يعد المغرب من أكثر الدول العربية والإسلامية احتضاناً للزوايا والأضرحة والمزارات، حيث تكاد لا تخلو قرية أو مدينة من ضريح أو مزار، حتى سمي ببلد الألف ولي. وللزوايا والأضرحة بالمغرب حضورها وأهميتها داخل نسيج المجتمع، وخصوصاً أن لها جذوراً ضاربة في عمق تاريخه الديني والسياسي، كما ارتبطت من جهة أخرى بالتصوف الذي اتخذ أشكالاً متعددة تراوحت بين التصوف الفردي الذي يمثله مزار الضريح، والتصوف المؤسساتي الذي تدخل في إطاره الزاوية التي لعبت أدواراً مهمة في تاريخ المغرب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وخاصة في فترة ما قبل وأثناء الاستعمار. وإذا كانت المعجزة ترتبط بالأنبياء عند المسلمين، فإن المتصوفة اعتبروا أنها تمتد حتى للأولياء، وتعتبرهم بمثابة ورثة الأنبياء في قربهم من الله وحظوتهم عنده، مما يجعلهم يميزونهم ببعض الصفات الخارقة التي تميزوا بها في حياتهم واستمرت حتى بعد مماتهم بشكل جعلهم قادرين على التأثير في حياة الناس من خلال ما يتمتعون من به من الصفات فوق الطبيعية والمتمثلة في مفهوم “البركة”، وهي التي يطلب المريدون أن تحل عليهم عن طريقة وساطة هذا الولي لهم عند الله. فالأولياء ومالكو البركة مقربون من “الحضرة الإلهية، مما يجعل منهم أحسن الوسائط وخير الشفعاء”[1].
كانت الزاوية بمثابة سلطة محلية قائمة بذاتها، يساندها أعيان القبيلة وسكانها، وتمكنت من أن تفرض نفسها على “المخزن” (الدولة المركزية) كقوة حقيقية. كما لعبت دور إطعام وتغذية المحتاجين أيام المجاعات، وإيواء الفقراء خصوصاً في فترات الأزمات والحروب. واعتمدت في ذلك على أملاكها الخاصة، بالإضافة إلى تلقيها الهبات والهدايا المتواصلة أو ما يعرف بالزيارة.
ولقد امتد تأثير الزوايا إلى يومنا هذا، ودخل في إطار ما يعرف بالتدين الشعبي أو التقليدي، والذي أصبح جزءاً من المكون الديني بالمغرب، ويُعد تدينا طقوسيا وسلميا بامتياز بعيدا عن الشأنين العام والسياسي. وإذا كان هذا النوع من التدين يلقى ترحيبا من قبل السلطات، وهذا ما يفسر خضوع الأضرحة والزوايا لوصاية وزارة الأوقاف في المغرب على اعتبار أنها منشآت دينية، ولذلك فهي ملزمة بتقديم المساعدات لها وترميمها وتسهيل مواسمها والتجمعات بداخلها، إلا أنه يحارب من قبل التيارات الدينية الأخرى على أساس أن الطقوس التي يعتمد عليها في الصلاة والأذكار والتقرب إلى الله تدخل في إطار الشرك والبدع الضالة.
يمتد تأثير الزوايا بالمغرب على دول أخرى مغاربية وأفريقية، ويكون الولاء للمريدين على أساس ديني وليس على أساس الجنسية، وهو ما يؤثر على العلاقات السياسية أيضا بين المغرب ودول أخرى.
تاريخ الزوايا بالمغرب:
يصعب تحديد فترة ظهور الزاوية في تاريخ المسلمين، وكيف تحولت من مكان للعبادة والتجمع من أجل الدفاع عن البلاد، إلى مكان خاص للذكر والصلاة والتهليل والتسبيح ومساعدة المحتاجين وعابري السبيل، من خلال إكرامهم وإيوائهم وإطعامهم وتأمينهم. وفي المغرب عرف القرن الثامن الهجري بروزا قويا للزوايا كمؤسسة اقتصادية واجتماعية وكمدرسة دينية. ولعبت الزاوية بالمغرب وظائف مختلفة تراوحت بين الديني، السياسي والاجتماعي.
تتمثل الوظيفة الدينية للزوايا في الوعظ والإرشاد وتلقين الدين “الصحيح” لمريديها، وتدريس كل أصول الفقه والشرع، بما يتناسب وتوجهاتها ومعتقداتها التي يغلب عليها الجانب الصوفي الروحي، وغالبا ما يتم الاعتماد على النسب الشريف لشيخ الزاوية، وكونه من سلالة النبي محمد من أجل إضفاء الشرعية على الزاوية وضمان استمراريتها وتأثيرها على الأفراد، في مواجهة تيارات دينية أخرى منافسة، أو حتى في مواجهة السلطة في حال هُددت من قبلها.
إلى جانب وظيفتها الدينية، قامت الزاوية بوظائف اقتصادية واجتماعية، حيث كانت بمثابة واجهة لتوزيع الصدقات وإيواء المحتاجين وعابري السبيل وإطعام المساكين والأرامل واليتامى، كما تطورت الزاوية إلى تقديم خدمات صحية أيضا، وكانت وما زالت قبلة لطالبي الاستشفاء من خلال “البركة” والكرامات التي يتمتع بها شيخ الزاوية، والقادرة على تحقيق معجزات طبية وصحية، وتستمد الزاوية قوتها من قوة شيخها والكرامات التي عرف بها ونقلتها الأجيال بعده، في حكايات تجمع بين المعجزة والأسطورة، مانحة بذلك الثقة في نفس مريديها بتحقيق المآرب أو التقرب إلى الله، وهو ما يتم التعبير عنه عن طريق تقديم الهبات والهدايا أو الالتزام بالطقوس المعتمدة في الزاوية.
ولطالما كانت للزاوية وظيفة سياسية، وخاصة في فترات تاريخية محددة، تراوحت بين أن تلعب الزاوية دور المعارضة والتمرد على السلطة السياسية، وتشكل ورقة ضغط عليها وتحاول منافستها على الأراضي والولاءات داخل القبيلة أو المدينة، وبين أن تكون أداة في خدمة السلطة السياسية، تؤيدها في قراراتها وتعمل على الوساطة بينها وبين الأفراد والجماعات، وتقوم بتهدئة الأوضاع عند الحاجة، ودعم السلطان وخدمته مقابل التمتع بامتيازات اقتصادية واجتماعية.
هذا الصراع بين الزاوية والسلطة السياسية اتخذ أشكالا عديدة، تراوحت بين الصراع على النفوذ وعلى الأراضي وعلى ولاء الناس، وبين استغلال الزاوية لشرعنة الحكم السياسي عبر عقد تحالفات ضمنية بين الحاكم وشيوخ الزوايا، يؤيد من خلالها شيوخ الزوايا سلطة الحاكم، ويدعون لعدم الخروج عليه، مقابل العديد من الامتيازات الاقتصادية، وترك المجال الديني لسيطرة الزاوية، وعدم التدخل فيه ولا في العائدات الاقتصادية للزاوية.
التدين الشعبي والتدين الرسمي بالمغرب:
يمكن التمييز لدى المجتمعات الإسلامية بين نمطين من المقدس، المقدس المجرد الذي يضم كل الشعائر الدينية التي تمارس داخل المساجد التي يعبد الله فيها مباشرة دون أي واسطة، والمقدس المجسد الذي يضم كل المعتقدات والممارسات المرتبطة بالأولياء وأضرحتهم[2]. ثنائية المقدس والمدنس أو الروحي والزمني تعبر في الحقيقة عن ثنائية الفردي والجماعي، فالأشياء المقدسة تعتبر كذلك لأن المجتمع هو الذي أضفى عليها طابع القداسة[3].
ويعتبر الإسلام السني على المذهب المالكي الدين الرسمي للدولة ولأغلب المغاربة، ولا يعتبر المحسوبون على التدين الشعبي الأقرب إلى التصوف أنهم يزيغون عن الدين الصحيح، وخاصة وأنهم يمارسون كل الطقوس الإسلامية المتعارف عليها من صلاة وصوم وزكاة… بل إن اعتقادهم ببركة الأولياء وزيارة الأضرحة، وممارسة طقوس خاصة بالزوايا، وانتماءهم إلى طرق صوفية محددة، ما هو إلا مزيد من التقرب إلى الله لأن الأولياء أكثر حظوة عند الله، وقادرون على التوسط بينهم وبين خالقهم من أجل مزيد من المغفرة والثواب، أو لقضاء حوائج دينية ودنيوية.
مقابل هذا النمط من التدين تعتبر شريحة واسعة من المغاربة أن هذا النوع من التدين يُدخل في معتقداته وممارساته طقوسا وبدعا تسقط الإنسان في الشرك بالله، لأن لا وساطة بين الإنسان وخالقه، كما أن قضاء الأمور الدنيوية هو بيد الله، ولا يملك ولي أو شيخ زاوية مهما تعددت كراماته وبركاته أن يؤثر فيها.
ولا بد من التمييز بين الزاوية والضريح والطريقة، فالزاوية تطلق على مكان يلتقي فيه الأفراد للتعبد والذكر والصلاة، كما تقدم خدمات اجتماعية كالإطعام والإيواء. وقد بدأت تاريخيا كمكان منعزل يرابض فيه الشيخ من أجل التعبد والتقرب إلى الله، ثم أصبح يتوسع إلى مكان يتلقَى فيه الأتباع والمريدون مختلف دروس الدين وحفظ القرأن والأحاديث، وبما أنهم كانوا يأتون من مكان بعيد، فقد كان يصعب عليهم التنقل إلى مقر سكناهم يوميا، فأصبحوا يقيمون مددا طويلة في الزاوية أو في الأماكن المحيطة بها، لتصبح الزاوية مقرا للزوار والمريدين ومكانا للاستقرار. و”لم تظهر الزاوية في تاريخ المسلمين كمركز علمي وديني إلا بعد الرباط والرابطة. والرباط لغة مصدر رابط يرابط بمعنى أقام ولازم المكان، ويطلق في اصطلاح الفقهاء والصوفيين على شيئين: أولهما: البقعة التي يجتمع فيها المجاهدون لحراسة البلاد ورد الهجوم عنها. والثاني: عبارة عن المكان الذي يلتقي فيه صالحو المؤمنين لعبادة الله وذكره والتفقه في أمور الدين”[4]. “ولا يمكن الحديث عن زاوية إلا إذا كانت مرتبطة بكتلة قبلية. ولا يمكن لزاوية أن تصمد إلا إذا كان لها عمق عسكري (=الجبل) ومتنفس اقتصادي (=السهل). انطلاقا من هاتين الملاحظتين يمكن بلورة تعريف عام للزاوية بالشكل التالي: الزاوية هي أداة تنظيمية تفرزها كتلة قبلية، غايتها حماية كيان هذه الكتلة من التفكيك وذلك بواسطة توفير الشروط اللازمة لبقاء هذه الكتلة على المستوى المادي أولا، ثم ربطها على مستوى الشرعية السياسية/ الدينية بالإسلام الشرعي ثانيا”[5].
في حين تشمل الطريقة منهجاً نفسياً وعقدياً ودينياً وصوفياً يحاول الشيخ الصوفي تلقينه لمريديه، وتكون العلاقة بين الشيخ والمريد على أساس التبعية المطلقة لشيخ الطريقة، واتباع تعاليمه وعدم الخروج عليها من أجل الترقي الروحي، والذي يبدأ من الانتساب إلى الطريقة، ثم ينتهي بأخذ العهد من الشيخ والوعد بالاستمرار على الأوراد والأذكار، وأحيانا الحفاظ على لباس الدراويش الخاص بالطريقة، ثم التميز بكرامة الطريقة التي تصاحبها قدرات الاستشفاء والوساطة مع الله لقضاء الحاجة. و”هناك ثلاث مميزات تتسم بها الطريق: أ- المناداة بتطبيق الشرع، ب- الرغبة في تجاوز النظام القبلي (توحيد المجتمع). ج- الارتباط بالحاضرة (المدينة) غالبا. انطلاقا من هذه المميزات ينبغي تأكيد أن التناقضات الحاصلة بين الطريقة و”الحكم الشرفاوي” هي ظرفية وليست بنيوية. ويمكن القول: إن “الطريقة” ابتداء من القرن الخامس عشر إلى حدود سنة 1912 أضحت هي المؤهلة لتزويد البلاد بنظام حكم قائم على تنفيذ الشرع، وتظل هي “الوصية” على حماية هذا الشرع في حالة خرقه من قبل “الحاكم”، وربما تطمح لتعويض هذا الأخير إذا ما أدركت أنه أضحى غير قادر على القيام بواجباته السياسية/ الدينية”[6].
بينما يرتبط الضريح بوجود قبر أحد الأولياء الصالحين ممن عرفوا بتعبدهم وكراماتهم خلال حياتهم واستمرت حتى بعد مماتهم، وتشكل المزارات وجهة لطالبي الكرامة وطالبي الخير والبركة والاستشفاء ومختلف الأمور الدينية. وتستند الأضرحة والزوايا على كرامات الولي الذي يُدفن في قبر في أرض خاصة به وليس في مقبرة مع بقية المسلمين، أو يُدفن بداخل الزاوية. ويُشيَّد على القبر بناء يُغطى بأثواب خضراء عليها بعض الآيات القرآنية لربطه بالدين الإسلامي، ولشرعنته أمام زواره الذين يرفضون نعت ما يقومون به من ممارسات على أنها خارجة عن الإسلام أو شرك بالله، ما دام الولي يتصف بالورع والتقوى والصلاح. ويبقى لكل ولي صالح قصصه الخاصة وكراماته الخارقة التي تتجاوز حدود المنطق أحياناً، وتدرج في إطار الأساطير والخرافات، تتوارث سردها الأجيال وتكون محل ثقة، خاصة في صفوف الطبقات البسيطة أو من يعتقد بقدرات الأولياء فوق الطبيعية التي منحها له الله، نظراً لالتزامه الديني وزهده وتصوفه. وبالتالي يعول عليه في وساطته مع الله الذي يستجيب له. فهؤلاء الأولياء أموات، ولكنهم -في نظر من يقومون بزيارتهم ويطمعون ببركاتهم- أحياء قادرون على حل مشاكلهم. وما يلفت الانتباه بزوايا المغرب أنها لا تقتصر على الذكور فقط، بل تنتشر العديد من الأضرحة التي تحمل أسماء نساء ارتبط اسمهن أيضا بكرامات وحكايات عن تقواهن وورعهن، وتتم زيارتهن والتبرك بهن تماما كما أضرحة الرجال.[7]
[1]– منديب عبدالغني: “الدين والمجتمع دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب”، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2006، ص66.
[2]– عبدالغني منيب، الدين والمجتمع: “دراسة سوسيولوجية للتدين بالمجتمع المغربي”، مرجع سابق. ص47.
[3]– عز الدين الخطابي، “سوسيولوجية التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي، دراسة تحليلية لدينامية العلاقات الاجتماعية”. منشورات عالم التربية، ط1، مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء، 2001، ص76.
[4]– محمد حجي، “الزاوية الدلائية دورها الديني والعلمي والسياسي”، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية، 1988، ص21.
[5]– محمد ظريف، “مؤسسة الزوايا بالمغرب”، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1992، ص78.
[6]– محمد ظريف، “مؤسسة الزوايا بالمغرب”، مرجع سابق، ص37.
[7]– إكرام عدنني، “الزوايا والأضرحة: بين المتخيل والمقدس”، مقالة منشورة على موقع السفير العربي. http://assafirarabi.com/ar/4405/2015/10/08/%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B6%D8%B1%D8%AD%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AE%D9%8A%D9%84