الطرق الصوفية في المغرب: دبلوماسية روحية موازية يتقاطع فيها الديني مع السياسي:
تتعدد وظائف الزوايا والأضرحة في المغرب، فبالإضافة لدورها الاجتماعي المتمثل في تحقيق حاجيات اجتماعية ونفسية لدى الباحثين عن الراحة النفسية والتقرب لله، وأحيانا التداوي وطلب الاستشفاء وقضاء الأغراض، هناك أدوار يتداخل فيها السياسي بالديني. فالزوايا والأضرحة لا تقتصر على المسلمين فقط، بل أيضا –ولليوم- تقام تجمعات سنوية ليهود من مختلف العالم يزورون خلالها أضرحة الصالحين والحاخامات، ويمارسون بداخلها طقوسهم الخاصة، ويحتفلون فرحا بتجمعهم وبتمكنهم من الزيارة، أو ما يطلق عليه “الهيلولة”. ويوجد في المغرب أكثر من (37) ضريحاً لحاخامات اليهود المغاربة. كعمران بن ديوان والموجود بمدينة وزان، ودافيد بن باروخ بمدينة تارودانت، وحاييم بينتو بمدينة الصويرة… ويمثل وجود هذه الأضرحة واستمرارية تأمين زياراتها والاحتفالات بها، تعبيرا عن اهتمام المغرب بمواطنيه اليهود كما المسلمين، كما تعبر عن التسامح الديني داخل المغرب، ويعترف المغرب بالوجود اليهودي بشكل رسمي، فالمغاربة كلهم مواطنون، مسلمين كانوا أو يهوداً، ولا تمييز بينهم على أساس ديني أو عرقي.
ولطالما حظيت الزوايا والأضرحة بمعاملة خاصة من السلاطين العلويين، وإلى يومنا هذا تجمع السلطة بالزوايا علاقة طيبة، وخاصة أن الإسلام الصوفي والزوايا من أكثر التجمعات المريحة للسلطة، ولا تشكل أي قلق لها أو خطر عليها، كما أنها لا تنحو باتجاه العنف. وهذا ما يفسر دعم السلطة لها وتوقير نخبها ومنحها الهبات والهدايا. بل إن الدولة اعتمدت سياسة إحياء الطرق الصوفية منذ تسعينيات القرن الماضي، وخاصة مع بدايات انتشار التيارات السلفية بالمغرب وحركات الإسلام السياسي. وهذه الأخيرة تختلف عن التدين الشعبي أو التقليدي المرتبط خاصة بالزوايا والتصوف، والذي يُعدّ تديناً طقوسياً وسلمياً بامتياز، بعيداً عن الشأن العام والشأن السياسي، بينما تدعو حركات الإسلام السياسي لقلب النظام والمطالبة بنظام الخلافة والملك العضوض…، وترنو بعض الحركات السلفية إلى ممارسة العنف والجهاد ورفض النظام القائم.
لذا، كان من الطبيعي أن تتبنى الدولة استراتيجية توظيف قوى اجتماعية وسياسية مقابل أخرى، عن طريق دعمها المباشر أو غير المباشر لها، وهو ما ستنجح فيه إلى حد كبير. إذ نشهد مهرجانات سنوية للعديد من الزاويا والأولياء، وغالباً ما يتم افتتاحها من قبل السلطات المحلية التي تخصص لها هبات نقدية بالإضافة إلى المساعدة في تنظيم وتأمين المَوْلد، أو ما يعرف في المغرب بـ”الموسم”، فيما يشبه لعبة تبادل للشرعية أو الشرعنة. كما أن الإعلام يلعب دوراً كبيراً في الترويج لها عن طريق برامج تعريفية بالزاوية، أو متابعة احتفالياتها السنوية في فترات إحياء المواسم أو الموالد داخل الزاوية أو الضريح[1].
ترتبط الدبلوماسية الروحية بقيم التسامح ومحبة الآخر وقيم السلام ونبذ العنف، والتعامل مع الآخر على أساس الإنسانية. وكانت الطريقة القادرية من أبرز الطرق التي وصلت إلى مناطق بعيدة عن المغرب، وتمكنت من الوصول إلى تخوم غرب أفريقيا، ونشرت الدين الصوفي الإسلامي بحوض النيجر وإثيوبيا وأوغندا وزامبيا. كما سارت على نهج الطرق الشاذلية والرفاعية نفسه، والتي وصلت بالإضافة إلى بقية دول شمال أفريقيا كمصر، والتي يوجد بها أحفاد الشاذلية إلى اليوم، إلى دول أفريقية مختلفة كتنزانيا وزامبيا وغيرهما.
وتحرص السلطة السياسية على إبراز اهتمامها الخاص بالزوايا والطرق الصوفية داخل الدولة كالزاوية التيجانية والبودشيشية والمشيشية… يقول الملك محمد السادس في أحد خطبه الموجهة للزاوية التيجانية: لقد اتخذ هذا الولي الصالح مدينة فاس، داراً له ومقرّاً لزاويته الأم، ومحجا لمريديه بعد طواف علمي وصوفي في غيرها من البلدان. فكان اختياره لها راجعا إلى اعتبارات علمية وروحية واضحة لديه… وعندما وفد إلى هذه الحاضرة، تلقاه سلفنا المنعم، السلطان المولى سليمان بالترحيب والتوقير، وأحاطه بكريم العناية والتبجيل، على المعهود في أسلافنا الميامين، من رعاية العلماء والصالحين.. ومنذ ذلك الحين، وملوك الدولة العلوية الشريفة، المتعاقبون على عرش المغرب، يرعون مشايخ الطريقة التيجانية، ويصدرون ظهائر توقيرهم، ويمدونهم بأسباب القيام بنشر التربية الروحية، وترسيخ قيم الإسلام المثلى، ومكارم أخلاقه العليا… وقد ظل هذا البلد الأمين، راعيا للطرق الصوفية السنية، البعيدة عن البدعة والشعوذة والغلو في الدين، والتاريخ يشهد بأن المغاربة، صوفية وعلماء وصلحاء، قد جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة، في توازن وانسجام وتكامل والتحام.. وقد كانت الطريقة التيجانية من هذه الطرق الصوفية، التي قامت على أساس الالتزام باتباع الشريعة والسنة المحمدية، والتربية الروحية والتزكية النفسية، مما جعلها تحظى بالإقبال الواسع على موردها الشرعي الصافي، من العلماء وغيرهم، لتنتشر في القارة الأفريقية وفي العالم أجمع عبر ألوف الزوايا المعروفة بإشعاعها، فنشرت الإسلام في ربوع أفريقيا، وأنقذت الملايين من أبنائها من ظلمات الوثنية والجهالة، وفتحت قلوبهم لتلقي أنوار الهداية الربانية[2].
ويعتبر التيجانيون اهتمام السلطة بهم التفاتة ملكية كريمة، تظهر المزيد من العناية التي يوليها ملوك الدولة العلوية لمشيخة الطريقة التيجانية بالمملكة المغربية، خاصة وأن الملك قام بتعيين -بظهير شريف- الشيخ محمد الكبير بن سيدي أحمد التيجاني شيخا للطريقة التيجانية، ويلعب هذا الشيخ دورا مهما في تعزيز العلاقات المغربية والأفريقية في إطار ما يسمى بالدبلوماسية الروحية الموازية بكل أبعادها الاستراتيجية، وهو من يقوم بتعزيز العلاقات بين المنتسبين للزاوية التيجانية بكل دول العالم العربي والغربي وبالدول الأفريقية، بما فيها الوفاء لملك المغرب وأمير المؤمنين التي يجب أن يلتزم بها كل مريدي الزاوية التيجانية؛ وفاء لمضامين وصية القطب وشيخ الطريقة ومؤسسها أبي العباس الشيخ أحمد التيجاني، الذي كان يدعو من خلالها إلى ضرورة الالتفاف حول السلطان ومناصرته ومبايعته.
لقد أصبح التصوف جزءاً من المنظومة الدينية بالمغرب إلى جانب المذهب المالكي، وأحد الركائز في تحديد الهوية الدينية بالمغرب، وتم الاهتمام به أكثر بعد دخول تيارات دينية أخرى المشهد الديني المغربي كالتيارات السلفية والشيعية…، وهو ما أدى إلى التفكير في إعادة هيكلة الحقل الديني وتوسيع مساحة نشاطات واشتغال الطرق الصوفية، والعمل على إحياء القديمة والمنسية منها، وهذا ما ساعد على انتشارها من جديد بالعديد من الدول الأفريقية أيضا، ولها فروع منتشرة هناك، والتي تلعب اليوم دورا مهما في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وهذه البلدان، وتقوم أحيانا بالضغط على حكوماتها لصالح القضايا التي تهم المغرب، وعلى رأسها قضية وحدته الترابية.
تعتبر السلطة السياسية أن الدبلوماسية الروحية تلعب دورا كبيرا في تفعيل ثقافة الحوار وترسيخ القيم النبيلة والتعايش والتقريب بين الشعوب وإشاعة روح التعايش. خاصة وأنها ترتكز على البعد الروحي والديني القائم على قيم التسامح والمحبة والسلام. ويعتبر التصوف جزءاً من المكون الديني والهوية الدينية للمغرب اليوم، ويلعب دورا هاما في توازن الحقل الديني من أجل محاربة آفتي التطرف والغلو الديني.
[1]– إكرام عدنني، “الزوايا والأضرحة: بين المتخيل والمقدس”، مقالة منشورة على موقع السفير العربي.
[2]– من الرسالة السامية التي وجهها الملك محمد السادس إلى المشاركين في الاجتماع العام للطريقة التيجانية بفاس، (27 يونيو/ حزيران 2007).