تحدد الباحثة التونسية زهية جبيرو في كتابها (الإسلام الشعبي) الفترة الواقعة بين عامي 1956 و1975 بأنها مرحلة أعيدت فيها صياغة المجتمع التونسي وثقافته، وشمل ذلك المعتقدات والممارسات التي كانت تقوم عليها منظومة اجتماعية من المجتمعات والعشائر والزوايا والكتاتيب والمساجد. كانت الدولة تسعى إلى توظيف العامل الديني في مقاومة خصومها من التيارات اليسارية العلمانية بإحياء المواقف الدينية التقليدية، وبإنشاء مؤسسات وجمعيات للمحافظة على القرآن الكريم.
وفي إطار هذا التوظيف تشكلت النواة الأولى للتيار الإسلامي الأصولي الذي وظف هذه المؤسسات لترويج خطابه، ومن أجل مقاومة “الإسلام المؤدلج” وغضت الطرف عما كانت تقاومه من التدين الشعبي، وقد أدى ذلك -بحسب المؤلفة- إلى إحياء المعتقدات الشعبية الإسلامية من جديد. ويذكر الباحث التونسي صلاح الجورشي أن خطة “تجفيف المنابع” التي اعتمدها النظام السابق لزين العابدين بن علي في أوائل تسعينيات القرن الماضي هي أحد أبرز هذه التناقضات؛ فالاعتقالات والملاحقة طالت كل من يؤدي الصلاة في أوقاتها، أو من يذهب لصلاة الفجر، أو من تظهر في جبهته علامة السجود، وارتداء الحجاب أصبح شبهة. ويذكر الجورشي أن التدين الشعبي (التقليدي) تجسد في المتدين العادي البسيط الذي ليس له انتماءات تنظيمية، ويصعب تصنيفه إسلاميا، فهو يلتزم بأداء الفروض الدينية كالصلاة أو الصيام ويدافع عن الإسلام؛ مشيراً إلى قطاع كبير من التونسيين ممن يشربون الخمر ويعرفون أنه محرم ولكنهم مع ذلك لا يسمحون بأي هجوم على الإسلام. هذا التدين الشعبي مرجعيته أشعرية بالأساس، وينضم تحت لوائه فئات من أبناء الشعب التونسي. الزميل فهد الشقيران قدم لنا تقريراً عن دراسة لصلاح الدين الجورشي حول المشهد الإسلامي في تونس. المشهد الإسلامي في تونس قال الباحث في شؤون الحركات الإسلامية في تونس صلاح الدين الجورشي وأحد المؤسسين لتيار الإسلاميين التقدميين في تونس صلاح الدين الجورشي إن صدور مجلة الأحوال الشخصية، في يوم 13/8/1956، بعد أقل من خمسة شهور فقط من إعلان الاستقلال، كان بمثابة ثورة اجتماعية غير مسبوقة في العالم الإسلامي بحيث أصبحت تلك المجلة القانونية الجديدة تضم معظم أحكام الأسرة، التي صيغت عبر قرون حسب المرجعية الفقهية للمذهبَيْنِ: المالكي والحنفي، وهي التي أحدثت انقلاباً ضخماً في المجتمع التونسي، ومنحت السلطة السياسية شهادة عبور إلى الساحة الدولية، حيث أصبح يشار إلى تونس على أنها البلد الإسلامي الثاني بعد تركيا. الدراسة التي نشرت في عنوان: “المشهد الإسلامي في تونس” جاء فيها أن الزيتونة أخذت مع بداية القرن الثامن عشر تشهد تراجعاً كبيراً، نتيجة للنزعة المحافظة التي سيطرت على قطاع واسع من شيوخها، بسبب عدم مراجعة مناهج الدراسة ومحتوى البرامج وطرق التدريس، وهو ما جعلها في مطلع الخمسينيات أشبه بالجسم الذي استنفد أغراضه، ويشير الباحث إلى أن الرئيس بورقيبة استثمر حالة الإحباط التي كان يعاني منها عشرات الآلاف من طلاب التعليم الديني، ليعلن توحيد التعليم، وإقامة نظام تربوي عصري. الدراسة التي نشرت ضمن كتاب المسبار الشهري الثامن والعشرين “الإسلامية التونسية” رصدت المشهد الإسلامي على مستويات عديدة، وأشار الجورشي إلى أن الدين لم يعد يمثل مشكلة للدولة أو للمجتمع، بل بلغت ثقة بورقيبة بنفسه إلى درجة جعلته يدعو الشعب التونسي إلى التخلي عن صيام رمضان، ويمارس الضغط على المسؤولين والموظفين وطلاب المدارس للاقتداء به، عندما رفع كأس الماء وتجرعها أمام دهشة الجميع، وذلك بحجة التفرغ لحسن إدارة معركة التنمية الاقتصادية، التي وصفها بكونها الجهاد الأكبر، بعد الانتهاء من الجهاد الأصغر، ويقصد به مقاومة الاستعمار الفرنسي. وذكر الباحث أن بورقيبة نجح بالفعل في إقامة نظام سياسي مغلق، بدأ بتصفية الجناح المعارض له داخل الحزب الدستوري الحاكم، بقيادة صالح بن يوسف، الذي اغتيل في ألمانيا بتعليمات منه، وجعل نظام الحكم رئاسياً وليس برلمانياً؛ حيث يتمتع رئيس الدولة بصلاحيات واسعة جداً، واستثمر محاولة الاغتيال التي تعرض لها عام 1962، ليقوم بتجميد الحزب الشيوعي، وإلغاء كل مظاهر التعددية الحزبية والإعلامية، ويجعل من حزبه الحزب الوحيد الحاكم والماسك بكل أجهزة الدولة. واستمر الجورشي في دراسته ليخلص إلى أن الحركات الإسلامية كانت تتحرك في العلن، وتلقي دروساً في المساجد، وتجتمع في أركانها، وتصدر مجلة (المعرفة)، التي تباع في الأكشاك، وتبشر بالحجاب الذي بدأ يظهر للمرة الأولى في تونس مع أواسط السبعينيات، إلا أن السلطة والنخبة توهما بأن الأمر لا يعدو أن يكون ظاهرة عابرة، ولم ينتبهوا إلى جدية المسألة أو خطورتها على النمط السائد وموازين القوى، إلا عندما جاء الإنذار من بعيد، وتمكنت الثورة الإيرانية من إطاحة نظام الشاه. وذكرت الدراسة التي نشرها مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي أن تونس شهدت قيام أكثر من حركة إسلامية، غير أن حركة النهضة، بقيت تعتبر الفصيل الرئيسي والأكثر تمثيلاً لقطاع واسع من ظاهرة الإسلام السياسي في تونس، وقد بدأت الحركة في صيغة جماعة دعوية، ثم تحولت إلى حركة سياسية، من دون أن تتخلى عن المهام التي طرحتها على نفسها، مثل: الدفاع عن الإسلام والسعي إلى نشره، ومواجهة ما تعتبره “انحرافات عقائدية أو أخلاقية”. وفي سياق تحولات الحركات الإسلامية في تونس ذكر الباحث الجورشي أن حركة النهضة التونسية أعلنت عن تحولها في بيان تأسيسي، أصدرته بتاريخ 6/6/1981، حددت فيه خصوصياتها الفكرية وأهدافها السياسية، فهي تعتقد بأن الإسلام «عزل بصورة تدريجية بطيئة، وأحياناً بشكل جريء سافر عن مواقع التوجيه والتيسير الفعلي للواقع، وبات مجرد رمز تحدّق به المخاطر ثقافيّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً»، وتنتقد الحركة النظام السياسي في تونس وتصفه بالأحادي، وتتهمه بالهيمنة على السلطة والمؤسسات والمنظمات الجماهيرية، وترفض الحركة مقولة الفصل بين الدين والسياسة، وتعتبرها جزءاً «من التصور الكنسي». كما ذكر الباحث أن حزب التحرير في تونس لم يخطف الأضواء مع أنه عمل على ضم العسكريين إلى صفوفه، واعتبرهم جزءاً من القوة التي يطلب منها الدعم لتغيير الأوضاع، وإقامة الخلافة؛ ولهذا السبب بالذات، تمت إحالة أنصار الحزب في تونس أحياناً إلى محاكم عسكرية؛ نظراً لوجود ضباط ضمن المتهمين. وعن جماعة التبليغ في تونس ذكرت الدراسة أن نشاطها بقي قائماً على الرغم من منع استخدام المساجد التي كانت تشكل نقطة الارتكاز الأساسية في نشاطها، ومع ذلك لاتزال جماعة التبليغ تتمتع بأنصار كثيرين، يلتزمون بتعاليمها وتقاليدها. الدراسة ذكرت أن النظام منح الحركة الشيعية مساحة للحركة بما في ذلك حرية الانتقال إلى إيران والعراق، وهو ما دفع بأنصار حركة النهضة إلى وضع تساؤلات ونقاط استفهام، لكن المؤكد-حسب الجورشي- أن الشيعة في تونس يتلقون دعماً قوياً من مرجعيات حوزوية مهمة، سواء في مدينة النجف العراقية، أو في مدينة قم الإيرانية، لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المتشيعين من التونسيين، إلا أنهم في ازدياد، وقد يتجاوزون الألف. الجورشي في دراسته خلص إلى أن تونس بدأت تشهد ولادة مجموعات شبابية صغيرة، لا يربط بينها حتى الآن رابط تنظيمي واضح، ولكن يجمع بين عناصرها إيمان بوجوب العودة إلى تدين صافٍ، واعتقاد بأن الإسلام والمسلمين يتعرضون للتهديد والتآمر من قبل “الغرب الصهيوني والصليبي”، وأن الرد على هذه الهجمة العالمية لا يكون إلا بالجهاد ونصرة المسلمين، وعلى هذا الأساس تم اعتقال المئات من الشبان التونسيين، في ظروف سيئة دانها المحامون، وانتقدتها المنظمات الحقوقية، ووجهت إليهم تهم تحوم حول مسألة “الإرهاب”، الذي يقصد به الالتحاق بجبهة القتال في العراق. الدراسة تطرقت إلى تحولات ومشهد الحالة التونسية الإسلامية وطبيعة الزحف الذي تمارسه الحركات إزءا المجتمع، وهو تحرك يحتاج إلى رصد طويل كما ذكر الباحث. المصدر: المسبار 16 يناير 2011