دراسة نشرت في كتاب المسبار الشهري (115) “إيران ودول المغرب، المسألة الشيعية” يوليو – تموز 2016
يمثل المغرب العربي الكبير؛ أهميّة استراتيجيّة من نواحٍ سياسية وثقافية، علاوةً على أهميّته الجغرافيّة، وظلّ طِوال تاريخه، محطة تأثير وتأثر، سواء بثقافة الشرق الفرعونيّة وتاليًا الإسلاميّة، أم بثقافة أوروبا الإغريقية وتاليًا المسيحية فالإسلامية، وما حملته من تجليّات متنوعة، واستمرّ ذلك وآثاره إلى الآن.
كل هذا يجعل ما يدور داخل المغرب مهمًا، بالنسبة للمشرق وبالنسبة لأوروبا، ولغرب ووسط أفريقيا، وتزداد الأهميّة للحالة الدينية لاعتبارات سياسية داخلية، كون الدّين رمزاً من رموز الاستقرار، وفقًا للخبرة المغربية، ولاعتبارات روحيّة خارجيّة، إذ تعتبر دول المغرب العربي، مهمة بالنسبة لكثيرٍ من الأفارقة المسلمين، وينظر إليها بعض المالكيّة على أنّها الدليل لأفضلية مذهبهم، للحديث الذي يرويه مسلم «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق»[2].
تاريخ المصطلحات وافتراقها
إن نظرةً في التاريخ الإسلامي كلّه تجعل الفهم الديني للمصطلحات مثل التشيّع والتسنن والتمذهب، ذات أبعاد تفارق الاستخدام المستقر في الأذهان اليوم، ذلك أنّ الزمان يضيف للمصطلحات ويحذف منها حمولة، بحسب الأحداث والأيام، فمن المهم إيجاد الفروق المنجية من الخلط البريء، خصوصاً وأنّ المغرب لم يكن بمنأى عن الصِّراع الأموي الهاشمي، وتمثلاته الدينية في إنتاج دوائر التشيّع والتسنن المختلفة، وما كانت بمنأى عن الصراع الهاشمي الأكثر ضراوةً بين العباسيين والعلويين، وفي المغرب شهد هذا الصراع مسارًا ندر تكراره في المشرق، إذ قد يتعاون الأعداء لدحر عدوٍ آخر، لوجود الأندلس والعباسيين والعلويين في مساحة تنافس سياسي واحدة.
يرتبط التاريخ المغاربي بالأندلس، وأمرائها وعلمائها، وكان المغرب الأقصى والأندلس يتبادلان إيواء المعارضين، ويتقاسمان ظواهر حدوث المذاهب، والتقيا في انتشار المذهب المالكي، وكانت الهجرات السياسية بينهما لا تنقطع، حربًا وسلمًا، هربًا وإيواءً، ليس لطبيعة سياسية فحسب، بل لطبيعة جغرافية، تمليها الخيارات الضيّقة آنذاك. وُجِدَت كذلك دويلات مغاربية تتقوّى على بعضها، بالنخب الأندلسية المهاجرة، كما فعل أبو زكريا الأول مع الموحدين[3]. كما كانت الثقافة الأندلسية عاملاً لتوحيد كل المغرب العربي من الناحية الثقافية[4].
تخلص دراسة محمود علي مكي عن التشيّع في الأندلس، إلى أن الأندلس شكل نواة ممانعة «سياسية» للأمويين، من رجال وصموا بالتشيّع «السياسي»، وهو قريب من فكرة موالاة آل البيت ومودتهم التي يعتنقها كثير من المتصوفة السنة، خصوصاً المالكية الأشاعرة في وقتٍ لاحق.
يذهب مكي إلى أن بدايات التشيّع، بمعناه المعادي للأمويين، في الأندلس، كانت بثورة عبدالله بن سعيد بن عمار بن ياسر باعتباره من حاملي لواء الموالاة لآل البيت، ومناصري يوسف بن عبدالرحمن الفهري أمير الأندلس عند دخول عبدالرحمن الداخل، ثم يذكر ثورة الحسين بن يحيى الخزرجي (165/782)، ثم دلف يربط ما يسميه الثورات الشيعية بالبربر، فيذكر شقياً بن عبدالواحد المكناسي (151هــ/768م-160هــ/777م) الذي ينقل عن ابن الأثير أنّ أمه اسمها فاطمة، فادعى أنه فاطمي وتسمّى بعبدالله بن محمد، واستشفّ من رصد هذه الثورة، تأثّر البربر بكل من يدعي الانتساب للعلويين، (ولذلك عُزِّي نجاح المولى إدريس)[5] في تأسيس دولته عام 170هـ[6]. ورباط البربر بآل البيت، وثيق، لحد نسبة بعض أمهات أئمة الاثني عشرية للبربر، وثمة زيارات ومبعوثون، بين تلاميذ الإمام جعفر الصادق وأهل تونس، وهجرة المولى إدريس ذاتها تبيّن عمق هذه الصلات؛ فبعد فشل ثورة الحسين بن علي عام 169هـ 786م، نجا إدريس وأخوه يحيى بن عبدالله بن الحسن[7]، من القتل في معركة (الفخ)؛ حيث انسل إدريس مع مولاه راشد الأوربي البربري مع حجاج مصر إلى مصر، وكان فيها من شيعته نفر، ولكنهم سرعان ما نصحوه بالذهاب غربًا، ثم إلى القيروان، ثم تلمسان، ومنها إلى طنجة، وكانت خارج سلطة بغداد، لكنها كانت معبر طريق إلى الأندلس فخافها، فيمم شطر جبل زهرون في ربيع الأول ١٧٢هـ/ ٩ أغسطس (آب) ٨٧٧م، فوصل إلى مدينة وليلي، ونزل عند كبيرها الذي سماه البعض «اسحق بن عبدالحميد»، وصار يعجب بضيفه وعلمه وأدبه حتى كره بيعة العباسيين وتقرّب إليه، ولما كان رمضان، تحلّق الناس حول المولى إدريس فبايعته قبيلة أوربة، ثم انتشر خبره[8]، وانتمّت دولته. من خلال هذه الرحلة، يبدو واضحًا، رسوخُ ثقة البربر خصوصًا، وأهل المغرب عمومًا، في العلويين، وثقةُ العلويين فيهم، ولجوؤهم إليهم، في المواجهات السياسية ضد الأمويين، والعباسيين، ويتوافق هذا مع مالكيتهم، فهم ما زالوا يروون رأي الإمام مالك المتعاطف مع محمد النفس الزكية.
للاطلاع على كامل الدراسة اضغط على الرابط أدناه
الدراسة
النيسابوري، أبوالحسن مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، نظر محمد الفاريابي، الرياض ١٤٢٦هــ، الطبعة الأولى، ص٩٢٥.[2]
انظر كتاب الإمارة، باب قوله لا تزال طائفة، من حديث يحيى بن يحيى، عن هشيم بن داود بن أبي هند، عن أبي عثمان، عن سعد بن أبي وقاص، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة».
[3] زروق، محمد، دراسات في تاريخ المغرب، دار أفريقيا الشرق الليبية، ١٩٩٠، ص٣٤.
في ملامح التأثير السياسي في الميدان السياسي، يقول: «أراد أبو زكريا الأول (١٢٢٨/١٢٤٩)أن يستغل النخبة الأندلسية ليدعم بها أركان دولته، ويجعل منها أداة توازن يخفف بها من ضغط شيوخ الموحدين.فأسند لبعضهم أسمى الوظائف فكان الأندلسي الرئيس عبدالله محمد بن أبي الحسين المسيّر لشؤون دولته، وأسند لابن الآبار، كتابة علامته، وغيرهم، حتى ضاق بهم شيوخ الموحدين ذرعًا».
[4] زروق، سبق ذكره، فصل عوامل وحدة بلاد المغرب الكبير، ص٧٢.
[5] مؤسس دولة الأدارسة «إدريس بن عبداالله بن الحسن» نجا من معركة (فخ) بين مكة والمدينة، التي جرت بين العباسيين والعلويين (١٦٩هـ -١٧٠هـ)وهاجر خفية إلى أفريقيا عبر مصر، ومنها إلى المغرب، ونزل في بلدة من أعمال مدينة طنجة في شمال المغرب سنة ١٧٢هـ، وبايعته قبائل البربر، وفسر المؤرخون ذلك بأنه تمّ بعد معرفة قرابته للنبي (صلى الله عليه وسلم).وإن كان النظر يقتضي بحثًا أوسع وفهم العلاقات بينه والبربر، والظرف السياسي في ذلك الوقت بالنسبة لمستضيفيه. انظر:أبو دياك، صالح محمد فياض، الوجيز في تاريخ المغرب والأندلس، ص١٧١-١٧٢، ط١، ١٩٨٨، نقلاً عن:الفاسي، علي بن أبي زرع، الأنيس المطرب، ط٢، الرباط، ١٩٧٢، الشلبي، أحمد، موسوعة التاريخ الإسلامي، ج٣، ص٢٠٩، وما بعدها، ط٥، ١٩٧٤، القاهرة، وانظر:القضاة، مصطفى أحمد؛ مدرسة المغرب الأقصى في الفقه المالكي، بحوث الملتقى الأول –القاضى عبدالوهاب البغدادى، دار البحوث الإسلامية في دبي، المجلد الأول ص377، دبي، 2004.
[6] مكي، محمود علي ، التشيّع في الأندلس إلى نهاية ملوك الطوائف، صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد الثاني، 1945، العدد 1-2، ص93-194.
[7] يحيى بن عبدالله بن الحسن، اشترك بثورة الحسن بن علي وفر إلى بلاد الديلم، فجهز الرشيد إليه جيشًا بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي، فكاتبه الفضل وبذل له الأمان، فقبل يحيى العرض شريطة أن يكون الأمان بخط الرشيد ويشهد فيه الأكابر، وطلب اليمين منه.ففضل الرشيد ذلك وحضر يحيى إلى بغداد فأكرمه الرشيد وبذل له المال. وأخيرًا اعتقله ومات. الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص٦٣.
[8] نصرالله، سعدون عباس، دولة الأدارسة في المغرب العصر الذهبي ١٧٢-٢٢٣هـ/٧٨٨-٨٣٥م، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ١٩٧٨، ص٦٠-٧٣.