولأنهن أمهات فإنهن يتولين نقل الإسلام إلى الجيل التالي[16]. وبالتالي، لا تقتصر الاستفادة من التدريب الديني الجدي للنساء عليهن، بل تنتشر في المجتمع المسلم كله. وقد لوحِظَ ذلك الانتقال في أوروبا وخارجها[17].
ضمن مجتمعاتهن الإسلامية، تُشارك الشابات المسلمات في إعادة تفسير مفهوم الفتنة، وصار يُنظَر إلى النساء بوصفهن مصدرًا سلبيًّا للفتنة، وليس باعتبارهن مُغويات. وثمة تفسيرات أخرى تذهب إلى أن الرجال بالتأكيد يمكن أن يصبحوا مصدرًا للفتنة، وكذلك الإغواء، بالنسبة إلى النساء، ولا يقتصر الأمر على المسار الآخر. وبذا، تلاشى الربط اللصيق بين «المرأة» والفتنة، مما مهّد الطريق أمام المسؤولية المشتركة للنساء والرجال في التعامل مع الانجذاب الجنسي. وأبعد من ذلك، وُضِعَتْ التفسيرات المتمحورة حول الذكر بشأن طبيعة «المرأة»، موضع التحدي، على الحديث [النبوي] الذي أُخرج من سياقه والذي يعلن أن النساء ناقصات عقلًا ودينًا[18]. وفي ذلك الصدد، جرى اللجوء بصورة فاعلة إلى المراجع التي تدعم امتلاك النساء قدرات متساوية مع الرجال، في العقل والدين. وعلى نحو مُحَمَّلٍ بالأهمية، نُظِرَ إلى النساء بوصفهن كيانات دينية تمتلك الحق في الحضور إلى المسجد والمدارس القرآنية كي ينمين تقواهن ويزددن معرفة بالإسلام، بل إن الواجب يُملي عليهن ذلك.
تقدم سرديات النساء الشابات دليلًا على تأثير الهوية السويدية في الأشكال الجديدة من انخراط المرأة في الفضاء الديني. إذ لم تعد تقواهن الشخصية تشكّل تحت تأثير المفاهيم الإسلامية عن الأمومة، بصورة حصرية؛ بل بات متأثّرة أيضًا بمتطلبات المواطنة السويدية. وفي هذه الدراسة، تحدثت النساء اللواتي أعطين إجابات لها، عن واجبهن في تثقيف أنفسهن في البُعدين العلماني والديني، وكذلك إظهار أن المسلمين، بمن فيهم النساء، يمكن أن يُمَثَّلوا في مستويات المجتمع كلها، وفي كل المهن الممكنة. وفعليًّا، ثمة تطلّب عام من المسلمين وغير المسلمين، لوجود نشاط فاعل يأتي مِنْ الشابات المسلمات. وضمن إطار المساجد وروابط الشبيبة، هناك حاجة لهن كي يعملن في نقل الإسلام إلى الجيل التالي، وكذلك أن يَكُنَّ محفّزات لليافعين على التماهي مع الإسلام. وبذا، فحتى حين يَكُنَّ طالبات، تشارك الشابات المسلمات في تدريس المعلومات الأساسية عن الإسلام إلى الأطفال والزميلات. ووفق ما أكّده بحث ديسنغ وبليتش بوزار (Dessing and Bleisch Bouzar)[19]، يؤدي النقص في عدد البحّاثة المُدَربين بصورة رسمية في صفوف المسلمين الأوروبيين، إلى وجود سوق مفتوحة أمام أساتذة أقل مهارة كي يسهموا فيها، بمن في ذلك النساء. واستطرادًا، تصبح الكاريزما متعلقة بامتلاك شخصية منفتحة والمساهمة في تنمية الإحساس بالانتماء إلى مجتمع، إضافة إلى لعب دور القدوة للجيل الجديد من المسلمين. أكثر من ذلك، تكون النساء مدعوّات إلى أداء أدوارهن كقائدات بمعنى أن يَكُنَّ مُنَظِّمات وصانعات قرار. وضمن الروابط التي ينتمين إليها، ينخرطن في لجان وهيئات إدارية، بل يَتسنَّمن منصب الرئاسة أيضًا. وكذلك ينظّمِن مقررات تعليمية وحلقات دراسية ومؤتمرات ومخيمات وجولات في الطبيعة.
في ما يخص العلاقة مع المجتمع السويدي الذي يضغط على المجتمعات المسلمة فيه كي تتحرك صوب تبني قيم تقترب من المساواة الجندرية، يطلُبْ المجتمع المسلم من الشابات المسلمات أن يَكُنَّ «سفيرات» الإسلام. وقد عبّر ذلك التوجّه عن نفسه في إجابة قدمها إلى هذه الدراسة أحد الرجال الذي حاجج لمصلحة الحاجة إلى «سوبر أخوات» في الدفاع عن مصالح النساء المسلمات «لأن أصواتهن هُنَّ بأنفسهن، ستلقى إصغاءً أكبر مما قد تلقاه أصوات رجال يتحدثون بالنيابة عن النساء». وبالتالي، تعمل الشابات المسلمات كمُوجّهات في المساجد، وكمُناقِشات ومتحدثات مدعوات في الفضاء العام. وعبْرَ طُرُقٍ متنوعة، تتشابه نشاطاتهن مع ما يمكن تعريفه بأنه سياسات هوية. ومثلًا، تنشط الشابات المسلمات في الدفاع عن حقوق أقليات معيّنة على غرار المجموعات التي تدعو إلى تقديم مآكل بديلة في المدارس، وتشييد مساجد ومدارس إسلامية. وكذلك يُكرسن أنفسهن للإشراف على تمثّل الإسلام والمسلمين في الإعلام والفضاءات العامة الأخرى ويجابهن التمثيلات الخاطئة لهم؛ وينخرطن في ذلك أيضًا عبْر عملهن ككاتبات ومحررات للرسائل الإخبارية الرقمية والصفحات الأولى لمواقع على الإنترنت. ويشمل التزامهن بالإسلام أيضًا أن يعمَلْنَ كمواطنات فاعلات، ويَتعاوَنَّ مع المنظمات والمؤسسات والمشاريع غير الإسلامية كتلك التي تسعى -مثلًا- إلى الحوار بين الأديان، والاعتدال والأعمال الخيرية ومناهضة العنصرية.
ثالثاً: تحديات تواجه سلطة النساء الدينية
ثمة شرط في مشاركة النساء في المساجد السويدية، يتمثّل بقبولهن أن إمامة الصلوات أو إلقاء الخطبة يشكّل امتيازًّا حصريًّا للرجال. ولا تُطلق سوى حفنة من النساء على أنفسهن لقب الأئمة، من بينهن الإثيوبية سعاد محمد التي درستْ الشريعة في الأردن. وبالنسبة لها، يشير لقب الإمام إلى دور يشابه ما يفعله الشمَّاس في القداس المسيحي، ويتعلّق بنُصحِ النساء وقيادة صلواتهن الجماعية. وقد عانَتْ سعاد محمد من الإقصاء والإبعاد عن المساجد، لكنها تزعم أنها تتلقى دعوات متكاثرة كي تقدم خدماتها في الإمامة. وأيًّا كان الحال، فإنها لا تطمح إلى تولي إتمام عقود الزواج أو مراسيم الحداد، أو أن تعمل مرشدة للمؤمنيين، في مستقبل قريب[20]. واستطرادًا، لا تسعى النساء اللواتي شملتهن هذه الدراسة إلى امتلاك نوع السلطة الذي تطلُبه سعاد محمد؛ إذ إنهن يتوجّهن أكثر إلى تعليم الأطفال والزميلات والسويديين غير المسلمين. وتاليًّا، فإنهن لم يُثرِنْ حفيظة الدارسين الرجال، بمقدار ما يبدو أن سعاد محمد قد فعلته. من جهة أخرى، واجهت أولئك النسوة تحديات في مجرد الحفاظ على وجودهن في المساجد، والاستمرار في نشاطاتهن الإسلامية في الفضاء العام.
في التجمعات الدينية والروابط الإسلامية، يظهر أفراد يعتبرون أن وجود المرأة في الفضاء العام، أمر يثير الاضطراب. ولدى ارتيادهن المساجد، تواجه النساء بنظرات قاسية وتأنيبات، ما يقيّد تحركاتهن. وقد أدت تلك القيم الجندرية المتنافسة إلى حدوث التباس لدى المسلمات. فمن جهة، لا يترددن أبدًا في تأكيد حقهن في ارتياد المساجد، لكنهن يعبِّرنْ عن مشاعر بعدم الارتياح، من جهة أخرى.
وقد دار حوار عن ذلك الأمر بين شابة تُدعى حواء وكاتبة هذه الدراسة على النحو الآتي:
حواء: «إنها مسألة حسّاسة. لا أعرف إلى أيّ حدٍّ أستطيع الوصول إليه أو ما الذي يجب أن أفعله. هل أستطيع الذهاب إلى الرجال أثناء أدائهم الصلاة مثلًا، أو ما يشبه ذلك؟».
الباحثة: «هل تستطيعين فِعلَ ذلك في مسجدك؟».
حواء: «نعم، لكن على مسؤوليتي الخاصة (مع ضحكة). حسنًا، تستطيعين فِعلَ ذلك، لكن الأمر لا يغدو ظريفًا حينما يوجد رجل مُسنّ صارم يعمل على تأنيبك. في المقابل، ثمة نوع من السماح بوجودك في المسجد».
الباحثة: «إذًا، يأتي ذلك غالبًا من رجال كبار السن، أم إن ذلك يشمل بعض الأصغر سنًا أيضًا؟».
حواء: «ثمة أنواع في ذلك الشأن. لا أعرف. ربما هنالك بعض من متوسطي الأعمار أيضًا ممن يفكرون بتلك الطريقة، بمعنى أنهم بدرجة أو بأخرى يكونون ضد النساء. أستطيع المكوث في غرفة النساء أو الشرفة. بالطبع، أذهب في بعض الأوقات إلى باحة الصلاة الرئيسة في المسجد. إذا كنتُ أنقلُ رسالة شفاهية ضرورية، أستطيع الذهاب إلى الطرف الآخر من المسجد، حيث يكون الرجال. ليس من حظِر كليّ على ذهابي إلى هناك، لكن أحيانًا تشعرين بشيء من الإحراج».
الباحثة: «من الذهاب إلى هناك؟».
حواء: «إذا ذهبتُ إلى الطرف الآخر من المسجد حيث يوجد كثير من الرجال، يعطي الأمر إحساسًا… على الأقل أنا أفكر بذلك… بنوع من الاضطراب، فكأنما لا حاجة إليك. ليس بالضرورة أن يقول شخص ما ذلك، لكنه أكثر أمر يحس المرء به».
يتوجّب على الشابة المسلمة أن تواجه سلوكيات الآخرين، إضافة إلى التوقّعات والقيم المنغرسة والمتجسدة في ما يمارسونه من عادات[21]. حتى حينما تكون النساء على قناعة بحقهن في المشاركة، فإنهن لا يشعرن دومًا بأنه أمر صائب. إذ لا يزال المسجد حيّزًا ذكوريًّا بشكل أساسي، ويستخدمه الرجال كمصدر صريح، مما يعزّز تقواهم وسلطتهم. وتستطيع النساء الدخول إليه والمشاركة في نشاطاته، لكنهن تقبَّلنَ أن ذلك الوصول إلى المسجد يخضع لشروط معينة.
إن إحساس النساء بعدم الارتياح جراء كونهن في المكان «الخطأ»، يترافق مع قلق بشأن نهوضهن بواجبات «مغلوطة» أيضًا. تتعرض النساء لنسويات متناقضة؛ إذ تؤكد إحداهن حقهن في النشاط في الفضاء العمومي، فيما تدفعهن نسوية أخرى إلى التساؤل عن كون دورهن الشرعي يقع فعليًّا ضمن حدود المنزل، وبالتالي فإنها تطرح سؤالًا عن ارتيادهن المساجد والمنتديات الإسلامية المركزية الأخرى. وبهدف تقديم مثلٍ عن النسوية «العمومية»، أسترجع ما قاله ذلك الشاب الذي دعا إلى وجود «أخوات خارقات» متمرّسات؛ يتولين الدفاع في الفضاء العمومي عن أنفسهن وأخواتهن في الإسلام. كذلك دفع تشديده على أن الشهادات الإيجابية للنساء تعطي تأثيرًا أكبر من نهوض الرجال بمهمة التمثيل بالإنابة عن النساء، دفع بشابة إلى تبني دور «سفيرة الإسلام» بحماسة.
أخبرتني حواء – خلال بحثي الميداني- عن انطباعاتها بشأن ذلك الدور المنفتح على الفضاء العمومي، مشيرة إلى نفسها كشخص يستطيع الدفاع عن الإسلام باقتدار وشجاعة. وفق كلماتها أحيانًا، نقول: «إنها مجاهدة» بمعنى كونها شخصاً محارِباً». إذ تشير تسمية مجاهدة إلى الشكل النسوي من «المقاتل من أجل الحرية». بالنسبة إلى النساء في دراستي، يتصل ذلك بالوكالة عن المسلمات. لقد كوّرتْ حواء قبضتها لكنها اختارتْ فورًا أن توضح:
«أقصد أنه جهاد لا يعني العنف. إذ يبدو كأن الجميع مقتنع بأن الجهاد يعني الحرب حصرًا، لكنه أقرب إلى المقاومة. إذًا، من المستطاع أن تكون المجاهدة شخصاً يبذل قصارى جهده. وتقدم صديقتي أمينة مثلًا عن ذلك، إذ تدرس كي تصير طبيبة وتربي أطفالها في الوقت نفسه. أو ربما مثلي أنا، بوصفي شخصاً يصارع من أجل أن يفهم الناس الإسلام».
في نفسٍ مغاير، عبّر طارق الذي ينتمي إلى المنظمة الشبابية نفسها التي تعمل فيها حواء، عن وجهة نظر مختلفة حيال الـ«الأخوات الخارقات». وفي نبرة نقدية، ذكّر حواء بالأدوار المختلفة للرجال والنساء، مُشبّهًا الرجال بـ«وزراء الخارجية» والنساء بـ«وزراء الداخلية». وبذا، أشار إلى الانطباع المستمر القائل بأن المنزل يشكّل المكان الملائم للمرأة، وأفهوماً للنسوية بأنها حياء وخصوصية، مع حاجتها إلى الحماية من وضعيات الفضاء العمومي ونظرات الناس إليها. كذلك أوضح طارق لحواء أن «تلك الأمور تشكّل عبئًا ثقيلًا لا يتوجب أن تتعرضي له»، فيما كانت حواء موشكة على المشاركة في برنامج تلفزيوني عن استعمال الحجاب. وتقدم تلك المواقف المتعارضة بشأن النسوية، أنموذجًا عن كون نشاطات الشابات في الفضاء العمومي، ليس واقعًا مُحايدًا، بل قضية يجري تحديها وإعادة التفاوض معها بصورة مستمرة.
هنالك عقبة أخرى تواجه النشاط الإسلامي للشابات تتمثل في القضية التي تطرح دومًا بشأن سفر النساء وتنقلهن. وفي القلب من ذلك النقاش، هنالك الحاجة إلى وجود رجال يؤدون دور الحُماة للنساء. ومرّة أخرى، يبرز توتر بين نسوية تستند إلى رؤية تقول بحاجة النساء إلى الحماية من جهة، ونسوية متمكنة للمجاهدة تنظر إلى المرأة باعتبارها كيانًا تقيًّا يقدر على السيطرة على نفسه، وتحمّل مسؤولية أفعاله الشخصية أمام الله. إنهن يرتدين الحجاب، معلناتٍ حشمتهن أمام العالم؛ وفعليًّا يُنظَر غالبًا إلى ذلك الرداء الذي يحمل شيفرة التقوى بأنه تعويض عن عدم وجود رجل برفقتهن. إذ تُقَدِّر النساء أن يُنظَر إليهن باعتبارهن أشخاصًا «مسافرين»، ويتنقلن في رحلات يوميّة من وإلى أمكنة العمل والجامعات والنوادي الرياضية والأمكنة التي يمارسن فيها نشاطات الدعوة. في المقابل، ثمة حدود لذلك الأمر وفق ما يظهر في المسرد التالي الذي قدّمته لطيفة عن نقاشات بشأن خطة للسفر إلى الخارج بهدف المشاركة في منهاج تعليمي عن الإسلام. ووفق لطيفة:
«في السنة الماضية، قدّم حمزة يوسف منهاجًا تعليميًّا في إنجلترا، ورغبتُ حقًا في المشاركة فيه. لكن، برزت مسألة حسّاسة هي السفر. إذ تقدم المدارس والانتماءات المختلفة آراءً مختلفة عنه.
تشير بعض النساء – ممن طالهن البحث – إلى أنه ليس بإمكان المرأة السفر كما يدعو إلى ذلك المحافظون المتشددون في الإسلام، مما يتوجب عليها أن يكون معها شخصٌ مُحرَم، كالأخ أو الأب أو الزوج. تقول هذه السيدة: «أنا لا أفهم أنه في عالم اليوم، يُنظَر إلى سفر النساء باعتباره خطرًا. لذا، أرسلتُ بريدًا إلكترونيًّا إلى شيخ في السويد، وسألته عن إمكانية سفري لحضور ذلك المنهاج التعليمي. وجاء ردّه: «أولًا، إن لم يكن لديك مُحرَم فعليك السفر ضمن مجموعة». ويعني ذلك السفر مع أصدقاء أو لنقل مجموعة من المسلمين. وأرسلتُ ردًّا إلى الشيخ: «ليس لدي مُحرم، ولا وجود لمجموعة للسفر معها، لكن سيقتصر الأمر على سفري مع أخٍ لي [في الإسلام]. لكني، لا أستطيع السفر معه لأنه ليس مُحرم». وحينها، ردَّ الشيخ: «إذا لم يكن هنالك في السويد من يوازي حمزة يوسف، فيتوجب عليك السفر وحدك. ويرجع ذلك إلى أنك تسعين إلى المعرفة. ويُسمح بذلك الأمر. لكن، سيكون ذلك حلًّا أخيرًا». وكذلك ذكر الشيخ أنه لا يرغب في سفري لوحدي. وقد قال ذلك».
لم تذهب لطيفة أبدًا إلى ذلك المنهاج التعليمي في إنجلترا. إذ لم تستطع إقناع نفسها بأن بحثها عن المعرفة يشكّل مبررًا كافيًا للسفر وحيدة في رحلة طويلة. لقد جرى التفاوض بينها وبين ضميرها والله والمجتمع المسلم الجماعي؛ وتحت ضغطٍ من خطاب ديني مهيمن يرسم رحلتها بأنها مريبة وخطيرة وغير ضرورية.
فعليًّا، إن الشابات المسلمات في موقف يُتاح فيه وضع نشاطاتهن الدينية قيد التحدي، مِنْ قِبَل واجبات لها قيمة أعلى بالنسبة إلى أعضاء الأسرة، وتشمل تلك الواجبات التواضع والطاعة وأداء العمل المنزلي. وكذلك يلاقينَ دعمًا من بعض المرجعيات الدينية وأعضاء الأسرة، فيما يجابَهْنَ بمعارضة من بعضها الآخر. وحين يلجأن إلى الأتراب أو الأشخاص الأكبر سنًا بحثًا عن إجابات، فإنهن يواجهْنَ بالالتباس. وأحيانًا، يحصلن على دعم في مواجهة مطالب الأقارب، من خلال وصف تلك المطالب بأنها «تمثّل تقاليد ثقافية غير إسلامية». في المقابل، إنهنُ يُخبرنَ غالبًا بأن نشاطات المرأة في الدعوة تشكّل نشاطًا تطوعيًّا، فيما تكون الطاعة إجباريّة، وتشكّل أولى أولوياتهن[22]. وفي نهاية المطاف، إن إمكانية تنفيذ عدد من مشاريع النساء في نشاطات دينية، تكون رهنًا لموافقة أو رفض رجل واحد.
من خلال غُدوِّهن مسلمات فاعلات منخرطاتٍ في روابط شبابية، تأمل الشابات المسلمات في التأثير على المسلمين وغير المسلمين. ولقد عانت النساء صراعات مرتبطة بالجانبين.
رابعاً: ممارسة السلطة الدينية
تتضمن روايات أزمات المراهقات إشارة إلى أنها هددت روابطهن مع المجتمع السويدي وأسرهن، وكذلك الإسلام. وإضافة إلى الصراعات الممكنة التي قد يعانيها اليافعون، تتحدث تلك النسوة صراحةً عن عملية تحوّلهن «آخر» فيما يخص الجندر والدين والعرق/ الإثنية، وتؤول تلك العملية إلى إخضاعهن كـ«مسلمات» و«نساء». وفي النهاية، يخترن ألا يقطعن مع مجتمعاتهن، بل يتحدَّينَ القيم السائدة من الداخل، عبر الانخراط في ما يسمى الصحوة الإسلاموية.
في المساجد وروابط الشبيبة، تُقدَّمُ للنساء فرصة قراءة النصوص الإسلامية، والتفكير في اختيار التفسيرات التي سيلتزمن بها وينقلنها إلى الآخرين. وبشكل نقدي، يُفكّرن في إمكانية أن تتأتى بعض التفسيرات على خلفية قراءات متمحورة حول (الذكورية). وسعيًا منهن إلى مجابهة ذلك الانحياز، يعمدن إلى ترويج المراجع التي تعبّر عن مصالح النساء. وينأين عن الأحاديث المتضمة تمييزًا ضد النساء باعتبارها ضعيفة الإسناد أو زائفة، ويتخذن زوجات الرسول محمد قدوة لهن، فتكون خديجة قدوة للنساء المنخرطات في الأعمال، وتضحي عائشة قدوة في المعرفة والقيادة والنشاط في الفضاء العمومي والسياسة والحرب. وبذا، تدافع الشابات المسلمات عن تقواهن الشخصية، ونشاطاتهن في الفضاء العمومي وحقهن في اتخاذ قرارتهن الخاصة فيما يتعلق بمسار حياتهن، كأن يكون ذلك بشأن دراستهن وزواجهن وحياتهن المهنية.
واستطراداً، فبوصفهن مُنَظِّمات لصفوف تعليم الناشئين ومُحاضِرات فيها، تضع الشابات المسلمات مسألة الجندر على الأجندة. في منظمة الشبيبة التي انتمت إليها سعاد محمد، قررن إزالة الستارة التي تفصلهن عن الشباب من أساتذتهن وزملائهن. وتنظر سعاد محمد إلى ذلك القرار بوصفه تقدّمًا. وبحسب كلماتها، «أقصد أنّكِ لن تدرسي جيّدًا بشكل فعلي، إذا كنتِ تكتفين بالإصغاء. إذ يرغب المرء أيضًا في رؤية الأستاذ، وأن يكون قادرًا على طرح الأسئلة عليه». وتقدّم الملابس الإسلامية مثلًا آخر يلقي الضوء على مسائل الجندر في أجندة الشابات المسلمات. إذ يلفتن النظر إلى الجانب الديني في ارتداء الحجاب، مما يعني أنهن لا يكتفين باعتباره مؤشرًا إلى الهوية، بل باعتباره يشمل أيضًا سلوكًا ونيةً في التقوى. وبذا، يحاججن بأن الحجاب يجب ألا يُتّخذ قرار ارتدائه بعد التفكير في اعتبارات عدّة، واعتباره قرارًا شخصيًّا. وإذا لم يُتخذ القرار بشأن الحجاب بعيدًا من ضغوط الآخرين، سيفشل في كونه التزاماً أخلاقيًّا تجاه الله. وبالتالي، عبر تشديدهن على تقواهن ودفاعهن عن حقهن في اتّخاذ القرار بوصفه شأنًا أخلاقيًّا أساسًا، تصنع النساء أدوات في مجابهة فرض ذلك الغطاء. أبعد من ذلك، عبر تأكيد الميل إلى تزيُّن النساء برموز عيانيّة عن الهوية الإسلامية، تعطي الشابات المسلمات دفعة هدفها أن تُلاحظ تلك المساهمة التي يقدمنها. ولا يتمثّل نداؤهن الأول في المساواة الحاسمة بين الجنسين، بل في التوصل إلى جندرية الاحترام المتكامل[23].
يفترض هذا الأنموذج وجود نوعين جندريين مُطلقين: رجل وإمرأة، تُنسب إليهما صفات وواجبات متباينة. وفي الصورة المثالية، يُفترض أن يتكاملا معًا بتناغم، لكن غالبًا ما تفشل مساهمة النساء في نيل ما يكفي من اعتراف بها. ومع وضع ارتداء الحجاب على أجندة روابط الشبيبة، تسعى النساء صراحةً إلى مشاركة تجربة ارتداء الحجاب في مجتمع غير مسلم. وإذ يفعلن ذلك، فإنهن يسعين جزئيًّا إلى مطالبة الشباب المسلم بالتزام المعيار الإسلامي في الملابس، والأهم من ذلك أنهن يسعين إلى نيل الاحترام لهن بوصفهن عناصر حاسمة في المشروع المشترك للعيش بمقتضى الإسلام. وبذا، يتضمن مفهوم النساء عن جندرية الاحترام المتكامل، ما أسميه «الأرثوذكسية التكتيكية» أو «الصرامة العقائدية التكتيكية»[24]. ويعني ذلك صدور تلميحات عابرة تشير إلى ما يعتبره المرء ذاتيًّا بوصفه درجة أرقى من التقوى، في مسار تحقيق التفضيلات الشخصية (بالطبع، ضمن إطار فهم ذلك المرء لما يكونه الإسلام الحقيقي). وكذلك استخدم مصطلح تكتيك في الإشارة إلى مفهوم صاغة ميشيل دي سرتو (Michel De Certeau) عن «الانتصارات المتجزأة والواهية التي يحرزها الضعفاء»، ضمن منظومة من القوى لا يستطيعون النجاة منها (أو أنهم لا يرغبون في ذلك)[25].
مع وجود النصوص الدينية بين أيديهن، تنال النساء حقوقهن عبر تشديدهن على واجب كل المسلمين في تحقيق الإسلام، بمن في ذلك الرجال. وبالتالي، إذا أراد الرجال نساءً مطيعات يتقبلن حمايتهم، يتوجب عليهم أيضًا الوفاء بواجباتهم كمقدمي رعاية وحُماة. إذا فشل الرجل في النهوض بذلك الواجب، تشعر النساء بأنه من حقهن الشرعي أن يكُنَّ في حماية زملاء يتمتعون بالتقوى، يأتون من صفوف الروابط الشبابية، أو حتى أن يتنقلن بأنفسهن ويتحملن مسؤولية ذلك.
تتيح الأرثوذكسية أو الصرامة العقدية التكتيكية للنساء أن يُعِدنْ صوغ علاقات القوة، ويحدثن إزاحة فيها، بصورة مشروطة. إنهن يعطين لحاجة المرأة إلى الحماية، معنىً جديدًا. وبدلاً أن تُربط القيود على تنقلهن مع الإذعان والهشاشة، فإنهن يربطنها بتقصير الرجال! وتوافقًا مع تنظيرات صبا محمود بشأن سياسات التقوى[26]، أميلُ إلى المحاججة بأن النساء في دراستي لم يُتِحنَ للتفاوتات بين المُثُل وممارساتهن الشخصية، أن تقودهن إلى أفعال هدّامة عن قصد [بمعنى أنها تنقض السائد]. بدلًا من ذلك، عمدن إلى تفسيرها [التفاوتات] بوصفها تقصيرًا شخصيًّا قابلاً للتصحيح عبر الانضباط الذاتي بالتقوى. في المقابل، من الممكن أن يؤدي أداؤهن الناجح بالمُثُل الإسلامية إلى كشف سقطات الآخرين، وعندها تسمح النساء لأنفسهن بأن يَكُنَّ هدّامات، وينقضن السائد. وبذا، تحدّتْ حواء الامتيازات الممنوحة إلى زميلها الرجل، على غرار ما يظهر في الحوار الآتي:
حواء: لماذا أطبخ لأخي؟ لِمَ يتوجّب علي فعل ذلك؟
أم حواء: لأنه يعود متعبًا إلى المنزل.
حواء: لكنه، لا يعمل، أليس كذلك؟ لا يكسب مالًا ينفقه عليَّ. [ثم استدارت صوبي]، نعم، أنا أعرف. يتوجب أن أكون حانية خلال شهر رمضان، لكن من الواضح أني لستُ كذلك. ليس أمرًا مبهجًا أن يكون المرء حنونًا فيما الآخرون ينظرون إلى ذلك بوصفه أمرًا مسلمًا به.
في هذا المثل، تسعى حواء إلى نيل الاعتراف بمساهمتها، استنادًا إلى جندرية الاحترام المتكامل. وفي الوقت نفسه، إنها تغيّر التفسير السائد حول القوامة الذي يعتبر وجود حق سماوي في أن يكون الرجل في موضع القيادة ما يعليه فوق النساء والأطفال. وكذلك يقضي ذلك الموقع أن يقدم الرجل الانفاق والحماية والأخلاقيات إلى من يعتمدون عليه[27]. وتنكر حواء وأمثالها أن يكون ذلك الواجب مبررًا شرعيًّا لقيادة بلا حدود، أو أن يُفهم ذلك باعتباره تعيينًا لتفوق الرجال عمومًا على النساء كلهم. وأبعد من ذلك، إنهن يُحاججن لمصلحة زيادة تأثير النساء، وتعديل التقسيم في العمل، في حال أخفق الرجل في النهوض بواجبه في الإنفاق[28]. وعلى غرار النساء في دراسة[29] نيكولاس ماينساكي (Nicholas Micinski)، تستخدم حواء وزميلاتها محاججات وأدلة نصوصية في مقاومتهن محاولة أفراد عائلتهن السيطرة على حياتهن اليومية، سواء أتعلق ذلك بتقسيم العمل أو الحق في النهوض بنشاطات إسلامية في الفضاء العمومي، أو اختيار زوج المستقبل[30].
ومع امتصاصهن تأثير المجتمع المحيط بهن، تسعى النساء أيضًا إلى تغيير موقعهن داخله. ثمة طموح حاسم في تغيير الصورة الواسعة الانتشار عن النساء المسلمات بأنهن ضحايا سلبيات، عرضة للهيمنة الذكورية أو القمع العرقي. بالأحرى، إنهن يَمِلْنَ إلى صوغ صورة عن وضعية «طبيعية»، يُنظَر فيها إلى النساء المسلمات بوصفهن مفوّهات وظريفات، وقادرات على المحافظة على وجودهن في الفضاء العمومي، وأن يَكُنَّ مرئيات في قاعات السينما والمقاهي، ويتسوقن بصحبة أصدقاء، ويتحدثن مع يافعين، أو حتى يشاركن في نشاطات تتعلق بالرجال على غرار القفز بالمظلة والتدرّب على فنون القتال الجسدي. وأثناء المقابلات [مع الباحثة]، تحدّثتْ كثيرات منهن عن رغبتهن في إحداث «صدمة» لدى الناس، بمعنى القطع إيجابيًّا مع النماذج النمطية السلبيّة.
تستخدم الشابات المسلمات استراتيجية نقض معينة، عبر إخبار الجمهور العام عن «جيل جديد من المسلمين» وما يملكه من موقع في الديمقراطية الحديثة. ويتبلور ذلك الموقع عبر النأي بأنفسهم عن المسلمين «ثقافيًّا» وما يحمله الأخيرون من «عادات وأوهام» على غرار حظر قيادة النساء للسيارة و«جرائم الشرف» وختان الإناث. وفعليًّا، تنظر المسلمات إلى أنفسهن باعتبار أنهن يسعينَ إلى درء «الإسلاموفوبيا» عبر تقديم معلومات عن الإسلام «الحقيقي». وقد عبّرت إحدى الشابات عن ذلك التوجه، بالإشارة إلى الإساءة جسديًّا إلى النساء. وبحسب كلماتها، «إنه فعليًّا مسألة ما يفعله من يسمّون مسلمين، من أشياء غبيّة، لكن السويديين لا يستطعيون تفهم أن ذلك ليس من الإسلام». وبواسطة نشاطهن في نشر المعلومات، تأمل تلك الشابة وغيرها في وضع حدٍّ لمشاعر الإسلاموفوبيا والتمييز.
بالنسبة إلى غالبية المجتمع، ثمة حاجة إلى نهوض الشابات المسلمات بأدوار الوسطاء ثقافيًّا ودينيًّا، وأن يَكُنَّ أيقونات للإسلام «الصالح». وكي أُبرهِنَ على تلك الحاجة، سأُقدّم مثلين عن نساء في حركة الشباب المسلم، يعملن مضيفات في التلفزيون. إذ ارتقى المسار المهني لناديا جبريل كشخصية تلفزيونية في 2002، بعد رفض تعيينها مضيفة في برنامج «موزاييك» التلفزيوني المتعدد الثقافات، لأنها ترتدي الحجاب. لاحقًا، صارت قائدة برنامج في الاستعراض التلفزيوني «آآت!» (show Ät)، وبرنامج السفر «باكات وكلارت» (show Packat & Klart). لقد تمكنتْ من البقاء في المهنة مبدية استعدادها للحفاظ على موقع معتدل في الجدال الدائر بشأنها. ولم تشدد على استثنائية إسلامية، بل تحدثتْ بروية وتفهّم عن صراعها مع إدارة هيئة «التلفزيون السويدي»[31]. وفي بعض الأحيان، رفعت الحجاب فمثّلَتْ المسلم «الجيد» الليبرالي، بالتوافق مع توقعات التيار السائد بين غير المسلمين بشأن الاعتدال.
في خريف 2008، أطلق «التلفزيون السويدي» استعراضًا حواريًّا سمّاه «الحلال تي في» (Halal-TV)، مع وجود ثلاث مضيفات يرتدين الحجاب. ولقد بُثّ العرض أثناء فترة الذروة مع هدف معلن يتمثّل في إعطاء صوتٍ للنساء الملتزمات بالإسلام. ثم أُلغيَ البرنامج بعد موسم وحيد، إثر تعرضه لانتقادات قوية لم تصدر ممن يتخذون تقليديًّا موقفًا سلبيًّا من محض وجود مسلمين في السويد فحسب، بل صدرتْ من أناس تطلعوا إلى ذلك البرنامج بإيجابية في البداية. وقد ورد في بعض الانتقادات أن المضيفات أعطين انطباعًا بأنهن يقدمن كلامًا مزدوج المعنى ولا يملكن أجندة واضحة. هل كُنَّ «متطرفات» بأكثر من كونهن مسلمات «جيّدات»؟ لِم رفضن أن يصافحن بالأيدي ضيوفًا ذكورًا غير مسلمين؟ ألم ترفض إحداهن، وهي طالبة قانون، عقوبة الإعدام وكذلك رفضتْ الرجم بالحجارة كطريقة في الإعدام؟
أظهرت تجربة مضيفات التلفزة تعدد المنصات التي تستخدمها المسلمات في ممارسة سلطتهن. وكذلك ألقت الضوء على فشل المشاهدين غير المسلمين في التقاط مدى التعقيد في التمثيلات التي تقدمها الشابات المسلمات عن الإسلام. وتوخيًّا لإلقاء مزيد من الضوء على ذلك التعقيد، سأناقش ملمحين مهمين مؤثرين في تمثيلات الشابات المسلمات عن الإسلام، هما بشكل رئيس:
اعتمادهن على السلطات الدينية والإجماع.
ولاؤهن بشكل رئيس لمجتمع يهيمن عليه الرجال، منخرط في تأخير نيل النساء حقوقهن.
خامساً: الاعتراف بالتعقيد
من المؤكد أن مشاركة النساء في إعادة تفسير النصوص الإسلامية الأصلية تزيد في تمكينهن. في المقابل، لا يجدر بإعادة التفسير أن تكون مبادرة فرديّة، بل أن تُطَوَّر عِبْرَ ممثلين مخوّلين، مع وجود توافق عام على ما يتوجّب اعتباره إسلامًا «موثوقًا»[32]. وتشرح تلك الشروط سبب مناداة المسلمات اعتبار تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى (Female Genital Mutilations) عادة غير إسلامية، وأنهن بذلك يتوافقن مع التيار الواسع في السويد الذي يرفض تلك الممارسة. في المقابل، تتردد النساء المسلمات في شجب العقاب الجسدي للنساء والأطفال، الذي يعتبر غير شرعي في السويد المعاصرة.
تفسر تلك الأمور بأن رفض تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى يمكن النهوض به بطريقة مأمونة، كونه موضع توافق واسع في مجتمعهن الإسلامي، وذلك ما لا يحظى به الحظر المطلق لتطبيق العقاب الجسدي على النساء والأطفال. وبذا، لا يكون مفاجئًا أن تميل المسلمات وأقرانهن إلى نقاش القضية الأولى أكثر من الثانية، (أو من عقوبة الإعدام، في ذلك المعنى)، أمام جمهور من غير المسلمين. ولا تتأتى طاعة النساء للسلطات الدينية من مجرد فهمهن للنصوص الدينية، بل يستوي في ذلك أيضاً، ولاؤهن للمجتمع المسلم الواسع؛ إذ تتأثر علاقة الشابات المسلمات مع السلطات الدينية الإسلامية بانطباع لديهن مفاده أن الإسلام يتعرض للـهجوم، والمسلمين في الشتات هم قيد الاستهداف أيضًا.
أظهرت باحثات كشيرين أمير- معظّمي ونادية فاضل، أن المسلمين محرومون من السلطة، ويتعرضون للضغوط كي يسلّموا بما يفهم باعتباره قيم الغالبية الوطنية، كي يجري الاعتراف بهم كمواطنين[33]. يتوجب على الأقلية التأقلم مع ممارسة المصافحة بالأيدي مع الجنس الآخر، فيما لا تحتاج الغالبية تفهّم وجود طرق متنوعة في التحية. ويضيف هذا التحليل توكيدًا إلى أن هيمنة من ذلك النوع قد تؤدي إلى زيادة انصياع الشابات المسلمات إلى مسار المحافظة على هيمنة السلطات الإسلامية (مكوّنة من رجال) عبْرَ تعليق النقاشات في الفضاء العمومي عن التنظيم الجندري داخل المجتمع الإسلامي.
حينما قادت أمينة ودود صلوات وألقت عظات، أمام حشد مختلط جندريًّا، لم تعمد الشابات المسلمات في البداية إلى التركيز على إملاءات المساواة الجندرية، بل اخترن التمسك برفض تلك المبادرة باعتبار أنها تُسبّب الفتنة في الأمة الإسلامية. كذلك حينما ظهرت تقارير عن وجود تمييز جندري في «مسجد ستوكهولم الكبير»، كتبتها عضو في البرلمان السويدي ورفعتها إلى الوكالة الرسمية المسماة (Jämställdhetsombudsmannen) (مكتب المساواة في الفرص، أومبودسمان)، لم يظهر على أجندة الشابات المسلمات سوى اهتمام شديد الضآلة بإجراء مقارنة بين مواضعهن وتلك التي يحتلها الذكور، أو بعدد الأمتار المربعة المخصصة لهن على شرفات ذلك المسجد.
من أجل التوصل إلى فهم أفضل عن أولويات الشابات المسلمات في سياق تعاملهن مع الديناميات الجندرية داخل المجتمع المسلم، أقترحُ الاستعانة بمفهومي المنصة الأمامية (frontstage) والمنصة الخلفية (backstage) كونهما يساعدان في ذلك الأمر. ووفق عالم الاجتماع الكندي الأميركي إرفنغ غوفمان (Erving Goffman) (1922-1982)، تهدف أفعال المنصة الأمامية إلى تقديم صورة منسجمة عن الذات، أمام الجمهور العام، فيما تبقى موضوعات عدم الانسجام قابعة في المنصة الخلفية[34]. أثناء تأزّم الأوضاع في المنصة الأمامية، على غرار ما جرى حينما بُلّغَ عن تمييز جندري في «مسجد ستوكهولم الكبير»، لم تُعطِ الشابات المسلمات الأولوية للنقاشات عن نُظُم جندرية بديلة، بالأحرى لقد وقفن معًا كي يساندن السلطات الإسلامية التقليدية في حماية النظام المسيطر. في المقابل، أثناء وضعيات أقل رسمية، أي في المنصة الخلفية داخل المجتمعات المسلمة، وبعيدًا عن أنظار المجتمع السويدي الواسع، تعمل الشابات المسلمات بدأب على نقاش الأدوار الجندرية ومحاولة إعادة التفاوض بشأنها. إذا شوهدتْ النساء في المنصة الأمامية وهُنَّ يُعلِنَّ أن فصل الشرفات في المسجد الكبير، يشكّل أمرًا مناسبًا لهن؛ فسيعملن في المنصة الخلفية على التفاوض حول زيادة ظهورهن ووجودهن في القضايا الرسمية للمجتمع المسلم، بما في ذلك حقل السلطة الدينية.
الخاتمة
ركّزت هذه الدراسة على الشابات المسلمات اللواتي عاصرن تبدّل المساجد من فضاءات ليس فيها جندري سوى الرجال، إلى منتديات تقدر على التأقلم مع وجود الجنسين الجندريين، مع استمرار التصارع بينهما. وبوصفهن أعضاء في منظمات الشبيبة المسلمة في السويد، تُواجَه الشابات المسلمات بتوقعات مفادها أنهن يجسّدن الإسلام ويمثّلنه. وبذا، يَكُنَّ مدعوات إلى العمل بوصفهن أستاذات أطفالهن وأقرانهن، وكصانعات للقرار ومُنظِّمات في الهيئات واللجان. ومع انفساح المجال أمامهن في قراءة النصوص الدينية، عملت الشابات المسلمات على إعادة صوغ التفسيرات بما يسهم في تغيير حياتهن اليومية، وكذلك مواقعهن في المجتمع الإسلامي والمجتمع السويدي الواسع.
في المقابل، ضمن سياق تلك العملية، لا تُقدِم الشابات المسلمات على تحدي السلطات الإسلامية التقليدية داخل المجتمع الإسلامي. وعلى غرار كثيرين من المنتمين إلى منظمات إسلامية في أوروبا، تستعمل الشابات المسلمات المساجد ومنظمات الشبيبة، كمنصّات يعملن عبرها على تأمين حقوق وحاجات الأقلية الإسلامية المتنامية.
في الواقع، يلقي المجتمعان المسلم وغير المسلم، بأعباء على الشابات المسلمات كي يعملن بوصفهن وسيطات ثقافيًّا وممثلات للإسلام في الفضاء العمومي. وإذ يعملن موجّهات في المساجد ومتحدثات في الفضاء العمومي وكاتبات في المنشورات الإخبارية ومواقع الإنترنت، فإن نشاطاتهن تذهب إلى أبعد من حدود المساجد والصفوف الدراسية، فتصير ممارسة لسياسات الهوية في المراكز المدنية وأستوديوهات التلفزة والفضاء الافتراضي للإنترنت. وكذلك يَمِلْنَ إلى إعطاء الأولوية لمصالح المجتمع المسلم الذي يهيمن عليه الرجال، ويسعين إلى تشتيت انتباه المجتمع السويدي بعيدًا عن إلصاق وصمة تمييزية في ما يتعلق بحقوق النساء في المجتمعات الإسلامية.
في ضفة مقابلة، داخل المجتمع الإسلامي، تعمل الشابات المسلمات على مساءلة القيم الجندرية المسيطرة، ثم إعادة التفاوض بشأنها. وكذلك تستمر هيمنة الذكور على المساجد ومنظمات المسلمين في السويد، وليس من علامات قوية على أن النساء سيصبحن قريبًا في مواقع قيادة الصلوات أو أن يعملن مرشدات للرجال. ومع ذلك، ضمن سياقات أقل رسمية، أي في المنصة الخلفية مع أقرانهن، تنخرط الشابات المسلمات في مداولات فكرية، ويضعن قيد الاختبار نُظُمًا وقيمًا بديلة. وبالتأكيد، تعمل الشابات المسلمات على حيازة مزيد من الظهور والحضور ضمن الشؤون الرسمية للمجتمع المسلم، بما في ذلك حقل السلطة الدينية.
[1] أُخذت الدراسة من كتاب (Women, Leadership, and Mosque, Changes in Contemporary Islamic Authority) تحرير: مسعودة بانو (Masooda Bano) وهيلاري كالمباخ (Hilary Kalmbach)، مجموعة باحثين، بريل، بوسطن، 2012، وجاءت تحت عنوان (challenging from within: youth associations and female leadership in swedish mosques) (371-391) .
[2] أستاذة مساعدة وباحثة في الإثنولوجيا (Ethnology) في قسم الإثنولوجيا وتاريخ الأديان ودراسات النوع الاجتماعي في جامعة ستوكهولم (Stockholm University)
[3] صحفي ومترجم فلسطيني.
[4] Gerdien Jonker and Valérie Amiraux, eds., Politics of Visibility: Young Muslims in European Public Spaces (Bielefeld: Transcript Verlag, 2006), 10.
[5] See: Pia Karlsson Minganti, Muslima: Islamisk väckelse och unga kvinnors förhandlingar om genus i det samtida Sverige [Muslima: Islamic revival and young women’s negotiations on gender in contemporary Sweden] (Carlsson Bokför- lag: Stockholm, 2007); and «Becoming a ‘Practising’ Muslim: Reflections on Gender, Racism and Religious Identity among Women in a Swedish Muslim Youth Organisa- tion,» Elore 15, no. 1 (2008)), with a follow-up in 2009.
[6] see: Ruba Salih, «Muslim Women, Fragmented Secularism and the Construction of Interconnected ‘Publics’ in Italy,» Social Anthropology/Anthropologie Sociale 17, no. 4 (2009): 410, 421.
[7] ارتفع عدد السكان في السويد عمّا كان عليه في سنة نشر الدراسة عام 2012، إذ تشير الأرقام الحديثة حتى أغسطس (آب) 2021، إلى أن العدد الاجمالي للسكان وصل إلى (10,402,070) نسمة وفقاً لهيئة الإحصاء السويدية (Statistics Sweden) الرسمية. المحرر: انظر الرابط الآتي:
https://www.scb.se/hitta-statistik/statistik-efter-amne/befolkning/befolkningens-sammansattning/befolkningsstatistik/
[8] Göran Larsson, ed., Islam in the Nordic and Baltic Countries (London: Routledge, 2009), 56; SST, Nämnden för statligt stöd till trossamfund [The Swedish commission for government support to faith communities], Statistik 2009, http://www.sst.a.se/ statistik/statistik2009.4.64075cf012c96962a7d80002580.html
لمزيد من المناقشة حول عملية مأسسة الجالية المسلمة في السويد انظر:
Jonas Alwall, Muslim Rights and Plights: The Religious Liberty Situation of a Minority in Sweden (Lund: Lund University Press, 1998); Ingvar Svanberg and David Westerlund, eds., Blågul islam? Muslimer i Sverige [Blue-and-yellow Islam? Muslims in Sweden] (Nora: Nya Doxa, 1999); Göran Larsson, Muslims in the EU: Cities Report (Sweden); Preliminary Research Report and Literature Survey (Budapest: Open Society Institute, 2007); and Göran Larsson and Åke Sander, Islam and Muslims in Sweden: Integration or Fragmentation? A Contextual Study (Münster: Lit Verlag, 2008).
[9] Stefano Allievi, ed., Conflicts over Mosques in Europe: Policy Issues and Trends— NEF Initiative on Religion and Democracy in Europe (London: NEF/Alliance Publish- ing Trust, 2009); Jocelyn Cesari, ed., «Mosque Conflicts in Europe,» Journal of Ethnic and Migration Studies 31, no. 6 (2005): 1015–1179; Pia Karlsson and Ingvar Svan- berg, Moskéer i Sverige: En religionsetnologisk studie av intolerans och administrativ vanmakt [Mosques in Sweden: A study of intolerance and administrative despair] (Uppsala: Svenska kyrkans forskningsråd, 1995); Pia Karlsson Minganti, «Mosques in Sweden: On Identity and Spatial Belonging,» in Creating Diversities: Folklore, Religion and the Politics of Heritage, ed. Anna-Leena Siikala, Barbro Klein, and Stein R. Mathi- sen (Helsinki: Finnish Literature Society, 2004), 153–64.
[10] Established in 1991, it was originally called Sveriges Muslimska Ungdomsförbund (SMUF), http://www.ungamuslimer.se
[11] See Larsson, Islam in the Nordic and Baltic Countries.
[12] The rules are vague and, for instance, there are no demands on how the com- munities elect their clergy.
[13] Renata Holod and Hassan-Uddin Khan, The Mosque and the Modern World: Architects, Patrons and Designs since the 1950s (London: Thames and Hudson, 1997), 19–21.
[14] Anne Sofie Roald, «Evas andra ansikte: Muslimska kvinnoaktiviteter» [Eve’s second face: Muslim women’s activities], in Svanberg and Westerlund, Blågul islam? 123–39.
[15] Cf. Fatima Mernissi, Beyond the Veil: Male–Female Dynamics in Modern Muslim Society (London: Al Saqi Books, 1985), 31.
[16] Ayşe Saktanber, Living Islam: Women, Religion and the Politicization of Culture in Turkey (London: I. B. Tauris, 2002), 32.
[17] Sylva Frisk, Submitting to God: Women and Islam in Urban Malaysia (Copen- hagen: NIAS Press, 2009); Jeanette S. Jouili and Schirin Amir-Moazami, «Knowledge, Empowerment, and Religious Authority among Pious Muslim Women in France and Germany,» The Muslim World 96 (2006): 617–42; and Mahmood, Politics of Piety.
[18] Al-Bukhari, Book of Menstruation, discussed in Anne Sofie Roald, Women in Islam: The Western Experience (London: Routledge, 2001), 131.
[19] انظر:
Nathal M. Dessing, Thinking for Oneself? Forms and Elements of Religious Authority in Dutch Muslim Women’s Groups. And: Petra Bleisch Bouzar, She is always present»: Female Leadership and Informal Authority in a Swiss Muslim Women’s Association, in: Women, Leadership, and Mosque, Changes in Contemporary Islamic Authority, ibid.
[20] Marie Eriksson, «Kvinnlig imam utmanar normer» [Woman imam challenges norms], Paraplyprojektet [The umbrella project], online newsletter, 2007, at: http://www.paraplyprojektet.se/nyheter/suad/.
[21] Pierre Bourdieu, Outline of a Theory of Practice (Cambridge: Cambridge Uni- versity Press, 1977).
[22] Cf. Mahmood, Politics of Piety, 178–79.
[23] Karlsson Minganti, Muslima, and «Becoming a ‘Practising’ Muslim».
[24] Karlsson Minganti, Muslima, and «Becoming a ‘Practising’ Muslim».
[25] Michel De Certeau, The Practice of Everyday Life (Berkeley: University of Cali- fornia Press, 1984), xviii–xx.
[26] Mahmood, Politics of Piety, 164–65.
[27] Roald, Women in Islam, 145–84.
[28] الجدير بالذكر أن حواء لم تطبخ في ذلك اليوم، لكن أخت زوجها الصغيرة فعلت ذلك. لم يقتصر الأمر على أن حواء لديها سلطة إسلامية تعمل لصالحها، بل يمكنها أيضاً الإفادة من وضعها في التسلسل الهرمي للأسرة. عند الإشارة إلى ذلك، أهدف إلى التأكيد أن تمكين المرأة – غالباً – ما يعتمد على تبعية النساء الأخريات.
[29] نشر ماينساكي أستاذ العلوم السياسية في جامعة (University of Maine)، دراسة في الجزء الثاني من الكتاب تحت عنوان:
Celebrating Miss Muslim Pageants and Opposing Rock Concerts: Contrasting the Religious Authority and Leadership of Two Muslim Women in Kazan, in (Women, Leadership, and Mosque, Changes in Contemporary Islamic Authority), ibid, 235-259.
[30] كما ذكرنا سابقاً، كان ثمة حدود لنجاح التفاوض النسائي على الحقوق. إذا لم يكن لأفراد الأسرة، الأطر المرجعية الإسلامية نفسها، مثل الشابات، فيمكنهم وضع حد لنشاطهن المطلبي في أي وقت. كان هناك تهديد بالعنف تلقته بعض النساء، وخوف من الطلاق عند جميعهن.
[31] Jonas Otterbeck, «The Legal Status of Islamic Minorities in Sweden,» Journal of Conflict and Violence Research 5, no. 2 (2003): 46–47.
[32] Mahmood, Politics of Piety, 115–17; Jouili and Amir-Moazami, «Knowledge, Empowerment, and Religious Authority,» 634.
[33] Schirin Amir-Moazami, «Dialogue as a Governmental Technique: Managing Gendered Islam in Germany,» Feminist Review 98, no. 1: 9–27; Nadia Fadil, «Manag- ing Affects and Sensibilities: The Case of Not-Handshaking and Not-Fasting,» Social Anthropology/Anthropologie Sociale 17, no. 4 (2009): 439–54.
[34] Erving Goffman, The Presentation of Self in Everyday Life (New York: Doubleday, 1959).