تمـــهيد
تؤكّد دراسة البرامج الجامعية في علوم الأديان الأهمية المتزايدة لمقاربة قائمة على ثلاثة أبعاد: بيداغوجية ومجتمعية وعلمية، على أن تشمل هذه المقاربة مختلف الأشكال والتنوعات للحوارات بين الأديان، وأيضا بين اليقينيات (يتسع الحوار بمقتضى هذه التسمية ليشمل -إضافة إلى الأديان- مجموع التصورات الشمولية للحياة والعالم). وتمكّن هذه المقاربة الثلاثية الأبعاد من إعادة صياغة مراحل نجدها في العالم الخارجي، وعليها أن تنتقل إلى العالم الجامعي، وهي التي ننوي محاورتها هنا عبر ثلاثة أسئلة: كيف نتمكّن من الربط بين الحوار بين الأديان والمقاربة متعدّدة الاختصاصات؟ كيف نتمكن من الربط بين هذه المقاربة الفكرية الثنائية وأشكال مخصوصة من التجربة والاختيار؟ كيف نتمكن من اتخاذ موقف فكري بالنسبة إلى هذه اللحظة في الفعل، لا فقط كي نجعل من هذه اللحظة موضوع درس وتدريس، ولكن أيضا لنجعلها موضوع ضبط اجتماعي؟
يتساءل الناس اليوم عن قدرة علوم الأديان على أن تتضمن «صلاحية مواطنية». ومما لا شكّ فيه أنّ إدماج هذا التوجه المواطني سيطرح رهانات مختلفة ترتبط بنمط التدريس المعني.
فالبرامج الجامعية لا يطلب منها فقط أن تضمن تكوين مدرّسي التعليم الابتدائي والثانوي في مادة علوم الأديان، ولكن أيضا أن تحمل مسؤولية اجتماعية مخصوصة في أنماط التدريس غير التعليمية المتصلة بعلوم الأديان. ففي المحور التعليمي الأوّل يمكن أن نراجع مثلا التوصية 1396 (2001) الصادرة عن برلمان المجلس الأوروبي وتتضمن ما يلي: «يمثل التعليم المفتاح الرئيس لمحاربة الجهل والأفكار النمطية. ومن العاجل أن تراجع البرامج المدرسية والجامعية كي تسمح بتنمية معرفة أفضل لمختلف الأديان، وأن لا يدرس التعليم الديني على حساب تعليم الأديان بالمعنى التاريخي والثقافي والفلسفي للإنسانية». ويرد في توصية أخرى تحمل العدد 1720 (2005) وقد صدر أيضا عن المجلس نفسه ما يلي: «في كل مكان بأوروبا لا يوجد ما يكفي من المدرسين القادرين على تقديم دراسة مقارنة لمختلف الأديان، ومن هنا تتنزل ضرورة تأسيس معهد أوروبي لتكوين المدرسين (على الأقل لتكوين من سيقومون بتكوين مدرسي المستقبل) ويمكن أن يستفيد هذا المعهد من تجربة العديد من المعاهد والكليات في مختلف البلدان الأعضاء التي تعمل منذ فترة طويلة على البحث والتدريس في مجال الأديان المقارنة». ومن الجدير بالملاحظة أنّ الاتحاد الأوروبي يموّل من جهته العديد من برامج البحث الأكاديمية في هذا الموضوع.
أمّا المحور الثاني فيستدعي مسؤولية اجتماعية مباشرة للجامعات في مجال علوم الأديان، وليس المقصود الاقتصار على التعليمية في المدارس الثانوية، فمن الضروري أيضا أن ندعم عبر برامج جامعية علوم الأديان ومجتمع الديمقراطية والتسامح والسلام واحترام الحقوق الأساسية. وليس المقصود هنا أن نحمّل المعرفة مهمّة المسؤولية الاجتماعية بما يحوّل المعرفة إلى مجرّد أداة للمجتمع، بل يتعين أن يتنزّل الأمر في إطار حوار أكثر شموليّة، لا يقتصر على علم الأديان، ولا حتى العلوم الإنسانية عامة: كيف يمكن أن نتصوّر المسؤولية الاجتماعية للتعليم الجامعي والبحث العلمي؟
نسعى إلى أن نثبت هنا أن القضية المطروحة ليست مجرّد تساؤل معرفي أو أخلاقي أو سياسي، بل هي قضية تشريعية أيضا. فإلى أيّ حدّ يمكن لبرنامج أكاديمي في علوم الأديان أن يتولّى دورا مسؤولا في الميدان المشار إليه، وخاصة الحوار والتفاعل بين اليقينيات المختلفة داخل المجتمع؟
تتوافر دوليّا ضمانات لاستقلالية الأديان والمراجع العقدية، وتحدّد هذه الضمانات حرية الدول في فرض كراس شروط شديد الدقّة في كل المجالات، ومنها ما يتصل بالمواطنة ذاتها. بالمقابل نجد أن الدروس العمومية للثقافة والتاريخ الدينيين يمكّنان على الأرجح من تعميق التوجّه نحو مقاربات إجبارية في المواطنة. وفي كل الحالات يرجّح أن تلغى هذه الفروق عندما تناقش مستقبلا آفاقا مشتركة بين السلطات العمومية والمجموعات العقائدية المسؤولة، حسب البلدان ونوع التعليم المقدم في البرامج المدرسية. ومن جملة أشكال التوجيه نحو المواطنة، يمكن أن نذكر أن «بيداغوجيا التفاعل» تحتل مكانا أساسيا، وترتبط بما هو مشترك بين الأديان والملل، وبالحوار والمقارنة، ولعب الأدوار والمقاربة عبر تجاوز الصدامات. فهذه الوسائل المتاحة تقدّم تدريبا على التنوع يميّز الديمقراطيات المعاصرة، وهي جديدة في البرامج التعليمية وذات طابع تجريبي -في الغالب- وتؤدي بدورها إلى رهانات معقدة للضبط القانوني؛ ذلك أن هذه البرامج الجديدة، سواء كانت ذات طابع عمومي أم خاص، تلتزم بحقوق الطلبة والتلاميذ وأوليائهم، وبصفة أوسع، مسؤولية الحكومات ذاتها تجاه حرية التديّن والاعتقاد والنضال ضدّ التمييز. ويتعيّن أن نتجاوز شعور الشفقة أو الحماس كما يبرز من خلال مختلف القرارات الدولية الصادرة ومختلف برامج الإصلاحات الوطنية ووضع مسارات اختبارية تنتهي في الغالب بمصاعب ليس من النادر أن نراها تتحوّل إلى المحاكم الوطنية، بل ربما تحال على هيئات قانونية دولية.
وليست الجامعة استثناء من هذا الوضع العام؛ فالعديد من الاختصاصات المتصلة بعلوم الأديان مدعوّة إلى الإسهام في الدراسة الوصفية لهذه التفاعلات الجديدة: ما هي آثار الإدماج التعليمي للحوار بين العقائد؟ ما هي المعطيات التاريخية والعلمية والسياسية للتطورات البيداغوجية في هذا الاختصاص؟ كيف تمكّن معرفة أفضل بخصوصيات المرجعيات العقائدية والدينية من تقييم أفضل للمسارات والتطورات الحالية؟ هل يمكن أن نقبل بمسارات اختبارية في البرامج الجامعية، وخصوصا في المجال البيداغوجي؟ فسواء تعلق الأمر بمبادرات تنضوي ضمن الاستقلالية الجامعية أو برامج تحفيزية تطلقها الحكومة مع احترام استقلالية الجامعات، فإن الواقع يتميز حاليا باتجاه الجامعات نحو اختبار العديد من الإجراءات الجديدة. وهناك هدف واحد تلتقي حوله المبادرات، وهو اختبار العيش المشترك والتنوع والحوار عبر الطلبة (وأساتذتهم) بدل الاكتفاء بالوصف وإلقاء الدروس النظرية المجردة.
أخيرا تتجه المقاربة الجامعية إلى الأنماط الاجتماعية لضبط هذه التطورات، خاصة توفير القواعد القانونية لها. وقد احتفظنا بهذا التوجه في دراستنا هذه التي تودّ أن تطرح سؤالا محوريّا: إلى أيّ مدى وكيف يمكن للسلطات العمومية أن تنشئ سياسة حول المواطنة التعددية، تتسم بالجدّة وتقوم على بيداغوجيا التفاعل، وتلزم مختلف الأبعاد العقائدية؟
نقدّم في الجزء الأول من الدراسة أهمّ رهانين رئيسين في هذه البيداغوجيا، ثم نعمل في الجزء الثاني على دراسة الإجابات والأسس التي تقدمها التشريعات الحالية للمحكمة الأوروبية المتخصصة في حقوق الإنسان.
بيداغوجيات جديدة للتنوع في مقابل حيادية الدولة
نقترح أن نناقش باختصار آليتين تسمحان لبيداغوجيا الحوار بين اليقينيات بالتفاعل بينها وبمراجعة السائد في ضوء حيادية الدولة: أ- إحراز الموضوعية عبر تنوّع المعارف: كيف نربط الحوار بين الأديان والمقاربة المتعددة الاختصاصات؟ ب- إحراز الموضوعية عبر تنوّع التجارب: كيف نربط هذه المقاربة الفكرية المزدوجة بأشكال مخصوصة من التجربة أو التجريب؟
أ- إحراز الموضوعية في العلاقة بالديني/ العقائدي عبر تعددية المعارف:
يمثل البعد العلمي في هذه الحالة بعدا موضوعانيا، ويقدّم مقاربة معاصرة لعلوم الأديان أو دراسة «الشأن» الديني، ويمكّن من توفير مصادر خاصة لكل مرجع عقائدي من دون التفريط فيه. فالمقاربة الواسعة والمتعددة الاختصاصات تمكّن من تفادي حصر ما يدعى بـ«الشأن الديني» في زاوية أحادية، مثل تعمّد المجتمعات المعلمنة حصر هذا الشأن في قراءة تاريخية وفلكلورية، أو تعمّد المجتمعات الدينية حصره في الدائرة اللاهوتية. ولا يمكن بلوغ الهدف المقصود إلا بمراجعة المبادئ التأويلية النقدية الخاصة بكل تقليد عقائدي، وأن لا تنأى هذه المبادئ عن المقاربة المتعددة الاختصاصات. إنّ تعددية الاختصاصات في مقاربة الديني تفترض أن لا تقصي هذه المقاربة المعارف الدينية في ذاتها، بل المفروض أن تدفعها إلى مزيد من التفاعل بينها.
تكاد تقترب رهانات هذه المقاربة متعددة الاختصاصات ومصاعبها من تلك التي تميّز الحوار بين الأديان، وهذا ما يمكن قوله أيضا في المقاربات المتقاطعة بين علم الاجتماع وعلم النفس، أو اللاهوت والفلسفة، أو القانون والعلوم السياسية، أو الفن والتاريخ. وثمة معيار صالح لاختبار هذا التفاعل بين الاختصاصات والأديان: الغالب أننا نستعمل كلمة دين في الجمع عندما نطلق عبارات مثل «علم اجتماع الأديان» و«علم نفس الأديان»، لكننا لا نستعمل كلمة لاهوت إلا في المفرد، ونخصّ كل تقليد ديني برؤية لاهوتية واحدة. والحال أن استعمال كلمة لاهوت في الجمع يؤشر إلى قابلية للانفتاح وحجة عليه. فالغريب أن يواجه استعمال كلمة «لاهوتات» بالرفض، بينما نرى طبيعيا أن يستعمل الجمع في عبارة علم اجتماع الأديان أو علم نفس الأديان. هل يعود سبب الرفض إلى نفي صفة العلمية عن اللاهوت أم رفض فكرة تعدّده؟ نفضّل أن نبقي هذا السؤال دون جواب.
الموضوعانية عبر تعددية التجارب العقائدية
يمكن أن تقيّم المقاربات بين الأديان حسب قدرتها على معالجة الشؤون الدينية بصفتها وقائع حيّة تحمل في ذاتها مرجعياتها (النصية والتأويلية والطقوسية… إلخ). ولا ينفي هذا الموقف صلاحية مقاربة تاريخية وربما أركيولوجية، لكنه يحاول تقديم مستندات منهجية لقراءة مختلفة. والمسؤولية الاجتماعية للمؤرخ توازي مسؤولية بقية زملائه في التعليم، فالجميع مدعو إلى دعم سياسة قائمة على المواطنة.
وفي خضم هذه المقاربة الديناميكية يمكن تقديم أشكال مختلفة من المناهج التجريبية في الميدان البيداغوجي، تماما كما هو الشأن في ممارسة الآليات الاجتماعية الجديدة. ومن جملة هذه الآليات نرى أنّ ممارسة الحوار بين الأديان تحتلّ مكانا بارزا ومتناميا. ولا يقصد بهذا الحوار جانبه اللاهوتي فحسب، وإنما أيضا دوره ضمن مسؤولية جماعية.
وقد اهتمت الدول الأوروبية بالعديد من المبادرات متعدّدة المرجعيات الدينية والعقدية، وهذا رهان جديد يستقطب وقائع حيّة تتجسد بفضل فواعل ومؤسسات عمومية، كما يستقطب اختصاصات علمية مثل القانون وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة، إضافة إلى اللاهوت منظورا إليه في الجمع. وهكذا يصبح الحوار بين الأديان لحظة مميزة في السياسة الاجتماعية وفي التدريس على حدّ سواء.
لا تخلو المعالجة التجريبية في الميدان الديني من بعض الدقّة لأسباب عديدة، منها التزام السلطات العمومية بمبدأ الحياد في المجال الديني، ومنها أيضا احترام الحقوق الأساسية للتلاميذ، فهل يمكن التخلص من كل العوائق بمجرد تحويل المقاربة التجريبية إلى تعدّد الأطراف الفاعلة وفتحها لحوار لا يكتفي بتعدّد الأديان، ولكنه يتسع أيضا إلى تعدّد اليقينيات، ثم أخيرا إلى تنزيل المسألة في أفق مواطنة مسؤولة؟
وقبل أن نعرض هذه القضايا في إطار التدريس سنتساءل: كيف يمكن لتجارب اعتمدت في آليات اجتماعية أخرى أن تعمل على الإسهام في التفكير المطروح؟ هناك العديد من الدول والمنظمات الدولية لم تعد تعتبر الحوار بين الأديان مسألة مخصوصة بالأديان والجماعات الدينية، وقد شهدنا هذا التحولّ في حركة تدريجية سبقت سبتمبر 2001. وهناك مسار تحالف الحضارات الذي طرح ضمن منظمة الأمم المتحدة والأبعاد الدينية للكتاب الأبيض حول الحوار بين الأديان في المجلس الأوروبي، ومشروع الحوار المفتوح والشفاف والمستمر مع الكنائس والفلسفات، وهناك الأثر الدولي للقاءات التي أطلقها البابا يوحنا بولس الثاني، وهناك مسار مدريد، فهذه جميعا مبادرات تؤكد أنّ العلاقات بين السلطات العمومية والأديان قائمة، وهناك العديد من التفاعلات الإيجابية بين هذين الصنفين من الحوار، ويمكن الاستفادة منها حسب الظروف والتجارب والآليات الجديدة التي ستشكل اختبارات ملموسة ورائدة. وتهتم الدول [الأوروبية] والهيئات الدولية اهتماما متدرجا بكل الأشكال الجديدة للمشتركات بين اليقينيات، لكن هذا الاهتمام لم يبلغ درجة من الوضوح التام ويدخل ضمن قابلية جديدة لهذه الآليات في عملية الضبط العمومي.
من جهة، هناك غموض بسبب التداخل الحاصل بين الرهانات ذات الطبيعة الدينية، لما يقترح قاعدة مشتركة والرهانات المتصلة بالنقاش العام، بل التسيير الحكومي. ومن جهة أخرى، هناك قابليات جديدة تعبّر عن نفسها بواسطة بعض الاستعمالات العمــومية للبنيات متعدّدة الأبعاد، التي يمكن أن تؤوّل على أنّها إجابة للضرورات الجديدة للديمقراطيات المدعوّة بديمقراطيات المشاركة.
مع أنّ أغلب السياسات الوطنية قد تأسّست تاريخيا بمقتضى مبدأ السيادة وحسب مفاوضات ثنائية مع السلطات في الغالب.
لئن لم يرفع الغموض المشار إليه، فإن هناك مصاعب دستورية قد تقف عائقا وقد تؤدي إلى توظيف التفاعل بين الأديان والعقائد. أما إذا كانت الرهانات محسوبة، فيصبح من الممكن أن نشهد دوافع عمومية وهياكل شفافة تستجيب على الأرجح بطريقة معقولة للأشكال الجديدة للإدارة العامة، على غرار ما تصورته قطاعات اجتماعية أخرى. ويتخذ هذا الغموض طابعا بارزا عندما نراه موضوع إدانة من الشبكات التحليلية التي صاغها يورغان هابرماس، فقد أبرز التوترات القائمة بين دور «الفعل التواصلي» ضمن المجتمع المدني والإكراهات المصلحية المتصلة باستعمار العالم المعيش من السلطات الاقتصادية أو البيروقراطية. والأهمّ من ذلك أن هابرماس قد فتح حوارات مع لاهوتيين وشهدت أعماله تطورا بين سنتي 1993 و2005 ودافع من خلال هذه الأعمال عن فكرة أنّ الخطابات الدينية يجب أن تحظى بحضور شرعي في الفضاء المشترك للإسهام العام بشرط ابتعادها عن العنف. بيد أن التحوّل الأكبر قد جاء على لسان خليفته آكسل هونيث (Axel Honneth) الذي أكّد أن اللحظة المحسوسة للاعتراف بالآخر وتجربة هذا الاعتراف بين أشخاص يلتقون حول النضال من أجل المساواة والكرامة في ظل الاحترام والتقدير، يفوقان أهمية التواصل النظري بينهما في ظل الحوار. فالتقارب المحسوس (الجسدي) والتشابك الحميمي يمنحان فرصة التدرب والإثراء المشترك، أما في غياب ذلك فلا يبقى إلا تبادل صوري للأفكار وإنشاء مجرّد للخطابات المعقلنة. وتبرز أهميّة هذه المعاينة بالنسبة إلى الحدود الدلالية الكامنة في كلّ حوار بين الأديان. ويرى البعض أنّ الاشتراك في إقامة الصلوات أو التأملات المشتركة تفتح المجال لتجربة غير مسبوقة تحتوي كل طاقة عظمى، كي ينمو تعلّم المواطنة بدل البقاء في خطابات عاطفية عقيمة.
لقد مرّت الممارسات العمومية للتفاعل بين الأديان والعقائد بثلاث مراحل: مرحلة دينية وعقائدية بالمعنى الضيّق اصطدمت بعائق لاهوتي قد لا يكون قابلا للتجاوز، ثم مرحلة تفاعل عمومي تنقسم بدورها إلى مرحلتين: المسؤولية الاجتماعية بالنظر إلى القضايا الدنيوية (مثال: كيف يمكن لتفاعل بين الأديان أن ينتج خطابا يساعد على حماية البيئة أو نشر السلام) ثم أخيرا مرحلة تجربة الآليات ذاتها حسب نظام الاعتراف الذاتي.
هل يمكن لهذه الرهانات والإضافات البراغماتية أن تعتمد لتصبح قواعد قانونية لبيداغوجيات جديدة تفاعلية وتعددية في مجال التعليم؟
ليس هنا مجال الوصف المفصّل لتنوع أشكال التجريب البيداغوجي الجديد، يكفينا أن نذكّر بأن هذه الأشكال تتراوح من تبادل الآراء والمواقف بين الأساتذة إلى دعوة شهود [ممثلين لديانة أو عقيدة] إلى اختلاط مؤقت بين فصول مختلفة في ساعات تدريس الأديان (في بلجيكا مثلا: توجد أنماط عديدة من الدروس الدينية يمكن أن تتفاعل ببعضها البعض). ويمكن أيضا تطور أشكال عابرة مثل تجارب في الإخراج [المسرحي] أو قراءات جماعية لسير دينية أو إنسانية تتميّز بالأهمية والتنوع، أو يمكن أيضا التفكير في زيارات لأماكن عبادة واعتماد المراقبة المسهمة أو بيداغوجيا تجاوز الصدامات التي أشرنا إليها سابقا… إلخ. ويمكن التفكير في برامج اختيارية خارج البرنامج الدراسي تخصّص لنشاطات مشتركة ذات طبيعة ثقافية ورياضية، بل روحانية أيضا.
المهمّ من وجهة نظر التحليل القانوني أن نراقب الكيفية التي يُدار بها بُعدان مميزان لهذه المسارات البيداغوجية الجديدة: البعد الأوّل يتصل كلاسيكيا بدرجة الحيادية أو الانتماء الديني والعقيدي للبيداغوجيات الجديدة المسخّرة لتفاعلات المرجعيات العقدية، والبعد الثاني يتصل بالانتقال إلى مقاربة صوريّة وعالمة وإلى بيداغوجيا تجريبية. وهو يتضمن هذه المرة الحقوق الفردية للتلاميذ.
بالنظر إلى البعد الأوّل يبدو الجواب ميسورا إذا أخذنا بعين الاعتبار مرتكزات القانون الأوروبي. فثمة العديد من الحجج التي قد تستعمل في التشريعات الحالية، وتسمح كما ذكرنا بأن تعتبر المقاربة بين الأديان مقاربة حياديّة بسبب ما تدفع إليه من تخلّ لمختلف التقاليد الدينية عن ادعاء المركزية، كما تسمح باعتبار هذا النوع من التدريس خارجيا يعالج قضية الحوار بين الأديان على أنّه مظهر ثقافي ضمن مظاهر أخرى.
بالمقابل، يطرح البعد الثاني ذو الطبيعة التجريبية البحتة مشكلات قانونية أكثر عسرا. فالمفارقة قائمة بين النجاعة النفسية المستندة للبيداغوجيات التجريبية وتقييم هذا الأثر النفسي مع احترام الضمانات الدولية لحرية الدين والمعتقد. وسنخصص الجزء الثاني من المقال للخوض في هذا الرهان التشريعي.
2- من أجل معالم تشريعية لبيداغوجيا المواطنة عبر النهج التفاعلي
هناك سؤال قديم مطروح حول ضرورة أو عدم ضرورة الانتماء الإيماني في دراسة دين وفهمه، ويستعاد هذا السؤال كلما طرحت التقنيات التعليمية المتصلة بتدريس الاختلاف، وفي الحالة الراهنة: تدريس الحوار بين الأديان. يتساءل البعض: ألا تجرنا التقنيات البيداغوجية للتجربة إلى أوضاع بعيدة عن الدور المألوف للتعليم؟ ألا تصبح الممارسات -ولو كانت ناجعة في ذاتها- مدخلا لتدخلات يصعب ضبطها والتحكم فيها؟ فلئن كان الحلّ الأمثل لصدام الثقافات وما يتخلله من تعصب أن يقبل كل طرف بأن يضع نفسه مكان الآخر، وأن ينظر إليه «عيانا»، أي بواسطة تجربة الانصهار المؤقت في الحياة اليومية لشخص آخر ينتمي إلى ديانة أو عقيدة مختلفة، حتى لو كانت تجربة محدودة لا تتجاوز حصة درس واحد، فإنّ سؤالا آخر يظل مطروحا: هل يمكن أن تفرض على التلميذ تجربة مثل هذه بسلطة البرنامج الدراسي؟ تشهد علوم الأديان اليوم توجها نحو الإجماع على ضرورة تجاوز المعارك القديمة بين أنصار الحدّ الأدنى في تعليم الأديان وخصومهم، وتأكيد أن المقاربة الشاملة للموضوع الديني تفترض «طريقا ثالثة» ذات طبيعة تأملية. لكن إذا افترضنا أن هذا التطور لن يشهد أي تراجع من وجهة نظر علوم الأديان، فهل سيكون كافيا لتجنّب كل مخاطرة لمقاربة براغماتية وليست معرفية، وهي التي ندعوها بالتجربة البيداغوجية بين العقائد؟
الاستقرار الانفعالي للتلميذ والطالب
لا يمكن تقييم هذا النوع من الأسئلة تقييما قانونيا إلا إذا قبلنا بعدم الاكتفاء في ميدان التحليل بالقضايا الدينية والعقدية وحدها، من الضروري توسيع دائرة السؤال ليشمل أيضا الاختيارات الأخلاقية الأساسية، وكذلك أنماط الحياة مثل تلك المتصلة بالمواطنة أو الجنس. نعلم أن أوروبا تواجه منذ فترة طويلة اعتراضات بسبب دروس في الثقافة الجنسية يعتبرها البعض مفرطة الجرأة أو شديدة التوجيه. وقد استعيدت هذه النقاشات مؤخرا بسبب البرامج الإعلامية التي تقرّرت أوروبيا أو وطنيا في موضوع المثلية الجنسية. فالبعض يؤكد تمسكه بالتسامح وعدم التمييز بين البشر، لكنه يعتبر هذه البرامج أقرب إلى الدعاية منها إلى الإعلام. ويقول هؤلاء: إن مثل هذه البرامج تترك وقعا سيئا على الاستقرار الانفعالي للتلاميذ والطلبة وتحدث فيهم نتائج نفسية «غير محايدة». ونجد مثالا آخر لهذا النمط من الاحتجاج في الخلافات الأوروبية حول حضور الصلبان في المدارس العمومية بإيطاليا. وقد عرض الموضوع على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فأصدرت هذه المحكمة قرارا معروضا حاليا على الاستئناف لم يكتف بمناقشة الضرورات المتصلة بحيادية الدولة، بل تعرض إلى مجموعة من المعطيات الذاتية والفردية مثل «الوقع النفسي على تلاميذ في سنّ مبكرة». ويرد أيضا في هذا القرار أن «ما قد يمثل عامل تشجيع لدى بعض التلاميذ المنتمين إلى ديانة معينة، يمكن أن يتحوّل إلى عامل تعكير انفعالي لآخرين ينتمون إلى ديانة أخرى، أو لا يعدّون أنفسهم منتمين إلى ديانة». فليست القضية أن تتحوّل من مفهوم الحيادية إلى حيادية «الواقع» والتأثير، لكن أن تتحوّل من واجب مفروض على المؤسسات العمومية إلى حقّ/ حريّة يشمل كل التلاميذ.
لم يكتف القاضي الأوروبي بالإشارة إلى التأثيرات الانفعالية والنفسية، فقد أشار أيضا إلى أن هذه التأثيرات قد لا تترتب فقط على أفعال ظاهرة، بل يمكن أن تترتب أيضا على أفعال أكثر تجريدا: «الحرية السالبة لا تقف عند غياب خدمة دينية أو تعليم ديني، بل يمكن أن تشمل أيضا الممارسات والرموز التي تعبّر عموما عن عقيدة أو دين أو إلحاد».
قبل أن نناقش مدى ما تعلنه هذه الإشارة من توسيع لمفهوم «الحرية السالبة»، بما قد يهدّد بعض التجديدات البيداغوجية التجريبية، من الضروري أن نبرز توضيحا مزدوجا قدمته المحكمة الأوروبية بقولها: «إذا كانت الدولة هي التي تعبّر عن معتقد، وإذا وضع الفرد في وضع لا يمكنه التخلص منه، أو يمكن أن يتخلص منه بتضحيات غير متناسبة». فهذا الاحتراز الأخير أساسي، وهو احتراز كلاسيكي في الميدان التشريعي. ينبغي الموازنة بين ما يعتبر إخلالا بالاستقرار الانفعالي والنفسي من جهة وما ييسر الانتقال إلى أنظمة دراسية بديلة من جهة أخرى. فكلما حصل الانتقال بيسر أصبح الأثر على الاستقرار أكثر مقبولية. فكأن تنوع سياسات التنوع هي الضامن الأخير لنجاحها وشرعيتها!
بيد أنه توجد حدود مطلقة يصعب تجاوزها، وهي الابتعاد عن كل تقنيات الدعاية لعقيدة ما أو الاصطدام المباشر بمبدأ الحيادية الدينية للدولة «في إطار التعليم العمومي الإجباري حيث يفرض على التلاميذ حضور الدروس، بصرف النظر عن أديانهم، ويدرّب هؤلاء أثناء الدروس على تطوير الفكر النقدي».
لقد انتبهت القرارات التشريعية حول دروس التربية الجنسية إلى وجود «شبكات تعليم خاص مواز ومدعوم من الدولة يمكّن التلاميذ والطلبة من اختيار مسارات تعليمية غير المسارات الرسمية والبرامج العمومية، فلم تر ضررا في أن تتواصل تلك الدروس. بالمقابل اعتبرت المحاكم أن وجود صلبان في الفصول المدرسيّة يمنحها دلالة دينية قويّة حتى إذا اعتبرنا أنها قابلة للتأويل بأكثر من معنى». فالتلاميذ من كل الأعمار «يمكن أن يذهبوا إلى التأويل الديني لهذا الرمز»، ولا يمكن اعتماد القدرة على مغادرة المدرسة، حتى لو كانت ناجعة لتبرير شرعية حضور الصلبان.
بيداغوجيات التفاعل في مواجهة بدائل مفرطة التأسيس أو مفرّطة فيه.
أمام هذا الضابط، ضابط المغادرة الذي يسمع لفرد أن يبحث في إطار التعددية عن مسار آخر للسياسة البيداغوجية وبديلا عن البرنامج المتاح أمامه، ألا يمكن القول: إنه يصعب تحقيق اندماج «داخلي» ضمن برنامج تعليمي معين ومخصوص بهذه المقاربة؟
هذا ما يبدو أنّ المحكمة الأوروبية قد دعت إليه بنفسها عندما ذكّرت في قرارها حول حضور الصلبان بما يلي: «ينبغي أن تحترم عقائد الأولياء في إطار تعليم قادر على توفير محيط دراسي مفتوح وداعم للاندماج بدل الإقصاء، بصرف النظر عن الأصول الدينية والعقدية للتلاميذ أو أصولهم العرقية. فالمدرسة ليست فضاء للوعظ أو التبشير، بل ينبغي أن تكون ملتقى ديانات وعقائد فلسفية وفضاء يمكّن التلاميذ من الحصول على معارف حول أفكارهم وتقاليدهم».
في هذا المحور التشريعي الأوروبي لا يمكن تأسيس فضاء تلاقٍ بمجرد الانسحاب الهادف، بل يتعين ضمان حق إعفاء شامل ومضمون لكلّ تلميذ، حماية له من كل مسّ باستقراره الانفعالي. هذا ما دعت إليه المحكمة الأوروبية بقرار صدر بتاريخ 15/6/2010. محور هذا القرار إمكانية أن يعفى تلميذ من درس ديني كاثوليكي منظم في مدرسة بولندية عمومية، وكان المفترض أن يمنح التلاميذ درسا تعويضيا في الأخلاق، لكن لم يحصل تنظيم هذا الدرس، فوجد التلاميذ أنفسهم مخيرين بين حضور الدرس الديني أو البقاء منعزلين في أروقة المدرسة من دون تنظيم أو مراقبة. وقد اعتبر القائمون بهذه الدعوى أنّ ترك التلاميذ في هذه الحالة يعتبر اعتداءً على استقرارهم النفسي. واعتبرت المحكمة أن غياب بديل إيجابي عن الدرس الديني، يؤدي إلى تهميش التلاميذ المعنيين وممارسة التمييز ضدهم، خاصة إذا كانت أعداد الدرس الديني جزءا من المعدلات العامة في المدرسة.
وقد أقرت المحكمة أنّ الاتفاقات الأوروبية لا تضمن تنظيم دروس بديلة في كل الحالات بمقتضى ما يطلبه الأولياء، بيد أنها أصرّت على أن الوضع المعروض عليها يمثل خرقا لتلك الاتفاقات، ومسّا بالحقوق الفردية للتلميذ في ممارسة حرية العقيدة.
كيف يمكن حينئذ إقامة آليات بيداغوجية أكثر ثراءً، وإلى أي حدّ يمكن أن نضمن تلاقي العقائد تلاقيا حقيقيا وعمليّا؟
هذا رهان ضخم وتحدّ تطرحه المبادرات الحالية. ولا بدّ أن يتوافر مرة أخرى مقترح بيداغوجي يراعي -ولو في شكل مفارقي- الضمانات الدولية لحقوق الإنسان. هذا على الأقل ما بيّنه قرار صادر عن القاضي الأوروبي نفسه بتاريخ 29/6/2007. فقد أدينت دولة النرويج لأنها أحدثت درسا عنوانه «المسيحية والأديان والفلسفات». وقد حاول أصحاب هذا الدرس جاهدين أن يجعلوه ملتقى للأديان والممارسات البيداغوجية والتجريبية المختلفة، لكن المحكمة اعتبرته مخلاّ بحريّة العقيدة (مستندة إلى الضمانة الخاصة التي يوفرها الفصل الثاني من الاتفاق الإضافي الأوّل للمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان). وقد قدمت المحكمة على مشروع الدرس مآخذ منها: منحه مكانة أكبر للتوجه اللوثري (كان هذا المأخذ الأكبر حسب المحكمة، لكنه لن يعنينا بصفة أولى في هذا المقام)، وقد أشار قرار المحكمة إلى الآثار السلبية لهيكلة بيداغوجية مفرطة التعقيد. وكانت النرويج قد توقعت حصول بعض المصاعب من جراء برنامج يقرّر زيارات للمعابد ويعتمد الملاحظة المسهمة في العبادات لأهداف بيداغوجية تجديدية، فأقرت إمكانية إعفاء تلاميذ من بعض هذه النشاطات بطلب أوليائهم، لكنها لم تقرّر إعفاءً عاما من كل النشاطات بما أن تنوّع الدروس المقترحة كان من المفترض أن يستجيب لتنوع المشارب العقدية للتلاميذ. بيد أن المحكمة قد قضت بأن نظام الإعفاء الجزئي جاء معقدا وطرح مصاعب جمّة على الأولياء، بل ذهبت إلى اعتبار أن هذا الطابع الجزئي يزيد من الآثار السلبية لأن تتابع طلبات الأولياء بإعفاء أبنائهم سيكشف شيئا فشيئا عن عقائدهم. وتشير المحكمة الأوروبية إلى أنّ القانون النرويجي «قد أكّد ضرورة نقل معرفة لا تنحصر في المسيحية، وإنّما تنفتح على كل الأديان والفلسفات العالمية. كما أكد أيضا ضرورة تطوير الفهم والاحترام وموقف الحوار بين الأشخاص من ذوي العقائد والقناعات المختلفة. وقد وقع تصوّر الدرس في شكل يجمع كل التلاميذ ويبتعد عن كل نفس وعظي. ويفترض أن تعرض الأديان والفلسفات المختلفة انطلاقا من خصائصها الذاتية، وحسب المبادئ البيداغوجية المعتمدة في تدريس مختلف المواد الأخرى». ثم أضافت المحكمة أنها تقرّ بكون «الأعمال التمهيدية تبرز أنّ المشرع ذهب إلى أنّ ّأفضل طريقة لبلوغ الهدف المرسوم -أي تفادي الطائفية وتشجيع الحوار والتفاهم بين الثقافات- إنما وضع آلية مثل تلك التي قدمنا، فيتمكن التلاميذ من التجمّع ضمن درس مشترك، بدل إرساء آلية قائمة على إعفاء تام من مادة تدريس الأديان أو تقسيمهم إلى مجموعات مختلفة باختلاف الدروس المعنية. ورأت المحكمة أن البرنامج يدعو التلاميذ للمشاركة في «نشاطات دينية» ويشمل ذلك الصلوات وتلاوة الأناشيد الدينية وحفظ نصوص دينية عن ظهر قلب، والمشاركة في مسرحيات ذات طبيعة دينية. وقد رأت المحكمة أن بعض هذه النشاطات يمكن «أن يؤثر في عقل بعض التلاميذ وخاصة الصغار منهم» بما يخالف مقتضيات الفصل الثاني من البرتوكول رقم (1)». ولاحظت المحكمة بصفة خاصة أن «بعض النشاطات مثل الصلوات أو الأناشيد الدينية أو الإسهام في خدمات كنسيّة أو مسرحيات مدرسية، يمكن الاحتفاظ بها إذا اقتصر دور التلاميذ على حضورها من دون الإسهام فيها. والفكرة الكامنة وراء هذا التحليل أنّ المعارف التي يرغب البرنامج في نقلها يمكن أن تكون موضوع إعفاء من جهة المشاركة في نشاطاتها وليس من جهة إعفاء من المعارف ذاتها».
بيد أن هذا كلّه تحوّل إلى وضع معقّد، فاستنتجت المحكمة أنّ «التمييز بين النشاط والمعرفة لم يكن عسير التطبيق فحسب، لكنه قلّص على الأرجح بشكل ضخم الطابع الفعلي لحق الإعفاء الجزئي في ذاته. ثم إذا أخذنا المسألة من جانب عملي بحت، أدركنا أن الأولياء ربما شعروا بتحفظات عند مطالبة الأساتذة بأن يأخذوا على عاتقهم الجهد الإضافي لتعليم قائم على الاختلاف». واعتبرت المحكمة في النهاية أن «آلية الإعفاء الجزئي كان يمكن أن تضع على عاتق الأولياء مسؤولية ضخمة، وأن يحصل ذلك على حساب حياتهم الخاصة التي ستصبح معروضة على الأنظار، وأن يمتنعوا عن طلب الإعفاءات توقيا الوقوع في صدامات».
ولنسجّل أخيرا أن المحكمة قد أسقطت الحجة التي تعتبر أنه كان ممكنا للأولياء الساخطين أن يستفيدوا من شبكة المدارس الخاصة التي تتولّى الدولة دعمها بسخاء. فقد اعتبرت المحكمة أن هذه الإمكانية «لا تعفي الدولة من واجبها في ضمان التعدديّة في المدارس العمومية المفتوحة في وجه الجميع» (الفقرة 101).
يمثّل هذا القرار القضائي نموذجا من المصاعب والتحديات التي تحصل عند عرض تقنيات بيداغوجية تجريبية في ميدان الحوار بين الأديان، فقد أجهض القانون حوارا بين علم نفس التجربة والتدرب على التثاقف الديني، كان يعد بأن يكون ثريّا. وكما ذكرنا، فقد وجدت لا شك مآخذ أخرى أكثر أهمية على التجربة النرويجية، إذ طغى فيها التوجه اللوثري، بيد أنّ فقه القضاء الأوروبي قدّم أيضا تقديرا معياريا أساسيّا، ومما يزيد الوضع تعقيدا أنّ البديل المتمثل في حق إعفاء الطلبة من الدروس لم يكن كافيا أيضا في نظر القاضي الأوروبي، فمن خلال قرارين قضائيين «فولجرو» (Folgero) و»غرزلاك» (Grzelak)، رفضت المحكمة في الحالة الأولى نظام إعفاءات شديد التعقيد، ورفضت في الحالة الثانية نظام إعفاءات صيغ صياغة عامة.
الخلاصات
يتحوّل الحوار بين الأديان تدريجيا إلى معطى محوري في السياسات التعليمية من خلال البعد الاجتماعي لهذه السياسات في التدريب على المواطنة وعلى الحقوق الأساسية. ولم يعد المطلوب توفير معارف موسوعية للتهيّؤ للمسؤوليات الجديدة. فالتأمل الذاتي للمقاربة العلمية في علوم الأديان يدفع إلى تضافر الاختصاصات ثم التفاعل بين معقوليات مختلفة، بل يدفع إلى ما هو أبعد أي مسارات براغماتية تجريبية جديدة. فيصبح التكوين مخبرا للتنوّع، وتقترب التجربة الانفعالية للآخر المختلف من تجربة التعالي المعروفة في الأديان. ونظرا لأهمية هذا الرهان فليس مستبعدا أن تبرز معالم قانونية تحمي الضمير الفردي. فما هو المدى الذي يمكن أن تبلغه تجربة بيداغوجية بين اليقينيات في برنامج دراسي؟ لا شك أن الوضع القانوني يختلف بين أطفال المدارس غير البالغين وطلبة الجامعات، لكن هذا الاختلاف لا يمثل تعارضا تاما، فالضمانات القانونية الدولية للحرية الشخصية وسرية المعتقد والسلامة الانفعالية تنسحب على هؤلاء وأولئك، بل تنسحب على كل فرد في المجتمع. فبرامج علوم الأديان تتضمن مقاربة قانونية تسمح بقيام شكل جديد للتفكير، وتكوين المسؤولين في المستقبل على الضبط العمومي للتدريس والتجانس الاجتماعي بدل الاكتفاء بمدرسين يقدمون معطيات وضعية لممارسات التنوع الاجتماعي، بل إن الشكل الجديد يمكن أن يسهم في وضع المعالم المعياريّة لآليات التكوين والتدريب.
لويس ليون كريستيان: أستاذ جامعي، رئيس كرسي قانون الأديان بالجامعة الكاثوليكية بلوفان (بلجيكا)
النص معرب من الفرنسية.
بيبلوغرافيا
The REDCo Project: Religion in Education. A contribution to dialogue or a factor of conflict in transforming societies of European countries, http://www.redco.uni-hamburg.de. Thorsten Knauth, Dan-Paul Jozsa, Gerdien Bertram-Troost, Julia Ipgrave (Ed.), Encountering Religious Pluralism in School and Society. A Qualitative Study of Teenage Perspectives in Europe 2008, Münster u.a.: Waxmann.
- Jackson, “Religious Diversity and Education for Democratic Citizenship: The Contribution of the Council of Europe”, International Handbooks of Religion and Education, 1, Volume 4, Springer, 2010, pp. 1121-1151; A. G. Mcgrady, “Religious education, citizenship and human rights : perspectives from the United Nations and the Council of Europe” in M. de Souza et al. (eds.), International Handbook of the Religious, Moral and Spiritual Dimensions in Education, Springer, 2009, pp. 977–992; M.E. Mullino Moore, “Education for Peace: Exploring the Margins of Human Rights and Religion”, InternationalHandbooks of Religion and Education, 1, Volume 4, Springer, 2010, pp. 1087-1104.
- Crettaz von Roten et O. Moeschler, “ Les relations entre les scientifiques et la société”, Sociologie 2010/1; T.S. PEREIRA, “Politiques scientifiques, démocratie et mutations des institutions de savoir», Erès. Revue internationale des sciences sociales 2004/2 – n° 180.
“Religions and Public Law”, European Review of Public Law, 17/1, 2005, pp. 15-759; W. Alberts, « The academic study of religions and integrative religious education in Europe », British Journal of Religious Education, 2010, Vol. 32/3, pp. 275-290 ; J.M. López-Muñiz, J. De Groof, Gr. Lauwers (eds), Religious Education in Public Schools: Study of Comparative Law, Yearbook of the European Association for Education Law and Policy, Sprynger, 2006.
- Ter Avest, D.P. Josza, Th. Knauth, J. J. Roson, G. Skeie (eds), Dialogue and Conflict on Religion. Studies of Classroom Interaction in European Countries, Münster, New York, Waxmann, 2009.
- De Pooter et L.-L. Christians (eds), Dialogue and concertation between philosophies of life/religions and the public authorities in EuropeChallenges and limits of new forms of governance, Bruxelles, Larcier, 2011 (à paraître) ; L.-L. Christians, «Religions et délibération publique : les enjeux d’un nouveau dialogue avec les Eglises dans le Traité de Lisbonne», in A. Borras (dir.), Délibérer en Eglise. Hommage à Raphaël Collinet, Bruxelles, Lessius, 2010, pp. 265-283.
- Mancini, « Imaginaires de la diversité culturelle et permanence du religieux », Diogène 4/2008 (n° 224), p. 3-20 (qui réaffirme la mise à l’écart des approaches théologiques), et H. Coward, «Taking its interdisciplinary heritage seriously: The future of Religious Studies in Canada», Studies in Religion/Sciences Religieuses, Septembre 2006, 35, pp. 403-412 (qui montre de nouvelles formes d’interactions).
- Floris, «Laicità e collaborazione a livello locale. Gli equilibri tra fonti centrali e periferiche nella disciplina del fenomeno religioso» Rivista telematica Stato, Chiese e pluralismo confessionale, www.statoechiese.it, 2010, ou encore Timmerman, Chr., Segaert, B., How to conquer the barriers to intercultural Dialogue, Bruxelles, Bern, Berlin, Peter Lang, Gods, Humans and Religions, vol. 5, 2004.
Boettcher, J.W., “Habermas, religion and the ethics of citizenship”, Philosophy & Social Criticism, 2009, vol. 35, pp. 215 – 238.
- Pourtois, «Morale de la reconnaissance et diversité culturelle», in J.M. Chaumont et H. Pourtois (eds), Souffrance sociale et attentes de reconnaissance. Autour du travail d’Axel Honneth, Numéro spécial de la revue Recherches sociologiques, 1999/2, pp. 43-56.
- Brocal, «Entre les devoirs de l’Etat et la liberté des parents, il y a le droit à l’instruction des enfants. Analyse de la jurisprudence de l’art. 2, première phrase, du premier protocole additionnel de la CEDH», CPDK- Chroniques de droit public, 2005, pp. 50-76 ; C. Brocal, C., «L’éducation des parents sous contrôle démocratique. Analyse de la jurisprudence de l’art. 2, seconde phrase, du premier protocole additionnel de la CEDH», CPDK – Chroniques de droit public, 2005, pp. 494-514.
J.M. Ferry, La religion réflexive, Paris, Cerf, 2010 ; en sciences des religions, voir. par exemple, P. Gisel, J.M. Tetaz (eds), Théories de la religion, Genève, Labor et Fides, 2002.
Cour EDH, 7 décembre 1976, Kjeldsen, Busk Madsen et Pedersen c. Danemark, série A n° 23, www.echr.coe.int. Le même argument avait également été repris par la Commission européenne dans sa décision d’irrecevabilité Sluijs c. Belgique, du 9 septembre 1992, req. n°17568/90, à propos du système belge de cours de religions et de morale.
Cour EDH, 3 novembre 2009, Lautsi c. Italie, n° 30814/06, www.echr.coe.int ; voir. pour des commentaires opposés, C. Mathieu, S. Gutwirth Et P. De Hert, “Liberté religieuse : vers un devoir de neutralité de l’Etat dans l’enseignement public ? (à propos de l’affaire Lautsi)”, Journal de droit européen, 2010, pp. 133-139 et S. Mancini & M. Rosenfeld, “Unveiling the Limits of Tolerance: Comparing the Treatment of Majority and Minority Religious Symbols in the Public Sphere”, Cardozo Legal Studies Research Paper, 2010, n° 309.
Cour EDH 9octobre 2007,Hasan et Eylem Zengin c. Turquie,n°1448/04
Cour EDH 15 juin 2010, Grzelak c. Pologne, n° 7710/02.
Cour EDH (Grande chambre) 29 juin 2007, Folgero c. Norvège, n°15472/02 (avec opinion dissidente de 8 des 17 juges).